أما بعــد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل وأطيعوه، وامتثلوا أوامره ونفذوها على ما أراد منكم.
عباد الله: لقد جاء في القرآن العظيم والسنة المطهرة ما يوحي ويخبر بأن للوالدين حقوقاً على الأولاد، فلقد قرن الله شكره بشكرهما، فقال جلَّ من قائل عليماً: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14] قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها، إحداها: قول المولى جلَّ وعلا: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول [المائدة:92] فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لن يقبل منه. والثانية: قول المولى جل وعلا: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] فمن صلى ولم يزكِ لن يقبل منه. والثالثة: قوله جل وعلا: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14] فمن شكر الله ولم يشكر والديه لن يقبل منه
ولقد فصَّل المولى جل وعلا ما يجب من الإحسان إلى الوالدين بقوله تبارك وتعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24].
وهذا معنى واضح يبين الله جلَّ وعلا فيه؛ أنه إذا وصل الوالدان أو أحدهما إلى الكبر حال الضعف والعجز، وصارا عندك في آخر العمر، كما كنت في أول العمر عندهما طفلاً صغيراً، وجب عليك أن تحنو عليهما وتشفق عليهما، وتلطف بهما، وتعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه، على أن الفضل للمتقدم.
والمطلوب منك -أيها المسلم- إن كنت تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن باليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وإن كنت تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإن كنت مؤمناً حقاً؛ أن تطيع الوالدين، ولا تأفف من شيء تراه، أو تشمه من أحدهما أو منهما مما يتأذى به الناس، واصبر على ذلك، واحتسب الأجر من الله تعالى، كما صبرا عليك في حال صغرك.
واحذر الضجر والملل منهما! ولا تنغص ولا تكدر عليهما بكلام تزجرهما به، وقل لهما قولاً كريماً حسناً طيباً مقروناً بالاحترام والتعظيم، مثل: يا أبتاه! يا والدي! يا أماه! يا والدتي! ولا تدعهما بأسمائهما، ولا تمش أمامهما، بل احترمهما ووقرهما ولا ترفع عليهما الصوت.
فانظروا -يا أمة الإسلام- كيف فضل نبيكم صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله، فيا له من حق عظيم للوالدين على الأولاد!
ومما ورد في الحث على برهما أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ( يا رسول الله! إني أشتهي الجهاد في سبيل الله، ولا أقدر عليه، فقال له صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحدٌ؟ قال: أمي، قال: قابل الله في برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاجٌ ومعتمر ومجاهد).
وقال طلحة بن معاوية السلمي رضي الله عنه: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إني أريد الجهاد في سبيل الله، قال: أمك حية؟ قلت: نعم، قال: الزم رجليها فَثمَّ الجنة).
وتأخر رجلٌ من السلف على أصحابه، فقالوا: لماذا تأخرت عنا؟ قال: كنت أتمرغ في روضات الجنة، قالوا: أين؟ قال: تحت أقدام أمي.
وبر الأم مقدم على بر الأب، وقد جاء رجلٌ إلى رسول الهدى محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك).
رأى ابن عمر رجلاً يطوف بأمه على منكبيه، فقال: يـابن عمر! هل ترى أني أديت حق أمي؟! قال: ولا زفرة من زفرات الولادة.
الله أكبر! ثلاثة حقوق للأم؛ لأنها تنفرد عن الأب بأشياء منها: مشقة الحمل وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاعة، وكثرة الشفقة والخدمة والحنو، فقد حملتك في بطنها تسعة أشهر، كأنها تسع حجج، وكابدت عند الوضع ما يذيب المهج، وأرضعتك من ثدييها لبناً، وأطارت لأجلك عن عينيها لذيذ المنام، وغسلت بيديها عنك القاذورات والأذى، وآثرتك على نفسها بالغذاء، وصيرت حجرها لك سريراً مريحاً، فلو رأيتها إذا أصابتك شكاية أو مرض، وهي تظهر من الأسف فوق النهاية، وأطالت الأحزان والنحيب، وبذلت ما في وسعها من الراحة، الله أكبر! رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:24].
أتدري يا أخي ما هي اللعنة؟! هي الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وقال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من سب أباه، لعن الله من سب أمه) وقال صلى الله عليه وسلم: (كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه) أي: يعجل له العقوبة قبل يوم القيامة.
أمة الإسلام: لقد ورد في روايات كثيرة تبين شناعة عقوق الوالدين وعظم حقهما، فإليكم هذه القصة التي أوردها الإمام الحافظ الذهبي رحمه الله في كتابه الكبائر ، حيث قال: إن زوجة علقمة أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبره أن زوجها في النزع، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عماراً وصهيباً وبلالاً، وقال: امضوا إليه ولقنوه الشهادة.
فمضوا إليه ودخلوا عليه فوجدوه في النزع فجعلوا يلقنونه لا إله إلا الله، ولسانه لا ينطق بلا إله إلا الله، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه أن لسانه لا ينطق بلا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل من أبويه أحدٌ حي؟ قيل: يا رسول الله! أمه كبيرة السن، فأرسل إليها صلى الله عليه وسلم، وقال للمرسل إليها: قل لها إن قدرت على المسير إلي وإلا فقري في المنـزل حتى يأتيك.
قال: فجاء إليها الرسول وأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: نفسي لنفسه فداء، أنا أحق بإتيانه، فتوكأت على عصا وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لها: يا أم علقمة! اصدقيني، وإن كذبتيني جاء الوحي من الله، كيف كان حال ولدك علقمة؟ قالت: يا رسول الله! كثير الصلاة كثير الصيام كثير الصدقة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما حالك؟! قالت: أنا عليه ساخطة، قال: ولم؟ قالت: كان يؤثر علي زوجته ويعصيني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن سخط أم علقمة حجب لسان علقمة عن الشهادة، ثم قال: يا بلال! انطلق واجمع لي حطباً كثيراً، قالت: يا رسول الله! وما تصنع؟ قال: أحرقه بالنار بين يديك، قالت: يا رسول الله! والله لا يتحمل قلبي أن تحرقه بالنار بين يدي.
قال: يا أم علقمة! عذاب الله أشدُّ وأبقى، فإن سَرك أن يغفر الله له فارضي عنه، فوالذي نفسي بيده! لا ينتفع علقمة بصلاته ولا بصيامه ولا بصدقته ما دمتِ عليه ساخطة، فقالت: يا رسول الله! إني أشهد الله تعالى وملائكته ومن حضرني من المسلمين؛ أني قد رضيت عن ولدي علقمة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق يا بلال إليه وانظر هل يستطيع أن يقول: لا إله إلا الله أم لا؟ فلعل أم علقمة تكلمت بما ليس في قلبها حياءً مني، فانطلق فسمع علقمة من داخل الدار يقول: لا إله إلا الله، فدخل بلال ، فقال: يا هؤلاء! إن سخط أم علقمة حجب لسانه عن الشهادة، وإن رضاها أطلق لسانه بلا إله إلا الله.
فاتقوا الله -عباد الله- وقوموا بحق الوالدين كما أمركم الله، وليعلم كل إنسان أنهما -أي: الوالدان- جنته وناره، فأطيعوا الله والرسول وبروا بالوالدين، وأطيعوهما إلا إذا أمرا بمعصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
اللهم وفقنا لجميع أعمال البر، ووفقنا لطاعتك ورضاك يا رب العالمين، وأستغفر الله لي ولكم، ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أوجب طاعة الوالدين، وحرم عصيانهما وقهرهما، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أخبرنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وتدبروا ما جاء في الكتاب والسنة المطهرة، وتمسكوا بهما؛ فإن الإعراض عنهما يوحي بوخامة العاقبة.
عباد الله: لقد ظهرت في هذا الزمن موجة قوية من العنف والسخط من بعض الأولاد والبنات لآبائهم وأمهاتهم، حتى إن بعض الشباب يَعدُ أباه خادماً عنده، وحتى إن بعض الفتيات تعد أمها من الخادمات، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وعدم الاحترام والتوقير للوالدين من كبائر الذنوب التي نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها.
عباد الله: إن بر الوالدين فريضة لازمة وواجب محتم، وعقوق الوالدين حرام، وهو كبيرة من كبائر الذنوب، وقد جعل الله بر الوالدين قرين توحيده وعبادته، وبين ما يجب لهما وما لا يحل فعله معهما، فقال تعالى -وهذا إعادة للآية امتثالاً لأمر الله: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]- وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24].
عباد الله: بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، واعلموا أن سخط الله في سخط الوالدين، وأن رضاه لا يكون إلا إذا رضي عنكم آباؤكم، ولا شيء يزيد في العمر ويبارك في الرزق مثل بر الوالدين وصلة الأرحام، وقد ورد في الحديث: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والديوث) والديوث: الذي يقر الخبث في أهله.
فالشاهد من هذا الحديث أن العاق لا يدخل الجنة، ومن عقَّ والداه عقه أولاده، وكما تدين تدان، ولا يجازى فاعل الشر إلا بمثل فعله: وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً [الأحقاف:15] فربُّ العالمين يوصيك بالبر بالوالدين وبالإحسان إليهما وإن كانا مشركين: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا [لقمان:15] وإن كانا مشركين وكافرين، إلا أنك لا تتبعهما على دينهما، إنما برهما وأطعهما بالمعروف، وعاملهما بالمعروف، المعاملة الحسنة، كما فعل ذلك الصحابة الكرام مع آبائهم رضوان الله عليهم أجمعين.
وعليك يا أخي! ببر والديك، وإن رأيت منهما بعض ما تكره من المعاصي والذنوب إلا إنك لا تطعهما في المعصية؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وصلوا وسلموا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] يقول صلى الله عليه وسلم: (من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً) والله عز وجل يقول: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض الله عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، عاجلاً غير آجل، اللهم أذل الشرك والمشركين ، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين ، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام بسوء فاشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء!
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين.
اللهم لك الحمد، أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر