والشكر لا يكون باللسان فقط؛ بل بالأعمال الصالحة المختلفة كالصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الأعمال الصالحة.
أما بعـد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل، وتفكروا في هذه النعم التي أمدكم الله بها ومن أهمها وأكبرها نعمة الإسلام، والأمن، والاستقرار والصحة والعافية في الأبدان ونعم رغد العيش، ونعمٌ كثيرةٌ، وصدق الله حيث يقول: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18].
عباد الله: لقد أنعم الله علينا بنعمٍ كثيرةٍ وافرةٍ في هذه البلاد الواسعة الأرجاء، بينما كثيرٌ من الناس في كثيرٍ من الأقطار والأمصار يعانون من المخاوف وعدم الاستقرار، وعدم الأمن، وتهددهم المجاعات، وتطحن عليهم الحروب رحاها؛ ففرقتهم ومزقتهم كل ممزق، فهم ما بين جريح وقتيل، ويتيم وأرملة، ومشلول ومعلول، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها، وكانت التبابعة منهم وبلقيس صاحبة سليمان عليه السلام من جملتهم، وكانوا في نعمةٍ وغبطةٍ في بلادهم وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم، وبعث الله تبارك وتعالى الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ويشكروه بتوحيده تبارك وتعالى، ويعبدوه حق عبادته، فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى، ثم أعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد شذر مذر، قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ [سبأ:18] ولكنهم عافوا هذه النعمة، وسئموها كما سئمت بنو إسرائيل المن والسلوى: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:19].
نعم يا عباد الله: هذه سنة الله في خلقه، فإن الناس إذا كفروا نعمة الله؛ فإن الله يغار على نعمه؛ فيحل الخوف بدلاً من الأمن؛ وتحل النكبات والكوارث والفقر والجوع والتشريد والجلاء عن الديار، وهلاك الأنفس، وتلاف الأموال، والترويع والإرهاب، والتخريب والاغتيالات، والاختطاف وتفجير القنابل المروعة التي تهدم المباني المشيدة، وتهلك النفوس الكثيرة، وتلحق الأضرار البالغة بالجراحات والتشويه، وما يتبع ذلك من نهب الأموال، وقطع الطرق ونشر المخاوف، كل ذلك يجري إذا كُفرت النعمة، وغير العباد الطاعة بالمعصية، وأغضبوا جبار الأرض والسماوات، فإنه يغار ويسلط ويسلب النعم ويحل النقم، فهو القادر على كل شيء، وهو الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، قال الله وهو أصدق القائلين: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
عباد الله: اسمعوا إلى ربكم يحذركم في محكم البيان، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة، فهل من أذن تسمع؟ وهل من قلبٍ يتعظ؟
نعم -يا عباد الله- فكثير من البيوت تمتلئ بالرجال والأولاد الذين لا يشهدون الصلاة في المساجد، ومنهم من يترك الصلاة بالكلية، وهناك بيوت تمتلئ بآلات اللهو والأفلام الخليعة، وترفع فيها أصوات المطربين والمطربات بالأغاني الخليعة والأصوات الفاجرة، وهناك أناس هتكوا ستر الحياء، وذبحوا الشيمة والمروءة، وتساهلوا في أمر نسائهم ومحارمهم، فتركوهن يخرجن للأسواق متبرجات متعطرات، وبعضهم جلبوا إلى بلاد المسلمين قطعاناً من الرجال والنساء الأجانب وأدخلوهم في بيوتهم، وخالطوهم مع عوائلهم باسم خدامين وخدامات، ومربين وسائقين، وأكثرهم كفرة وملاحدة جاءوا لإفساد عقائد المسلمين وأخلاقهم، وتدمير بيوتهم، وغير ذلك من المنكرات التي حدثت في بلادنا مؤذنةٌ بزوال تلك النعم إن لم نتدارك أمرنا ونقلع عما نحن فيه، ونتآمر بالمعروف، ونتناهى عن المنكر، ونأخذ على أيدي سفهائنا بجدٍ وحزمٍ، ولنستمع إلى قول الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً [الإسراء:16] وهذه سنة الله في خلقه، إذ هو يقول: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً [الإسراء:17].
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، ومن تحول عافيتك، ومن فجاءة نقمتك، ونعوذ بك اللهم من جميع سخطك، اللهم صلِّ على محمد، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل، فلقد أنعم الله عليكم بنعمٍ كثيرةٍ، وجاد علينا بخيراتٍ وافرةٍ، غفلنا عنها وعن ضدها، وجهلنا حكمتها، وأعطانا ربنا جل وعلا النعم الكثيرة الظاهرة والباطنة، والله أوجب علينا الشكر لنعمه، وهو الغني الحميد، غني عن العالمين، والخلق هم الفقراء إليه كما أخبر سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] وليس لله في شكرنا منفعةٌ تعود عليه، ولا في كفر نعمه ضررٌ عليه، إنما تعود منفعة الشكر على الشاكر كما قال تعالى: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40].
عباد الله: تسمعون ما يحصل في كثيرٍ من المناسبات من البذخ والتبذير والإسراف مما يندى له الجبين، ويقشعر منه الجلد، كل ذلك جرياً وراء العادات، ووراء التقاليد مباهاة ومفاخرة، حتى إن البعض من الناس صارت عنده العادات بمنزلة الفريضة، فبعضهم إذا نزل عليه ضيف ولو كان واحداً قدم له الذبيحة، ثم يأخذ منها بقدر ما يأخذ الضيف، والباقي أين يوضع يا عباد الله؟! لو نذكر هذه العبارة مع البكاء حتى ينفد الدمع ويتبعه الدم؛ ما قدرنا أن نعبر عما يفعله الناس، أين يوضع الباقي يا عباد الله؟!
إن الإنسان يستحي أن يقول: إنه يوضع في محل النفايات مع القاذورات، في محل حتى الكلاب والقطط لا تأكل منه، أليس هذا يا عباد الله من كفر النعمة؟ بلى والله. ثم بلى والله.
ثم حدثوا يا عباد الله: عن البراري والصحاري، وما يوضع فيها ولا حرج، إن البعض من الإخوان الثقات، قال لي: لقد رأينا (قلاب) وهو يظهر منه حرارة، فتتبعناه، فإذا هو يفرغ طعاماً كثيراً، سبع ذبائح لم يؤخذ منها شيء إلا القليل قدر البيضة، وبعضها لم يؤخذ منها شيء.
ثم زيادة على ذلك ما يدفع من النقود الباهضة للفنادق وغيرها من قصور الأفراح في مناسبات الزواج، وربما كان ذلك كله دينٌ في ذمة الزوج، قد استدانه من تجار حمَّلوه ما لا يطيق (فيا ليت للصقيمة الوليمة) ولو أن إيجارات قصر الأفراح ترد على الزوج ليقضي ما عليه من الدين، واكتفى بشيءٍ يسير يجتمع عليه هو وأقاربه وجيرانه لكان في ذلك كفاية وخير كثير كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـعبد الرحمن بن عوف: (أولم ولو بشاة) والصحابة في حاجة، وشدة جوع، ويقول له صلى الله عليه وسلم: (أولم ولو بشاة).
ولكن متى نرعى النعمة يا عباد الله؟ متى نقيد النعمة يا عباد الله ونحن نبذر ونسرف في تلك المناسبات! حتى -يا عباد الله- إذا حل بنا ما حل بالمجاورين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهم بطروا النعمة وكفروها، وأخيراً صاروا يبحثون عنها مع الوحوش ليسدوا رمق الجوع، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وما هي من الظالمين ببعيد.
اللهم أيقظنا من غفلاتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشداً.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم أجرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها، وأكرمها علينا، وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: (من صلى عليَّ صلاةً، صلى الله عليه بها عشراً).
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الإسلام والمسلمين، واشدد وطأتك على أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم وقيض لهم القرناء الصالحين، والجلساء الصالحين الناصحين يا رب العالمين، اللهم أصلحنا، وأصلح لنا، وأصلح بنا، واجعلنا هداةً مهتدين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، وصلوا على رسول الله!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر