ومن هذا قوله: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78]، إلى آخر السورة، فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان، أن يأتي بأحسن من هذه الحجة أو بمثلها، في ألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيجاز، ووضع الأدلة، وصحة البرهان؛ لما قدر، فإنه سبحانه افتتح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد اقتضى جواباً، فكان في قوله: (ونسي خلقه) ما وفى بالجواب، وأقام الحجة، وأزال الشبهة، ولما أراد سبحانه من تأكيد الحجة وزيادة تقريرها، فقال: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:79]، فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، إذ كل عاقل يعلم علماً ضرورياً أن من قدر على هذه قدر على هذه، وأنه لو كان عاجزاً عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز، ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه، وعلمه بتفاصيل خلقه، أتبع ذلك بقوله: وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79]، فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ومواده وصورته، فكذلك الثاني، فإذا كان تام العلم كامل القدرة، كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم؟ ثم أكد الأمر بحجة قاهرة وبرهان ظاهر يتضمن جواباً عن سؤال آخر يقول: العظام صارت رميماً، وعادت طبيعتها باردة يابسة، والحياة لابد أن تكون مادتها وحاملها طبيعته حارة رطبة، بما يدل على أمر البعث، ففيه الدليل والجواب معاً، فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:80]. فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة، من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة، الذي يخرج الشيء من ضده وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها، ولا تستعصي عليه، هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه، من إحياء العظام وهي رميم ].
وفي مثل هذه الحجة نجد أن الخصم لا بد أن ينقطع، يعني: إذا كان الخصم منصفاً عاقلاً يريد الحق أصلاً، أما إذا كان لجوجاً، فاللجوج ينكر البدهي، وهذه الحجة بدهية وفطرية وبرهانية وتطبيقية في وقت واحد، تجتمع فيها جميع معاني إقامة الحجة، فهي حجة شرعية وعقلية، وهي أيضاً من البدهيات، ولذلك لا يمكن لأحد من البشر مهما أوتي من قوة في الذكاء والمقدرة والوسائل العلمية أن يأتي بدليل على البعث مثل هذا الدليل، أو يأتي بحجة على البعث مثل هذه الحجة، ولذلك لما تكلف المتكلمون بعد عصر الصحابة الذين بزعمهم أرادوا أن ينصروا الحق بالقواعد العصرية، لما تكلفوا الحجج العقلية لم يأتوا بمثل هذا البرهان، بل في الغالب أنهم سلكوا مسالك وعرة ملبسة عسرة الفهم، وعسرة الألفاظ لبيان أو إقامة الحجة على البعث، ثم هم لم يصلوا إلى مثل هذه النتيجة ولا إلى قريب منها، وكثير من المتكلمين الذين زعموا أنهم أتوا بالأدلة العقلية على البعث ذهل عن هذا الدليل، ولو استعمله واكتفى به لاستراح من تسويد المجلدات العظيمة بلا طائل، وفي النهاية ما وصلوا إلا إلى التشكيك أحياناً أو إلى إنكار بعث الأجساد، أو إلى أدلة واهية لا تقوم بها حجة ولا تستبين للمخاصم أو المجادل، سواء كان المجادل عنيداً أو كان ممن يريد الحق، لكن لم يهتد إليه.
إذاً: هذا البرهان على البعث يكفي عن كل الأدلة والوسائل العلمية التي يسلكها الناس، وقد اجتمعت في هذه الأدلة ما يدل على البعث، فلذلك ينبغي للمسلم دائماً في أي قضية يريد أن يستدل فيها، ينبغي له أن يتحرى أدلة القرآن، وألا يحيد عن الدلالة القرآنية، إلا بمزيد من الشرح لبعض المعاني التي قد يجهلها الخصم في معاني الألفاظ، أو ترتيب النتائج على المقدمات التي وردت في القرآن، فكل أمر من الأمور الشرعية والعقلية سواء في عالم الشهادة أو في عالم الغيب له دليل في القرآن، فلا يمكن للناس أن يأتوا بأفضل منه، وهو يناسب جميع البشر بجميع لغاتهم، فالأدلة والبراهين القرآنية التي وردت في الاستدلال على قضايا الدين، سواء في باب الإيمان بالله عز وجل ووحدانيته أو بالبعث أو بسائر أصول الدين، قد اشتملت على كل عناصر الإقناع لأي صنف من البشر، على اختلاف لغاتهم، لكن الذين يفقهون العربية لا شك أنهم سيعرفون الدليل مباشرة من القرآن، والذين لا يفقهون العربية سيفقهون المعنى؛ لأن معاني ألفاظ كلام الله عز وجل سهلة، وهي بلسان عربي مبين.
فالمهم أن هذه قاعدة يجب أن يفهمها طلاب العلم جيداً، وأنهم إذا تعرضوا لمجادلة أحد من المعاندين في أي قضية من القضايا التي ورد الكلام عنها في القرآن، فيجب أن يبدءوا بأدلة القرآن، وأن تكون هي المرتكز، وإن اضطروا إلى استدلال آخر، فينبغي أن ينبثق الاستدلال عما يفهم من دلالات آيات الله عز وجل الواردة في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [الأحقاف:33].
ثم أكد سبحانه ذلك وبينه ببيان آخر، وهو أنه ليس فعله بمنزلة غيره الذي يفعل بالآلات والكلفة والتعب والمشقة، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لا بد معه من آلة ومعين، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته، وقوله للمكون: (كن) فإذا هو كائن، كما شاء وأراده.
ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده فيتصرف فيه بفعله وقوله: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245].
ومن هذا قوله سبحانه: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:36-40]، فاحتج سبحانه على أنه لا يتركه مهملاً عن الأمر والنهي والثواب والعقاب، وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك أشد الإباء، كما قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ[المؤمنون:115]، إلى آخر السورة.
فإن من نقله من النطفة إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم شق سمعه وبصره، وركّب فيه الحواس والقوى والعظام والمنافع والأعصاب والرباطات التي هي أشده، وأحكم خلقه غاية الإحكام، وأخرجه على هذا الشكل والصورة التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال، كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية؟ أم كيف تقتضي حكمته وعنايته به أن يتركه سدى؟ فلا يليق ذلك بحكمته، ولا تعجز عنه قدرته.
فانظر إلى هذا الاحتجاج العجيب، بالقول الوجيز، الذي لا يكون أوجز منه، والبيان الجليل الذي لا يتوهم أوضح منه، ومأخذه القريب الذي لا تقع الظنون على أقرب منه.
وكم في القرآن من مثل هذا الاحتجاج، كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [الحج:5]، إلى أن قال: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:7].
وقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12] إلى أن قال: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:16].
وذكر قصة أصحاب الكهف، وكيف أبقاهم موتى ثلاثمائة سنة شمسية، وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية، وقال فيها: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا [الكهف:21].
والقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة لهم في المعاد خبط واضطراب، وهم فيه على قولين:
منهم من يقول: تعدم الجواهر ثم تعاد.
ومنهم من يقول: تفرق الأجزاء ثم تجمع.
فأورد عليهم الإنسان الذي يأكله حيوان، وذلك الحيوان أكله إنسان، فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا، لم تعد من هذا؟ وأورد عليهم: أن الإنسان يتحلل دائماً، فماذا الذي يعاد؟ أهو الذي كان وقت الموت؟ فإن قيل بذلك، لزم أن يعاد على صورة ضعيفة، وهو خلاف ما جاءت به النصوص، وإن كان غير ذلك، فليس بعض الأبدان بأولى من بعض، فادعى بعضهم أن في الإنسان أجزاء أصلية لا تتحلل، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني، والعقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلل، ليس فيه شيء باق، فصار ما ذكروه في المعاد مما قوى شبهة المتفلسفة في إنكار معاد الأبدان.
والقول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء: أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال، فتستحيل تراباً، ثم ينشئها الله نشأة أخرى، كما استحال في النشأة الأولى، فإنه كان نطفة، ثم صار علقة، ثم صار مضغة، ثم صار عظاماً ولحماً، ثم أنشأه خلقاً سوياً، كذلك الإعادة، يعيده الله بعد أن يبلى كله إلا عجب الذنب، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم، وفيه يركب). وفي حديث آخر: (إن السماء تمطر مطراً كمني الرجال، ينبتون في القبور كما ينبت النبات). فالنشأتان نوعان تحت جنس، يتفقان ويتماثلان من وجه، ويفترقان ويتنوعان من وجه، والمعاد هو الأول بعينه، وإن كان بين لوازم الإعادة ولوازم البداءة فرق، فعجب الذنب هو الذي يبقى، وأما سائره فيستحيل، فيعاد من المادة التي استحال إليها.
ومعلوم أن من رأى شخصا وهو صغير، ثم رآه وقد صار شيخاً، علم أن هذا هو ذاك، مع أنه دائماً في تحلل واستحالة. وكذلك سائر الحيوان والنبات، فمن رأى شجرة وهي صغيرة، ثم رآها كبيرة، قال: هذه تلك، وليست صفة تلك النشأة الثانية مماثلة لصفة هذه النشأة، حتى يقال: إن الصفات هي المغيرة، لا سيما أهل الجنة إذا دخلوها، فإنهم يدخلونها على صورة آدم، طوله ستون ذراعاً كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، وروي: أن عرضه سبعة أذرع، وتلك نشأة باقية غير معرضة للآفات، وهذه النشأة فاسدة معرضة للآفات ].
وقال صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه عز وجل، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). وسيأتي لذلك زيادة بيان عن قريب، إن شاء الله تعالى ].
قال تعالى: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:15-18] إلى آخر السورة.
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [الانشقاق:6-15].
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف:48].. وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48].
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ [غافر:15]، الآية، إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17].
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
وروى البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقلت: يا رسول الله! أليس قد قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً [الانشقاق:7-8] ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما ذلكِ العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب)، يعني: أنه لو ناقش في حسابه لعبيده لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولكنه تعالى يعفو ويصفح، وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى آخذ بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور).
وهذا صعق في موقف القيامة، إذا جاء الله لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، فحينئذٍ يصعق الخلائق كلهم.
فإن قيل: كيف تصنعون بقوله في الحديث: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش) ؟
قيل: لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكال، ولكنه دخل فيه على الراوي حديث في حديث، فركب بين اللفظين فجاء هذان الحديثان هكذا: أحدهما: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق)، كما تقدم، والثاني: (أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة)، فدخل على الراوي هذا الحديث في الآخر، وممن نبه على هذا أبو الحجاج المزي ، وبعده الشيخ شمس الدين بن القيم ، وشيخنا الشيخ عماد الدين بن كثير رحمهم الله.
وكذلك اشتبه على بعض الرواة فقال: (فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل)، والمحفوظ الذي تواطأت عليه الروايات الصحيحة هو الأول، وعليه المعنى الصحيح، فإن الصعق يوم القيامة لتجلي الله لعباده إذا جاء لفصل القضاء، فموسى عليه السلام إن كان لم يصعق معهم فيكون قد جوزي بصعقة يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكاً، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضاً عن صعقة الخلائق لتجلي الرب يوم القيامة، فتأمل هذا المعنى العظيم ولا تهمله.
وروى الإمام أحمد والترمذي وأبو بكر بن أبي الدنيا عن الحسن قال: سمعت أبا موسى الأشعري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فعرضتان: جدال ومعاذير، وعرضة تطاير الصحف، فمن أوتي كتابه بيمينه، وحوسب حساباً يسيراً دخل الجنة، ومن أوتي كتابه بشماله دخل النار).
وقد روى ابن أبي الدنيا عن ابن المبارك أنه أنشد في ذلك شعراً:
وطارت الصحف في الأيدي منشرة فيها السرائر والأخبار تطلع
فكيف سهوك والأنباء واقعة عما قليل ولا تدري بما تقع
أفي الجنان وفوز لا انقطاع له أم الجحيم فلا تبقي ولا تدعُ
تهوي بساكنها طوراً وترفعهم إذا رجوا مخرجاً من غمها قمعوا
طال البكاء فلم يرحم تضرعهم فيها ولا رقة تغني ولا جزعُ
لينفع العلم قبل الموت عالمه قد سال قوم بها الرجعى فما رجعوا.
وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين، ويتخلفون عنهم، ويسبقهم المؤمنون، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم.
وروى البيهقي بسنده عن مسروق عن عبد الله رضي الله عنه قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة.. إلى أن قال: فيعطون نورهم على قدر أعمالهم، قال: فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر ذلك من يعطى نوره على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ مرة، إذا أضاء قدم قدمه، وإذا طُفِئَ قام، قال: فيمر ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف دحضٌ مزلة، فيقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرحل، ويرمل رملاً، فيمرون على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تجر يد وتعلق يد، وتجر رجل، وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، قال: فيخلصون، فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منكِ بعد أن أراناكِ، لقد أعطانا الله ما لم يعطِ أحداً) الحديث.
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة، قالت
أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا يستلزم حصوله، بل يستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه أعداؤه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه؛ يقال: نجاه الله منهم، ولهذا قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً [هود:58].
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً [هود:66].
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً [هود:94]، ولم يكن العذاب أصابهم، ولكن أصاب غيرهم، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك.
وكذلك حال الواردين النار يمرون فوقها على الصراط، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]، فقد بين صلى الله عليه وسلم في حديث جابر المذكور أن الورود هو المرور على الصراط.
وروى الحافظ أبو نصر الوائلي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (علِّم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك، وإن أحببت ألا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة، فلا تحدثن في دين الله حدثاً برأيك)، أورده القرطبي .
وروى أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد عن يعلى بن منية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جُزْ يا مؤمن! فقد أطفأ نورك لهبي) ].
أمور القيامة تسمى السمعيات أو الخبريات؛ لأنها لا سبيل إلى إثباتها إلا بما ثبت عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العقول لا تحيط بدقائق هذه الأمور، لكن عقول البشر قد تدرك في الجملة ضرورة البعث، أما تفاصيل ما يحدث يوم القيامة من البعث والنشور والعرض والجزاء والحساب والصحف والصراط والميزان.. وغير ذلك، فهذه أمور لا يمكن أن تَرِدَ على خاطر أحد؛ لأنها أمور لا يعرف الناس دقائقها، فلا بد من الإيمان بها كما جاءت، والتسليم بأنها حق على حقيقتها.
فالعرض معناه: أن العباد يعرضون على الله عز وجل.
والحساب معناه: أن الله عز وجل يحاسب كل واحد منهم، ويحاسبهم جميعاً في وقت واحد، وكل واحد يظن أن الله لا يحاسب غيره ولا يناجي غيره، والله على كل شيء قدير.
وكذلك الكتاب هو كتاب حقيقي، وأن كل إنسان سيقرأ كتابه المتعلم والأمي، فالله عز وجل يمكن حتى غير القارئين من أن يقرءوا كتبهم، فهو سبحانه على كل شيء قدير.
والكتاب هو الصحيفة، وقيل: إن الكتاب غير الصحيفة، وقيل: إن الكتاب هو ما فيه تفاصيل الأعمال التي كتبها الكرام الكاتبون، وأن الصحيفة هي خلاصة النتيجة وأشبه بالشهادة، وكل ذلك حق، فقد وردت النصوص بهذا وذاك، والثواب والعقاب الذي هو جزاء ذلك.
ثم ذكر الصراط وهو أمر حسي معلوم موصوف، وفي كل ما أشار إليه الشارح رد على الذين زعموا أن هذه الأمور ما هي إلا أمور توهيمية، أو أنها دلالات على معان لا على أشياء، فقال: الصراط هو الحق والعدل، وقال: إن الميزان هو العدل أيضاً.. إلى آخره.
فهذه الآيات والأحاديث الواردة تثبت أن هذه الأمور أمور حسية حقيقية أخبرنا الله عز وجل بها، فلا مجال لتأويلها، بل لا بد أن نؤمن بها كما جاءت، فمثلاً في حديث البيهقي : ذكر وصف الصراط، ووصف بعض ما يحدث للناس على الصراط من وجود النور للمؤمنين، وتفاوت النور بينهم، وهذا حق لا بد أن يثبت على حقيقته، وأنه أمر مادي محسوس يوم القيامة، وليس تعبيراً عن أمور معنوية، كذلك الصراط ووصفه بهذه الأوصاف، وأنه كحد السيف وأنه دحض، يعني: زلق، مزلة، ومزلة وصف لمعنى دحض، وأن الناس يمرون بهذا الصراط على قدر أعمالهم، فمرورهم أيضاً موصوف بهذه الأوصاف، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، وفي بعض الروايات كالبرق، ومنهم كالريح.. إلى آخره، وأن هذا الصراط صراط حقيقي على متن جهنم، وليس مجرد معان أو أمور معنوية يرمز فيها إلى رموز غير حقيقية، كما يقول الفلاسفة وأتباعهم من الجهمية وبعض المعتزلة، وكثير ممن يسمون أنفسهم بالعقلانيين والعصرانيين في العصر الحديث، فإنهم تعرضوا لهذه الأمور بالتأويل الذي يؤدي إلى إنكارها وتعطيلها.
نسأل الله السلامة والعافية، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر