أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا بفضل الله تعالى وباسمه نفتتح الليلة دراسة كتاب منهاج المسلم، بدلاً عن: عقيدة المؤمن إذ ختمنا دراستها، والآن مع المنهاج والليلة تسمعون المقدمة؛ لتعرفوا قيمة هذا الكتاب، وتقبلون على دراسته بصدق وجد.
قال: [الحمد لله رب العالمين، وإله الأولين والآخرين، وصلاة الله وسلامه ورحماته وبركاته على صفوة خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله، سيدنا محمد وآله الطاهرين، وصحابته أجمعين، ورحمة الله ومغفرته للتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد ..
فقد سألني بعض الإخوة الصالحين من مدينة (وُجْدَة) بالبلاد المغربية أيام زيارتي لتلك الديار الإسلامية، سألني بمناسبة دعوتي الإخوان إلى الكتاب والسنة والتمسك بهما؛ لأنهما سبيل نجاة المسلمين، ومصدر القوة والخير لهم في كل زمان ومكان.
سألني ذلك البعض المؤمن أن أضع للفئات المؤمنة هناك، والجماعة الصالحة في تلك الربوع كتاباً أشبه بمنهاج أو قانون، يشمل كل ما يهم المسلم الصالح في عقيدته، وآداب نفسه، واستقامة خلقه، وعباداته لربه، ومعاملاته لإخوانه، على أن يكون الكتاب قبساً من نور الله -أي: من كتاب الله- وفلقة من شمس الحكمة المحمدية، فلا يخرج عن دائرة الكتاب والسنة، ولا يعدو هالتهما، ولا ينفصل عن مركز إشعاعهما بحال من الأحوال ..
وأجبت الإخوة الصالحين إلى ما طلبوا، فاستعنت الله عز وجل في وضع الكتاب المطلوب، أو المنهاج المرغوب، وأخذت من يوم عودتي إلى الديار المقدسة في الجمع والتأليف والتنقيح والتصحيح، على قلة فراغي وانشغال بالي، وقد بارك الله تعالى في تلك السويعات الأسبوعية التي كنت أختلسها من جيب أيامي المليئة بالهم والتفكير، فلم يمض سوى عامين اثنين حتى تم وضع الكتاب على الوجه الذي رجوت، والصورة التي أملها الإخوان.
وها هو الكتاب يقدم إلى الصالحين من إخوة الإسلام في كل مكان، يقدم كتاباً لو لم أكن مؤلفه وجامعه، لوصفته بما عساه أن يزيد في قيمته ويكثر من الرغبة فيه والإقبال عليه، ولكن حسبي من ذلك ما أعتقد فيه: أنه كتاب المسلم الذي لا ينبغي أن يخلو منه بيت مسلم.
هذا والكتاب يشتمل على خمسة أبواب، في كل باب عدة فصول، وفي كل فصل من فصوله بابي العبادات والمعاملات مواد تكثر أحياناً وتقل.
فالباب الأول من الكتاب في العقيدة، والثاني في الآداب، والثالث في الأخلاق، والرابع في العبادات، والخامس في المعاملات.. وبهذا كان جامعاً لأصول الشريعة الإسلامية وفروعها، وصح لي أن اسميه: (منهاج المسلم)، وأن أدعو الإخوة المسلمين إلى الأخذ به، والعمل بما فيه.
وقد سلكت -بتوفيق الله تعالى- في وضعه مسلكاً حسناً -إن شاء الله تعالى- ففي باب الاعتقادات لم أخرج عن عقيدة السلف لإجماع المسلمين على سلامتها، ونجاة صاحبها؛ لأنها عقيدة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعقيدة أصحابه والتابعين لهم من بعده، وعقيدة الإسلام الفطرية والملة الحنيفية التي بعث الله بها الرسل، وأنزل فيها الكتب.
وفي باب الفقه -العبادات والمعاملات- لم آل جهداً في تحري الأصوب واختيار الأصح مما دوَّنه الأئمة الأعلام: كـأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى أجمعين، مما لم يوجد له نص صريح أو دليل ظاهر من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا أصبحت لا يخالجني أدنى ريب، ولا يساورني أقل شك في أن من عمل من المسلمين بهذا المنهاج -سواء في باب العقيدة أو الفقه أو الآداب والأخلاق- هو عامل بشريعة الله تبارك وتعالى، وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولا بأس أن يعلم الإخوة المسلمون أنه لو شئت -بإذن الله تعالى- لدونت المسائل الفقهية في هذا المنهاج على مذهب إمام خاص، ولكنت بذلك أرحت نفسي من عناء مراجعة المصادر المتعددة، وتصحيح الأقوال المختلفة، والآراء المتباينة أحياناً والمتفقة أخرى، كما هو معروف لدى العالمين، لكن رغبتي الملحة في جمع الصالحين من إخواننا المسلمين في طريق واحد، تتكتل فيه قواهم، وتتحد أفكارهم، وتتلاقى أرواحهم، وتتجاوب عواطفهم، وتتفاعل أحاسيسهم ومشاعرهم، هي التي جعلتني أركب هذا المركب الصعب، وأتحمل هذا العناء الأكبر، والحمد لله على نيل المراد وبلوغ القصد.
هذا، وإني لأشكو إلى ربي عز وجل كل عبد يقول: إني في صنيعي هذا قد أحدثت حدث شر، أو أتيت بمذهب غير مذهب المسلمين، واستعديه سبحانه وتعالى على كل من يحاول صرف الصالحين من هذه الأمة عن هذا الطريق الذي دعوت، والمنهاج الذي وضعت، إذ أنني -والذي لا إله غيره- لم أخرج عن قصد أو غير قصدٍ فيما أعلم عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا عما رآه أئمة الإسلام وعملوا به، واتبعهم في ذلك ملايين المسلمين، لم أخرج قيد شعرة أبداً، كما أنه لا قصد لي سوى الجمع بعد الفرقة، وتقريب الوصول بعد طول الطريق.
فاللهم يا ولي المؤمنين ومتولي الصالحين! اجعل عملي هذا في المنهاج عملاً صحيحاً مقبولاً، وسعيي فيه سعياً مرضياً مشكوراً، وانفع به اللهم من أخذ به وعمل بما فيه، وأنقذ به يا ربي من شئت من عبادك الحيارى المترددين، واهد به من عبادك من رأيت لهدايتك؛ إنك وحدك القادر على ذلك.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلِّم
المدينة المنورة في المؤلف
21/2/1384هـ 1/7/1964م أبو بكر جابر الجزائري ].
كان هذا الكتاب في عام: 1384ه، والذي أضيفه إليه: أننا كتبنا الدستور الإسلامي على أن يضاف إلى المنهاج، وهذا الدستور الإسلامي -والحمد لله- أعرضت عنه أمة الإسلام إعراضاً كاملاً، فلا العلماء تحدثوا عنه وشجعوا، ولا الحكام عملوا، والآن مضت عشرات السنين وأمة الإسلام لاصقة بالأرض هابطة إلا من شاء الله، فماذا نصنع؟
كتبت اليوم كلمة في صفحتين بينت حقيقة هذا الدستور وأنه تسعة أبواب، كل باب فيه فصل، وكل فصل مادة، وهو مستوف لكل متطلبات الدولة الإسلامية إلا ما كان من القضاء والجنايات والأحكام أحلتها على المنهاج، وعزمنا إن شاء الله على نشر هذه الخلاصة في جريدة من الجرائد تتكرر؛ ليسمع هذا أكثر الناس ويعرفوه.
[الإيمان بالله تعالى] المسلم ذاك الذي أسلم قلبه ووجهه لله، إذا قال له ربه: قف وقف، وإذا قال امشِ مشى، ذاك المسلم يؤمن بالله تعالى [بمعنى: أنه يصدق بوجود الرب تبارك وتعالى] تصديقاً جازماً بوجود الرب تبارك وتعالى الخالق، المدبر، المالك، الموجود فوق سمواته، فوق عرشه [وأنه عز وجل فاطر السماوات والأرض] أي: خالقهما وموجدهما على غير مثال سابق. فمعنى فطر: أوجد الشيء على غير مثال سابق له، بخلاف خلق [عالم الغيب والشهادة] يعلم الغيب الذي هو غائب عن عيون الناس، ويعلم الشيء الحاضر بين أيديهم، فما تظهره يعلمه وما تخفيه يعلمه، فليس هناك مكان يختفي فيها العبد عن الله، بل يعلم سبحانه ما يخفي القلب، وما تتحدث به النفس [رب كل شيء ومليكه] رب كل شيء، رب الكواكب، والأفلاك، والسماوات، والأنهار، والإنس والجن، الله رب كل شيء، وخالقه وصانعه وموجده، فهو مالكه ومليكه الحاكم فيه والمتصرف، يعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويرفع ويضع، ويعز ويذل، وهذا لتمام ملكه [لا إله إلا الله هو ولا رب غيره] هناك فرق بين: لا إله إلا هو، وبين: لا رب غيره، فكلمة (الإله) تعني: المعبود الذي تذل له العقول والقلوب والأجسام وتخضع له، فلا يستحق العبادة إلا الله، فلذا لا يوجد إله حق يعبد مع الله قط، لا إله إلا هو، وما وجد من آلهة تعبد فلا حق لها في ذلك، فهي ما خلقت ولا أوجدت، ولا أعطت ولا منعت، وإنما حسنت الشياطين عبادتها وزينتها للغافلين والجاهلين فعبدوها، فعبادتهم لها لا تجعل تلك الآلهة آلهة حق، فهذا عيسى بن مريم عليه السلام لما عبدته ملايين النصارى وألهوه لم يصبح إلهاً بحق، وكذلك الملائكة لما عبدتها طوائف من العرب، لم تصبح آلهة بحق.
فالحقيقة: لا إله بحق إلا الله، ولهذا نعلن عن هذه العقيدة بقولنا: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: بأنه لا يوجد إله حق يستحق أن يعبد إلا الله (فلا رب غيره) أي: لا خالق ولا رازق ولا مالك ولا مدبر لحياتنا إلا هو، ولهذا استحق العبادة، ووجبت له، فالذي أخاف منه أن يضرني أو يشقيني هو الذي أعبده، والذي أرجو منه أن يسعدني ويكرمني هو الذي أعبده، فما دام الرب هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت فيجب أن يكون هو الإله الحق [وأنه -جل وعلا- موصوف بكل كمال] الله موصوف بكل الكمالات، ومنزه ومبعد عن كل نقصان، لا يمكن أن يوجد نقصان يوصف به الله، فالله برئ من كل نقص وهو ولي كل كمال [وذلك لهداية الله تعالى له قبل كل شيء].
أما قال الشاعر الصحابي:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
من يقول: أنا اهتديت بدون إذن الله أو توفيق الله لي؟! هناك بلايين البشر ما قالوا: لا إله إلا الله.
يا عبد الله المؤمن! أنت آمنت أولاً بفضل الله، فكم وكم من عاقل، وكم وكم من طيار في السماء وغواص في الماء ما عرف الله ولا آمن به؟! وكم من بهلول -من أمثالنا- آمن وأسلم، وهذا فضل الله أولاً.
[ثم للأدلة النقلية والعقلية الآتية] الأدلة والبراهين النقلية هي التي من كتاب الله، وبيان رسوله صلى الله عليه وسلم، والعقلية أيضاً؛ لأن الله دعانا إلى أن نعقل ونفكر لنهتدي.
فالأدلة النقلية، هي ما كان من الكتاب والسنة، من القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا هو النقل.
والدليل العقلي هو الذي يحكم العقل به: فلا يحكم العقل بوجود أحد بيننا وأنه لا موجد له!!
وأوضح من هذا كأس اللبن على الطاولة، هل يوجد تحت السماء شخص عاقل يقول: هذا وجد بلا موجد؟!
ولو قال هذا لقالوا: مجنون! وهو كأس فقط من اللبن على طاولة أمامك. فلا تستطيع أنت ولا غيرك أن يقول: هذا وجد هكذا، بل جاء من وضعه على الطاولة، وهذا دليل عقلي.
إذاً: كيف يوجد هذا العالم كله بلا موجد؟ من يقول هذا الكلام؟!
هذه الشمس المكوكبة مثل الأرض مليون مرة كيف تقول أنها وجدت هكذا؟ هذا عقل؟!
والعقل محترم، فلولا العقل ما صمنا ولا صلينا، ففاقد العقل لا نأمره بالصلاة ولا الصيام ولا الطاعة لأنه مجنون.
[ومنه قوله عز وجل: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54]].
قال عمر : "من بقي له شيء فليطلب؟" الخلق كله له، والأمر كله له، فمن أنكر واحداً منهما كفر وما أصبح مؤمناً، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] دليل نقلي من الكتاب أفاد الإخبار عن وجود الله وألوهيته وربوبيته.
[وقوله تعالى لما نادى نبيه موسى عليه السلام بشاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة] في جبل الطور في فلسطين [ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30]] فأخبره باسمه وأنه الله، وبصفاته وأنه رب العالمين، والعالمين: كل موجود من الخلق؛ حتى الظفر، فلهذا العوالم كلها -العاقل وغير العاقل- دالة على وجود الخالق والموجد لها.
يَا مُوسَى [القصص:30] كان أول مرة يسمع فيها كلام الله وهو يناديه: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30].
[وقوله في تعظيم نفسه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]] يعرّف الله نبيه بهذا لتعرف البشرية بعده أنه لا إله إلا الله، ومعنى: لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا [طه:14] أي: لا معبود بحق إلا أنا.
إذاً: فَاعْبُدْنِي [طه:14] يا موسى ويا محمد! وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14] أي: لتذكرني، فعندما تقول: الله أكبر! فإنك تبقى تتكلم مع الله معه حتى تنتهي صلاتك، فمن أراد أن يذكر الله دخل في الصلاة.
فالمعنى الأول: أقم الصلاة من أجل أن تذكرني، والثاني: أقم الصلاة لما تذكرها، وأن وقتها قد حان، وأن المنادي قد نادى لها، فلهذا إذا نسي العبد الصلاة عُفي عنه، فإذا ذكرها وجب عليه أن يقوم فيصليها.
[وقوله في تعظيم نفسه، وذكره أسمائه وصفاته: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:22-24]].
عرفنا بأسمائه وما كنا نعرفها، إذاً: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:23-24].
قد يقول قائل: يوجد أناس كثيرون لا يسبحون الله؛ فأقول: ائتني بروسي ملحد، أو علماني لا يؤمن بالله، فأقول لك: ها هو يسبح الله!! فوجوده بعلمه وإرادته وعقله وحياته يقول: لا إله إلا الله، هو الخالق وحده.
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]، والتسبيح هو التنزيه، أن ينزه الله عن العدم بأنه غير موجود، وينزهه -تعالى- عن النقائص، وينزهه أن يكون له نظير أو شبيه أو مثيل.
إذاً: فكل موجود حتى الفأرة والنملة وجودها يسبح الله عز وجل عن العجز والنقص والانعدام وعدم الوجود.
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ [الإسراء:44] أي: ما من شيء كائن إلا يسبح الله عز وجل، وهذا ليس معناه أنه يقول: سبحان الله! فهذا لبعض المخلوقات، ولكن الجمادات تسبيحها لله يكون بأنها دالة على كمال الله وعظيم قدرته، وعلى نزاهته عن الشريك والمثيل.. وما إلى ذلك.
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:24] والعزيز هو الله، الذي لا يغالب ولا يغلب، ولا يمانع في شيء أراده، لو اجتمعت الخليقة كلها على أن ترد الله في أن يفعل أمراً ما، ما استطاعت، فالعزة والغلبة لله، فالله هو العزيز الذي لا يغلب ولا يغالب ولا يرد أبداً أو يصرف عن مراده.
والحكيم عند إخواننا الأولين هو الطبيب، فما كانوا يعرفون الطبيب إلا الحكيم، وهم مصيبون؛ لأنه يضع الدواء في مكان الداء، ومن كان ليس حكيماً فإنه يعطيك الإسبرين لتعمله على رأسك أو في جيبك.
إذاً: الحكيم هو: الطبيب الذي يضع الدواء في مكان الداء.
فالحكيم هو: الذي يضع كل شيء في موضعه، والكون كله مخلوق لله، والله عز وجل لحكمته لم يوجد كائناً بلا حكمة أبداً.
فالعقرب وجدت ليبتلي الله بها، فهي لحكمة بالغة يخوف الله بها عباده، وهكذا هو الحكيم الذي تتجلى حكمته في كل الكائنات.
[وفي قوله في الثناء على نفسه] أثنى الله على نفسه [ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:1-4]].
أولاً: حمد نفسه بقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] ثم: أثنى على نفسه بـ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] ثم مجد نفسه بـ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] فالحمد لله.
من هو الله؟ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] صفه لنا؟ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، ومن صفاته: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] فاشتملت الآيات على حمد الله والثناء عليه وتمجيده، فالله عز وجل حمد نفسه بنفسه، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] ومقتضى الحمد: هو كونه رب العالمين، وإلا فلا يحمد، فهو خالق الكل ومدبر الكل وعليه الحمد له فقط.
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] ثناء عليه، وقد أخبرنا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: بأن الله قسم الرحمة مائة قسم، فادخر لأوليائه في دار السلام تسعاً وتسعين، وأنزل واحدة تتراحم بها الخليقة كلها، حتى أن الفرس لترفع حافرها مخافة أن تطأ مهرها، ومن أراد أن يشاهد، شاهد العنز عندما تلد كيف تميل وتنكسر في الأرض لجديها، ويرى كيف تناغيه مناغاة حتى يشرب، من فعل بها هذا؟ ومن غرزها على هذا؟ إنه الله، فويل للكافرين.
[وقوله في خطابنا نحن المسلمين: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وفي آية المؤمنون: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52]] وأن هذه ملتكم ودينكم أيها المسلمون! ملة واحدة وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وفي الآية الأخرى: وَأَنَا رَبُّكُمْ [المؤمنون:52] إذاً: فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52].
فكيف نعبد ربنا؟
نصلي ونحن أذلاء بين يديه، ونصوم لأمره ونحن أذلاء بين يديه صائمون، ونعبده فننكسر ونذل في طاعته، فلا نتعنتر ونصلي ونحن غير ذالين ولا خاشعين.
الله عز وجل لا يتقى بالهرب في السراديب، ولا بالجيوش الجرارة، وإنما بالإذعان والطاعة له، فإن أطعته اتقيت عذابه، وإن رفعت رأسك وتكبرت كسرك وأذلك.
والفرق بين التحميد والتمجيد هو أن التحميد: ذكر الصفة التي حمد عليها، والتمجيد زيادة فوق ذلك، فقوله سبحانه: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] تمجيد، أي: السلطان الأعظم ليوم القيامة.
[وقوله في إبطال دعوى وجود رب سواه، أو إله غيره سبحانه وتعالى في السماوات أو في الأرض] هناك دعوى ادعاها أصحابها بأنه يوجد رب غير الله، قالوا: بأن هناك آلهة متعددة، فأبطلها الله بقوله: [ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ [الأنبياء:22]] لو كان في السماوات والأرض إله غير الله، أي: متصرف وحاكم قوي قادر غير الله [ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]] أي: لفسدت السماوات والأرض.
ببساطة لن يتفقان في شيء، بل سيتضاربان ويتقاتلان ومن غلب دمر الكون كله.
إذاً: فالحاكم واحد، والرب واحد، والإله واحد، كلام منطقي.
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ [الأنبياء:22]، أي: في السماوات والأرض إله غير الله لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] منذ آلاف السنين.
[ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الأنبياء:22]] نزه نفسه عما يصفه به الملاحدة والعلمانيون والضالون بأنه يوجد خالق آخر معه، أو إله آخر معه في السماء وفي الأرض.
فلو أن شخصاً كان في طوكيو، وأخبرك أنه شاهد كذا وكذا، لقلت: نعم.
أو قيل لك: هذه السيارة من صنع اليابان، فهل رأيت أنت اليابان؟ أو هل رأيت من صنعها؟ فكيف تقبل؟!
فإذا كان مائة وأربعة وعشرين ألف نبي ورسول كلهم يخبرون عن الله وعن أسمائه وصفاته، وأنه كلمهم وحدثهم وألقى في روعهم، فأي دليل أعظم من هذا على وجود الله؟! ولكن الشيطان لا يقبل.
نحن قلنا: أنت الآن تؤمن بسيارة يابانية وأنت لم تر اليابان، فكيف عرفت؟
الجواب: قالوا الناس، فكيف إذن بقول: مائة وأربعة وعشرين ألفاً، يتكلمون باسم الله، وعن الله وصفاته ولا تصدق هذا، وتقول: يمكن أن يكذبوا؟!
لا تصدق مائة وأربعة وعشرين ألفاً من الأنبياء والمرسلين وتصدق اثنين من الصعاليك؟!! أين ذهب عقلك؟
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر