وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
وقد بينا في المحاضرة السابقة معنى الإسلام، وقلنا: إن معناه في اللغة: الاستسلام والإذعان والانقياد، أي: التسليم المطلق لله عز وجل ولأوامره وأحكامه، وأما من حيث المعنى الاصطلاحي لهذه الكلمة فقلنا: إنه إذا ذكر منفرداً فيعنى به الإيمان والإسلام على حد سواء، وإذا ذكر مقروناً مع الإيمان كان له مدلول غير مدلول الإيمان، بمعنى: أن له فرائض وأحكاماً غير فرائض وأحكام الإيمان.
وقد عرف النبي عليه الصلاة والسلام هنا الإسلام بفرائضه، فقال: (الإسلام أن تشهد)، يعني: الإسلام هو أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم عدد باقي الفرائض.
الموضوع الأول: توحيد المعبود سبحانه وتعالى، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه.
والموضوع الثاني: توحيد المتبوع صلى الله عليه وسلم، فإنه لا متبوع غيره، وكل من هو دون النبي صلى الله عليه وسلم غير معصوم، سواء كان من الصحابة أو من التابعين أو من الأئمة المتبوعين أو غيرهم، وصدق مالك وغيره من علماء السلف رحمهم الله عندما أشاروا إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: عليكم بالأمر العتيق -أي: الأمر القديم-.
وقال: إذا كان أحدكم مستناً فليستن بمن قد مات، ولا يستن بمن هو حي، فإن الحي يقول القول اليوم ويرجع عنه غداً، وأما الذي مات فقد انقطع كلامه وأثره، ويبقى الكلام المسطور حجة له أو عليه، فإن أصاب الكتاب والسنة فهو حق، وإن خالف الكتاب والسنة فيرد، سواء كان لقائله أجر واحد، أو مع تأثيمه إن كان من أهل البدع والضلال.
والله عز وجل قد فرض توحيده عز وجل، كما فرض اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم دون غيره؛ لأن الله عز وجل خص الأنبياء بما حرم منه البشر جميعاً، فخصهم بالعصمة في أمور الشريعة، وما أمروا بتبليغه للخلق، وهذه العصمة هي التي تجعل المقلد للرسول الله صلى الله عليه وسلم والمتبع له مطمئن القلب إلى تقليده واتباعه؛ لأنه معصوم عن الخطأ والنسيان في بيان الشريعة، والأنبياء غير معصومين في أمور الدنيا، بل يصيبون ويخطئون، وأما ما أمروا بتبليغه لأقوامهم فإنهم معصومون فيه بكل حال، فما من نبي إلا وقد بلغ أمته ما أمره الله عز وجل به وما أنزله عليه، ولم يقصر أحد منهم في البلاغ ولا في البيان، وهذه هي العقيدة الصحيحة في النبوة، فما من نبي إلا وقد بلغ ولم يقصر، والأمم إما متبعة وإما مبتدعة وإما محاربة لأنبيائها، كبني إسرائيل، وأما هذه الأمة المباركة فإنها في غالب أحوالها متبعة لنبيها، وقد ظهرت البدع والضلالات بعد وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم مع ظهور الفتن.
فالشاهد هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله). وهذا فيه بيان توحيد الله عز وجل وتوحيد المتبوع، وهو النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم المأمون خطؤه وزلَلُهُ، ولذلك قال الله عز وجل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، ولم يقل: فيه وفي أصحابه أو في صالحي الأمة، وإنما خص نبيه بهذا، فالأسوة مخصوصة بنبينا صلى الله عليه وسلم.
توحيد العبادة: وهو توحيد القصد والطلب، وهو الذي يعبر عنه بتوحيد الألوهية أو توحيد الإلهية.
فلا يجوز لأحد أن يسمي الله تعالى أو يصفه بغير ما سمى أو وصف به نفسه، أو بغير ما سماه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، بل نثبت لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل ولا تكييف، أي: من غير أن نمثل الله تعالى بشيء من خلقه، ولا نكيفه تكييفاً، كما قال الإمام مالك ومن قبله أم سلمة وشيخه ربيعة الرأي -ربيعة بن أبي عبد الرحمن- وقد كان فقيه أهل المدينة، وإمام الرأي فيها لما سئل عن قول الله عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم أمر بإخراج ذلك السائل من المسجد؛ لأنه سأل تعنتاً ولم يسأل تعلماً.
فقال: الاستواء معلوم، أي: أنه معلوم في لغة العرب، فالاستواء بمعنى: العلو والارتفاع، فالله عز وجل مستو على عرشه، بائن من خلقه، بمعنى: أنه عال ومباين لخلقه.
وأما آيات وأحاديث المعية فهي محمولة على معية العلم والسمع والبصر، مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]. فمعية الله عز وجل لخلقه هي معية علم وسمع وبصر وإحاطة، وأما الله عز وجل فقد استوى على عرشه، فالاستواء معلوم عند سلفنا، بل وفي لغة العرب، ويعلمه البدوي والحضري على السواء.
ثم قال: والكيف مجهول، أي: مجهول للخلق، ولا يجهل الله عز وجل ذاته وكنهه، كما قال بعض الأساتذة: الكيف مجهول على الله، وهذا في حد ذاته قول كفر، فإن الكيف مجهول على الخلق لا على الخالق سبحانه وتعالى.
وقوله: الاستواء معلوم، أي: معلوم بأنه الارتفاع والعلو، والكيف مجهول. وكان السلف يفوضون الكيف لا المعنى، ولا العلم؛ لأن صفات الله عز وجل معلومة بمعانيها، وأما كيفيتها فلا يعلمها إلا الله عز وجل.
قال: والسؤال عنه بدعة، أي: السؤال عنه تعنتاً لا تعلماً، ومن أراد أن يعرف كيفية الاستواء فاعلم أنه صاحب قلب مريض؛ لأنه لا يمكن تشبيه الخالق سبحانه وتعالى بالمخلوق.
قال: وينفي عن الله عز وجل ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، كما قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]. فنفى مثلية الله عز وجل لخلقه ومشابهة الخلق له سبحانه وتعالى، ثم أثبت لنفسه بعض الصفات حتى يرد على المثبتة أو المجسمة ويرد على النفاة.
فهذه الآية ترد من جهة إثبات الله عز وجل لأسمائه وصفاته على النفاة، كما ينفي الله عز وجل عن نفسه ما قاله عنه المجسمة، فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. مع الإيمان بمعاني ألفاظ هذه النصوص وما دلت عليه.
وكذلك وحدة الوجود، واعتقاد حلول الله عز وجل في شيء من مخلوقاته فإن هذا كفر، والقائل به مع علم كافر، فإن من قال إن الله تعالى متحد بخلقه أو حل في الخلق حتى كان الخالق كالمخلوق، أو أن الله تعالى لما حل في الخلق صار الخالق والمخلوق شيئاً واحداً فقد كفر، فإن هذا لم يقل به إلا الحلولية من غلاة الصوفية وغيرهم، ولا شك أن هذا قول كفر.
وكذلك الإيمان بالكتب المنزلة جميعها، وأن القرآن الكريم أفضلها وناسخها، وهو المهيمن والمسيطر على هذه الكتب التي سبقته، وأما ما قبله فقد طرأ عليه التحريف والتبديل، ولذلك وجب اتباعه دون غيره من الكتب السابقة؛ لأنه ناسخ لجميع الكتب السابقة عليه.
والإيمان بأنبياء الله عز وجل ورسله صلوات الله وسلامه عليهم، وأنهم أفضل ممن سواهم من البشر، ومن زعم غير ذلك فقد كفر.
فمن قدم علياً على النبي عليه الصلاة والسلام وفضله عليه فلا شك أنه كافر بنبي الله صلى الله عليه وسلم، وما صح به الدليل بعينه فيهم -أي: في الأنبياء- وجب الإيمان به على جهة التعيين.
ويجب الإيمان بسائرهم إجمالاً، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضلهم وآخرهم، وأن الله تعالى أرسله للناس جميعاً.
والإيمان بأن الوحي قد انقطع بموت نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو كافر بالله العظيم، ومن اعتقد أن الوحي لا يزال مستمراً وأن النبوة لم تنقطع بموت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالله العظيم.
وكذلك الإيمان باليوم الآخر، وكل ما صح فيه من الأخبار وبما يتقدمه من العلامات والأشراط.
والإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى؛ وذلك بالإيمان بأن الله تعالى علم ما يكون قبل أن يكون وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون إلا ما يشاء، والله تعالى على كل شيء قدير، وهو خالق كل شيء وفعال لما يريد.
والإيمان بما صح الدليل به من الغيبيات، كالعرش والكرسي، والجنة والنار، ونعيم القبر وعذابه، والصراط والميزان والحشر والحساب، وغيرها، دون تأويل شيء من ذلك، إلا ما صح فيه الدليل.
والإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وشفاعة الأنبياء والملائكة والصالحين وغيرهم يوم القيامة، كما جاء تفصيله في الأدلة الصحيحة، وأن المؤمنين يرون ربهم عز وجل يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر، وهذا في الجنة وفي المحشر.
والمحشر حق، ومن أنكر الرؤية أو أولها فهو زائغ ضال، وهي غير ممكنة في الدنيا بحال، فمن ادعى أنه قد رأى الله عز وجل في الدنيا فلا شك أنه ضال مضل، وهذا يرد به على الفرية القائلة بأن الإمام أحمد بن حنبل رأى ربه تسعاً وتسعين مرة، وهذا افتراء على الإمام رضي الله تعالى عنه ورحمه.
كما أن من أجزاء الإيمان، الإيمان بمعجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء والصالحين، وكل ذلك حق، وليس كل أمر خارق للعادة كرامة، بل قد يكون استدراجاً من الله عز وجل، وقد يكون من تأثير الشياطين والمبطلين، والمعيار في ذلك هو موافقة الكتاب والسنة، فإذا رأيت رجلاً يطير في الهواء أو يمشي على الماء فلا تحكم بأنه ولي من أولياء الله عز وجل، أو أنه شيطان حتى تنظر إلى عمله، فإن كان عمله موافقاً للكتاب والسنة فاعلم أن ذلك كرامة من الله عز وجل له، وإذا كان مخالفاً للكتاب والسنة فاعلم أنه استدراج من الله عز وجل، وأن ذلك من فعل الشياطين وتأثيرهم.
والمؤمنون كلهم أولياء لله عز وجل، وكل مؤمن فيه من الولاية بقدر إيمانه، فمن كان إيمانه زائداً وكاملاً كان كامل الولاية لله عز وجل، ومن كان إيمانه ينقص عن ذلك ففيه من الولاية بقدر ما فيه من الإيمان.
ومن أصول العبادة أن الله تعالى يعبد بالحب والخوف والرجاء، فلا يعبد بالرجاء وحده؛ لأن من عبد الله بالرجاء وحده قصر في العمل وأرجأ فيه، فإذا قلت له: صل يا فلان! قال: إن رحمة الله واسعة، وإذا قلت: صم يا فلان! قال: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء:147]. وأنا -الحمد لله- أقول في كل دقيقة: اللهم لك الحمد والشكر، وأنا مؤمن بالله، لكني مقصر ومفرط.
فمن عبَد الله بالرجاء -أي: طمع في رحمته وعفوه وغفرانه فقط- ولم يخش الله عز وجل وقع في التفريط العظيم، وهذا يؤدي بالعبد إلى الكفر بالله عز وجل، ومن خاف الله عز وجل وحده ولم يرجه وقع في الإياس من رحمة الله عز وجل، ولا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون.
وقال بعض العلماء: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ.
وهذا التوحيد يستلزم: التسليم والرضا والطاعة المطلقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك من الإيمان به رباً وإلهاً، فلا شريك له في حكمه وأمره، كما قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [يوسف:40]. فصرف شيء من الحكم لغير الله كفر بالله عز وجل.
والحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر، وقد يكون كفراً أصغر إذا كان العدول عن شرع الله عز وجل في واقعة معينة لهوى مع الاعتقاد بأن شرع الله عز وجل مقدم على غيره من بقية الضلالات والأحكام، ولا شك أن مخالفة شرع الله عز وجل وحكمه وتقديم حكم غير الله عز وجل على حكم الله كفر، فإن فعل هذا عن اعتقاد بأن حكم الله عز وجل أفضل الأحكام على الإطلاق وأن غيره ضلال، ولكنه مع هذا وقع في التحاكم إلى غير شرع الله فهذا كفر أصغر.
وأما من تحاكم إلى الطاغوت محباً لذلك ومستحسناً له ومقدماً إياه على حكم الله وعلى شرعه فلا شك أن هذا خارج عن ملة الإسلام ولا كرامة.
قال: وتقسيم الدين إلى حقيقة يتميز بها الخاصة، وشريعة تلزم العامة دون الخاصة لا شك أنه من بدع الصوفية، فهم الذين قسموا الدين إلى حقيقة وإلى شريعة، وقالوا: الحقيقة مختصة بأقطاب الصوفية، وأما الشريعة فإنها خاصة بأهل الظاهر، وهذا كلام من أبطل الباطل وأفسد الفساد.
وكذلك فصل السياسة عن الدين، كقول القائل: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، وهذا القول قائله من أكفر الكفار؛ لأنه خالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه، بل خالف صريح الكتاب والسنة.
وقوله: وكل ما خالف الشريعة من حقيقة أو سياسة أو غيرها فهو إما كفر وإما ضلال بحسب درجته من الجحود والإنكار أو من البدعة والخطأ.
ومن أجزاء هذا التوحيد أن اعتقاد صدق المنجمين والكهان مناف لهذا التوحيد، وهو كفر، فمن ذهب إلى الساحر وصدقه أو إلى الكاهن وصدقه فلا شك أنه يكفر بالله العظيم، وإتيانهم والذهاب إليهم مع عدم تصديقهم كبيرة من الكبائر، فمن ذهب إليهم ولم يصدقهم لم يقبل الله تعالى منه صلاة أربعين يوماً.
والتوسل كذلك ثلاثة أنواع: إما توسل مشروع، أو توسل بدعي، أو توسل شركي.
والتبرك من الأمور التوقيفية، فلا يجوز التبرك إلا بما ورد به الدليل، فالتبرك بذوات الأشخاص لا يجوز إلا في حق الأنبياء. والتبرك بذوات الأنبياء أو بآثارهم مشروع اتفاقاً. وأما التبرك بذوات الأشخاص من غير النبي صلى الله عليه وسلم أو بآثارهم ففيه نزاع طويل، والراجح من الأدلة عدم جوازه.
وأفعال الناس عند القبور وزيارتها ثلاثة أنواع: منه ما هو مشروع، كقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكر الآخرة). فالزيارة المشروعة هي ما كان القصد منها تذكر الآخرة.
ومنها ما هو بدعي، ومنها ما هو شركي ينافي التوحيد، وهو صرف شيء من أنواع العبادة لصاحب القبر، كدعائه من دون الله عز وجل أو الاستعانة به أو الاستغاثة به كذلك، أو الطواف حوله أو الذبح أو النذر له، ونحو ذلك.
والوسائل لها حكم المقاصد والغايات، وأما المثل القائل: الغاية تبرر الوسيلة فهو من أبطل الباطل، وهو اعتقاد غير اعتقاد المسلمين؛ لأن الله عز وجل افترض علينا أن تكون الوسيلة مشروعة كما أن الغاية مشروعة، فلا يسلك أحد مسلكاً يخالف الشرع ثم يقول: أنا غرضي في الآخر شريف أو نبيل، أو أني سلكت هذا المسلك لأصل إلى أمر مشروع، وذلك مثل التي ترقص وتغني مثلاً وتقول: من أجل أن تسدد ديون مصر، فالغرض سليم، ولكن الوسيلة غير مشروعة.
والله عز وجل أرسلهم به إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام، أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر.
وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كسر صور الصالحين، فقد أرسله الله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيراً، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، أي: نحن نعلم أنهم ليسوا آلهة ولا شيء من ذلك، ولكنهم أناس طيبون وصالحون، وهم واسطة بيننا وبين الله، وهذا ضرب من ضروب الكفر الذي ما أرسل الله عز وجل نبيناً إلا وحاربه، وأهل الجاهلية كانوا يعلمون جيداً أن النافع الضار هو الله عز وجل الذي في السماء، ولما أتاه أحد الجاهليين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد؟ قال: سبعة، واحد في السماء وستة في الأرض)، يعني: حتى أهل الجاهلية كانوا يقرون بأن الله تعالى في السماء، بخلاف الموجودين في هذه الأزمان.
فالمسلمون الآن يقولون: الله موجود في كل مكان، وأهل الجاهلية المشركون الكفار كانوا يوقنون بأن الله تعالى في السماء، (قال: إلى من تلجأ إذا نزل بك الضر؟ قال: إلى الذي في السماء)؛ لأنه يعلم أنه لا يصرف الضر ولا يفرج الهم إلا الله.
قال: ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، يقربونا إلى الله عز وجل، ونريد شفاعتهم عنده، مثل: الملائكة، وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم عليه السلام، الذي أرسله الله بالحنيفية السمحة، ويخبرهم أن هذا الاعتقاد محض حق الله تعالى، لا يصلح منه شيء لغير الله، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلاً عن غيرهما.
وتوحيد الربوبية هو: اعتقاد أن الله تعالى الخالق البارئ المصور المهيمن المدبر لأمر الخلائق المحيي المميت؛ وكل هذا كان يعتقده أهل الجاهلية، بخلاف ما عليه المسلمون اليوم، فإنهم يعتقدون أن الرازق الله وغير الله، ولذلك تجد أحدهم يقول: إن رزقي عندك، أو إن رزقي عند هذا المدير، أو عند رئيس مجلس الإدارة، أو إن أكلي وأكل أولادي في يده، وكل هذا شرك في الربوبية.
قال: وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن عبيده، وتحت تصرفه وقهره وتدبيره.
فأهل الجاهلية كانوا يعتقدون ذلك، ولم يكونوا يشركون مع الله عز وجل في ربوبيته أحداً.
وإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون بهذا، ويقرون بتوحيد الربوبية فاقرأ قول الله عز وجل: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [يونس:31]، فهم يردون ويقولون: الله هو الذي يملك هذا كله، فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [يونس:31].
وقوله تعالى: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:84-89].
فكل هذه الآيات وغيرها من الأحاديث تدل على أن أهل الجاهلية المشركين ما كانوا يشركون في ربوبية الله عز وجل، وإنما كان شركهم في العبادة، فقد كانوا يشركون مع الله عز وجل في العبادة آلهة غيره.
فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا، وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة، كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهاراً، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له، أو يدعو رجلاً صالحاً مثل اللات والعزى، أو نبياً مثل عيسى، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده كما قال تعالى: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]. وقال تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ [الرعد:14]، وتحققت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدعاء كله لله عز وجل، فلا يدعى غيره سبحانه وتعالى، وأن يكون النذر كله لله، فمن نذر لغير الله فقد عصى الله عز وجل وأشرك، وأن يكون الذبح كله لله تعالى، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل ولا لأحد الصالحين، ولا استعانة إلا بالله عز وجل، وجميع أنواع العبادة كلها لله يجب صرفها لله عز وجل، فمن صرف شيئاً مما يجب صرفه لله عز وجل لغير الله فلا شك أنه قد أشرك مع الله عز وجل إلهاً غيره.
فإذا عرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء إنما كان لأجل أنهم يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك، وأنه هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله، أو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله).
فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكاً أو نبياً أو ولياً أو شجرة أو قبراً أو جنياً، ولم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده، يعني: هم لا يشركون في الربوبية، وإنما يشركون في العبادة والألوهية.
فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليدعوهم إلى كلمة التوحيد، وهي قوله: لا إله إلا الله.
قال: والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق، فلا يتعلق قلبك ولا بدنك إلا بالله عز وجل إذا نطقت بهذه الكلمة، والكفر بما يعبد من دون الله عز وجل والبراءة منه، فإنه لما قال لهم قولوا: لا إله إلا الله قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، أي: أجعل الآلهة التي نعبدها هذه كلها إلهاً واحداً؟! وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، وهذه أصنام عامة، وقد كان لكل واحد أن يعبد ما شاء من هذه الأصنام، وكان لكل واحد في بيته إله من عجوة أو من خشب أو من حديد، فقد كان لكل واحد منهم إله مخصوص وإله عام، والإله المخصوص هو الذي كان يصنعه بيده، وأما الإله العام فقد كانت تشترك فيه القبائل، إما في صنعه وإما في دفع ثمنه للصانع، وربما يأتي شخص بعجوة أو بأي شيء ويصنع منه إلهاً، ويجعل له عينين ويعبده، وهو الذي عمله! وهذا هو الخبل والغباء.
فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها: أنه لا يخلق ولا يرزق إلا الله، ولا يدبر الأمر إلا الله، ولا يعرف أن هذا هو توحيد الربوبية، وأن المطلوب منه شيء آخر، وهو توحيد الألوهية، ولا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.
الأمر الأول: أن الأولين ما كانوا يشركون ويدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في فترة الرخاء. بل إن فرعون الذي هو أكفر أهل الأرض عندما أدركه الغرق قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90]. ولكن هذا لم ينفعه؛ لأنه وصل إلى الغرغرة، ولم يقلها إلا في هذا الوقت، وقد قال جبريل عليه السلام للنبي عليه الصلاة والسلام: (لو رأيتني لما غرق فرعون أجيء بالطين فأضعه في فيه مخافة أن تدركه رحمة الله)، يعني: حتى جبريل كان لا يتمنى له أبداً أن يؤمن، وخاصة بعد أن ادعى الألوهية وقال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51]، وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]. بل إن هلاكه أفضل.
قال: لكن إذا اشتدت عليهم الأمور، أي: إذا نزلوا البحر وجاءهم الموج لجئوا إلى الله عز وجل، والآن تجد السفينة في البحر وعليها الخمر والزناة والسكارى، وجميع أنواع الفساد، والسفينة تغرق والذي يزني يزني، والذي يشرب الخمر يشرب، والوضع كما هو عليه. وإلى الله المشتكى.
قال: وأما في الشدة فيخلصون لله الدين. هؤلاء هم المشركون الأولون، ففي الشدة يخلصون لله الدعاء، وأما في الرخاء فيشركون بالله، كما قال الله تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء:67].
وقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام:40-41].
وقال تعالى: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا [الزمر:8]، أي: راجعاً إليه أواباً مخبتاً، إلى قوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر:8].
وقال تعالى: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [لقمان:32].
فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه، وهي أن المشركين الذي قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون الله تعالى ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله تعالى وحده لا شريك له، وينسون ساداتهم تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا هذا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهماً جيداً راسخاً؟ هذه المسألة الأولى.
الأمر الثاني الذي يتميز به المشركون الأوائل عن مشركي أهل هذا الزمان: أن الأولين كانوا يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله -يعني: يدعون أناساً صالحين- إما أنبياء وإما أولياء وإما ملائكة، أو غيرهم ممن أطاع الله عز وجل وظهرت طاعته لله عز وجل. ومن يفعل هذا فإنه يكفر بذلك، ولكنه أحسن ممن يدفن حماراً في قبر ويطوف حوله، أو يعبد كافراً، أو يواليه.
وفي الأسبوع الماضي وأنا مسافر إلى المنصورة ركبت مع سائق فقال لي: أتعلم يا شيخ! ما الذي عملوا في رابين ؟ فقلت له: وما الذي يحزنك؟! قال: موت هذا الرجل خسارة، قلت له: خسارة ماذا؟! فقال: إنه كان ينشر السلام، فقلت: سلام ماذا؟! قال لي: ألا تقرأ الجرائد؟ قلت له: أنا لا أقرأ جرائد، فقال لي: إنه كان محترماً، نشكو إلى الله الذين قتلوه، قلت له: أتحبه؟! قال: نعم، والله أحبه، فقلت له: ألا تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب قوماً فهو معهم)، أي: يحشر معهم، قال لي: يا ليت! فقلت له: الأخ نصراني أو مسلم أو كافر أو ماذا؟ واستمر الكلام بيننا حتى وصلنا المنصورة، وبمجرد أن وصلت قلت له: أوقف السيارة، قال: لماذا؟ قلت له: كي أستريح، فأوقف السيارة، فقلت له: كم تريد؟ قال: ستة جنيهات، قلت له: تفضل، وإن أردت أن أزيدك إلى العشرة سأفعل، ولكن انصرف عني فقد أزعجتني، وأنا أريد أن أذهب إلى محاضرة، ولا أريد أن أذهب وقد اغتظت منك، فذهب مسافة قصيرة ثم عاد فقال: لا يصح أن أتركك يا شيخ! المعذرة، فقلت له: إذا أردت أن تأخذني فلا تزعجني بالأغاني وبأمثالها من المعاصي، أو بمثل ذاك الحديث، فقال: هناك أغانٍ سيئة وأغانٍ ليست بسيئة.
فهؤلاء الناس أصبحت عندهم المعاصي لا شيء؛ لأنهم تعودوا عليها. وأنت إذا رأيت امرأة متبرجة ولكن ليست مواكبة لموضة هذه الأيام فإنك تتضايق من هذه الفتنة، بينما كثير من الناس ينظرون إليها نظرة احتقار، وكأنها أتت من الريف، ولا تعرف الموضة والتبرج؛ لأنهم تعودوا على ما هو أشد تبرجاً، فلا يقتنعون بلبس هذه المرأة، ويظنون أنها فلاحة أتت من الريف، ولا تعرف شيئاً عن الموضة!
قال: وأما أهل هذا الزمان فيدعون مع الله أناساً من أفسق الناس. فالمشركون الأوائل كانوا يدعون الصالحين فعلاً؛ وأما مشركو هذا الزمان فقد كانوا يدفنون الحمار ويعبدونه.
قال: والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور.
ومن يراجع طبقات الصوفية للشعراني يوقن أن الكاتب وغيره ممسوخ قرداً أو كلباً أو خنزيراً، وكنت قد عزمت مرة على أن أجمع الفضائح التي في هذا الكتاب والتي يسمونها كرامات وأنشرها على الناس، ثم بعد ذلك ترجح لدي أن الناس لا يريدون هذا الشيء فربما يعتقدون أنها كرامات، فرجحت أن كون المسألة متغطية ومستورة ومخفية أحسن.
قال: هؤلاء المعبودون الذين يعبدهم أهل هذا الزمان هم الذين يحكون عنهم الفجور والفسوق والزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك وترك الصلاة، والذي يعتقد في الصالح والذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويجهر به، يعني: قد يقول قائل: أنا طبعاً أعرف أن هذا الرجل كان سيء الخلق، وكان منحرفاً، ولكنه جاءني في المنام وقال: لابد أن تعمل لي مقاماً في المكان الفلاني، فقلت: يمكن أن الله تاب عليه وغفر له وصار من أولياء الله بعد الممات! وهذا لا شك أمر في غاية النكارة.
فمن جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم كفر، ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن جحد توحيد الله عز وجل سواء كان توحيد الربوبية أو الألوهية فهو كافر بالله العظيم، وما أكثر الجهال الذين يشركون مع الله عز وجل في العبادة غيره، وفي الربوبية غيره كذلك، ومشركو العرب سابقاً ما كانوا يشركون في الربوبية، واليوم المسلمون -فضلاً عن المشركين- يشركون في الربوبية والألوهية على حد سواء.
وذكر العلماء رحمهم الله تعالى في باب حكم المرتد أن المسلم قد يرتد عن دينه بأنواع كثيرة من النواقض.
وهذا فيه رد على سؤال من يسأل: لو أن رجلاً صلى قبل أن ينطق بالشهادتين هل لا يعتبر مسلماً، رغم أنه يتشهد في الصلاة، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ ونقول: هذه الصلاة باطلة، ولا يدخل في الإسلام بها؛ لأنها انعقدت في حال كفره وشركه بالله، فيبقى على كفره، فهي غير صحيحة ولا مقبولة؛ لأنها انعقدت في أولها والمرء غير مسلم، والله تعالى يقول: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].
ومن أنواع الشرك بالله دعاء الأموات، أي: أن يدعو المسلم رجلاً ميتاً، سواء كان صالحاً أو غير صالح، أو أن يستغيث به أو ينذر له أو يذبح له؛ لأن هذه العبادات لا يجوز صرفها إلا لله عز وجل، فالذبح عبادة، والاستعانة عبادة، والاستغاثة عبادة، والدعاء عبادة، والخوف عبادة، والرجاء عبادة، وسائر أصناف العبادة إذا صرف منها شيء لغير الله فقد وقع الصارف في الشرك بالله عز وجل.
وهناك مسألة مشهورة عند الناس وهي: أن من لم يكفر الكافر فهو كافر، وهذا الكلام يصدق في حالتين دون الثالثة، وهاتان الحالتان هما:
الحالة الأولى: الكافر كفراً أصلياً، يعني: من لم يدخل في الإسلام ألبتة، فالذي لا يكفر المجوس ولا اليهود ولا النصارى ولا غير المسلم فلا شك أنه كافر بذلك؛ لأنه يجب على المسلم أن يكفر الكافر، وإذا لم يكفره فقد خالف الكتاب والسنة، ورد حكم الله عز وجل؛ لأن الله تعالى كفرهم في كتابه، والنبي صلى الله عليه وسلم كفرهم في سنته، فلابد أن تكون متبعاً لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا خالفت ذلك فأنت كافر؛ لردك لكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الصورة الثانية: من ارتد وعلمت ردته واتفق على كفره، بمعنى أنه كان مسلماً، ثم ارتد ردة صريحة عن الإسلام، وتحققت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع، ولم يكن جاهلاً ولا مكرهاً ولا غاضباً، أي: أنه لم يقل الكفر في حال غضبه، كما ألقى موسى الألواح وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ [الأعراف:154]، وغير ذلك من الموانع التي تمنع من تكفيره. فمن ارتد عن دين الله عز وجل ردة صريحة واتفق على أنه كافر خارج عن ملة الإسلام فقد وجب عليك أن تكفره، وإن لم تفعل فأنت مثله في الحكم.
الصورة الثالثة التي تأخذ حكماً مخالفاً: من كان مسلماً ولكنه فعل أفعالاً جعلت أهل العلم يختلفون فيه، فمنهم من كفره، ومنهم من لم يكفره، فاختلاف أهل العلم فيه لا يوجب عليك أن تقطع له بأحد القولين، فعليك أن تكل أمره إلى الله عز وجل، وإذا ترجح لديك أحد القولين فقل به، ولا بأس عليك ولا حرج؛ لأنك مسبوق إلى هذا القول.
إذاً: قول القائل: من لم يكفر الكافر فهو كافر متعلق بالكافر الأصلي، والذي ارتد عن دين الإسلام وأجمع على كفره أهل الإسلام، وأما الذي لم يحصل بشأنه إجماع وكان فعله يحتمل الكفر وغيره فأنت في حل من شأنه.
ويدخل في هذا من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام، وتجد الناس إذا كان القانون في صالحهم يلهجون بالثناء عليه وتعظيمه وإن كان مخالفاً لشريعة الإسلام، وهم بذلك يردون حكم الله عز وجل. والأصل في المسلم أن يقدم شرع الله عز وجل حتى وإن خالف هواه؛ لأن شرع الله عز وجل مصلحة كله، وما خفي أن فيه مصالح البشرية الآن فلا بد أن تظهر مصالحه فيما بعد، وما تكرهه الآن تظهر لك مصالحه بعد ذلك، فينبغي عليك أن تقبل شرع الله عز وجل، وإن استثقلت بعض أحكامه عليك الآن فينبغي عليك أن تراجع إيمانك، وأن تقبل شرع الله عز وجل كله بحذافيره.
أو يعتقد أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين. وهذه الكلمة نسمعها اليوم كثيراً، فهناك من يقول: كان الإسلام ينفع البدو في القرون الأولى، وكان جميلاً جداً، وعندما كان مناسباً للعصر والمكان والزمان ساد الأمم كلها، ولكنه لا ينفع الآن في المدنية وفي النظام العالمي الواحد، ومع الطائرات والصواريخ والتكنولوجيا، ومن قال هذا وقدم غير شرع الله عز وجل فهو كافر بالله، وهذا لابد أن يكون عقيدة مستقرة، يعني: صلاح شرع الله عز وجل للحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لابد وأن يكون من البديهيات التي لا تحتاج منا إلى إقرار، فلا ينبغي السؤال هل الشريعة صالحة الآن أو غير صالحة؟ والجواب بأنها صالحة، فهذا الكلام خطأ؛ لأن هذا لا بد أن يكون عقيدة مستقرة في قلبك، كما استقر في قلبك أنه لا يستحق العبادة إلا الله عز وجل.
وهناك رأي شر من الرأي الأول، وهو يقول: إن سر التخلف الذي نحن فيه هو الإسلام. وقائل هذه الكلمة قد خرج من ملة الإسلام بلا شك ولا ريب.
وهناك من يقول: الإسلام في المسجد فقط، وأما الشارع فله قوانين أخرى تحكمه، وقائل هذا يشبه الإسلام بالكنيسة في العصور الوسطى، فقد حجر على النصرانية وجعلت في الكنيسة فقط، وكأن الزمن يدور الآن، وإذا دار الزمان فدر مع القرآن حيث دار، وهكذا يكون المسلم.
وقال الإمام النووي عليه رحمة الله تعالى في أحد كتبه في شرح حديث النبي عليه الصلاة والسلام في فضل الذي يخرج من بيته في طلب العلم: إن بعض الناس رأوا طالب علم خرج من بيته مسرعاً فاعترضوه، وقالوا له: ارفع قدمك حتى لا تكسر أرجل ولا أجنحة الملائكة -يستهزءون به- فأصبحوا مكسوري الأيدي والأرجل والظهور. فعاقبهم الله عز وجل بنفس صنيعهم، والجزاء من جنس العمل.
فمن استهزأ بشيء من شرع الله عز وجل ومن دين الله عز وجل، أو من الثواب والعقاب فإنه كافر بذلك، والله عز وجل يقول: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ [التوبة:65-66]. فسمى الاستهزاء كفراً.
ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازئ والجاد، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله أو من غضب الله يهوي بها في النار سبعين خريفاً، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل يدخل بها الجنة).
هذه بعض المسائل التي تتعلق بتوحيد الله عز وجل وبتوحيد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
السؤال: ما مدى صحة حديث: (لا تلقوا السلام على يهود أمتي، قلنا: يا رسول الله ومن يهود أمتك؟ قال: تاركو الصلاة)؟
الجواب: حديث: (لا تلقوا السلام على يهود أمتي، قلنا: يا رسول الله! ومن يهود أمتك؟ قال: تاركو الصلاة)، غير صحيح، وليس معناه أن من يريد ترك الصلاة يتركها.
السؤال: هل الحجامة مشروعة، وما هي الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يزاول هذه الصنعة؟
الجواب: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام ديناراً، والصحابة احتجموا من بعده. والحجامة هي أحد وسائل علاج الأبدان.
وقد كان العرب إذا وجد أحدهم مرضاً في رأسه أو صداعاً يحتجم، فيحلق بعض رأسه في مكان الصداع أو قريباً منه حتى يبدو جلد الرأس، ثم يأتي بإناء أو كوب ويشعل فيه النار، ثم يضع الكوب مقلوباً على ذلك المكان، وبمجرد وضعه تنطفئ النار، ويخرج دخان، وينحبس هذا الدخان داخل الكوب، ويتجمع على الجلد فيجذبه إلى داخل الكوب، ثم ينتظر حتى لا يشعر بألم، ثم يرفع الكوب فيجد أن المكان الذي جذبه الكوب لونه مختلف عن بقية الرأس بتأثير الدخان والنار، فيأتي بمشرط مطهَر ويجرح به ذلك المكان عدة جرحات بطرف المشرط، وعندما ينزل منها الدم يعيد العملية من جديد، فيشعل النار في الكوب ثم يضعه في نفس المكان من الرأس، فيسحب الكوب الدم كله. وهذا الدم هو الذي سبب له هذا الصداع. وبعد أن يمتلئ الكوب ينزعه ثم يغتسل ويستريح وينام، ويذهب الصداع من رأسه. هذه هي صورة الحجامة.
ويفضل أن يكون الذي يصنع الحجامة رجلاً له علاقة بالطب، وعندما كنا في الأردن سنة 1983م عمل شخص حجامة لأخيه في السكن، فقطع شرايينه وعروقه وأوردته، وجلس في المستشفى سنة كاملة. فلا بد أن يكون الذي يعمل الحجامة له علاقة بالطب، من أجل أن يكون عالماً، هل المكان الذي سيحجمه فيه شريان أو عروق أو لا؟ ويشرط بحذر شديد جداً، مثل الأطباء عندما يشرطون بحذر شديد، ولا يشترط أن يكون طبيباً، وإنما أن يكون فاهماً لهذا الأمر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر