أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الخميس من يوم الأربعاء ندرس كتاب منهاج المسلم، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذا الفصل الحادي عشر في كتاب الأخلاق في خلق التواضع وذم الكبر.
وندرس الآن حكم الشرع في خلق التواضع وفي ذم الكبر والعياذ بالله تعالى من الكبر وأهله.
[ المسلم يتواضع في غير مذلة ] المسلم بحق يتواضع، لكن في غير مذلة [ ولا مهانة ] فالمسلم الحق يتواضع، ولكن تواضعه ليس في ذل ومهانة، بل في عز وكرامة [ والتواضع من أخلاقه المثالية ] فالتواضع من أخلاق المسلم العالية التي يضرب به المثل [ وصفاته العالية، كما أن الكبر ليس له، ولا ينبغي لمثله ] أبداً، فالكبر لا يكون للمسلم، ولا ينبغي له، فالكبرياء لله، ولا يقدر أحد أن ينازع الله في كبريائه [ إذ المسلم يتواضع ليرتفع ] ومن ارتفع ولم يتواضع ذل وهان وهوى، هذه سنة الله في الخلق [ ولا يتكبر لئلا يخفض؛ إذ سنة الله جارية في رفع المتواضعين له، ووضع المتكبرين ] فسنة الله جارية وماضية في رفع المتواضعين له، ووضع المتكبرين في أسفل الدركات [ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ] ولنحفظ هذا الحديث [ ( ما نقصت صدقة من مال ) ] سواء كان صامتاً أو ناطقاً، فلما تأخذ من هذا المال صدقة لا ينقص، ولا تنقص منه الصدقة [ ( وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ) ] وما زاد الله عبداً من عباده بعفو عفاه إلا عزاً [ ( وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) ] فالتواضع يرفع صاحبه، والكبر يهبط بصاحبه. فقولوا: آمنا بالله وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ). فكل عبد يعفو لوجه الله يعتز ويعلو شأنه. ( وما تواضع أحد لله إلا رفعه ). فما تواضع إنسان لله إلا رفعه الله، وهذا هو الترغيب في هذا الخلق التواضع، جعلنا الله وإياكم من أهله [ وقال ] صلى الله عليه وسلم: [ ( حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه ) ] وهبط به [ وقال صلى الله عليه وسلم: ( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الدجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يقال له: بولس ) ] وبولس اليهودي هو الذي غير المسيحية وغيرها إلى شرك ووثنية. والمتكبرون خلاف المتواضعين وعكسهم [ ( تعلوه نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال ) ] هذا جزاء المتكبرين، حتى ولو كانوا متكبرين على أزواجهم وأولادهم، ولو على الكافرين والمشركين، فالمؤمن لا يتكبر؛ إذ الكبرياء لله، وصفة المؤمنين التواضع والعفو [ والمسلم عندما يصغي بأذنه وقلبه إلى مثل هذه الأخبار الصادقة من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في الثناء على المتواضعين مرة، وفي ذم المتكبرين أخرى، وطوراً في الأمر بالتواضع، وآخر في النهي عن الكبر، كيف لا يتواضع ولا يكون التواضع خلقاً من خلقه؟ وكيف لا يتجنب الكبر ولا يمقت المتكبرين؟ ] أما الذي ما سمع عن الله ولا عن رسوله فلا تدري كيف تؤدبه، وهو لن يصبح متواضعاً أو غير متكبراً، فالذين ما سمعوا عن الله ولا عن رسوله ذم الكبر والتنديد بأهله يتكبرون؛ لأنه لا يمكن لشخص أن يتواضع بدون علم أن الله يحب التواضع، ولا يمكن لشخص أن يتكبر بعد أن يعرف أن الله يمقت المتكبرين، ولهذا طلب العلم فريضة، والاجتماع على كتاب الله وسنة رسوله فريضة؛ لأنه لا يمكن للمؤمن أن يستقيم على منهج الحق وهو ما عرف هذا المنهج، إذ كيف يسلك الطريق وما عرفها؟
[ ومن مظاهر التواضع ما يلي:
أولاً: إن تقدم الرجل على أمثاله فهو متكبر ] فإن كانوا يمشون مع بعضهم بعضاً، وهم متساوون في العلم والفضيلة وغيرهما، فتقدم يمشي أمامهم فهو متكبر، وهذا مظهر من مظاهر الكبر [ وإن تأخر عنهم فهو متواضع ] فالتقدم تكبر، والتأخر تواضع.
[ ثانياً: إن قام من مجلسه لذي علم فضل ] أي: إن جاء رجل صاحب علم وفضل فقام من مجلسه [ وأجلسه فيه، وإن قام سوى له نعله وخرج خلفه إلى باب المنزل ليشيعه فهو متواضع ] هذا مظهر من مظاهر التواضع.
[ ثالثاً: إن قام للرجل العادي ] ما هو بذي فضل ولا علم [ وقابله ببشر وطلاقة، وتلطف معه في السؤال، وأجاب دعوته، وسعى في حاجته، ولا يرى نفسه خيراً منه فهو متواضع ] وهذه صورة من التواضع؛ لأن هذا رجل عادي، فالمشي معه هذه المشية يدل على التواضع.
[ رابعاً: إن زار غيره ممن هو دونه في الفضل أو مثله وحمل معه متاعه، أو مشى معه في حاجته فهو متواضع.
[ خامساً: إن جلس إلى الفقراء والمساكين والمرضى وأصحاب العاهات، وأجاب دعوتهم، وأكل معهم وماشاهم في طريقهم، فهو متواضع ] وإن كان عكس ذلك فهو متكبر.
[ سادساً: إن أكل أو شرب في غير إسراف، ولبس في غير مخيلة فهو متواضع ] فالذي يأكل أو يشرب في غير إسراف ويلبس اللباس في غير مخيلة وفخر فهو متواضع في أكله وفي لباسه، في الأكل لأنه يأكل ويشرب من غير إسراف، واللباس كذلك، فهو متواضع.
[سادساً: قال أبو سلمة : قلت لـأبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ما ترى فيما أحدث الناس من الملبس والمشرب والمركب والمطعم؟ ] لما فتح الله عليهم الدنيا [فقال: يا ابن أخي! كل لله، واشرب لله، والبس لله] والأكل لله أي: بالقدر الذي نحيا به حتى نعبده، والشرب لله حتى نعبده ولا نموت عطشاً، واللبس لله حتى لا نتعرى أو تنكشف عوراتنا، أو يمسنا الحر أو البرد [ وكل شيء دخله من ذلك زهو أو مباهاة أو رياء أو سمعة فهو معصية وسرف] هذا أبو سعيد الخدري يسأله السائل ويقول: يا أبا سعيد ما ترى فيما أحدث الناس اليوم من الملبس والمشرب والمركب والمطعم؟ وهم لم يصلوا إلى ما وصلنا إليه الآن، فقد كان المركب عندهم الفرس، وكان المشرب عندهم دلو أو إناء، ولا تتفجر المياه في الجدران مثل حالنا [ وعالج في بيتك من الخدمة ما كان يعالج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته ]، يعني: ساعد أهل بيتك بالخدمة في بيتك كما كان الرسول يخدم أهله في بيته [ كان يعلف الناضح ] والناضح من الإبل، يعني: يضع لها علفها [ ويعقل البعير، ويقم البيت ] ينظفه [ ويحلب الشاة، ويخصف النعل، ويرقع الثوب، ويأكل مع خادمه، ويطحن عنه إذا أعيا ] أي: إذا عيي الخادم [ ويشتري الشيء من السوق، ولا يمنعه الحياء أن يعلقه بيده، أو يجعله في طرف ثوبه، وينقلب إلى أهله، يصافح الغني والفقير، والكبير والصغير، ويسلم مبتدئاً على كل من استقبله من صغير وكبير، أو أسود أو أحمر، حراً أو عبداً من أهل الصلاة، أي: المؤمنين ] هذه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
معاشر المؤمنين والمؤمنات! فلنجتهد أن نكون من أهل هذه الصفات، فلا يكون فينا كبر ولا فخر ولا زهو، ولكن تطامن وتواضع؛ حتى يحبنا الله ويرفعنا.
معاشر المؤمنين! أحد الصالحين من إخوانكم يقول: أخوه في المستشفى ويطلب منكم الدعاء له؛ ليشفيه الله عز وجل، فهيا ندعو وأمنوا.
اللهم يا أرحم الرحمين! يا ولي المؤمنين! يا متولي الصالحين! يا رب العالمين! هذه أكفنا قد رفعناها إليك سائلين ضارعين؛ لتشفي هذا العبد المؤمن بشفائك الذي لا يغادر سقماً، اللهم اشفه، اللهم اشفه وعافه، واشف كل مريض فينا وبيننا وفي وبيوتنا ومشافينا، واشف كل مؤمن ومؤمنة يا رب العالمين! وزك نفوسنا، وطهر قلوبنا، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، وتوفنا وأنت راض عنا يا رب العالمين!
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر