الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة؛ ليلة الخميس من يوم الأربعاء ندرس كتاب منهاج المسلم، الكتاب الجامع للإسلام؛ عقائد وآداب وأخلاق وعبادات ومعاملات، وقد انتهى بنا الدرس الماضي إلى الفصل الحادي عشر في آداب السفر، وهذا يدل على أن الإسلام قد احتوى جميع متطلبات الحياة، فلا يفتقد المؤمن شيئاً في الإسلام إلا حواه واجتمع عليه.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه الله وإياكم والمسلمين: [المسلم] والمسلم الحسن الإسلام هو ذاك الذي أسلم قلبه ووجهه لله، فوجهه لا يرى إلا الله، وقلبه لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، فهذا المسلم انقاد لأمر الله وانصاع له ففعل ما أوجب عليه وترك ما حرمه عليه [يرى أن السفر] والسفر: الانتقال من بلد إلى آخر [من لوازم حياته وضرورياتها التي لا تنفك عنها؛ إذ الحج والعمرة والغزو وطلب العلم والتجارة وزيارة الإخوان -وهي كلها ما بين فريضة وواجب- لابد لها من رحلة وسفر، ومن هنا كانت عناية الشارع بالسفر وأحكامه وآدابه عناية لا تنكر، وكان على المسلم الصالح أن يتعلمها ويعمل على تنفيذها وتطبيقها].
الأول: جواز قصر الصلاة
[ أما الأحكام فهي ] أحكام السفر [أولاً: قصر الصلاة الرباعية فيصليها ركعتين ركعتين] وهي الظهر والعصر والعشاء، وقصرها من أربع ركعات إلى ركعتين فقط [إلا المغرب فإنه يصليها ثلاثاً] وأما الصبح فهي ركعتان [ويبدأ القصر من مغادرته البلد الذي يسكنه إلى أن يرجع إليه، إلا أن ينوي إقامة أربعة أيام فأكثر في البلد الذي سافر إليه أو نزل فيه، فإنه في هذه الحال يتم الصلاة ولا يقصرها، حتى إذا خرج عائداً إلى بلده رجع إلى التقصير، فيقصر إلى أن يصل إلى بلده] ومسافة القصر ثمانية وأربعين ميلاً أو كيلو متر فأكثر، فإذا ترك بلده وراءه وانفصل عنها شرع له القصر، فيقصر صلاة الظهر والعصر والعشاء إلى أن يصل إلى البلد الذي يريده، فإذا نزل به نظر: هل ينوي الإقامة أربعة أيام أو خمسة أو أسبوع أو شهراً.. أكثر أو أقل، فإن وجد نفسه يريد الإقامة أكثر من أربعة وجب أن يتم صلاته، إما إن كان يوماً أو يومين أو ثلاثة فيبقى على القصر، فإذا قفل راجعاً إلى بلاده وترك ذلك البلد وراءه أخذ في القصر إلى أن يصل إلى بلده، هذا هو حكم القصر في الصلاة [وذلك لقوله تعالى] أي: الدليل على هذا القصر [
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101]]، والضرب في الأرض يكون بالأقدام حال السفر، فتضرب الأرض بالأرجل [
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [النساء:101]] أي: إثم أو حرج [
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101]] وهذه عطية أعطناها الله يجب أن نقبلها [ولقول
أنس ]
أنس بن مالك ، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأدلة قال الله وقال رسوله فقط، ليس عندنا قول ولا رأي ولا غيره، وإنما قال الله وقال رسوله، وهذا هو دستور الإسلام [(
خرجنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي الرباعية ركعتين ركعتين )] والحديث في الصحيح، وهو دليل من السنة على قصر الصلاة.
الثاني: جواز المسح على الخفين
[ثانياً: جواز المسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن] المسافر يجوز له -لا يجب عليه- أن يمسح على خفيه في رجليه ثلاثة أيام بلياليهن إلا إذا نزع الخف توضأ ولبسه من جديد، لكن إذا بقي الخف في رجليه مسح عليه ثلاثة أيام بلياليهن ما دام مسافراً، وإن كان مقيماً في بلده مسح فقط يوماً وليلة، وبعد ذلك ينزع ويتوضأ ويلبس [ لقول علي رضي الله عنه: (
جعل لنا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم ) يعني في المسح على الخفين].
والخف: هو كل ما ستر القدم إلى الكعب، سواء كان جلداً أو قماشاً أو نوعاً آخر، فكل ما يستر رجلك خوفاً من الحر أو البرد أو الشوك أو الحجارة فهو خف؛ تمسح عليه ثلاثة أيام بلياليهن حال السفر، فتتوضأ حتى تصل إلى رجليك فتمسح عليها ولا تغسل، وهو للمقيم يوم وليلة.
هذا المسح جائز وليس واجباً، فلو قلت: أنا لن أمسح ولكن سأغسل رجلي. فلا حرج، ولكن مع الأسف أن طائفة من المسلمين اعتزلت عنهم واستقلت بالمسح على الأرجل وهي عارية من الخفين، فتجده يتوضأ ورجلاه مكشوفتان ثم يمسح عليهما، فخالفوا المسلمين مخالفة كاملة، ووالله ما جاز هذا: ( ويل للأعقاب من النار ).
وسألني أحدهم مرة -قديماً- أيام كنا في الصحوة، فقلت له: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنوات يغسل رجليه وأنت تمسح فقط، فهل بقي دليل على هذا؟ فسكت وعرف.
فإذا أتاك العلم وعلمناك فلا تعاند ولا تكابر وتبقى مصراً على انعزال وتمزيق الأمة، أما الجهل فمعذور صاحبه، لكن بعدما علمت فأي جهل يبقى؟!
الثالث: إباحة التيمم وجوازه
الرابع: رخصة الفطر في الصوم
الخامس: جواز صلاة النافلة على الدابة
السادس: جواز الجمع بين الظهرين والعشاءين جمع تقديم أو تأخير
[سادساً: جواز الجمع بين الظهرين والعشاءين] والمراد بالظهرين: الظهر والعصر، والعشاءين: المغرب والعشاء، وهذا من باب التغليب، أي: الصلاة في وقت واحد بين الظهرين أو العشاءين [جمع تقديم إن جد به السير] هذا الجمع لفائدة المسافر، فإذا نزلوا واستراحوا ودخل وقت الظهر، فقالوا: نصلي ونجمع حتى نواصل السفر إلى الليل ولا نقف؛ لأنه ليس في صالحنا أن نقف مرة أخرى، فيجمعون جمع تقديم ويمشون فلا بأس، وإن قالوا: لا. ننزل ونواصل سيرنا خشية الظلام أو خشية كذا أو كذا وأخروا فلا بأس، فيجوز تأخير الظهر إلى العصر، والمغرب إلى العشاء كذلك إن جد بهم السفر وواصلوا المشي، وإن كانوا مستريحين ودخل وقت المغرب -مثلاً- فصلوا المغرب والعشاء معه وواصلوا سيرهم فلا بأس [فيصلي الظهر والعصر في وقت الظهر، والمغرب والعشاء في وقت المغرب، أو جمع تأخير بأن يؤخر الظهر إلى أول العصر فيصليهما معاً، والمغرب إلى العشاء ويصليهما معاً؛ لقول
معاذ بن جبل رضي الله عنه: (
خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً )] أي: مع بعضهم البعض، وهذا هو2 دليل الجمع، أنه استمر على القصر والجمع؛ لأنه مسافر، لا يدري متى يُؤمر بالخروج من تبوك بعد نزوله فيها، فهو يتبع الأمر من السماء، فلهذا قصر عشرين يوماً، وكذلك من دخل بلداً لا يدري متى يسافر غداً أو بعده قصر ولو طالت المدة حتى سنة.
الأول: رد المظالم والودائع إلى أصحابها
[أولاً: أن يرد المظالم والودائع إلى أصحابها] قيا من يريد أن يسافر غداً يجب أن ترد المظالم والودائع التي عندك لأصحابها خشية أن تموت؛ فإذا ظلمت أحداً في ماله أو في عرضه فاستسمح منه؛ لأنك مسافر وقد تموت [إذ السفر مظنة الهلاك] فالسفر مظنة الموت، فعليك قبل أن تسافر أن تؤدي ما عليك من حقوق وودائع للناس، خشية أن تهلك في سفرك وما زالت في ذمتك.
الثاني: أن يعد زاده ونفقة من يعول من الحلال
[ثانياً: أن يعد زاده من الحلال] الطعام والشراب والنقود التي يحملها في سفره يعدها ويهيئها من الحلال، ولا يسافر بالحرام والعياذ بالله، فلا يحمل معه الخمر والحشيش ولا الدخان ولا ما هو مسروق أو مغصوب، ولكن يعد زاده من الحلال [وأن يترك نفقة من تجب عليه نفقته من زوجة وولد ووالد] قبل أن يسافر الإنسان لابد وأن يترك نفقة من ينفق عليهم كالزوجة والأولاد والأبوين، فإذا عزم على السفر سدد الحقوق ورد الودائع وترك نفقة الزوجة والأولاد، ومن ينفق عليه كأبويه إن كانا معه.
الثالث: توديع الأهل والإخوان والدعاء لهم
[ثالثاً: أن يودع أهله وإخوانه وأصدقاءه، وأن يدعو بهذا الدعاء لمن يودعهم: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك] وإذا كانوا جماعة قال: أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم، وإن كانا اثنين قال: استودع الله دينكما وأمانتكما وخواتيم أعمالكما، وللأنثى: أستودع الله دينكِ وأمانتكِ وخواتيم أعمالكِ. وهذا كله من الآداب المستحبة إذا عزم المؤمن على السفر.
وأستودع الله، أي: أترك لله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم؛ ليحفظ الله لكم ذلك، فإذا استودعت الله شيئاً فإنه لا يضيعه؛ لقدرته وعدم عجزه [ويقول له المودعون: زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ووجهك إلى الخير حيثما توجهت] زودك الله التقوى أي: جعلها زادك، وغفر ذنبك ووجهك إلى الخير حيث توجهت [وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن لقمان قال )]، وهذا بلغه من طريق الوحي أن لقمان الحكيم عليه السلام قال: [(إن الله تعالى إذا استودع شيئاً حفظه )] لقدرته وكماله، فإذا أردت أن تسافر فقل لمن تودعهم: أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم، فيحفظهم الله عز وجل حتى تعود، فهذا لقمان الحكيم يروي عنه سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فيقول: (إن الله تعالى إذا استودع شيئاً حفظه) [وكان يقول] أي الرسول صلى الله عليه وسلم [ لمن يشيعه: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك)]، هكذا كان الرسول يدعو، فلا يخرج مسافراً وهم لا يعرفون عنه شيئاً، ولكن يترك هذه الثلاثة لله يحفظها بحفظه؛ لقدرته ورحمته وعلمه.
ولا يقول له المودعون: مع السلامة!! ولكن: زودك الله بالتقوى وغفر ذنبك ووجهك إلى الخير حيث توجهت، فهو يدعو وأنت تدعو، فكلاكما محتاج إلى دعوة أخيه.
هذه هي آداب السفر عند المسلمين، ولا يعرف هذا اليهود ولا النصارى ولا المجوس، ولكننا أعرضنا عنها والعياذ بالله.
والجمع جائز، إن جمعت جاز لك، وإن لم تجمع فليس عليك شيء، أما القصر فهو سنة مؤكدة؛ لأن الله أراد لك التخفيف، فرغبت أنت، ولا ينبغي، فما دام سيدك رغبك في هذا وطلب منك فلماذا لا ترضى؟!
الرابع: الخروج مع الرفقة الصالحة
[رابعاً:] من آداب السفر [ أن يخرج إلى سفره في رفقة ثلاثة أو أربعة بعد اختيارهم ممن يصلحون للسفر معه] عليه قبل أن يسافر أن يختار اثنين وهو الثالث، أو ثلاثة وهو الرابع أو أكثر، فلا يسافر وحده أو مع واحد فقط، فإذا مرض أحدهما عجز الثاني عن أن يحمله، أو مات عجز عن أن يدفنه، لكن ثلاثة فأكثر أقوياء قادرين، وهذه هي الرحمة المحمدية، وتشريع الرسول صلى الله عليه وسلم [ممن يصلحون للسفر معه] أي لا يأخذ أحمق أو عاجز، وإنما يختار من الناس الصالحين للسفر [إذ السفر كما قيل: مخبر الرجال]، إذا أردت أن تعرف الشخص بآدابه وأخلاقه فسافر معه وعندها يتبين لك، وأيما شخص تريد أن تعرفه فلا تستطيع أن تعرفه بالضبط إلا إذا سافرت معه، وهكذا كان يقول
عمر ، فالسفر مخبر: أي موضع اختبار وامتحان، فإذا سافرت مع أحد لمدة شهر أو شهرين أو عاماً عرفت آدابه وأخلاقه وصدقه وصلاحه، ولكن قبل أن تسافر فإن معرفتك به ما هي إلا ظن فقط.
وكثيرون هم الذين إذا سافروا تناطحوا وتناحروا وتباغضوا كالكباش، وقد رأيناهم وعشنا معهم؛ لأنهم ما أمروا أميراً وفوضوا الأمر إليه، فإذا قال الأمير: ننزل! نزلوا، وإذا قال الأمير: نمشي! مشوا، إذا قال الأمير: أحضروا الأكل أحضروه، فلا أحد يقول بهواه، والعلة في هؤلاء أنهم لا يؤمِّرون، والإسلام أمر على المسلمين إمامهم، وإلا تهالكوا وهبطوا، وأمر على كل قرية أو إقليم أميره، وأمر على ثلاثة في السفر أميرهم، فلا فوضى في الإسلام أبداً [وقد سمي سفراً؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال] سمي السفر سفراً؛ لأنه يسفر ويكشف عن أخلاق الرجال، وإن كان أيضاً أخذ من (السفر) الذي هو الوضوح، كأسفرت المرأة: إذا ظهرت، من الظهور، ولكن هذا المعنى لذيذ وحقيقي، فسمي السفر سفراً؛ لأنه يكشف عن أخلاق الرجال ويسفر عنها [وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الراكب شيطان -يعني الفرد- والراكبان شيطانان )] فإذا كان هذا على بعير وهذا على فرس فهما شيطانان، أو كان ذلك على فرس وحده فهو شيطان [( والثلاثة ركب )]، الثلاثة ركب من الرجال، أما الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، وثلاثة فأكثر ركب والله عز وجل معهم، ولابد للركب أن يكون له أمير، فيجب عليهم أن يختاروا أكبرهم وأعلمهم وأشرفهم يطيعونه ويستشيرونه، حتى لا يؤذى مؤمن، وهذا هو السر؛ لأنه ولي الله، ولا يرضى الله لأوليائه أن يؤذوا [وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده )] يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لو يعلم الناس ما في الوحدة ) يعني: ما في الوحدة والانفراد ما أعلم أنا، ( ما سار راكب بليل وحده ) لكنهم لا يعملون، ولو علموا ما علم الرسول صلى الله عليه وسلم للمسافر وحده ما سافر أحدٌ وحده أبداً، فلابد وأن يطلب من يسافر معه، والسنة ثلاثة فأكثر.
والله تعالى نسأل أن يفتح علينا، وأن يثبتنا وأن يرزقنا العلم والعمل به، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.