لا تجزئ بيعة لخليفتين في بلد واحد، فبعد الخلافة الراشدة انقسمت بلاد المسلمين في بعض الفترات إلى أكثر من دولة، وهذا أمر واقع رضيه المسلمون، وتعتبر الولاية للمسلمين -وإن تعددت- شرعية ما لم تكن في بلد واحد.
أما في البلد الواحد فلا تجوز الولاية لاثنين، هذا أمر بدهي عقلاً وشرعاً، لا تصح الولاية لاثنين في بلد واحد، ومسألة التنازع على الولاية تحسم بأن الولاية لمن كانت له الولاية أصلاً، بصرف النظر عن الأمور والملابسات الأخرى، فمن كان هو الوالي صاحب بيعة فلا يجوز أن يبايع لغيره ما دامت بيعته نافذة.
هذا الحديث اشتمل على قواعد عظيمة من قواعد الدين في الولاية، وهذه القواعد هي منهج السلف الذي قرروه في كل زمان، وفي كل الأحوال التي مرت بالأمة عبر تاريخها الطويل، وهي: أنه قد يتولى على الأمة خيارها، وقد يتولى الأمة شرارها، وقد يتولى عليهم من يبغضونه ويبغضهم، وأن هذا الأمر إذا كان أمراً واقعاً فلا بد من التزام الأصل فيه، وهو: السمع والطاعة في المعروف، وعدم جواز الخروج، وعدم جواز المنابذة بالسيف بنص الحديث؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بين للصحابة هذا الأمر سألوه، فقالوا: (أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك؟! قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) يعني: ما دامت الصلاة قائمة بين المسلمين وتحت هذه الولاية الشرعية فلا يجوز رفع السيف على الوالي.
ثم ذكر القاعدة الأخرى، وهي: أن من رأى من واليه شيئاً يكرهه من معصية الله فليكره ما يأتيه الوالي أياً كانت هذه المعصية، بمعنى أن كون الوالي يرتكب معصية أو ظلماً أو فسقاً أو فجوراً أو نحو ذلك مما ترى أنه غير جائز شرعاً؛ فلا يعني ذلك أن تقر هذا العمل وتبيحه، بل تكرهه وتكره فعله، لكن لا يجرك ذلك إلى نزع اليد من الطاعة، أي: نزع البيعة، سواء بالقلب أو بالعمل، فلا يجوز أن يستبيح الإنسان نقض بيعة لإمام له عليه ولاية شرعية وإن ظهر منه ما يكرهه المسلم في قلبه، فلا يجوز أن ينزع يداً من طاعة، بل يبقى مطيعاً سامعاً ولو على كره، أو على أثرة أو على ظلم أو نحو ذلك مما هو معروف مما يقع من البشر من المظالم والأخطاء والفسق والفجور.
أقول: هذه قواعد عظيمة يجب أن يفهمها الناس وأن يعرفوا أنها هي مناهج السلف وليست من عندنا، فهذا الحديث حديث صحيح من الأحاديث التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم الأمة وأمرهم بها أمراً صريحاً.
ونزع اليد من الطاعة نوعان: نوع بمعنى عدم اعتبار الولاية في القلب، بمعنى أن تعتقد أن الوالي ليس له ولاية بمجرد ظهور المعاصي، فهذا لا يجوز، وهو نوع من نزع الطاعة؛ لأنه ورد هذا في أحاديث أخرى غير هذا الحديث، فهذا الحديث ظاهره أن نزع اليد هو الشيء العملي الظاهر، لكن هناك أحاديث أخرى تنظم إلى هذا الحديث ستأتي الإشارة إلى بعضها، فيها أنه لا يجوز أن يتخذ ما يحدث من الوالي من فسق وفجور وظلم ذريعة إلى عدم اعتقاد ولايته؛ لأن الخروج يكون باليد ويكون بالقلب كما سيأتي، وكما هو معروف في منهج السلف.
وأما ولي الأمر فقد يأمر بغير طاعة الله، فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله، وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور؛ فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، وقال تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]، فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم فليتركوا الظلم.
وعن مالك بن دينار : أنه جاء في بعض كتب الله: (أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، لكن توبوا أعطفهم عليكم) ].
السنة: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، والجماعة: جماعة المسلمين، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، فاتباعهم هدى وخلافهم ضلال، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، وقال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، وقال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وقال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].
وثبت في السنن الحديث الذي صححه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة) وفي رواية: (قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)، فبين صلى الله عليه وسلم أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين إلا أهل السنة والجماعة.
وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: ( من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ).
وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان إن شاء الله تعالى عند قول الشيخ: (ونرى الجماعة حقاً وصوابا والفرقة زيغاً وعذابا) ].
الجواب: أشار إلى حديث أن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، يعني الهلاك من جانب الإفراط والتفريط؛ لأن الإشارة إلى أهل الكتاب تدل على هذا الجانب، فالنصارى فيهم غلو واليهود فيهم تفريط، فهلكت الطائفتان بالغلو والتفريط، وكذلك الذين يهلكون من هذه الأمة مابين مغال وما بين مفرط، والله أعلم.
الجواب: الدعاء للولاة مشروع، بل هو من علامات أهل السنة، فمن علامات أهل السنة الدعاء للولاة، ومن علامات أهل البدعة الدعاء عليهم، وعلى هذا فإن الذي يترك الصلاة خلف إمام لكونه يدعو للوالي يعتبر مبتدعاً.
الجواب: الحديث ورد ولا بد من الإيمان بما جاء به؛ لأن هذا الذي قرب ذباباً دخل النار بسبب ذلك، وهذا أمر توقيفي غيبي، وظاهر ذلك -والله أعلم- أن هذا الرجل حينما أكره على أن يقرب ذباباً لم يستشعر أنه بذلك يفعل ذنباً عظيماً، وربما قصد التقرب، فالله أعلم، فإذا كان قصد التقرب لغير الله -وإن كان في الأصل ألجئ إلى ذلك- وكان بإمكانه أن لا يفعل ذلك، أو إذا فعله يفعله وهو يعلم أنه شرك، ولا يفعله عن قصد؛ فإنه بذلك يستحق العذاب، والله أعلم.
الجواب: يظهر أن المقصود به أحد وجهين:
الوجه الأول: أن يلزم العلماء السلطان بأن يأخذ بقول اجتهادي ويلتزمه بغير رضاه، فهذا بعيد، وهو لا يجوز.
والوجه الثاني وهو الظاهر: أن السلطان إذا ألزم في مسألة خلافية بقول بلا حجة من الكتاب والسنة فهذا لا يجوز، بمعنى: إذا شرع ذلك تشريعاً؛ لأن إلزام السلطان الناس بقول معين في مسألة اجتهادية له وجهان:
وجه يعتبر فيه الإلزام من باب تقرير المصلحة أو دفع المفسدة؛ فإذا كان من باب المصلحة ودفع المفسدة فهذا من حق السلطان، والخلفاء الراشدون ومن بعدهم من أئمة المسلمين وسلاطينه إلى اليوم كانوا يلزمون في مسألة خلافية بأمر معين، كما في كثير من التعاميم التي فيها مصالح وتبنى على آراء أهل العلم، فهذا جائز، بل من حق السلطان إذا كان الإلزام يعني: إلزام الناس بمصلحة معينة لها مبرر شرعي في أمر اجتهادي.
أما إذا كان الإلزام بمعنى أن يشرع فيحرم أو يحلل؛ فهذا لا يجوز، وإذا حصل فهو تشريع ولا يجوز باتفاق المسلمين.
وأغلب ما يحدث من سلاطين المسلمين من النوع الأول، أي: من الأنواع الاجتهادية، حيث تكون المسألة فيها نزاع بين العلماء، فيأخذ السلطان بقول من أقوالهم ويلزم الناس به، ويكون هذا الإلزام في الغالب من باب تحقيق المصلحة ودرء المفسدة وجمع الكلمة أو نحو ذلك، وهذا جائز وسائغ تقتضيه المصلحة في الغالب.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر