فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! تذكيراً للناسين، وتعليماً لغير العالمين نعيد القول فنقول: هذه السورة لم ينزل الله تعالى في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها، وبهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينزل الله مثل هذه السورة في كتبه التي أنزلها على رسله وأنبيائه.
وهذه السورة سبع آيات، وهي المذكورة في قول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87].
وإن كنا أئمة نصلي بالمؤمنين فلا نجهر بها، بل نقولها سراً، ونجهر بكلمة (الحمد لله رب العالمين) كما تسمعون أئمة المسجد النبوي، إذ أنس بن مالك رضي الله عنه كما في الصحيح قال: ( صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووراء
أخرج ابن جرير إمام المفسرين في كتابه أن هذا معناه: قولوا: الحمد لله رب العالمين، قولوا: الرحمن الرحيم، فهي مما أمرنا الله تعالى تربية لنا وتهذيباً، وتعليماً لنا وهداية أن قال لنا: (قولوا).
تأملوا! ما هي بداية السورة؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، من علمنا هذا؟ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:3-4]، تأمل تجد أننا مأمورون بأن نقول هذا، قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:2-6]، فهذا تعليم من الله لنا، ولسنا نحن الذين اخترعنا وابتكرنا، وحمدنا الله وأثنينا عليه ومجدناه، بل هو الذي علمنا كيف نحمده، وبمَ نثني عليه ونمجده ونتضرع إليه، ونعاهده بأن لا نعبد إلا إياه ولا نستعين إلا به، وأن نسأله أن يديم هدايتنا على الصراط المستقيم، هل فهمتم هذه؟ كأنما قائلٌ يقول لنا: قولوا. ماذا نقول؟ قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4].
ما هو القسم الأول الذي لله وحده؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4]، هذا لمن؟ لله، حمدناه وأثنينا عليه، ومجدناه بأنه الملك يوم القيامة.
( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي )، كيف؟ العبادة لمن؟ إِيَّاكَ نَعْبُدُ له، والاستعانة لمن؟ للعبد حتى يقوى على العبادة، هذا بيننا وبين الله.
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:3-7]، هذا لمن؟ للعبد.
إذاً قوله تعالى: ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال: أثنى عليّ عبدي. بالحمد، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] قال: مجدني عبدي ). أما قلت له: أنت الملك الحاكم يوم الدين، هذا تمجيد أو لا؟ تمجيد.
( وإذا قال العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] )، ماذا يقول الله؟ ( قال: هذا بيني وبين عبدي )، بيننا نصفين: لنا العبادة، وله العون عليها.
( وإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، قال الله تعالى: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل )، الله أكبر! أي نعمة أعظم من هذه النعمة! وإذا عندكم نعم أعظم دلوني عليها؟!
ومع هذا تجدنا معرضين إعراضاً كاملاً، نبحث عن الملاهي والملاعب والمساخط والملاعن، كأننا لسنا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فلا إله إلا الله.
كلمة (إياك) هذا ضمير نصب، والضمائر في النحو: ضمائر رفع، ضمائر نصب. وضمائر النصب هي: إياك، إياكما، إياكم، والمؤنثة تقول لها: إياكِ، والمثنى: إياكما، وجماعة النسوة: إياكن، وهذا خطاب للحاضر، أما الغائب: إياه، إياهما، إياهم، نقول: إياهن دعوت للغيبة.
فإياك ضمير نصب: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5].
هل (إيا) هي الضمير أو الكاف: (ك)؟
اختلفوا، والصحيح الذي لا نعدل عنه أن (إياك) هي الضمير للواحد، فلا نفصل (إيا) عن الكاف، والخلاف وسعوه لكن بدون طائل ولا فائدة.
وقد سبق أن قلت لكم قال: قولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، (إياك) هذا الضمير يدل على أننا خصصنا الله تعالى وأفردناه بالعبادة، (إياك) وحدك لا شريك معك نعبد، أرأيتم لو قلنا: اللهم إنا نعبدك، جائز أن نقول بعده: ونعبد معك فلاناً وفلاناً؟ الباب مفتوح.
لكن هذه الصيغة صيغة حصر وقصر، فإذا سمعها العربي: إياك أعني، يفهم أنه ما أراد غيره قط، ولم يخطر بباله سواه، لكن إذا قال: أريدك وعمك معك أو عبدك، هذه ليست صيغة حصر وقصر.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] لم يقل: (إياك أعبد) بل قال: (نعبد) من أنت يا فلان حتى تقف هذا الموقف.
إن لم تكن في جماعات المؤمنين من الأنبياء والمرسلين والصالحين كيف تخاطب الله وحدك! ما تقدر وما تستطيع، بل ذب في الجماعة، وتكلم باسم أمة الإسلام في الأولين والآخرين: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] نحن العبيد الأذلاء الأرقاء لك، نعبدك وحدك.
وفي هذا: إعطاء عهد لله بأن لا نعبد سواه، كيفما كانت الأحوال والظروف، عاهدنا ربنا -وهو الذي علمنا هذا- أن لا نعبد سواه أبداً، ومن عبد غيره من المؤمنين خان عهده ونقضه، ويا ويله، فإياك وحدك نعبد -نحن العبيد المؤمنون- ولا نعبد غيرك.
قد تقول: نذل لك ونخضع؛ لأن هذا اللفظ يقال: مأخوذ من عبَّده يعبده تعبيداً إذا ذلـله، ومنه: تعبيد الطرق، كانت بالحجارة وكانت بالمنخفضات والمرتفعات، عبدوها بأن ذللوها بالآلات حتى أصبحت مستوية، فلا بأس أن نقول: إن لفظ العبادة مأخوذ من هذا المعنى، فنحن نعبدك، نذل لك، ونخضع وننكسر بين يديك، وهو كذلك.
والعبادة أنواع، ويجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف هذه العبادات، وإلا كيف يعبد ربه، فاعرف ما تعبد الله تعالى به معرفة يقينية حتى تعبده به، وتذل بين يديه، وتخضع له بفعل ذلك الذي تعبده به أو بقوله أو باعتقاده.
إذاً: العبادات أنواع، ومنها على سبيل الوضوح: الصلاة، فالصلاة عبادة تعبدنا الله بها، إذ قال: أقيموا الصلاة، فالعبد إذا دخل في الصلاة دخلها ذليلاً منكسراً بين يدي ربه، يؤدي ما عاهده عليه، وإياك يا عبد الله أن تسلب بعضها بالغفلة والإعراض والتفكر في الدنيا ولهوها، بل يجب أن تؤديها كاملة فما تنقصها، فمن دخلها ثم غفل عن موقفه مع ربه، وانتقل تفكيره إلى بيته .. إلى متجره، في كذا، فقد نقض العهد، وما عبد الله العبادة المطلوبة، فلهذا ورد: ( أن من المصلين لا يكتب له إلا ربع الصلاة ).
وبمعنى واضح: إذا لم تكن حاضر القلب، وأنك بين يدي الرب تتكلم معه، وتغفل وتذهب بعيداً وإن كنت تنطق بالقراءة أو بالتكبير أو بالتسبيح ما يكتب لك، فما أنت مع الله، وهذا الموقف من أصعب المواقف، فإذا لم تروض نفسك رياضة خاصة لن تكسب هذا الميدان، وأنتم علمتم أنه لا يوجد في العبادات المتنوعة المتعددة عبادة من شأنها أن تولد طاقة النور في القلب أكثر من الصلاة أبداً، ولا توجد عبادة كالصلاة تولد النور المعبر عنه بالحسنات، ولِم سميت حسنات؟ لأن النفس البشرية تحسن بها وتجمل، وتطيب بها وتطهر، وما آلة التوليد؟ هي إقام الصلاة، فلابد من الخشوع: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، إذ لا يتم معنى العبادة إلا مع الخشوع والانكسار بين يدي الله.
كذلك الصيام عبادة، فالصائم ممسك عن الطعام والشراب وعن الشهوة الجنسية -كما يقولون- من أجل من؟ من أجل الله، فهو في عبادة، فلا يفسدها باللهو والباطل، وبالغيبة والنميمة، وبالإساءة والذنب والظلم: ( الصيام جنة كجنة أحدكم في القتال، ما لم يخرقها، بِم يخرقها يا رسول الله؟ قال: بالغيبة والنميمة ).
وكذلك الحج عبادة من أشرف العبادات، تغسل صاحبها غسلاً، وتخرجه كيوم ولدته أمه، لا ذنب عليه بالمرة، بل تحول ذنوبه إلى أنوار الحسنات، متى يتم له هذا؟ إذا ذلّ وانكسر، وعبد ربه بها عبادة الأذلاء الأرقاء بين يدي الله، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ).
تعرف ذلك:
أولاً: بأنك عبدت الله بما شرع، فأديت الحج -وهي عبادة- على النحو الذي شرع الله على لسان رسوله، فما زدت ولا نقصت، ولا قدمت ولا أخرت، إذ التقديم والتأخير في أجزاء العبادة يفسدها، ويبطل عملها، فلا تنتج الطاقة، ولا تولدها، والدليل على ذلك سل الفقيه: يا فقيه! قد قدمت كذا على كذا، أو زدت كذا، سيقول لك: يا ولدي! حجك باطل. كيف باطل يا شيخ؟ سيقول: قالت العلماء: باطل، لكن عندنا نحن نقول: ما أنتج لك الطاقة، وما ولد لك النور، فما فائدة ذلك الحج! تعبت فقط، بلا أجر ولا مثوبة.
إذاً: إذا أنت قصدت بهذه العبادة رضا ربك، تنفيذاً لوعدك له: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، فعبدته بها كما شرعها، مخلصاً صادقاً لا تلتفت إلى غيره، فهنا تعرف أنك نجحت.
والبرهنة الحقيقية أنك إذا فرغت من الحج تجد نفسك غير ذاك الذي أقدم على الحج، حتى يصبح أهل القرية يسمونك الحاج: هذا الحاج فلان، لِم؟ ما أصبح يكذب، ولا يظلم، ولا يخون، ولا يتكبر، ولا يمنع خيراً، ولا يجحد معروفاً، ولا .. ولا، تغير رأساً على عقب، فطاب وطهر نتيجة تلك العملية القوية التي قضى فيها الشهر أو ما يقاربه وهو مع الله في الليل والنهار، فما بقي في قلبه ولا في نفسه دنس ولا ظلمة.
أما أن ينهي هذه العبادة ويدخل في أودية الضلال فيكذب، ويحلف بالباطل، ويلعب بالورق، ويأكل كذا، ويتكلم كذا، فأين آثار تلك العبادة؟ لا أثر لها، لِم؟ لأنه ما أداها على النحو الذي شرع الله من أجل أن تثمر الزكاة وتطيب القلب والنفس.
إذاً: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] أي: بما شرعت لنا من أنواع العبادة في كتابك القرآن العظيم، وعلى لسان النبي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم.
فإياك أن تكذب على الله وتقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] بالبدع والخرافات.
هل هذه عبادة أن يجتمع أناس على بدعة أربعاً وعشرين ساعة ويخرجون أصفار اليدين، آلله تعبّدكم بهذه؟ قالوا: لا، إذاً: لِمَ؟ قالوا: نعبد الله. هذه عبادة باطلة، وكذبوا على الله.
وافهموا: أن العبادة سواء كانت من أعمال القلوب، أو من أعمال الألسن أو الجوارح، هذه العبادة إذا لم تكن مما شرع الله وبيّن، وعلّم رسوله صلى الله عليه وسلم وفسر وشرح، وبينها للناس، فلن تكون عبادة تزكي النفس وترضي الله تعالى أبداً بحال من الأحوال.
ثانياً: إذا لم تراعِ زمانها ومكانها الذي شرعت فيه، وكيفيتها بأن لا تزيد ولا تنقص، ولا تقدم ولا تؤخر، فإنها وإن كانت مشروعة ما تنتج لك الطاقة، ولا تولد لك الحسنات أبداً.
أما إذا لم تكن مشروعة فأمرها واضح، فمن عبد الله بغير ما شرع، فهو إن لم يكن كافراً فهو مشرك أو ضال.
العبادات أنواع يجب أن نعرفها من الكتاب والسنة ومن أفواه العالمين، إذ قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، أما أن يعيش الرجل والمرأة أربعين، وخمسين، وستين سنة، ما يعرف ما معنى العبادة، ولا أنواع العبادة، أين كان؟
من يعلن فقره وحاجته إلى غير الله عز وجل فقد عبد غير الله، وخان أمانته، ونكث عهده عندما قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]. ومن الذي علمك هذا القول؟ الله هو الذي قال: قولوا كذا وكذا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]. علمنا التوحيد ثم نشرك؟ ننقض عهدنا؟!
انتبهوا: الدعاء عبادة، والرسول هو الذي يقول صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )، وورد: ( الدعاء مخ العبادة )، إذا نزعت المخ من رأس الحيوان هل بقيت حياة؟ انتهت، مات، فكذلك الدعاء عبادة، وإذا دعوت غير الله انتهى أمرك.
العبادة تطلق ويراد بها الدعاء والصلاة وكل أنواعها، وإن كان معناها اللغوي: الذلة والمسكنة بين يدي الله، لكن كيف تذل وتتمسكن؟ الجواب: بقيامك بتلك العبادات القولية أو العملية.
( الدعاء عبادة ) فالذين يدعون غير الله نقضوا عهدهم، وتعرضوا لنقمة الله وغضبه عليهم إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5].
الجواب: هل من عرف الحج أداه؟! هل من عرف الصلاة أقامها .. هل.. هل؟ لابد من الافتقار إلى الله، إن لم يكن عون لنا منه ما استطعنا، هو الذي علمنا أو لا؟ فهو يعلم: أننا إذا لم نطلب عونه في صدق، ويبذله لنا ويعيننا ما نحقق وعدنا له: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، أو تشكون في هذا؟ كم من مؤمن ما يصلي، أليس كذلك؟ كم من مؤمن لا يزكي، وكم.. وكم، فقدوا العون، وما طلبوا العون من الله فأعانهم.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لـمعاذ بن جبل رضي الله عنه الأنصاري الشاب، الفقيه، الوالي، القاضي، الذي بعث به إلى اليمن، قال له: ( يا
وما من مؤمن صادق الإيمان، ولا مسلم حسن الإسلام إلا ويرى رؤيا يبشره الله تعالى فيها بالجنة قبل أن يموت، واقرءوا: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، كم شرط للولاية؟ شرطان: الإيمان الحق الصحيح، والتقوى الحق لله رب العالمين، بفعل الأمر واجتناب النهي، بهذا تتحقق الولاية.
ثم قال تعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [يونس:64]، انتبه! من يمحو ما كتب الله، ومن يبدل أو يغير ما كتب الله في كتاب المقادير: لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [يونس:64]، والله ما من مؤمن تقي ولا مؤمنة تقية إلا ويبشر بهذه الرؤيا قبل أن يموت في الدنيا.
إذاً قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، أي: لا أطلب عون أحد سواك؛ لأن الحصر واضح في إياك نعبد وإياك نستعين ما قال: إياك نعبد ونستعين بك، لأن معناه أنك فتحت الباب لأن تستعين بغير الله أيضاً، لكن صيغة الحصر وإياك نستعين تعني: لا أطلب عوناً ولا مساعدة من غيرك، وفي حديث معاذ : ( والله يا
ولو سلمت وقمت هارباً لعملك في الطريق وأنت تمشي قل: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. فإنك إن عدمت عون الله، والله ما استطعت ولا قدرت على عملك، فتذلل لله عز وجل، واسأله أن يعينك على ذكره وشكره وحسن عبادته، وحسن العبادة تأديتها على النحو الذي عرفت، مستوفاة الشروط والأركان والآداب، أي: كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك حسنها، فقد تؤدي الصلاة ولا تنتفع بها؛ لأنك أسأتها، وما أديت المطلوب، وما أحسنتها.
(اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) هذه الدعوة بعد كل صلاة، إن شئت في الفرائض فقط، وإن عممت في النافلة أو السنة فهو خير، صليت قل فيها هكذا، أو قبل أن تسلم أيضاً، فدبرها يدخل فيها جزء من آخرها، وإن قلت بعد الصلاة فذاك.
إذاً: هل يجوز لنا أن نستعين بإبراهيم أو عثمان بالتعاون على خشبة كبيرة: تعال من فضلك أعني؟ يجوز. لكن يجوز، وأين القلب؟ هنا، يجب أن يكون قلبك مع الله، إذ الله هو الذي خلق إبراهيم وأعطاه قوته البدنية، وقربه منك حتى رآك ورأيته، وأسمعه صوتك، وبعث به ليحمل معك، فمن الفاعل على الحقيقة؟ الله.
فيجوز أن تستعين بما أذن لك أن تستعين به من عباد الله، ولكن لا يجوز أن تستعين به على المعصية، كأن يحمل معك برميل خمرة: تعال ادفعها معي، تستعين به على المعصية!
إذاً نستعين بالله وبما أذن لنا من عبيده على عبادة الله، فإياك نعبد وإياك نستعين على العبادة، حتى نؤديها كاملة، وحتى نوفر بها لأنفسنا حاجتها من الزكاة والطهر.
إذاً: فالذين يطلبون العون على معصية الله خانوا الله، وما فهموا: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، أي: نطلب العون منه تعالى على العبادة، فنقوم بها ونؤديها على أكمل الوجوه.
وإن قلت: يا شيخ! وهل كيس الرز عبادة حتى نستعين بالله على حمله إلى البيت؟
الجواب: نعم، هذا عندنا عبادة، لأنك تريد أن تطعم به أم أولادك، وتطعم أولادك في ذلك البيت، وأنت المسئول عن قوتهم وتغذيتهم، فأنت مطيع في ذلك لله، فقد أمرك الله بالإنفاق عليهم، إذاً: هذا عبادة، فاستعن بالله تعالى على تحقيقها.
ولو كان في يده مسحاة يضرب بها الأرض: بسم الله، طالباً العون من الله، فهل هذه عبادة؟
إي عبادة، فهو يريد أن يحرث أرضه لينتج البر أو الشعير أو الفلفل والتوابل، من أجل -أيضاً- أن يتغذى ويغذي أهله، وما زاد باعه ليشتري به ثوباً يستر عورته، أو كساء يغطي به امرأته، فنحن ما خرجنا عن دائرة عبادة الله أبداً منذ أن عرفنا الله إلى أن نلقاه.
فلهذا يا عبد الله! أنت تاجر أو فلاح أو صانع إياك أن تغش في عملك، أو تخدع فيه غيرك، أو تطلب له الحرام، هذه عبادة لا تنفعك أبداً إلا إذا أديتها كما بينها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر