إسلام ويب

ماذا بعد رمضان؟للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إقبال الناس على الطاعات بأنواعها في شهر رمضان علامة على أن الخير باقٍ في الأمة، ولكن ماذا بعد رمضان؟ ينبغي للمسلم أن يعلم أن الاستمرار على الطاعات بعد رمضان علامة على قبول الله تعالى للأعمال، وعلى توفيق الله تعالى للعبد، بخلاف من يعبد الله في رمضان فقط، فإذا ما انتهى رمضان ترك العبادة والطاعة، فهذا على خطر عظيم، ويدل هذا على أنه دخل رمضان بغير نية صادقة، وإنما تعبد لله فيه مجاراة للناس، فيحذر هؤلاء أن تحبط أعمالهم، وليعلموا أن رب رمضان هو رب بقية الشهور، وأنه المستحق للعبادة في رمضان وغيره.
    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    زارك زائر عزيز عليك فتمنيت لو أنه بقي معك بقية عمرك، فإذا به يصدمك في أحاسيسك ويقول: (أياماً معدودات) فماذا أنت صانع حينئذ؟ لا بد أن تتجمل بأحسن الثياب وأطيب الطعام، وأفضل الكلام.. وغير ذلك مما يمكن أن يسر به ضيفك، وكذلك ضيفك إنما أتاك بالبشريات من الله عز وجل، فلا بد من المكافأة، ولا بد من شكر العمل، وشكر القول، وشكر القلب، وشكر اللسان، وشكر الاعتقاد، لا بد من ذلك كله، إنما ذاكم هو شهر رمضان، شهر القرآن، شهر الصيام، شهر القيام، شهر الخيرات والبركات، شهر الصدقات والزكوات، هذا الشهر العظيم هو أعظم شهر خلقه الله عز وجل، واصطفى الله تعالى هذا الشهر لأن يكون محلاً لنزول كلامه الذي هو أشرف الكلام على الإطلاق، وخص الله تعالى هذا الشهر بعبادات عظيمة جداً ليست مفروضة في غير هذا الشهر الكريم، فماذا أنتم صانعون بعد هذا الشهر؟

    إن السلف رضي الله عنهم كانوا يستقبلون الشهر قبل قدومه بستة أشهر، فإذا ما مضى رمضان ومر كانوا يقفون لله عز وجل راجين داعين أن يتقبل منهم ذلك الشهر، فستة أشهر ينتظرون الشهر، وستة أشهر أخرى يطلبون من الله تعالى أن يتقبل منهم هذا الشهر، أن يتقبل منهم أعمالهم، وقيامهم، وصيامهم، وزكاتهم التي كانوا يفعلونها في هذا الشهر المبارك.

    فهذا عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين وخليفة المسلمين في زمانه وسيد من سادات التابعين، خطب الناس في يوم عيد الفطر، وقال: أيها الناس! إنكم قد صمتم لله ثلاثين يوماً، وقمتم لله ثلاثين ليلة، وها أنتم قد خرجتم الآن لتطلبوا من الله عز وجل أن يتقبل منكم ذلك.

    لم يخرجوا ليتفسحوا، أو يمرحوا، أو يضحكوا، أو يلعبوا؛ ولذلك قال وهيب بن الورد رحمه الله تعالى -وهو كذلك سيد من السادات- لما رأى أناساً يضحكون في يوم عيد الفطر قال: سبحان الله! يا للعجب إن هؤلاء يضحكون بعد خروجهم من رمضان، فإما أن يكون الله تقبل منهم، أو يكون لم يتقبل منهم؛ فإن كان الله تقبل منهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان الله تعالى لم يتقبل منهم فما هذا فعل المتحسرين النادمين المقصرين.

    والضحك في يوم العيد لا بأس به، ولكن السلف رضي الله عنهم ما كانوا ينظرون إلى العبادة على أن الله تعالى واجب عليه أن يقبلها، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كونوا لقبول العمل أشد حرصاً منكم على العمل، أما علمتم أن الله تعالى يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].

    يقول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: لو أني أعلم أن الله تقبل مني ركعتين لكان ذلك حسبي وكفاية؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، يعني: هذا القبول يجعله مطمئناً على أنه من أهل التقوى عند الله عز وجل، فالسلف رضي الله عنهم بعد عبادتهم كانوا يتوقفون مع أنفسهم ويراجعون أعمالهم، هل هي مخلصة لله عز وجل؟

    هل هي مستقيمة على منهاج النبوة؟

    فكانوا يربطون ذلك بقبول العمل أو رده، ولذلك كانوا إذا عملوا عملاً كانوا يخافون بعده، لم يكونوا يفرحون أنهم قد صلوا وصاموا، وإنما كانوا وجلين خائفين أن يرد الله عز وجل عليهم عبادتهم؛ ولذلك عندما (قرأت عائشة رضي الله عنها ذات يوم: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] ظنت أن هذا في باب المعاصي والآثام، فقالت: يا رسول الله! أهذا الزاني يزني، والسارق يسرق؟ قال: لا يا بنت الصديق ، إنما هؤلاء أقوام أتوا بصلاة وصيام وزكاة ويخافون ألا يتقبل منهم).

    أي: يحملهم خوفهم من عدم القبول على مزيد الطاعة، من الصيام، والصلاة، والزكاة، والحج.. وغير ذلك من زيادة أعمال البر.

    هكذا المؤمن الذي يخاف الله تعالى خوفاً شرعياً، أما الذي يخافه خوفاً زائداً على حد الشرع، فإن ذلك يؤدي به إلى اليأس والقنوط من رحمة الله عز وجل، ولذلك هذا الذي قتل تسعة وتسعين نفساً لما قنطه الراهب من رحمة الله عز وجل أتم به المائة فقتله؛ لأنه يستوي عنده أن يقتل واحداً أو يقتل ألفاً، فلما تجدد الأمل لديه في رحمة الله عز وجل ذهب ليسأل عالماً بعد ذلك فدله على سعة رحمة الله عز وجل: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، فذنبك أيها العبد شيء، ورحمة الله وسعت كل شيء، فهل من توبة؟! وهل من أوبة وإنابة إلى الله عز وجل؟!

    لا يتصور أن عبداً من العباد يصوم كل رمضان، ويقوم كل ليلة في رمضان، ويحرص على قراءة القرآن، ويؤدي زكاة الفطر في نهاية الشهر، ثم يرتد على عقبيه بعد رمضان، فيترك الصلاة والصيام والزكاة، ويترك العمرة إذا كان قد وفق لأدائها في رمضان، لا يمكن لعبد أن يعمل هذا لله عز وجل مخلصاً من قلبه ثم يترك ذلك بعد رمضان، فمن كان يعبد رمضان فرمضان قد ولى، ومن كان يعبد الحي القيوم رب رمضان، فإنه حي قيوم دائم سبحانه وتعالى لا يموت أبداً، ومن كان يعبد رمضان فإن رمضان قد ولى، ومن كان يعبد رب رمضان، فإن رب رمضان قد فرض عليك في بقية شهور السنة ما قد فرضه عليك في رمضان، فاتق الله تبارك وتعالى، واستمر على ما كنت عليه من طاعة، وإن كان ثَمَّ تقصير منك في هذا الشهر فاعلم أنه قد فاتتك الغنيمة الباردة، قد فاتتك الغنيمة التي لا عوض لها، ولا مثل لها، ولا عدل لها.

    هذا الشهر العظيم الذي كثَّر الله تبارك وتعالى فيه الطاعة، وفتح باب الجنان، وأغلق باب الشيطان، إذا كان هذا الخير قد فاتك فهذا هو ميدان الحسرة والندم، فينبغي لك أن تعض على يديك لما فاتك من خير وطاعة، ويجب أن تسأل نفسك سؤالاً وتقف عند هذا السؤال وقفة طويلة: هل تقبل الله ذلك منك أم رده عليك؟

    ويا ليتك تقف عند رد هذا العمل عليك؛ حتى تزداد تشبثاً بالطاعة في بقية أيام السنة، كما كان السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم يفعلون ذلك، قال أحدهم: كونوا لقبول العمل أشد منكم حرصاً على العمل نفسه.

    ثم إذا كان الله تبارك وتعالى تقبل منك العمل فلا بد من الشكر؛ لأن الله تعالى إنما يتقبل ذلك منك تفضلاً منه وإحساناً، فلا بد من الشكر كذلك، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يشكر ربه بقلبه ولسانه وجوارحه، وهو النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام، وهو الذي لم يقترف إثماً لا كبيراً ولا صغيراً، وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو أول من تنشق عنه الأرض، وهو أول من يقرع باب الجنة، وهو أول وأول وأول، ومع هذا (كان يقوم الليل كله حتى تورمت قدماه صلى الله عليه وسلم، فأشفقت عليه نساؤه، وقلن: يا رسول الله! أرفق بنفسك، أما كان منك كيت وكيت، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبداً شكوراً).

    فعبادته عليه الصلاة والسلام عبادة شاكر لربه، أما نحن فإن شكر الله تعالى عندنا ما تجاوز طرف اللسان، الواحد منا يشكر الله تعالى بلسانه أو يقبل كفه ظهراً لبطن وبطناً لظهر، ما هذا الشكر الذي أوجبه الله تبارك وتعالى عليك، أنت مطالب أن تشكر ربك بالقول والعمل والإخلاص لله عز وجل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088977327

    عدد مرات الحفظ

    780301081