أما بعـد:
فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى وأطيعوه، فلقد أنعم الله عليكم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أنزل الله عليه القرآن الذي هو أكبر معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد أتم الله نعمته الكبرى التي قشعت ظلام الجهل والشرك، نعمة الإسلام التي أخرج الله بها العباد من ظلمات الجهل والضلال، من عبادة العباد إلى نور الإيمان، إلى نور العلم والهدى، إلى الهداية السعيدة، إلى عبادة الواحد الديان.
يا عباد الله! إنه الكنز العظيم وإنه القرآن العظيم الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم:1].
القرآن أنزله الله للعمل به، ولتدبر آياته، وللاتعاظ والتذكير كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29].
القرآن أنزله الله ليعرف الخلق بخالقهم جلَّ وعلا، ويُعرِّفهم أنهم مبعوثون، ولم يخلقوا عبثاً إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الأعراف:54].. وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
القرآن نزلت فيه البشارة للمؤمنين, والنذارة للكافرين: قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً [الكهف:2-3].
القرآن أنزله الله ليكون المُحكِّم الأول في جميع شئون حياة المسلمين: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].
نزل القرآن عصمةً ونجاة لمن تمسك به، أنزله الله حجةً على العالمين، وعلامةً على صدق رسالة عبده ورسوله محمد.
نعم! أنزل القرآن بتلكم الأمور.
ولا عجب -أيها المسلمون- أن ينزل القرآن بأروع لفظ, وأجمل معنى, وأفصح بيان، وهو كلام الله جلَّ جلاله, الذي تكلم به، وأنزله تسبيحاً خالداً لا يغير ولا يتغير على مدى الزمان: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
لا عجب! فهو حجة الله على عباده، وآية رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعجزة محمد التي تحدَّى الله بها عملاء الضلالة على أن يأتوا بمثله، فعجزوا، ثم بعشر سور مثله، فنكسوا على أعقابهم، ثم بآية، فانقطعوا، وصدق الله العظيم الذي أخبر: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88].
يروي أحد المفسرين أن الوليد بن المغيرة أحد المشركين استمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ قول الجبار: حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:1-3] فلما فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أعاد القراءة، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم، فقال: "والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً لا هو من كلام الإنس ولا هو من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه طلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدقٌ أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته".
هكذا يشهد هذا الطاغية الوليد بن المغيرة لكلام رب العالمين، لا عجب أن يشهد هذا الطاغية في هذه الحقيقة، فمستوى القرآن البلاغي فوق ذلكم، بل فوق كل معارضة ومعاندة، وهاهو يُتلى من مئات السنين، فلا يشبع منه عالم، ولا يمل منه تالٍ، أو سامع متدبر، لا... مع كثرة الرد، بل يزداد كنوزاً ومعانٍ جديدة، وحكماً وأسراراً تتجلى بكثرة تكراره, أودعها فيه من جعله تشريعاً وديناً ونظاماً للبشرية جمعاء، أودعها فيه إلى أن تقوم الساعة.
أيها المسلمون! إن بين أظهركم لكنزاً عظيماً لا ينفد، ومنهلاً عذباً صافياً لا ينضب، ولا يسن أبداً، لا يقع فيكم قول الرسول عن ربه عز وجل: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30].
لقد علا الغبار كتاب الله، لقد تُرِكَ كلام الله، لقد نُهِبَ كتاب الله وعُزِلَ عنه الأكثرون، بين أظهرنا هذا القرآن الكريم الذي جعله الله مخرجاً من كل فتنة, ونجاة من كل بلية، جعله لكم هدىً ونوراً ورحمةً وشفاءً وبركةً، وجعله خيراً محضاً، إنه القرآن العظيم، ولكن لما تدهورت الأفكار، ونقصت العقول بما طمّ عليها وعمّ من بلايا الدنيا وفتنها نُسِيَ القرآن.
أمة الإسلام! إن المسلمين اليوم في زمن فتن عظيمة, تموج أعاصيرها كموج البحار، فتن شهوات وشبهات، فتن قيل وقال، فتن أعداء تكالبوا على الإسلام من شيوعية , ويهودية, ونصرانية قال تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [الصف:8] ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أمة الإسلام! إنه لا سلامة لكم ولا نجاة إلا بالتمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التمسك بالقرآن الكريم قولاً وعملاً واعتقاداً، عملاً بمحكمه، وإيماناً بمتشابهه، وتصديقاً لأخباره، فهو حبل الله القائم بينكم وبينه، إن تمسكتم بالقرآن وصلتم إلى الله، وإذا انقطعتم عن القرآن انقطعتم عن الله، فاتقوا الله وتمسكوا بكتاب الله تمسكاً صادقاً تُرى آثاره في أعمالكم وأقوالكم, وفي آذانكم ومعاملاتكم، في إقبالكم عليه تلاوةً ودعوةً وتعليماً وتعلماً وتحاكماً وتحكيماً في كل شأن من شئونكم -يا أمة الإسلام- سواء كان اجتماعياً، أم اقتصادياً، أم ثقافياً، أم عسكرياً، فلا يصح أن يحكم بعض القرآن ويُعطَّل بعضه, كما لا يصح الإيمان ببعضه ويكفر ببعضه، فخذوا به جملةً وتفصيلاً، فما هو إلا التمسك بالقرآن والنجاة، أو الإعراض والهلاك، يقول صلى الله عليه وسلم: {إني تاركٌ فيكم ما لم تضلوا إذا اعتصمتم به: كتاب الله, وسنتي} ويقول جلَّ وعلا: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:123-126].
اللهم ارزقنا التمسك بكتابك, لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لا إله إلا أنت مغيث اللهفات, ومجيب الدعوات, ومنزل الكتاب، ومجري السحاب، لا إله إلا أنت ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا للقرآن، اللهم ارزقنا العمل بالقرآن، اللهم ارزقنا اتباع القرآن، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا, ونور صدورنا, وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، وقائدنا إليك وإلى جناتك جنات النعيم، اللهم اجعلنا من أهل القرآن، اللهم اقشع غيوم الغفلات والسهوات عن قلوبنا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروا إليه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
أيها المسلمون! اعلموا أن القرآن الكريم خير كتاب أنزل على أشرف رسول, إلى خير أمة أُخرجت للناس، بأفضل الشرائع وأسماها وأكملها، أنزل القرآن لكي يقرأه المسلم ويتدبر معانيه, ويتفكر في أوامره ونواهيه، ثم يعمل به، فيكون حجةً له عند ربه.
القرآن حجةً لك أو عليك, يقرأه المسلم, ويعمل بمحكمه, يؤمن بمتشابهه, ليكون شفيعاً له يوم القيامة، وقد تكفّل الله بمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، يقول صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) رواه مسلم ، وقال عليه الصلاة والسلام: (يُؤتى يوم القيامة بالقرآن، وأهل القرآن الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما) ويقول صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلَّم القرآن وعلمه) ويقول صلى الله عليه وسلم: (يجيء القرآن يوم القيامة، فيقول: يا رب! حله -أي: ألبسه حلة صاحب القرآن الذي عمل بالقرآن- فيلبس تاج الكرامة، يقول: يا رب! زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا ربِ! ارض عنه، فيقال: اقرأ وارق -يعني: في درج الجنة- فيزداد بكل آية حسنة) ويقول صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فاستغفره -أي: حفظه عن ظهر قلب- فأحل حلاله وحرم حرامه، أدخله الله به الجنة، وشفِّعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار) وقال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها) وقال صلى الله عليه وسلم: (من استمع إلى آية من كتاب الله، كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة) وقال صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيتٍ من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة, وغشيتهم الرحمة, وحفتهم الملائكة, وذكرهم الله فيمن عنده) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4].
أيها المسلمون! هل بعد هذا الفضل العظيم فضلٌ أعظم من هذا؟
لنتساءل جميعاً هل بعد هذا الفضل العظيم فضلٌ أعظم من هذا الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لا والله، ثم لا والله، لكنَّ المسلمين -أسأل الله أن يردنا جميعاً إلى الحق- لما أعرضوا عن كتاب الله واستبدلوه بالمجلات والجرائد واستماع الملاهي! هان عليهم هذا الفضل العظيم، وسيكونون في خسارة وسفال، إن لم يرجعوا إلى ربهم وإلى دينهم القويم المستمد من هذا الينبوع العظيم، وهو القرآن الكريم.
هل هو في الفيديو الذي يَعِرَض الخلاعة والشناعة والعار؟
أم في التلفاز الذي يُعَرض فيه البلاوي والسفور؟
أم في استماع الأغاني؟
لا. لا يا أمة الإسلام! كل هذه حدثت بعد الرسول، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
(ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله! فيه نبأ ما قبلكم, وخبر ما بعدكم, وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أذله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه), من الذي أخبرنا عن قوم هود, وقوم نوح، وقوم ثمود، وقوم عاد، وما أصابهم من العذاب إلا القرآن العظيم؟
(لا تنقضي عجائبه, ولا يشبع منه العلماء), أين العلماء؟ لا إله إلا الله.
اللهم بَغِّض حب الدنيا في قلوب العلماء, حتى يرجعوا إلى كلام رب العالمين، وليبينوا ما فيه من الآيات والذكر الحكيم لعباد الله المؤمنين، اللهم أيقظ العلماء من سهاد الرقاد يا رب العالمين.
(لا تشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم).
إذا علمت هذا أيها المسلم، فاعلم أن القرآن قد بين فيه كل ما يحتاج إليه العباد, من أصول الدين وفروعه, وأحكام الدارين، وفيه بيان الحلال والحرام, والثواب والعقاب, وهدىً من الضلالة, ورحمةً لمن صدق به وعمل بما فيه, وحكمه في الدقيق والجليل, والويل ثم الويل لمن رجع عن كتاب الله إلى تحكيم القوانين الوضعية, وترك القرآن وأعرض عنه, وأخذ في المجلات والجرائد الكاذبة، فكل حكم سوى حكم الله فهو باطل مردود، وكل حاكمٌ بغير حكم الله ورسوله فهو طاغوت كافر بالله.
فيا أمة الإسلام! يا أمة القرآن! ويا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم! ويا خير أمة أخرجت للناس! انفضوا الغبار عن القرآن، وارجعوا إلى كلام الله.
عباد الله! إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذّ شذ في النار.
وصلوا على خير خلق الله، محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] ويقول: (من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً) اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين: أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين, وأرشدنا برحمتك حتى نتبعهم.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم اكفنا شر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم اجعل تدبيرهم تدميراً عليهم يا رب العالمين، اللهم أذلهم بعز الإسلام والمسلمين، اللهم اخذلهم بعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين عليهم يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر