أما بعد: فقد انتهى بنا الدرس إلى قول المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ونزل الحبيب صلى الله عليه وسلم صحبة جبريل عليه السلام إلى بيت المقدس] وقد تقدم أن الإسراء بالحبيب صلى الله عليه وسلم والعروج به إلى الملكوت الأعلى كان بعدما عانى صلى الله عليه وسلم من الآلام والأتعاب طوال عشر سنوات لاقى فيها مر العذاب، فأراد الله عز وجل أن يخفف عنه آلامه وحسراته وما كان يعانيه فرفعه إليه، من بيت أم هانئ إلى المسجد الحرام إلى بئر زمزم، ثم أجريت له عملية التطهير وحشي قلبه بالإيمان والحكمة، وأصبح أهلاً لأن يعايش أهل الملكوت الأعلى ورفع بعد ذلك، وها نحن نواصل حديث الإسراء ..
قال المؤلف: [ونزل الحبيب صلى الله عليه وسلم صحبة جبريل عليه السلام إلى بيت المقدس] لما أسري به من مكة إلى بيت المقدس على براق -دابة خلقها الله لهذه المهمة ما بين البغل والحمار- ربطها في حلقة باب المقدس وتركها كذلك وعُرج به، وتم الذي تم ونزل والدابة مربوطة عند الباب، وعاد بها إلى مكة[فنزلت الأنبياء يشيعون الحبيب صلى الله عليه وسلم] نزلت الأنبياء من الملكوت الأعلى، من دار السلام، من الجنات، إلى مسجد بيت المقدس ليشيعوا نبيهم صلى الله عليه وسلم ويودعوه [فصلى بهم صلاة الصبح بالمسجد الأقصى] فلهذا يعرف بإمام الأنبياء؛ إذ أمهم وصلى بهم [وركب البراق -حيث تركه مربوطاً بحلقة الباب- وعاد إلى مكة في صبيحة تلك الليلة، وقد ذهب عنه كل كرب وغم وحزن وهم] بعد عشر سنين لاقى فيها من العذاب ما لاقى، وكأنكم تذكرون ذهابه إلى الطائف وعودته منه، وتذكرون الحصار الذي دام ثلاث سنوات في شعب بين جبلين [وعاد أوفر ما يكون ثقة وطمأنينة، وتلك ثمرة هذه الرحلة المباركة إلى الملكوت الأعلى، إذ رأى فيها بأم عينيه ما كان أخبر وتلقاه وحياً من ربه، فصدَّق الخُبرُ الخبر] ما كان غيباً وأخبر به عن طريق الوحي شاهده بأم عينيه، فصدق الخُبر الخبر [وليس من رأى كمن سمع] هذا مثل [والحمد لله ذي الإنعام والجلال والإكرام. وكيف قابلت قريش هذا النبأ العظيم؟] نبأ الرحلة إلى الملكوت الأعلى [إنه صلى الله عليه وسلم قد عاد إلى المسجد الحرام وجلس فيه -وهو لا يدري- بم تقابل قريش هذا النبأ العظيم، والحدث الجلل، فما زال جالساً حتى مر به أبو جهل ] طاغية المشركين [عليه لعائن الله، فسأله قائلاً مستهزئاً: ( هل استفدت الليلة شيئاً؟ فأجاب المصطفى صلى الله عليه وسلم: نعم. أسري بي الليلة إلى بيت المقدس. قال
قال: [وعندئذ قالوا له: أخبرنا عن عيرنا القادمة من الشام] يعني ما دمت جئت في الطريق فأخبرنا عن قافلتنا القادمة من الشام [فقال: ( قد مررت على عير بني فلان بالروحاء وقد أضلوا بعيراً لهم، وهم في طلبه فسلوهم عن ذلك، ومررت بعير بني فلان وفلان وفلان، ورأيت راكباً قعوداً بذي مرّ فنفر بكره منه فسقط فلان فانكسرت يده فسلوه )] وهذه أعظم [( ومررت بعيركم بالتنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان تطلع عليكما طلوع الشمس ) فخرجوا إلى الثنية فجلسوا ينتظرون طلوع الشمس، ليكذبوه، وفجأة قال قائل: هذه الشمس قد طلعت، فقال آخر: والله هذه العير قد طلعت يقدمها بعير أورق كما قال. ومع هذا لم يؤمنوا، وقالوا: إن هذا إلا سحر مبين، وأنزل الله تعالى مصداق ذلك فاتحة سورة (الإسراء - بسم الله الرحمن الرحيم: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1].
فلهذا التكذيب بالإسراء والمعراج كفر، ومن كذّب كفر، فالمعراج ذكر في سورة (والنجم)، قال الله عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:13-15]، أي: رأى جبريل مرة أخرى في الملكوت الأعلى بالضبط عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:14-15]، وكان الإسراء بالجسد والروح، والمرضى والمصابون بالعقلانيات والفلسفات الكاذبة يقولون: كان بالروح فقط، ولِم؟ أيعجز الله أن يرفع أحداً؟ قد يرفع أهل الأرض كلهم.
أولاً: المعجزات ليست ضرورية لحصول الإيمان، فقد رأى كفار قريش آيات عظاماً ولم يؤمنوا] المعجزة ليست ضرورية حتى يؤمن الناس عليها، فقريش رأت أعظم المعجزات ولم تؤمن.
[ثانياً: تقرير حادثة الإسراء والمعراج، وثبوتها بالكتاب والسنة والإجماع، وأن الإسراء والمعراج كانا بالروح والجسد معاً.
ثالثاً: سبقُ أبي بكر وفضله وسبب تلقيبه بـالصديق فرضي الله عنه وأرضاه] فضله تجلى في هذه الحادثة، وهي سبب تلقيبه بـالصديق ؛ لأنه أول من صدق بالحادثة الخطيرة وقال: أنا أصدقه فيما هو أعظم من هذا، في خبر السماء يأتي في الروحة والغدوة.
فالنبوة المحمدية لها ثلاث آيات، بل لها ألف آية، لكن ذكرنا ثلاثاً في هذا الموطن، والباقي سيأتي، وكل آية تدل دلالة قطعية على أن محمداً رسول الله.
[إن آيات النبوة المحمدية أكثر من أن تعد أو تحصى، وقد تقدم العديد منها في مطلع هذا الكتاب، وسيأتي في آخره ذكر عشرات المعجزات، وإنما أردنا ذكر ثلاث آيات هنا؛ حيث أفردها المؤرخون بالذكر لعظم دلالتها وقوة برهانها على صدق الحبيب صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الهدى ودين الحق، كما أن الناحية التاريخية تقتضي ذكرها هنا بعد حادثة الإسراء والمعراج].
وخطب حذيفة بن اليمان بالمدائن يوماً فقال -بعد أن حمد الله وأثنى عليه-: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]] في خطبته [ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغداً السباق] اليوم العمل وغداً الجزاء [وروى أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظروا إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اشهدوا ) وقال المشركون: هذا سحر ابن أبي كبشة] وهذا اللقب عرفه أهل التوراة؛ لأنه تربى في البادية. فـحليمة السعدية مرضعة الحبيب صلى الله عليه وسلم كان زوجها يقال له: أبو كبشة ، فلقب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، وقالوا: ابن أبي كبشة[وقالوا: نسأل السفّار خارج مكة، فسألوا السفار] جمع سافر أو مسافر [فأخبروا أنهم رأوا ليلة كذا قد انشق القمر فرقتين] فلعله كان السحر في مكة فقط، فسألوا المسافرين في الأنحاء إذا جاءوا: هل رأيتم انشقاق القمر؟ فأخبروا بانشقاقه. وقد أخبر الله بذلك، فقال عز وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1].
وتمت انتقامة الله، فهلك كل رؤسائهم في بدر إلا من شاء الله، وعلى رأسهم أبو جهل ، وقد جاء ابن مسعود رضي الله عنه ليحتز رأسه فما استطاع، بعد أن علا على صدره، فقال له أبو جهل : لا تستطيع يا ابن فلانة، ولكن خذ سيفي واقطع به رأسي!. أرشده الطاغية كيف يذبحه.
هذه ثلاث آيات ناطقة بالنبوة المحمدية، شاهدة بصدق ما جاء به الحبيب صلى الله عليه وسلم من الهدى والدين الحق].
أولاً: آية انشقاق القمر من أكبر الآيات، وهي ثابتة بالكتاب والسنة وبالأخبار المستفيضة المتواترة، وهي تقرر النبوة المحمدية وتؤكدها] فلهذا نحن لا نستطيع أن نكفر أبداً [ثانياً: بيان أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لا ترد] ألم يدعو على قريش فأقحطوا وأجدبوا، ثم دعا لهم فسقوا؟ [وأن استجابة الله تعالى له آية نبوته وتقرير رسالته وصحة دعوته. ثالثاً: بيان أن هذه الآيات] الثلاث [لا تستلزم الإيمان ممن رآها؛ إذ رآها المشركون وما آمنوا ولا أسلموا إلا من شاء الله تعالى منهم ذلك] ولهذا لسنا في حاجة إلى آية، فإذا قيل لك: يا فلان! ادع الله أن يعطيك آية أو كرامة حتى نتبعك! فليس هناك حاجة؛ لأنهم قد يشاهدونها ثم لا يتابعونك [رابعاً: تقرير صحة الدين الإسلامي، وأنه الدين الحق لصدق ما يُخبر به كتابه من الغيوب المتعددة، وتقع كما أخبر ولا تتخلف أبداً] قال الله عز وجل: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:2-4]، وقد تحقق هذا [خامساً: بيان أن أهل الكتاب من يهود ونصارى أقرب إلى المسلمين من المشركين والملاحدة الشيوعيين] وبعض الجماعات تغضب من هذا القول، ووالله لليهود أفضل من الشيوعيين مليون مرة، والتعامل مع اليهود أفضل مليون مرة من التعامل مع المشركين؛ لأنهم أهل كتاب ووعي وبصيرة، ترقق قلبه فيرق قلبه ويؤمن بالله ولقائه ليس كالمشرك الملحد. ونبيكم صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة كانوا ينتصرون للروم، والروم كفار، والمشركون كانوا ينتصرون لفارس، وانحاز المسلمون للروم؛ لأنهم أقرب من المشركين إليهم، بينما كان المشركون يتعصبون لفارس وينتصرون لها؛ لأنها وثنية تعبد ما يعبدون من الأوثان.
قال: [فرآه أبو جهل فقال مستهزئاً: هذا نبيكم يا بني عبد مناف!! فرد عليه عتبة بن ربيعة قائلاً: وما ينكر أن يكون منا نبي وملك؟] وجه إليه صفعة [وسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لـعتبة : (أما أنت فما حميت لله، وإنما حميت لنفسك)] يعني: ما أخذتك الحمية لوجه الله، وإنما لنفسك وقومك فقط [( وأما أنت يا
[وكان الأمر كذلك فكانت آية نبوته صلى الله عليه وسلم. وبقي صلى الله عليه وسلم بمكة وقد قلّ ناصره] أي: قل من ينصره [واشتدت عداوة القوم له، ولم يكن بمكة من المؤمنين غير المستضعفين، ففكر صلى الله عليه وسلم في الخروج بدعوته خارج مكة، فأخذ يعرض نفسه طالباً نصرته حتى يبلغ دعوة ربه، وذلك في المواسم والأسواق والمناسبات السنوية وغيرها، فأتى قبيلة كندة فدعاهم وطلب نصرته، فأبوا عليه. وأتى بطناً من كلب يقال لهم: بنو عبد الله فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نصرته، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم. ثم أتى بني حنيفة -وهم قوم مسيلمة الكذاب - فلم يكن أحد أسوأ منهم رداً وأقبحهم، وأتى بني عامر فعرض عليهم نصرته والإيمان بدعوته فرفضوا، وقال له أحدهم: أرأيت إن نحن تابعناك، فأظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟] طماعون هؤلاء يريدون الدنيا [فرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء ) فقال العامري: أَفنهدفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بأمرك] أي نقدم نحورنا للعرب تقتلنا، حتى إذا انتصرت يكون الأمر لغيرنا؟! لن نقبل بهذا. أما إذا وعدتنا بأن نصبح الملوك والحكام فلا بأس. عفاريت العرب!!
[ولما رجع بنو عامر إلى ديارهم، أخبروا شيخاً كبيراً من رجالاتهم بالخبر، فوضع يده على رأسه، وقال: يا بني عامر هل من تلاف؟ والذي نفسي بيده ما تقوّلها إسماعيلي قط، وإنها لحق، وأين كان رأيكم عنه؟] ومن هو هذا الذي نفسه بيده؟ إنه الله! وكثيراً ما نقول: المشركون إيمانهم أنظف من إيماننا! فهذا يقول: بحق سيدي عبد القادر! وهذا يقول: ورأس سيدي البدوي! أن أهل القرآن يهبطون والجاهلون يعلون ..! إن الذي يعرف أن نفسه بيد الله لا يعصيه، وقد كانت عائشة تحب هذه اليمين وتقول: هذه يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ولم يزل صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه ودعوته على كل قادم له اسم وشرف] ليس على العوام والصعاليك ولكن على أهل الجاه والسلطة، فهم الذين يُعرض عليهم الدعوة، كما فعل في الطائف، عرض نفسه على ثلاثة فقط من ثقيف [عله يجد من ينصره على دعوته، وكان كلما أتى قبيلة يدعوها تبعه عمه أبو لهب ، فإذا فرغ من كلامه يقول لهم: يا بني فلان إنما يدعوكم هذا إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من الضلالة والبدعة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا له] متى سمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى كذا كان كالذنب وراءه، فإذا دعا الرسول صلى الله عليه وسلم أحداً وفرغ وانصرف قال لهم أبو لهب : يا بني فلان! إنما يدعوكم هذا إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم ليدعوكم إلى ما جاء به من الضلالة والبدعة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا له. وسمى الدين بدعة، وعندنا العوام يسمون السنة بدعة، فإذا رأوك تصلي بنعلك قالوا: هذا مبتدع!
أولاً: ما كان العرب يلتزمونه من الجوار سنة حسنة، وهي تعرف اليوم باللجوء السياسي:
ثانياً: آية صدق النبوة المحمدية تتجلى في صدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أبا جهل وقريشاً إذ كان ما أخبر به كلاً منهما كما أخبر] ما نقص شيء أبداً [ثالثاً: قوة فراسة العامري] الشيخ الكبير [إذ عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم وصحة دعوته وأنها الحق] بمجرد سماع كلامه [رابعاً: بيان ما كان عليه أبو لهب من الصد عن الدعوة ومحاربتها حتى خارج مكة. خامساً: استعمال أبي لهب لفظ البدعة والضلالة فيما هو شرع وهدى كاستعمال أصحاب الأهواء اليوم لفظ البدعة والضلالة على هدي الكتاب والسنة؛ تنفيراً للناس عنهما].
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر