إسلام ويب

سلسلة السيرة النبوية إسلام هوازنللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعد هزيمة هوازن أمام المسلمين في حنين، وبعد تقسيم الغنائم على الجيش وما وقع بسببها من مواقف متباينة، ومعالجة الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك المواقف بحكمة وحنكة، بعد ذلك كله جاء وفد هوازن وأعلن إسلامه، وطالب برد السبي، فقام صلى الله عليه وسلم بخطة رائعة في إرجاع سبي هوازن، فكانت خطة ناجحة بكل المقاييس والمعايير، وانضمت قبيلة هوازن إلى جماعة المسلمين مجاهدة في سبيل الله تعالى، وكل هذا يبين لنا أن دين الإسلام دين رحمة وهداية للناس.

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فمع الدرس الرابع عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني : فترة الفتح والتمكين.

    في الدرس السابق تحدثنا عن توزيع غنائم حنين، وعن تقسيم أربعة أخماس الغنيمة على الجيش بكامله، ثم توزيع الخمس المتبقي على المؤلفة قلوبهم من طلقاء مكة وزعماء مكة وزعماء القبائل العربية المختلفة، وكان كما رأينا توزيعاً سخياً بلغ مائة من الإبل للبعض، وتجاوز هذا الرقم للبعض الآخر، وذكرنا علة ذلك وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يريد استقرار الدولة الإسلامية، ووازن بين مصلحة هذا الاستقرار، وبين مفسدة حرمان المجاهدين الذين بذلوا الجهد، وكانوا سبباً مباشراً في النصر يوم حنين، فوجد صلى الله عليه وسلم بعد هذه الموازنة أن استقرار الدولة الإسلامية أثقل، ولذلك أعطى المؤلفة قلوبهم ومنع السابقين، وتفهم كثير من الصحابة هذا الموقف، لكن هذا التفهم لم يكن من الجميع، بل غضبت مجموعة من الصحابة لهذا الفعل، وشعرت هذه المجموعة أنها حرمت ما تستحقه، بينما أعطي من لا يستحق، فهذه المجموعة من الأصحاب هم الأنصار، غضب كثير من الأنصار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعطهم من الخمس المملوك للدولة، مع أنه أعطى بسخاء مجموعة حديثة الإسلام، ما قدمت شيئاً للإسلام، وما خدمت الدولة الإسلامية خدمة تذكر.

    وقبل أن تأخذوا موقفاً من الأنصار، وقبل أن توجهوا اللوم على الأنصار بأي صورة من صور اللوم، فتعالوا بنا نراجع بعض الحقائق التاريخية الهامة:

    أولاً: على أكتاف الأنصار قامت الدولة الإسلامية الأولى، قبل ظهور الأنصار في الصورة كان المسلمون متشتتين في الأرض، ناس في مكة وناس في الحبشة وناس في غيرها من القبائل، فجعل الله عز وجل الأنصار سبباً في جمع شمل المسلمين، وفي إقامة الدولة الإسلامية، وذلك عندما استضافوا الرسول عليه الصلاة والسلام والمسلمين في مدينتهم، المدينة المنورة.

    ثانياً: أخذ الأنصار منذ الأيام الأولى لإسلامهم القرار بمواجهة الأحمر والأسود من الناس، كانوا يعرفون تماماً أن الإسلام يعني: مفارقة العرب قاطبة، يعني: قطع الحبال التي بينهم وبين اليهود، يعني: مواجهة العالم، هكذا كانوا يعرفون، وهكذا أخذوا القرار بمنتهى التشرف القوة.

    ثالثاً: أن قيمة المال في عيون الأنصار قليل جداً، بل لعله منعدم، فأحياناً قد لا يرون لأنفسهم حقاً في أموالهم الشخصية، فتجدهم يعطون هذه الأموال للآخرين بطيب نفس، قل أن يوجد مثلهم في البشر، ورأينا كيف كانوا يقسمون الأموال بينهم وبين المهاجرين رضي الله عنهم، بغض النظر عن الحالة المادية للأنصاري الذي ينفق، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في كتابه الكريم، ووصف الأنصار بصفة الإيثار، قال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، حتى الفقير من الأنصار كان ينفق في سبيل الله ويؤثر غيره على نفسه وهو محتاج.

    هذه هي نفسية الأنصار بشهادة رب العالمين سبحانه وتعالى.

    رابعاً: اشترك الأنصار في كل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كانوا الجانب الأعظم من الجيش في بدء أول مواقع المسلمين، وبدء المسلمين كانوا (313) أو (314) والأنصار كانوا يمثلون ثلثي الجيش تقريباً، (231) من الأنصار، و(83) أو (84) من المهاجرين، واستمر الأمر على ذلك في بقية الغزوات إلا الغزوات المتأخرة التي زاد فيها عدد المسلمين جداً، لكن في الغزوات الأولى كان معظم الجيش من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم.

    ولديهم من المواقف المشرفة في التاريخ ما لا يحصى، ومن أشهر المواقف موقف أحد، ففي أحد فر بعض المسلمين، وصار إحباط من بعض المسلمين، لكن الثبات كل الثبات كان في جانب الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، فرأينا في غزوة أحد استشهاد شباب الأنصار حول الرسول صلى الله عليه وسلم الواحد تلو الآخر، كانوا واقفين حوله تسعة، سبعة من الأنصار واثنين من المهاجرين: سعد ، وطلحة رضي الله عنهما، مات السبعة كلهم تحت أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم دفاعاً عنه صلى الله عليه وسلم، ورأينا أمثلة سعد بن الربيع وحنظلة وأنس بن النضر وعبد الله بن حرام وخيثمة وعمرو بن الجموح وغيرهم.

    وشهداء أحد كانوا سبعين، وكان فيهم (66) أنصارياً، يعني نسبة (94%)، بذل، تضحية، جهاد في سبيل الله بالمال وبالنفس.

    خامساً: أن الأنصار على خلاف ما يتوقع الكثيرون، كانت حالتهم المادية فقيرة، وقد ذكرنا هذا الكلام قبل ذلك عندما تكلمنا عن المجتمع المدني الذي هاجر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في أوائل عهد المدينة المنورة، مع أن القارئ للسيرة قد يظن الأنصار أغنياء لكثرة عطاء الأنصار وكرم الأنصار، لكن الثابت أن معظم الأنصار كان فقيراً فعلاً، وأن حالة المدينة الاقتصادية كانت منخفضة جداً، وليس أدل على ذلك من مواقف الجوع الكثيرة جداً التي مرت بها المدينة المنورة، ومن أشهرها حصار الأحزاب في أواخر سنة (5)هـ، كانت المدينة في حالة من الفقر الشديد، وبالكاد يأكلون، وأكلهم غير مستساغ أصلاً كما ذكرنا في دروس الأحزاب.

    سادساً: أنه بعدما حدثت الأزمة في حنين وفر معظم الجيش نادى رسول لله صلى الله عليه وسلم على أصحاب الشجرة أهل الحديبية، ثم قصر الدعوة بعد ذلك في الأنصار، قال: يا معشر الأنصار! يا معشر الأنصار فالأنصار هم رجال الأزمات، وهم فرسان المواقف الصعبة فعلاً، يا للأنصار! يا للأنصار! قالوا دون تردد: لبيك يا رسول الله! أبشر نحن معك، يا لبيكاه.

    ثم عادوا رضي الله عنهم وأرضاهم، ووقفوا حول الرسول صلى الله عليه وسلم، وقادوا حركة هجوم مضادة على المشركين، فغير الله عز وجل من حال إلى حال، سبحان الله انقلبت الهزيمة إلى نصر، بعد أن جعل الله عز وجل الأنصار سبباً في ذلك.

    هذه هي قصة الأنصار، وهذا هو تاريخ الأنصار، منذ إسلام الأنصار وإلى هذه اللحظة إلى يوم حنين، ومكانتهم في الإسلام لا ينكرها أحد.

    والرسول عليه الصلاة والسلام نفسه كان يفتخر جداً بالأنصار رضي الله عنهم، كان يقول: (الأنصار كرشي وعيبتي) كرش الرجل: أي خاصة الرجل، وعيبة الرجل: أي موضع سر الرجل، ثم قال: (ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار).

    هذه مقدمة لا بد منها قبل الحديث عن موقف الأنصار من غنائم حنين، وبعد ذلك لنكن واضحين، ضع نفسك مكان الأنصار، بعد كل هذه الشراكة في النصر تاريخاً وواقعاً إذا بثمرات النصر الصعب والتضحية المتكررة توزع على الآخرين؛ لذلك حزن الأنصار حزناً شديداً جداً حتى إن بعضهم قال: إذا كانت الشدة فنحن ندعى وتعطى الغنائم غيرنا؟! هذا الكلام في البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه.

    وفي رواية أخرى قال بعضهم: (يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر دمائهم).

    سبحان الله الموقف فعلاً موقف يلفت الأنظار.

    وفي بعض الروايات أن الأنصار قالوا: (فإن كان من أمر الله صبرنا، وإن كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم استعتبناه)

    فالأنصار بهذا القول يلتزمون بالحدود الشرعية تماماً، هم يقولون: لو كان هذا الأمر من رب العالمين سبحانه وتعالى وحكم الشرع، فلا بد من السمع والطاعة، ولو كان اختياراً بشرياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم عاتبناه على هذا الاختيار.

    وقبل أن تلوم الأنصار وتعاتبهم على عتبهم للرسول عليه الصلاة والسلام أضرب لك مثلاً يقرب لك موقف الأنصار، ويضعك في داخل هذا الموقف: لو كنت تعمل في شركة، وخدمت في هذه الشركة بكل طاقتك مدة عشر سنين، وقدمت للشركة كل ما تستطيع، والشركة كانت صغيرة في أولها، وبعد ذلك كبرت على كتفيك، ولم تطلب لنفسك في كل تاريخ الشركة أي شيء زائد عن الحد، مع كونك كنت دائماً تعمل أكثر مما يطلب منك، وبعد ذلك مرت الأيام، وجاء من يعمل في الشركة إلى جوارك، فإذا به سيئ الخلق غير منضبط في عمله، يحضر في أوقات ويغيب في أضعاف هذه الأوقات، ويتحدث بالسوء عن صاحب الشركة الذي أنت خدمته بإخلاص طوال السنين العشر السابقة، وبعد ذلك في أواخر السنوات العشر حققت الشركة نجاحاً كبيراً هائلاً، وربحت صفقة كبيرة جداً كنت أنت السبب فيها، وكان الموظف الجديد معوقاً لهذه الصفقة، وبعد أن تمت الصفقة جاء صاحب الشركة فأعطى كل منكما الراتب الشهري الرسمي له، ثم إذا به يعطي الموظف الجديد غير المنضبط نصف مليون جنيه مكافأة، ولم يعطك أنت شيئاً ماذا ستفعل؟

    كن صادقاً مع نفسك، وأجب!! ماذا ستفعل؟

    بالمناسبة نصف مليون هذا ليس رقماً عشوائياً، لا، كذلك الجمل الواحد في زماننا الآن ثمنه خمسة آلاف جنيه، يعني مائة من الإبل تساوي (500000) جنيه أي: نصف مليون، والأنصاري لم يأخذ سوى راتبه فقط، أخذ جملين، نصيبه الشرعي. وغير ذلك من المؤلفة قلوبهم أخذوا الجملين، فهذه المكافأة المائة من الإبل كانت زيادة على الراتب الشرعي، فماذا تفعل في موقف مثل هذا ؟ حاول أن تجيب، بالتأكيد ستجد نفسك لم تأخذ شيئاً، لم تعترف حتى بالراتب الذي أخذته.

    بهذا نستطيع أن نفهم عبارة أنس بن مالك رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: (ولم يعط الأنصار شيئاً)

    لأنه بالمقارنة لما أخذه المؤلفة قلوبهم، فكأنهم لم يأخذوا شيئاً، أو أن الأنصار لم يعطوا أي شيء من الخمس المتبقي من الغنيمة الذي وزع على المؤلفة قلوبهم.

    الموقف صعب جداً، ونعذر فيه الأنصار تماماً، وأنا أقول: إن الأنصار كانوا في غاية الأدب في هذا الحوار الذي دار بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان يعذر الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، ويقدر موقفهم، وسنرى هذا الكلام في الحوار الذي سيأتي.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088950065

    عدد مرات الحفظ

    780073429