أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد ..
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات، إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الخميس من يوم الأربعاء ندرس كتاب منهاج المسلم، ذلكم الكتاب الحاوي للشريعة الإسلامية بكاملها، إذ الباب الأول في العقيدة، والثاني في الآداب، والثالث في الأخلاق، والرابع في العبادات، والخامس في المعاملات، وهذه شريعة الله عز وجل لعباده المؤمنين، وها نحن قد انتهى بنا الدرس إلى [ الفصل السادس: في خلق الرحمة]، فالرحمة خلق، وستعلمه إن شاء الله.
ومن قال هذا واعتقده ودخل في قلبه ما قدر أن يؤذي مؤمناً ولو بنظرة شزراً؛ لأنه رحيم، والرحيم لا يؤذي [وقوله صلى الله عليه وسلم: ( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) ] ارحموا من في الأرض من الناس والحيوانات يرحمكم الذي في السماء عز وجل، ومن يرحم يُرحم، فسنة الله لا تتبدل، ومعناه: إن لم ترحموا من في الأرض فلن يرحمكم من في السماء [واسترشاداً بقوله عليه الصلاة والسلام: ( من لا يرحم لا يُرحم )]، وقد حفظ العجائز هذا في الجاهلية أنه من لا يرحم لا يُرحم أبداً، فهذه سنة الله، فالذين يقتلون ويذبحون ويبقرون البطون ليس لهم من يرحمهم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من لا يرحم لا يُرحم ) [ومن قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تنزع الرحمة إلا من شقي )] أي: لا تنزع الرحمة من قلب أحد إلا من قلب شقي -والعياذ بالله تعالى- كتب الله شقاوته، أما السعيد فالرحمة في قلبه ولا تفارقه أبداً [وتحقيقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: ( مثل المؤمنين )] أي: الصادقين في إيمانهم العارفين بربهم [( في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )] مثل المؤمنين: رجالاً ونساءً، بيضاً وسوداً، عرباً وعجماً مثلهم الحق الذي ينطبق عليهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى من الجسد عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فإذا مرض أنفه مرض وتأذى الجسد كله، وإذا مرضت عينه مرض جسمه كله، وإذا مرضت يده مرض جسمه كله، بل حتى إذا مرض سنهُ فقط مرض بمرضه جسمه كله.
هذا هو شأن المؤمنين، فالمؤمنين الصادقين في إيمانهم وتوادهم وتراحمهم وتعاطفهم مع بعضهم البعض كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، أي: توالت الأعضاء كلها بالحمى والسهر.
ثم قال: [( وإنا بفراقك يا
قال: [فزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم لطفله الصغير وهو في بيت مرضعه وتقبيله إياه وشمه، ثم عيادته له وهو مريض يجود بنفسه، ثم ما أرسل عليه من دموع الحزن، كل ذلك من مظاهر الرحمة في القلب] ولولا الرحمة في القلب ما حدث هذا.
آه ماذا فعلوا بنا؟ إنه الثالوث الأسود: المجوس، واليهود، والنصارى، عرفوا كيف يُنزلونا من عنان السماء إلى الأرض.
قال المؤلف: [فنزول الرجل في البئر وتحمله مشقة إخراج الماء وسقيه الكلب العطشان .. كل هذا من مظاهر رحمته في قلبه، ولولا ذلك لما صنع الذي صنع ] نعم والله.
قال: [وبعكسه] أي: هذا الحديث [ ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( عذبت امرأة في هرة )] والهرة هي: القطة [(حبستها )] أي: أغلقت عليها الباب، أو حبستها في خزانة [( حتى ماتت )] حتى ماتت الهرة [( فدخلت فيها النار )] عذبها الله بالنار؛ لأنها عذبت هذا الحيوان وهو ذو كبد رطب [( وقيل لها: لا أنت أطعمتيها ولا سقيتيها حين حبستيها )] فلو أنها حبستها ثم أسقتها وأطعمتها فلا بأس، ولكنها حبستها في غرفة أو في خزانة من دون طعام ولا شراب [( ولا أنت أرسلتيها)] خارج بيتك [ (فأكلت من خشاش الأرض )]هذا الكلام قالوه لها الملائكة في النار، فهذا بعكس حديث ذاك الذي سقى الكلب فغفر الله له.
قال: [إن صنيع هذه المرأة مظهر من مظاهر قسوة القلوب وانتزاع الرحمة منها] أي صنيع المرأة التي حبست الهرة [والرحمة لا تنزع إلا من قلب شقي] فالرحمة لا تنزع إلا من قلب شقي والعياذ بالله.
فلنعد، ولنرجع، فوالله لو أن أهل قرية من قرى العالم الإسلامي عرباً كانوا أو عجماً اجتمعوا كل ليلة من المغرب إلى العشاء يتعلمون الكتاب والحكمة ويعملون على تزكية أنفسهم، ما مضت سنة إلا وهم أشباه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن سنة الله لا تتخلف، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع وكذلك العلم يزكي النفوس ويطهرها: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
لم لا تبلغون هذا؟! لم لا تعملون في قراكم ومدنكم على أن تتعهدوا وتلتزموا بمبدأ أن يصلى المغرب ثم يُجلس لتعلم الكتاب والسنة؟ ما المانع من ذلك؟
وأخيراً: إخوانكم الجزائريون يطلبون منكم الدعاء للفتنة الدائرة في بلادهم، وبعض إخوانكم مرضى أيضاً يدعونكم لترفعوا أيديكم ليكشف الله ضرهم ويشفيهم، ونحن عبيد الله وأولياءه، فهذه أكفنا نرفعها إليه ..
يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! يا رءوف يا رحيم! يا ذا الجلال والإكرام! يا بديع السماوات والأرض! يا ولي المؤمنين ومتولي الصالحين! هذه أكفنا قد رفعناها إليك ضارعين سائلين، فأطفئ نار الفتنة التي بين عبادك الجزائريين، اللهم عجل بإطفائها، اللهم عجل بإطفائها، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، واشف مرضانا ومرضى المؤمنين، اللهم اشف المرضى الذين بيننا وفي بيوتنا ومشافينا، وطهر قلوبنا، وزك أرواحنا، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
اللهم ارزقنا الرحمة، اللهم ارزقنا الرحمة واجعلها من صفاتنا يا رب العالمين، وأمتنا عليها يا حي يا قيوم، وأحينا بها يا حي يا قيوم، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر