أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله.
عباد الله: لقد سمعتم في الخطبة الماضية الحث على التوبة النصوح، وسمعتم في الخطبة التي قبلها آثار الذنوب والمعاصي على البلاد وعلى العباد وعلى المجتمع، نسأل الله أن يرزقنا توبةً نصوحاً، ونسأله حسن الخاتمة.
عباد الله: إن العبد إذا تاب وأناب وأقبل على الله بالأعمال الصالحة؛ فإنه يرجى له حسن الخاتمة -بإذن الله تعالى- وبالعكس من ذلك إذا كان من الذين عصوا الله، وذهبت حياتهم في غير طاعة الله عز وجل، وأطاعوا الشيطان في جميع ما يأمرهم به من المخالفة والعصيان، فتعدوا الحدود وارتكبوا المحرمات؛ فإنه لا يؤمن عليهم من سوء الخاتمة، والعياذ بالله.
وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه لما حضرته الوفاة، جعل يجود بنفسه وقال: [[ألا رجلٌُ يعمل لمثل مصرعي هذا..؟ ألا رجلٌ يعمل لمثل يومي هذا..؟ ألا رجلٌ يعمل لمثل ساعتي هذه..؟ ]].
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لمّا حضرته الوفاة شهق، ثم أغمي عليه ثم أفاق، وقال: [[مرحباً مرحباً، الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنة فقيل له: ماذا ترى؟ قال: هذا رسول الله وأخي جعفر، وعمي حمزة، وأبواب السماء مفتحة، والملائكة ينزلون يسلمون علي ويبشرونني، وهذه فاطمة قد طاف بها وصائفها من الحور العين، وهذه منازلي في الجنة، لمثل هذا فليعمل العاملون]] ثم توفي رضي الله عنه وأرضاه.
عباد الله: أمة الإسلام! إن حالة الاحتضار سوف تمر بكل إنسان، فالموفق من وفقه الله وألهمه وثبته على القول الثابت، فإن المؤمن الذي قد عاش على طاعة الله وذكره عندما يقال له: قل لا إله إلا الله؛ يبادر بها ويرفع بها صوته، ومع ذلك هو فرحٌ بالموت مشتاق؛ لأن الله جل وعلا اشتاق للقائه، والبشرى تزف إليه، وملائكة الرحمة تنزل إليه لقبض روحه.
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا -استقاموا على طاعة الله- تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32] هكذا المؤمن -يا عباد الله- تبشره ملائكة الرحمة بهذه البشرى التي تقرءونها في كتاب الله عز وجل.. ويقول الله: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:28-30].
وأما الصنف الآخر من الناس الذين عاشوا على غير طاعة الله، وغفلوا عن ذكره سبحانه، فحالة احتضارهم مخيفة، حتى جلساؤهم من أقاربهم يفرون منهم، فإنه يقال لأحدهم: قل لا إله إلا الله.. وإذا به يلهج بما كان عليه من الاشتغال بغير طاعة الله.
عباد الله: اعلموا أن سكرات الموت عظيمة، وأن الألم المصيب للبدن إنما يدرك بواسطة الروح، وإذا وصل الألم إلى نفس الروح فلا تسألوا عن كربه وألمه، حتى قالوا: إنه أشدُ من ضرب بالسيوف، ونشرٍ بالمناشير، وقرضٍ بالمقاريض، ومع ذلك فإنه لا يقدر على الصياح مع شدة الألم.. تجدونه في سكرات الموت يود أن يصيح بكل ما في وسعه، ولكن الموت وسكراته قد أو هنته إلى الأرض، حتى إذا نزل به هادم اللذات قهر كل قوة، وضعَّف كل جارحة، فلم يبق له قوة -في الاستغاثة..- أما العقل فقد غشيته وشوشة، وأما اللسان فقد أبكمه، وأما الأطراف فقد خدرها وضعفها، فإن بقيت فيه قوة، سمعت له خوراً وغرغرةً من صدره وحلقه يريد أن يتكلم ولكن لا يستطيع.. وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] أين الأطباء؟ أين الممرضون؟ لا يفيدونه بشيء.. وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] وعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها، وتغلق أبواب التوبة.
فكر يا عبد الله! وأطل التفكير، وأكثر من العمل الصالح، فإن رزقك مضمون، وأما الخلاص يوم القيامة فليس لك بمضمون.. مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [الجاثية:15].
فيا عبد الله: إن كنت مؤمناً فسوف تقول: ربي الله، ونبيي محمد، وديني الإسلام.. وهنيئاً لمن أجاب، وويلٌ لمن تلجلج في الجواب، والويل لمن قال: هاه.. هاه.. لا أدري.. فمن ثبته الله وأحسن الجواب قالوا له: انظر إلى مقعدك من النار، فقد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، ويأتيه من روحها وطيبها، وعنده عمله الصالح في صورة شاب حسن الثياب طيب الريح، يقول له: أبشر بالذي يسرك، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح.
وأما من تلجلج في الجواب، ولم يقل: ربي الله، وديني الإسلام، وونبيي محمد، بل قال: هاه.. هاه.. قالوا له: كذبت، ويضربانه بمرزبةٍ من حديد، ويفتح له باب إلى النار، ويأتيه من حرها وسمومها، وعنده عمله الخبيث بصورةٍ بشعةٍ، رائحته منتنة، ومنظره مزعج، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث.
فيا لها من حسرة! ويا لها من ندامة! ويا لها من عثرة لا تقال! وإذا أذن الله عز وجل بانقضاء الدنيا وزوالها، وماتت كل نفس، ولم يبق إلا الجبار جلَّ جلاله منفرداً بعظمته وجلاله وكبريائه يقول: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ .. لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ .. لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ .. ثم يجيب نفسه بنفسه: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16].
ثم ازدحمت الخلائق وتدافعت وتضايقت، واختلفت الأقدام، ومالت الأعناق، وتقطعت من شدة العطش والخوف، وحشرت الوحوش منكسةً رءوسها لهول يوم القيامة.
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ [الفجر:23] يتذكر يوم القيامة، يوم لا تنفع الندامة، يوم لا تنفع الذكرى، وأين هذا التذكار يا عبد الله؟! أين هذا التذكار في الدنيا وأنت تسرح وتمرح وتقضي أوقاتك فيما يغضب رب العالمين؟! أين هذه الذكرى يا غافل؟! أين هذه الذكرى يا ميت القلب؟ فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].. يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر:23] مستحيل يا عبد الله! وأنى له الذكرى؟ لا يستفيد من ذلك شيئاً.
عند ذلك إذا جيء بجهنم، فلا يبقى ملكٌ مقربٌ، ولا نبيٌ مرسلٌ إلا جثا على ركبتيه يقول: يا ربِ! نفسي نفسي.. فتصور ذلك الموقف المهيب المفزع الذي تشيب من هوله الولدان! تصور نفسك عندما يتبرأ منك الولد والوالد والأخ والصاحب! قال تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:37].
ثم يأتي الصنف الثاني الذي يعطى كتابه بشماله، قد رسب في الامتحان الأكبر يوم القيام بين يدي رب العالمين، قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ [الحاقة:25-28] المليار الذي يحارب به رب العالمين في كل مكان باستعمال الربا والقمار.. مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29] ثم يقال للزبانية: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً [الحاقة:30-32] تصور -يا عبد الله- هذه السلسة! وما ظنك بهذه السلسلة وهي سبعون ذراعاً بذراع الملك، لو وضعت حلقة من هذه السلسلة على جبلٍ من جبال الدنيا؛ لتركته تراباً!!
أيها الإخوة في الله: أوصيكم ونفسي المقصرة الظالمة بتقوى الله عز وجل، والرجوع إليه، فلنرجع -يا عباد الله- إلى أرحم الراحمين، ولنتب إلى أكرم الأكرمين، ولنجدد صلتنا مع الله، لعل الله أن يرحمنا وأن يعطينا كتابنا باليمين إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا جميعاً في جنات الفردوس الأعلى ووالدينا ووالد والدينا وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات إنه على كل شيء قدير، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله..
عباد الله: يقول الله عز وجل: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [إبراهيم:47-52].
عباد الله: سيأتي يومٌ يتغير فيه هذا العالم، فتنفطر فيه السماء، وتنتثر فيه الكواكب، وتطوى السماء كطي الصحيفة، يزيلها الله عز وجل ويطويها كما بناها بقدرته التامة، وتبدل الأرض غير الأرض، وينفخ في الصور فيقوم الناس من قبورهم أحياءً كما كانوا في هذه الدنيا، يقومون حفاةً عراةً غرلاً، قالت عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: يا
وأما المؤمنون -أسأل الله أن يجعلنا منهم بمنَّه وكرمه وإحسانه- فإنهم ينعمون في جنات عالية قطوفها دانية، ويقال لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24].. أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:19] اللهم اجعلنا منهم ومعهم بجودك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي الناصح الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، فاحذروا من محدثات الأمور يا عباد الله، احذروا من المحدثات التي يروجها أعداء الإسلام والعقيدة، وأعداء الأخلاق والآداب، فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
عباد الله: صلوا على الناصح الأمين، صلوا على رسول الهدى الذي أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور، امتثالاً لأمر الرءوف الرحيم حيث يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد القائل: {من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشراً} وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر