إسلام ويب

نعم الله على المؤمنينللشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • نعم الله تعالى كثيرة لا تعد ولا تحصى، وأهمها على الإطلاق نعمة الإيمان بالله تعالى وبما جاء عن الله تعالى والتي منها نعمة معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته؛ لأن من لا يعرف الله لا يخافه ولا يرهبه، ولا يطمع فيه ولا يسأله، ومعرفة الله لها طريقان: الآيات الكونية، والآيات التنزيلية، فمن خلالهما يصل المرء إلى ربه وينال رضاه، ويخشاه حق الخشية.

    1.   

    أهمية نعمة الإيمان وضرورة المحافظة عليها

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! كنا شرعنا نتحدث في درس سابق عما تضمنته آيتان من سورة الفاتحة، من كون الناس ثلاثة أصناف لا رابع لهم، وأن صنفاً واحداً هو الناجي المفلح الفائز في الحياتين، والصنفان الآخران خاسران.

    ومن ثم تلونا سورة الفاتحة، ولنتلها الآن تبركاً بها وتيمناً، ومن أجل أن نقف على هذه الحقيقة من آياتها المتضمنة لها.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

    بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:1-7].

    وذكرت لكم أن الله تبارك وتعالى علمنا في هذه السورة كيف نتوسل إليه ليستجيب دعاءنا، فعلمنا أن نحمده، وأن نثني عليه، وأن نمجده، وأن نتملقه؛ لأننا لا نعبد إلا هو ولا نستعين بسواه، ثم نرفع أكفنا ضارعين إليه سائلين حاجتنا التي ما فوقها حاجة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7].

    وأبشركم بأن الله تبارك وتعالى عندما يصل العبد إلى هذه الآية يقول: ( هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ).

    فلا ينقصنا إلا الصدق، إذ جاء ذلك في حديث أبي هريرة في الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) يقول الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال العبد: (الرحمن الرحيم) يقول الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال العبد: (مالك يوم الدين) يقول الله تعالى: مجدني عبدي، وإذا قال العبد: (إياك نعبد وإياك نستعين) يقول الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وإذا قال العبد: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) يقول الله تعالى: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ).

    فهنيئاً لكم يا زمرة الإيمان، فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

    وشرعنا في بيان النعم الأربع التي أنعم الله بها على عباده الذين نجاهم من الخسران، وأَهّلَهم للنعيم المقيم في دار السلام، هم الذين نسأل الله تعالى أن يهدينا صراطهم: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7].

    وذكرنا أن النعم أربع:

    النعمة الأولى: هي نعمة الإيمان بالله تعالى وبما جاء عن الله من طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإيمان الذي يتضمن أركانه الستة، كما جاء في حديث جبريل عليه السلام وهو يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام يجيب، فيقول: ( أخبرني عن الإيمان؟ فيقول: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، فيقول جبريل: صدقت يا رسول الله ).

    هذا الإيمان -معاشر الأبناء والإخوان- أقسم بالله تعالى على أنه نعمة من أجل النعم، ومن أراد أن يتأكد فلينظر إلى حياة الكافرين وأوضاعهم الداخلية، وليتعرف إلى نفوسهم ونفسياتهم، وإلى ما يعيشون عليه من فتن، فإنه يتبين الحقيقة، وفضلاً عن ذلك أن ينظر يوم أن يدخل الله المؤمنين الجنة ويخزي الكافرين فيدخلهم النار، ثم يتبين المؤمن الفرق بين الإيمان والكفر.

    ولعل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، يبين أن النعمة التي أتمها وأكملها وأنعم بها علينا على رأسها الإيمان.

    وقد قلت لكم: إن الإيمان يوهب ولا يكتسب، كم من ذكي فطن يتقد ذهنه بالذكاء ما آمن، وما وصل بذكائه وفطنته إلى أن يعرف الحقيقة الواحدة، فيقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكم من عاقل حصيف العقل بعيد النظر عميق في تفكيره حتى غاص في أعماق البحار، وحلق في أجواء السماء فكاد يصل إلى الجوزاء؛ عرف الذرة وحلل عناصرها، وما آمن، فما نفعه عقله، وكم.. وكم، ولكن الله يدخل في رحمته من يشاء، فالحمد لله أن أدخلنا في رحمته.

    هذا الإيمان ذكرنا أنه نعمة أنعم الله بها علينا، فهي تتطلب الشكر الدائم، فلنستدم الشكر ولا نقطعه أبداً؛ خشية أن تسلب منا نعمة الإيمان، فكم من مؤمن سلب الإيمان، وإذا لم يسلبه في حال صحته وعافيته فقد يسلبه في حال مرضه وعند موته، فتكون الكارثة وهي سوء الخاتمة!

    فلابد من شكر الله عز وجل على هذه النعمة.

    1.   

    نعمة معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته

    ثاني النعم: هي نعمة معرفته تعالى بأسمائه وصفاته، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله ثم لا يعرف له اسماً من أسمائه، وقد بلغت مائة إلا اسماً، لا يحل لمؤمن أن يؤمن بالله وهو لا يعرف من صفات الجلال والجمال والكمال ولا صفة واحدة، فلابد من أن نطلب هذه النعمة، نعمة معرفة الله جل جلاله وعظم سلطانه بأسمائه وصفاته، هذه النعمة تكتسب وتطلب، فالعبد يصل إليها بتوفيق الله تعالى ثم بجهده؛ بالسهر والرحلة والتلقي والعلم، وأزيدكم علماً أن من لم يعرف الله لا يمكنه أن يحبه، لأنه لا يتأتى له حب من لا يعرف، كما أنه لا يتأتى له تقواه وخشيته، وهو لا يعرف من عظمته وجلاله ولا من كماله وجماله، هذه حقيقة تأملوها وتروَوْها، فإني لا أحدثكم إلا بما هو الحق، ليس بمواقف عابرة أو كلمات عاطفية، إنما هو العلم الصحيح، الذين لا يعرفون الله لا يتأتى لهم حبه ولا خشيته.

    واذكروا قول الله عز وجل في سورة فاطر من كتابنا الذي شرفنا الله به، إذ يقول تعالى وقوله الحق: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، فهي مجراة مجرى الأمثال، لم أبناؤنا العوام ما يحفظون مثل هذه الجوائز الكلامية؟ يحفظون الكلام الكثير عن السوق والبضاعة والطعام والشراب، ويعجز أن يقول هذه الكلمة: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]؛ فيعيش بها على نور، يحفظ شيئاً فشيئاً من كلام الله، وبذلك يتهيأ لحبه وخشيته، أيعيش الرجل في متجره أو مصنعه أو عمله عشرين أو أربعين سنة ما يحفظ لله كلمة، ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم حديثاً؟! إن هذا والله للغبن، أي مغبون أغبن من هذا؟ وقد يصلي أربعين سنة وراء الإمام ولا يحفظ سورة الفاتحة!! عاشرنا أولادنا، وعشنا مع أمة أكثرها بهذه المثابة.

    إذاً: حاول -عبد الله- أن تقول: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ، اجعل ديدنك طوال النهار أنك تذكر الله بها: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ، فالذين لا يخشون الله لا يعلمونه، والذين يعلمونه لا يتأتى لهم إلا أن يخشوه متى كان العلم صحيحاً.

    إذاً: خشية الله عز وجل هي الخوف منه، الخوف الذي يحمل العبد على امتثال الأمر واجتناب النهي، على فعل الخيرات والمسابقة فيها، وعلى ترك المنكرات والمحرمات والقصور عنها واجتنابها.

    1.   

    سبل معرفة الله تعالى

    نقول: ما السبيل إلى معرفة الله؟ كيف الطريق يا شيخ؟ دلني كيف أعرف ربي.

    معرفة الله بآياته الكونية

    الطريق يا معاشر الأبناء تكون بواسطة الكتابين: كتاب الكون وكتاب التنزيل، أو الآيات الكونية والآيات التنزيلية.

    فلنستعرض من الآيات الكونية ما ذكرنا الله تعالى به، وتعرف به إلينا من سورة الروم، وليذكرني أهل القرآن، يقول تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ [الروم:22].. أي: ومن علاماته الدالة عليه والمعرفة به، والمحببة إليه، والمرحبة منه، والمرغبة فيما لديه، والتي تقرر مبدأ: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن البعث الآخر حق، إذ هذا الذي كابر فيه المكابرون وعاند فيه المعاندون.

    وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الروم:22]، انظر متفكراً في الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل من الذرة إلى المجرة، هذا خلق من؟ مخلوق من؟ واسأل الناس، إن قالوا: جمعية في أمريكا، منظمة في روسيا والصين تعاونت على خلق السماوات والأرض، تأكد من صحة القول، وإنك والله يا بني! ما أنت بواجد من يقول لك سوى: الله، إذ يشير إلى من؟ لا يستطيع أن يشير إلى شيء، وفي هذا يقول تعالى في تحد صريح لفت نظرهم إلى الأكوان: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11] أي: أروني الذين تعبدون أو تجلون أو تعظمون وتؤلهون، ماذا خلقوا؟ وقد استقل الله بالخلق، ولم يكن لمخلوق أن يخلق، والله يقول: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].

    وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم:22]، هذه البشرية بملياراتها من أبيها الأول آدم وأمها حواء عليهما السلام، إلى يومنا هذا إلى ما بعده إلى أن تنتهي دورة الحياة ويقف كل شيء من هذه الكتل البشرية، فانظر إلى ألوانها، فسبحان الله! لو كانت الصدفة أو الطبيعة العمياء أو أوهام المتوهمين، لو لم يكن هناك العزيز العليم، ومائة سنة فقط، قرن واحد والخلق فيه على شكل واحد كسيارات تويوتا، سلوني كيف تكون الحياة؟ مائة سنة فقط، الوالدات يلدن كلهن لوناً واحداً، من يعرف أباه؟ من يعرف يقول: هذه أمي؟ من يعرف منزله؟ من يعرف زوجه دون أزواج غيره؟ كيف نعمل؟ انتهت الحياة، فقط مائة سنة، هذا لو كانت فلتات الطبيعة لكان يحدث هذا؟

    الألسن، بلغت الألسن ثلاثة آلاف لسان مختلفة، من خالف بينها؟ من أعطى كل شعب أو إقليم لهجته الخاصة ولغته التي يبين ويفصح بها، قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم:22] للعالمين وللعالمين، وأنت من العالمين إن شاء الله، قراءتان سبعيتان: ورش عن نافع وحفص عن عاصم .

    وقوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الروم:20] من ينكر هذا؟ نظرية داروين العفنة، رمي بها في المزابل، ضحك منها الناس وسخروا منها، الخلق الأول كان من تراب، والقادر على أن يحول التراب إلى بشر يعون ويسمعون ويعقلون ويبنون ويصنعون هذا الإله الحق كيف يجهل أو ينسى؟

    الشاهد من هذا: أن في الآيات الكونية؛ في الرمال والجبال والنباتات على تنوعها واختلاف ألوانها وفوائدها وطعومها، هذا الخلق كله شاهد بأن وراءه رباً عليماً تغلغل علمه في كل شيء، وأحاط بكل شيء، وقدير قدرته ما يقف دونها شيء، لا تَعجز، بل تُعجز كل شيء، فهذا العليم القدير مع الحكم المتناهية، ما وضع شيئاً في غير موضعه، فلا ترى في الخلق خطباً ولا خلطاً أبداً، كل شيء وضع في موضعه، فبدأ في الكون الجمال وتجلت حقيقة وهي: أن الله عليم حكيم.

    معرفة الله بآياته القرآنية

    لو أمعنت النظر، وتقصيت الخبر، ونظرت إلى معايش الناس وتقلباتهم في حياتهم؛ هذا فقير وهذا غني، هذا صحيح وهذا مريض، هذا شريف وهذا وضيع، هذا يرفع وهذا يخفض.. لرأيت العجب في وضع كل شيء في مكانه، والقرآن الكريم معجزة رسولنا، آيته العظمى الدالة على نبوته، والمقررة لرسالته، والمثبتة لشريعته القرآن الكريم.

    عباد الله! هل هذا القرآن تفتقت عنه أزهار الشجر؟ خرج من نخلة انشقت أكمامها عن القرآن؟ نسأل: من كتبه؟ من قاله؟ من ألفه؟ من جمعه؟ من نظمه؟ نسأل: أليس كلاماً؟ بلى، فهل يوجد كلام -يا عقلاء- من دون متكلم؟ أننكر العقل ونتنكر للحياة؟ أيعقل أن يوجد كلام بدون متكلم؟ مستحيل هذا، لا كلام بدون متكلم، ألا تنظر إلى الشريط، فإن الشريط سجل عليك، إذاً: فهل يعقل أن يوجد كلام وليس له من قاله وتكلمه؟! ما دام لا، إذاً: هذا كلام من؟ هل نسبوه إلى عكرمة بن أبي جهل ؟ نسبوه إلى علي بن أبي طالب ؟ استطاعوا أن ينسبوه لأحد؟ المشركون تلمسوا في الظلماء، وفي العمى، وقالوا: سحر، وقالوا: شعر، وقالوا: كهانة، وقالوا ما قالوا، وبالتالي رجعوا تعاباً منهكي القوى ليطرحوا بين يدي رسول الله، ويقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

    في سورة الشعراء رد منطقي وبرهنة حكيمة لا تسمو إليها عقول البشر، لما قالوا: إنما يتلقى هذا الذي يقوله من الكهان، كهنة الطائف.. وغيرهم هم الذين يتعلم منهم هذا الكلام، فإنه من كلام الشياطين، نزل قول الله عز وجل، وتسمّع يا عبد الله: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ [الشعراء:221]، تسمحون أن أخبركم على من تتنزل الشياطين؟ الجواب: يقول تعالى: تَنَزَّلُ [الشعراء:222] بمعنى: تتنزل، حذفت إحدى التاءين تخفيفاً تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:222] وهذا معنى جميل وجليل، أرجو أن تدخروه في محفوظاتكم.

    الشياطين أخباث، أرواحهم مظلمة، لا يتأتى لهم العيش في دائرة الطهر والصفاء أبداً، يريدون الظلمة والرائحة العفنة الكريهة؛ لأنهم كذلك، هؤلاء الشياطين الذين يلقون بالكلمات على أوليائهم، ويتنزلون عليهم، ويطلعونهم على بعض الغيب، ويخبرونهم بما مضى أو يأتي في الجملة، هؤلاء بلغوا من الشر والفساد والخبث ما أصبحوا به شياطين. فهؤلاء الأخباث لا يتأتى لهم ولا يمكنهم ولا يكون في قدرتهم أن ينزلوا ويتنزلوا على أصحاب الأرواح الطاهرة والنفوس الزكية، لا يتأتى للشيطان الخبيث أن يتفق أو يتحد مع ذي روح طاهر ونفس زكية، وانظروا -إذاً- إليه صلى الله عليه وسلم، رجل من خيرة رجالكم ما عرف الكذب قط، ولا عرف الخنا ولا الخبث قط، فهو من أطهر ما بينكم، كيف يتصور إذاً مع طهره وصفاء روحه أن تنزل الشياطين عليه؟!

    هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:221-222] الذي يحسن الكذب، واختلاق الكذب وتزوير الكذب، ويمرد فيه، ويتمرد، ويصبح من الدرجة الأولى في الكذب، يضيف إلى ذلك أن يعيش على الزنا والخمر والربا واللواط والسرقة والفجور والعهر وكل مسميات الخبث، هذا الأثيم الذي ينمحي منه أثر الطهر في قلبه والصفاء في نفسه، هذا الذي تتحد معه الشياطين، انظروا إلى نبيكم هل هو من هذا النوع؟ لا، والله ما كذب قط، ولا جرب عليه الكذب قط، نطق بهذا أعداؤه وصرحوا به، هل عرف الإثم؟ عصم، حمي، حفظ من صباه؛ لأنه مصطفى الله ومختاره، فحماه من التلوث وهو في أصلاب الآباء.

    وبالمناسبة ونحن نتألم من هذه السرحة التي سرحناها في ميدان الأغاني، أذكر لكم -مذكراً الناسين ومعلماً غير العالمين- أنه عليه الصلاة والسلام فكر يوماً في أن يسمع الأغاني، وأن يحضر عرساً من أعراس قريش فيه الدف والمزمار وأصوات المغنين والمغنيات، وكان يومها يرعى الماشية حول مكة على قراريط يستعين بها على عيشه وحياته، إذ هو يتيم كما تعرفون، وعمه الذي آواه فقير، فكان صلى الله عليه وسلم يرعى الغنم في بادية مكة، فقال لصاحب له في المرعى: هل لك أن تقوم على غنمي حتى أسمر الليلة في مكة وأعود إليك غداً إن شاء الله؟ قال: مرحباً يا محمد، حباً وكرامة، وعزم رسولنا وهو غلام يافع أن يسهر تلك الليلة في عرس، ما هو عرس كأعراسكم أيها المؤمنون والمسلمون، هذا فيه مزمار صوت الشيطان، وفيه الراقصات والمغنيات، حسبكم بأيام الجاهلية، فجاء -فداه أبي وأمي- إلى الساحة التي يقام فيها الحفل العظيم، وإذا بالاستعدادات على قدم وساق، هذا يعد دفوفه، وهذا يهيئ مزماره، وهذا يعد كذا.. وجلس ينتظر متى يبتدئ الحفل، فأخذه النوم فنام، فأخبر عن نفسه، قال: ( والله ما أيقظني إلا حر الشمس من الغد ) من عصمه؟ من حماه؟ من حفظه؟ الله الله، هل فيكم من يحفظهم الله؟ الذي يطلب الله، ويرتمي ويطرح بين يديه، يعمل في صدق يريد أن يصل إلى مستوى الولاية، فإنه يقبل بإذن الله، وإذا قبل حفظه الله؛ لأن الله إذا والاك لا يسمح لك أن تأتيه ملوثاً، لا يسمح أن يكون وليه ملوثاً بشر وبخبث وهو ولي الله.

    واسمعوا -إن شئتم- قول الله تعالى وفي قصة عجيبة من عجيب القصص وهي قصة يوسف عليه السلام، ولا تقولوا: الشيخ يستطرد، نحن نرعى في زهور ورياحين من العلم والمعرفة، ما عندنا امتحانات تخافون على عدم النجاح، كل ما نسمع في بيت الله عن الله والرسول هو العلم والهدى والخير؛ لأننا نريد أن نعيش ساعة مع الله.

    كان هناك مناوئ خصم للدعوة، رأى إقبال الناس على سماع القرآن وتجمعهم كهذا التجمع، ففتح داراً له وأتى بمغنيات، فقال: سآتي أيضاً بما أصرفهم عن كلام محمد -صلى الله عليه وسلم- فجاء بقينات، قينة أو قينتين أو ثلاث استوردهن، بلغنا أننا في المدينة نستورد من عندكم يا أهل جدة، أظن هذا صحيحاً، نسمع به، وأنكم تستوردون من الخارج، إذاً: أعيذكم بالله أن تستمروا على هذه الحال، إن صوت الأجنبية إذا سمعته للتلذذ به تكون قد ارتكبت كبيرة من الذنوب، قد فسقت عن أمر الله، وخرجت عن طاعته، وتهيأت لأن يصحبك الشيطان.

    فنزل في تأديب هذا الرجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان:6]، فالذي يستورد الأغاني الخليعة المائعة ويسمعها من آلة الفيديو، أو يعرضها في معارض أخرى ما زاد على أن مشى وراء هذا الملعون، الذي يشتري أسطوانة مسجلاً عليها أغان خليعة يكون قد اشترى لهو الحديث بثمن كذا.

    وكلمة: لِيُضِلَّ قد تكون اللام لام التعليل، وقد تكون لام العاقبة، أي: ليئول أمره إلى أن يضل، والذي يملأ صوته أو سمعه دائماً بكلام العواهر -أسألكم بالله- كيف يستعذب كلام الله؟ كيف يعرف الطريق إلى الله وقد حُجِب؟ إياكم أن تغتروا بواقعنا، وتقولوا: لو كان الغناء حراماً ما غنينا، هذه حجة داحضة لا قيمة لها ولا وزن، يصح أن تغني لك زوجك أم أولادك حتى تطربك، أما أن تغني لك امرأتي، فهذا ما لا يجوز إلى يوم القيامة، المرأة المسلمة إذا تكلمت تتكلم بمقادير، تحصى عليها اللفظة الزائدة، لا يحل لها أن تزيد كلمة في جملة تستغني عنها بها: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب:32]، والذي يتلذذ بكلام أجنبية زنى، والغناء بريد الزنا.

    ورجل آخر جاء بقصاص يقص عليه أخبار ملوك الهند والصين؛ ليضاد دعوة الله، ويقف في وجه انتشارها، قال: ونحن أيضاً عندنا قصاصون يقصون عليكم، ففتح بيته في مكة، وقال: تعالوا اسمعوا، محمد يقص عليكم حكايات بني إسرائيل، أنا عندي قصص أعظم من هذا، فشكى بعض المؤمنين، وقالوا: ألا تقص علينا -يا رسول الله- كما يقص فلان وفلان؟ فنزل استجابة لهذا السؤال: بسم الله الرحمن الرحيم: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ * إِذْ قَالَ يُوسُفُ [يوسف:1-4].. فقص عليه أحداث أربعين سنة في هذه السورة، بعضها مشرق وبعضها محرق، وأي أحداث هي؟ بعضها تم في أعماق السجون، ومن سجل أحاديث السجناء وحدث به؟ وبعض هذه الأحداث تمت في قصور الملوك، ومن يطلع عليه؟ بعض هذه الأحداث تم في صحارى وفلاة لا يدريه إلا الله ومع هذا عرضت كاملة، اذكر قوله تعالى: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ [يوسف:4].

    والشاهد من هذا: حفظ الله لأوليائه، عصمته لعباده الصالحين، لما همت امرأة العزيز بيوسف عليه السلام أن تضربه على وجهه؛ لأنها سيدة وأميرة، وهو عبد وخادم، ويتعالى عليها ويتكبر ولا يأتيها، همت به أن تضربه، وبحكم البشرية همّ هو أيضاً أن يضربها، ولو لوث نفسه بضربة هذه المرأة وروعها وأخافها بم يغسل؟ وكيف يتطهر؟ الله لا يريده أن يتلوث، الله يحافظ عليه كما تحافظ أنت على عمامتك بيضاء نظيفة، قال تعالى في هذا المعنى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] ما قال: المخلِصين، الْمُخْلَصِينَ الذين استخلصناهم لطاعتنا وجوارنا.

    فلاحظ، هكذا نصرف عنه السوء والفحشاء، المراد بالفحشاء الزنا التي طالبت به امرأة العزيز، والسوء هو ما أراد أن يضربها، وآثر الهرب، وجرت وراءه، وقدت قميصه، وألفيا سيدها لدى الباب، وآثر السجن على أن يتلوث وهو الطاهر، عصمه الله أو لا؟ عصمه.

    إذاً: يا معاشر الأبناء! إذا صدقتم في سيركم إلى الله فإن الله يعصمكم، وإذا كتب على أحدنا أن يتلوث يوماً ما فإنه لا يلبث على تلوثه حتى ينصع ثوبه، ويظهر طهره بتوبة تحيل كل الذنوب إلى حسنات، هذا تحصل عليه بموالاتك لله.

    1.   

    ثمرة المعرفة الحقيقية لله

    معاشر الأبناء والإخوان! هذه النعمة نعمة معرفة الله بأسمائه وصفاته هي من أجل النعم بعد نعمة الإيمان، وتأكدوا من صحة ما سمعتم، من لا يعرف الله لا يخافه ولا يرهبه ولا يطمع فيه ولا يسأله فتعرفوا إلى الله، وفي الحديث الصحيح: ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ).

    ومعرفة الله لها طريقان: كتاب الكون وكتاب القرآن، اقرءوا القرآن فإن الله يتعرف فيه إلينا، يتكلم معنا، يخاطبنا، هكذا كفاحاً، كيف إذاً ما نعرفه؟ وإذا قلت: عرفته ونجحت، فاختبارك هو تقواه، إن امتلأ قلبك بحبه وخشيته فأنت العالم، وإن لم يكن حب ولا خشية فعبد الله هو الجاهل، وإن درس كل كتاب للناس، وأخذ كل شهادة من العلماء، معرفة العلم من طريق الخشية: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] والخشية: رقة في النفس تحملك على ألا تعصي له قولاً ولا أمراً، أما تستطيع هذا؟

    أروني أحداً منكم يستطيع أن يقضي أربعاً وعشرين ساعة ما يأتي إلى بيت الرب ولا يناجيه؟ هاتوا، ما يستطيع، والله ما يستطيع، ومما نذكره دائماً للفرق بين العلم والجهل، بين العالم والجاهل، نقول: لو أعطيت مصلياً المملكة العربية السعودية على أن يترك الصلاة وغداً نتوجه هل يقبل؟

    والله ما يقبل، أرأيت لو ملكناه على العروبة من الدار البيضاء غرباً إلى الخليج الإسلامي شرقاً، أيترك الصلاة؟

    والله ما يتركها، ولو أضفنا إليه إفريقيا كلها تحت ملكه مضافة إلى العروبة لا يقبل، والله الذي لا إله غيره! لو يعطى العارف ما على الأرض على أن يترك الصلاة ما تركها، وبالمقابل هل عندكم أناس لا يصلون أو ما عندكم؟

    إيه! يوجد، ومع ذلك ماذا أعطوا حتى تركوا الصلاة؟ أعطوا أمريكا؟ أعطوا مملكة العروبة؟ ما الذي أخذوه حتى تركوا الصلاة؟! لا شيء، فيا عجباً! هذا يتعالى أن يكون له ملك الأرض على أن يترك الصلاة فلا يتركها، وهذا يتركها بلا فلس ولا قرش! فسروا هذه الظاهرة، تفسيرها: هذا عرف وهذا لم يعرف فقط، يوم ما يعرف يقول: لو أعطيت ما في السماء والأرض على أن أعصي ربي ما عصيته.

    وهكذا جاء خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في ظل الكعبة في يوم قائظ، والكعبة أشرف مكان وأعلاه؛ يستظل الرسول صلى الله عليه وسلم بظلها، جاء خباب يشتكي ويبكي: ( يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ ) ألا.. ألا؟ إلى متى ونحن مضطهدون معذبون، ينكل بنا، نطرد، نشرد..؟ ادع الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: ( إنه كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيمشط ما دون لحمه وعظمه بمشط الحديد، فلا يرده ذلك عن دينه، ويؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرق رأسه فيقسم نصفين -من مفرق الرأس إلى أسفله- لا يرده ذلك عن دينه ).

    أصحاب الأخدود في نجران أو في الحجر أججت لهم النار وخدت لهم الأخاديد، وجيء بهم في العسكر، يقال لهم: تكفرون أو تدخلون النار؟ فكانوا يتسابقون إلى النار: النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ [البروج:5] حتى إن امرأة كانت ترضع طفلها، وهو في يدها تعطيه ثديها، فأحجمت وترددت، فنطق الطفل، وقال: أماه، ادخلي مع الداخلين، هؤلاء عرفوا. أرأيت، وأسألك بالله! لو تعطى كأساً من الخمر، وتعطى عشرة آلاف ريال معها، هل تشربها؟

    ما تشرب، لم ما تشرب وهي عشرة آلاف ريال. أنا أقول: والله الذي لا إله غيره! لو أعطى خزينة المملكة السعودية على أن أشرب الخمر وأنا واع صاح هكذا والله ما شربته، وأنتم؟ والذين يشربون المسكرات ويهربونها في ديار الإسلام ويسرقونها ويشربونها، ولا يعطون لا مائة ألف ولا القليل، ما الفرق بيننا وبينهم؟ لم يعرفوا.

    بل إنهم يدفعون المال من أجل أن يشربوها، يشترونها بغالي الأثمان، هل تأكدتم إذاً من صحة هذه الحقيقة؟ العلم: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

    وشيء آخر: هل العلم يكتسب أو يوهب؟

    تبقى في مزرعتك أو في مصنعك أو دكانك أو مع أسرتك وتتعلم ويفتح عليك، معقول هذا؟ العلم يطلب: ( إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ) إن العلم يرحل إليه الناس.

    بلغنا من طريق موثوق صحيح: أن جابر بن عبد الله الصاحب الجليل ابن الشهيد في أحد، رحل من المدينة إلى حمص من بلاد الشام، ركب راحلته لا ليتبضع كما تقولون، ولا ليتنفس كما يقال، ولكن من أجل حديث واحد، بلغه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كيت وكيت، والذي حدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر هو الآن في حمص، فأعد راحلته وزاده، ورحل يطلب هذا الحديث، وبذلك تعلموا.

    وإن قلتم: يكفينا، نحن عندنا الماجستير والدكتوراه والوظيفة كافية وشريفة، لم المزيد من العلم؟

    نقول: خطب موسى عليه السلام يوماً في بني إسرائيل أيام التيه والمحنة، فلما خطب -وقد أعطاه الله من البيان والفصاحة والعلم، وحسبكم أن يتلقى عن الله- بهر السامعين، فقام شاب من وسط الحلقة، وقال: هل يوجد من هو أعلم منك يا موسى؟ قال: لا، غفلة! فأوحى الله تعالى إليه: بلى عبدنا خضر أعلم منك يا موسى، فقال: رب! وكيف السبيل إليه؟ الآن يترك المملكة وشئونها والأمة ومحنها ويصبح تلميذاً يطلب العلم، ما أنف ولا استنكف ولا تكبر ولا تجبر ولا قال: ما نبغي من العلم، بل قال: رب! كيف السبيل إليه؟ دلني على الطريق لأصل إليه، وأخذ طعامه وزاده وخادمه يوشع بن نون، وذكر له تعالى ما كان يجده فيه، فعثر عليه، وقال بهذا اللفظ: هَلْ أَتَّبِعُكَ [الكهف:66] تسمح أن نتبعك؟

    لا إله إلا الله، نحن الآن: علمني وأنا سيدك، هذه هي لغتنا، فماذا قال موسى الكليم رسول رب العالمين؟ قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ [الكهف:66] تسمح؟ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، أجاب قال: ما تستطيع يا موسى، ما تقدر، طلب العلم شاق، قال: وكيف؟ كيف لا أطيق الصبر؟ أصبر و سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69]، لو قال: قف هنا أربعين يوماً لوقفت، قال: وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69]، وبذلك حصل على علم غفير وخير كثير، وتأدب، ومن بعدها لا يقول: أنا أعلم، بل الله أعلم: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76].

    كان الرجال يأتون من الأندلس ليروون موطأ مالك ، وكانوا يتزاحمون على باب مالك كما نتزاحم الآن نحن على السينما أو على ملعب الكرة، حتى يدخلوا على مالك ساعة ليقرأ -فقط- الرجل الموطأ ومالك يسمع.

    لا طائرة ولا بالون ولا صاروخ، يأتون على الجمال وعلى أرجلهم وعلى باخرة: مجموعة أخشاب وحبال يهلكون في البحر من أجل أن يتعلموا.

    يومها ارتقت هذه الأمة وبلغت الكمال البشري؛ لأنها علمت، ومن يوم أن تركت العلم وتطلابه وهي في هبوط، ولا يغرنك أحد ويفهمك أنك تظفر بولاية الله وتصبح ولي الله وأنت جاهل، والله ما كان، لا يمكن أن تصبح في عداد الأولياء لله بدون علم، حتى قال بعض أهل التصوف كلمة مصيبة غير خاطئة: ما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علمه، وكيف ذلك؟ يهديه إلى أن يسأل العلماء، يسوقه إلى أن يجالس العلماء، يوفقه إلى أن يقرأ كتب العلماء، يعطيه ذاكرة ما ينسى ما حفظ، يعطيه حافظة يحفظ كل ما يسمع، شيئاً فشيئاً حتى يصبح أهلاً لولاية الله، فلا تفهم أنك تعيش على الجهل وتطمع في الولاية، لا تطمع؛ لأنك تريد أن ترضيه عنك فتغضبه عليك، ما عرفت ما يحب ولا ما يكره، كيف تتقرب إليه بأشياء ما يحبها ولا يرضاها ثم تريد أن تكون ولياً لله تعالى؟!

    هذا لا يكون أبداً، إذا أردت أن تكون ولياً لله فتقرب إليه بما يحبه ويرضاه من الأعمال.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767985542