أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الخميس من يوم الأربعاء ندرس كتاب (منهاج المسلم) الكتاب الحاوي والمشتمل على الشريعة الإسلامية بكاملها عقيدة وآداباً وأخلاقاً وعبادات ومعاملات، وها نحن مع كتاب الآداب، مع كتاب الأخلاق، ومع خلق الصدق:
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ المسلم صادق ] إي والله، المسلم الحق الحسن الإسلام صادق لا يكذب أبداً، ولن يكون كاذباً [يحب الصدق ويلتزمه ظاهراً وباطناً في أقواله وفي أفعاله ] فمن كان منا المسلم فهذه حاله، والله نسأل أن نكون من المسلمين، فالمسلم يلتزم الصدق ظاهراً وباطناً وفي أقواله وأفعاله لا في القول فقط، حتى في الفعل يصدق ولا يكذب [ إذ الصدق يهدي إلى البر ] إي والله، الصدق إذا التزمه العبد يهديه إلى البر.. إلى الخير [ والبر يهدي إلى الجنة ] فعل الخير، الصالحات، يهدي إلى الجنة [ والجنة أسمى غايات المسلم وأقصى أمانيه ] للمسلم غاية، وأسمى غاياته وأهدافه وأعلاها الجنة، أن يكون من أهل الجنة [ والكذب -وهو خلاف الصدق وضده- ] فالكذب: خلاف الصدق وضده [ يهدي إلى الفجور ] أي: للخروج عن طاعة الله ورسوله [ والفجور يهدي إلى النار، والنار من شر ما يخافه المسلم ويتقيه ] بكل وسيلة، من يقوى على أن يعيش في عالم الجحيم؟!
[ والمسلم ] أي: الحق الصدق [ لا ينظر إلى الصدق كخلق فاضل يحب التخلق به لا غير ] لا [ بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك، يذهب إلى أن الصدق من متممات إيمانه، ومكملات إسلامه ] وهو كذلك [ إذ أمر الله تعالى به ] وما أمر الله به يترك؟! يكون مستحباً؟! لا، بل يكون واجباً يجب النهوض به [ وأثنى على المتصفين به ] أثنى عليهم خيراً، من هم؟ المتصفون بالصدق [كما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وحث عليه ودعا إليه ] وإليكم كلام الله قبل كلام رسوله صلى الله عليه وسلم [ قال تعالى في الأمر به: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] ] كيف نكون معهم؟ نكون معهم بألا نخالفهم، ولا نخرج عنهم بالكذب، نكون على ما هم عليه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
[ وقال في الثناء على أهله: رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23] ] رجال عظام صدقوا ما عاهدوا الله عليه [ وقال: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ [الأحزاب:35] ] في الثناء عليهم وذكرهم بالخير [ وقال: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33] ] هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أبو بكر الصديق وهذا كله: من جاء بالصدق وصدق به.
[ وقال رسوله صلى الله عليه وسلم في الأمر به: ( عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ) ] هذا الخبر العظيم، يقول صلى الله عليه وسلم مخاطباً المؤمنين والمؤمنات: ( عليكم بالصدق ) الزموا الصدق، لِمَ يا رسول الله؟ ( فإن الصدق يهدي إلى البر ) يهدي الصادق إلى البر ( وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق -ويطلبه- حتى يكتب عند الله صديقاً )، اللهم اجعلنا من الصديقين.
[ ( وإياكم والكذب ) ] احذروا [ ( فإن الكذب يهدي إلى الفجور ) ] إن شئتم حلفت لكم بالله ما زنى زانٍ إلا بعد أن كذب، ولا خان خائن إلا بعد أن كذب، ولا فجر فاجر إلا بعد أن كذب، ويكفينا هذه الكلمة الطيبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ) ويسوق إليها ( وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) والعياذ بالله.
إذاً: هذه فرصة سعيدة، ما دمنا قد أراحنا الله من الجهاد وما فتح لنا بابه ولا أوجبه الآن علينا، ونحن نرغب في أن نكون شهداء، هيا نسأل الله بصدق أن يجعلنا من الشهداء: اللهم إنا نسألك شهادة في سبيلك، اللهم إنا نسألك شهادة في سبيلك، فمن سأل الله صادقاً فاز بها وإن مات على فراشه؛ لعل بعض السامعين ما تطمئن نفوسهم إلى هذا! أنا أقول على علم: الجهاد كيف يكون أسألكم بالله؟ ألم يكن تحت قيادة إمام مسلم يقودنا إلى دولة كافرة ونراسلها بسفراء بيننا وبينها إما أن تدخل في الإسلام أو تأذن لنا بالدخول لنشر الإسلام، أو تقاتل فنقاتلها؛ ذلكم هو الجهاد.
أما أن يعتدي علينا كافر، ويريد أن يقهرنا ويذلنا ويستولي علينا وعلى ديارنا فهذا نقاتله ونجاهده وإن لم نكن أهلاً لأن نحتل بلاده، ندفعه عنا، ولكن تحت راية إمام عادل يقودنا، أما أن تكون الأمور فوضى فما أذن الله بها ولن يتحقق هدف منها، ما خلقنا للفوضى!
اللهم إلا أهل بلد غزاهم كافر فيجب على أهل البلد أن يدافعوا نساءً ورجالاً كباراً وصغاراً؛ حتى يأتيهم المدد من إمام المسلمين، كذلك هذا من هذه الملة الحنيفية.
قال: [ الفوز بمنزلة الشهداء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( من سأل الله الشهادة بصدق ) ] ليس يسألها ولو تأتيه غداً ما يقبلها أو لا يجاهد، يسألها بصدق [ ( بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ) ] هذه ثمرة من ثمار الصدق.
[ ومن أمثلة الصدق الرفيعة ] أي العالية السامية [ ما يأتي:] هذه أمثلة حية [ أولاً: روى الترمذي عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث ] بعته بيعاً قبل أن يكون نبياً، وهو في العشرين من عمره أو الثلاثين [ ( وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت ثم ذكرت بعد ثلاثة أيام فجئتُ فإذا هو في مكانه. فقال: يا فتى! لقد شققت عليّ، أنا هاهنا منذ ثلاثٍ أنتظرك ) ] مظهر عجيب من مظاهر الصدق الرفيعة العالية [ ومثل هذا الذي حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام قد حصل لجده الأعلى إسماعيل بن إبراهيم الخليل، حتى أثنى الله تعالى عليه في كتابه العزيز بقوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54] ] وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ [مريم:54] بهذه الصفة إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54] والمؤمن إذا وعد لا يخلف الوعد، لو أن أولاد المسلمين يجتمعون في الحلقة منذ الصبا إلى أن يبلغوا هل سيوجد فيهم منافقاً أو مخلفاً للوعد؟ لا يوجد، ما يستطيعون، ضيعناهم في الشوارع وأهملناهم وزعمنا أن المدارس كافية، وما أدخلناهم المدارس لأجل الله، كيف يعرفون الصدق والوفاء به وكيف يتحملونه؟!
[ ثانياً: ] مظهر آخر [ خطب الحجاج بن يوسف يوماً ] خليفة إمام [ فأطال الخطبة، فقال أحد الحاضرين: الصلاة! فإن الوقت لا ينتظرك ] زعيم هذا مؤمن [ والرب لا يعذرك، فأمر بحبسه ] الخليفة أمر بحبس هذا الذي يعترضه وهو في الخطبة يوم الجمعة [ فأتاه قومه وزعموا أن الرجل مجنون ] ليس في عقله وإلا لن يقول لك هذا الكلام، مجنون! [ فقال الحجاج : إذا أقر بالجنون خلصته من سجنه ] ما معنى أقر؟ يعني: قال: أنا مجنون! خلصته من سجنه [ فقال الرجل: لا يسوغ لي أن أجحد نعمة الله التي أنعم بها عليّ وأثبت لنفسي صفة الجنون التي نزهني الله عنها، فلما رأى الحجاج صدقه خلى سبيله ] بركة الصدق، لو قال: نعم مجنون سيطلقه لأنه مجنون، لكن لا، لست بمجنون أبداً.
[ ثالثاً ] وأخيراً [ روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى ] صاحب الحديث في صحيحه [ أنه خرج يطلب الحديث من رجل ] قيل له: إنه محدث، أو عنده أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم [ فرآه قد هربت فرسه، وهو يشير إليها برداء كأن فيه شعيراً، فجاءته فأخذها، فقال البخاري : أكان معك شعير؟ فقال الرجل: لا، ولكن أوهمتها، فقال البخاري : لا آخذ الحديث ممن يكذب على البهائم، فكان هذا من البخاري مثلاً عالياً في مجال الصدق ].
اللهم اجعلنا من الصديقين الصادقين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر