أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته.
عباد الله: لقد قضى صلى الله عليه وسلم حياته المباركة في كفاح وجهاد متواصل، وأرسى الدين الإسلامي في نفوس البشرية إلى أن اختار الله له في الرفيق الأعلى، فوافاه أجله في هذا الشهر الذي ولد فيه، بعد أن قضى ثلاثاً وستين سنة، أولها في تعبد وتقليب لوجهات العرب، وبعد الوحي في تبليغ رسالة ربه حتى أكمل الله به الدين، ما ترك خيراً إلا دل أمته عليه، ولا شراً إلا حذرها إياه، ترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
عباد الله: يا أتباع محمد بن عبد الله! يا من يحبونه أعظم من حبهم لأنفسهم وأهليهم! إن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وإجلاله إنما يكون في اتباعه والاقتداء بسنته, والتخلق بأخلاقه، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
والجواب أن يقال: لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره؛ لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولم يفعله خلفاؤه الراشدون, ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، وهم أعلم الناس بالسنة وأكمل حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتابعة لشرعه من بعده، وقد ثبت عن نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} أي: مردود عليه، وقال في حديث آخر: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة}.
ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع والعمل بها، وقد قال الله سبحانه وبحمده: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7] وقال سبحانه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] وقال سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21] وقال سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100] وقال سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3], هذا كلام الله، وآيات الله في هذا المعنى كثيرة، ومحدثات مثل هذه تدل على أن الله عز وجل لم يكمل الدين.
يقول فضيلة الشيخ: إن مثل هذه الموالد يفهم منها أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به، حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به الله، زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم واعتراض على الله سبحانه، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
والله جلَّ وعلا قد أكمل الدين لعباده، وأتمَّ عليهم النعمة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقاً يوصل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه للأمة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم} ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم، وأكملهم بلاغاً ونصحاً.
فلو كان الاحتفال بالمولد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة، أو فعله في حياته، أو فعله أصحابه رضي الله عنهم، فلما لم يفعله صلى الله عليه وسلم، ولم يقع شيء من ذلك علم أن الاحتفال بالمولد ليس من الإسلام في شيء، بل هو من المحدثات التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته منها، كما تقدم ذكر ذلك في الحديثين السابقين، فقد جاء في معناهما أحاديث أخرى، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة، {أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة} والآيات والأحاديث في هذا كثيرة.
ولقد رددنا ذلك أيضاً إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نجد فيها أنه فعله ولا أمر به، ولا سأله أصحابه رضي الله عنهم، فعلمنا بذلك أن المولد ليس من الدين, بل هو من البدع المحدثة وهو من التشبه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في أعيادهم.
وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق وإنصافاً في طلبه: أن الاحتفال بالمولد ليس من الدين الإسلامي في شيء، بل هو من البدع والمحدثات التي أمر الله ورسوله بتركها والحذر منها، ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار، فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية كما قال جل وعلا: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
ثم إن غالب هذه الاحتفالات بالمولد مع كونها بدعة لا تخلو من اشتمالها على منكرات أخرى، كاختلاط النساء بالرجال، واستعمال الأغاني والمعازف, وشرب المسكرات والمخدرات, وغير ذلك من الشرور، وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك وهو الشرك الأكبر، وذلك بالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الأولياء، وما يقع من دعائه صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به، وجعله نداً لله، والاعتقاد أنه يعلم الغيب ونحو ذلك من الأمور الكفرية التي يتعاطاها الكثير من الناس حين احتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره ممن يسمونهم الأولياء.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إياكم والغلو في الدين! فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين} فمن العجائب والطرائف أن الكثير من الناس ينشط ويجتهد في حضور هذه الاحتفالات المبتدعة، ويدافع عنها، ويتخلف عما أوجبه الله عليه من حضور الجمع والجماعات، ولا يرفع بذلك رأساً، ولا يرى أنه أتى منكراً عظيماً، ولا شك أن ذلك من ضعف الإيمان وقلة البصيرة وكثرة ما ران القلوب من صنوف الذنوب والمعاصي.
نسأل الله العافية لنا ولسائر المسلمين، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه يغفر لكم.. إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، وتبصروا في دينكم، واحذروا البدع المحدثة التي تبعدكم عن الله وتصدكم عن الصراط المستقيم.
عباد الله: لقد بلغ بالذين يحضرون المولد من الإفك والافتراء أن بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر المولد، ولهذا يقومون له محيين مرحبين، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس، ولا يحضر اجتماعاتهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة، كما أخبرنا بذلك الله جلَّ وعلا فقال: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:15-16] وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة، وأنا أول شافع وأول مشفع) عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين، ليس فيه نزاع بينهم.
فينبغي لكل مسلم التنبه لهذه الأمور، والحذر مما أحدثه الجهال وأشباههم من الذين يدّعون العلم -نسأل الله العافية- ليحذر أولئك مما أحدثه الجهال وأشباههم من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد, وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم ردنا إلى الإسلام، واكفنا شر المحدثين في الدين، اللهم اكفنا شر أهل البدع والخرافات، اللهم اجعل تدبيرهم تدميراً عليهم يا رب العالمين، اللهم أنت حسبنا ونعم الوكيل، اللهم إنا نعوذ بك من شر الكفار والمنافقين الذين يصدون عن دينك, ويبدلون دينك, ويريدون بعبادك الضلال، حسبنا الله ونعم الوكيل, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم اجعلهم حرباً لأعدائك سلماً لأوليائك، اللهم انصر بهم دينك يا رب العالمين، واجعلهم قرة أعين والديهم، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الرحمين.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين! رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [النحل:90-91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر