الإشارة بذلك إلى ما تقدم، مما يجب الإيمان به تفصيلاً، وقوله: (لا نفرق بين أحد من رسله).. إلى آخر كلامه، أي: لا نفرق بينهم بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض، بل نؤمن بهم ونصدقهم كلهم، فإن من آمن ببعض وكفر ببعض كافر بالكل، قال تعالى: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:150-151].
فإن المعنى الذي لأجله آمن بمن آمن منهم موجود في الذي لم يؤمن به؛ وذلك الرسول الذي آمن به قد جاء بتصديق بقية المرسلين، فإذا لم يؤمن ببعض المرسلين كان كافراً بمن في زعمه أنه مؤمن به؛ لأن ذلك الرسول قد جاء بتصديق المرسلين كلهم، فكان كافراً حقاً، وهو يظن أنه مؤمن، فكان من الأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ].
صحة العبارة: لا يخلدون في النار، لكنه راعى السجع؛ فأوهمت العبارة، فالمعنى: وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يخلدون في النار، والتقدير بأنهم في النار ثم لا يخلدون خطأ، فـالطحاوي راعى السجع فقدم كلمة (النار) على (لا يخلدون)؛ وهذا يفهم منه أنهم في النار في أول وهلة، والصحيح التفصيل كما سيأتي؛ وهو أن أهل الكبائر تحت المشيئة: إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم، وبعضهم يغفر له وبعضهم قد يعذب، ومن يعذب لا يخلد.
قال رحمه الله تعالى: [ قوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون؛ وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته؛ وذلك بأن الله تعالى مولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من ولايته، اللهم يا ولي الإسلام وأهله! مسكنا بالإسلام حتى نلقاك به ].
في هذه الجملة تعرض لأصل من الأصول الكبرى التي خالف فيها كثير من الفرق أهل السنة والجماعة، وهي مسألة مرتكب الكبيرة، ويمكن أن نلخص أقوال الناس في أهل الكبائر بما يلي:
أولاً: أن مرتكب الكبيرة إذا تاب من ذنبه قبل الموت، فهذا لا شك أنه يغفر له ذنبه، بمعنى أنه تقبل منه توبته إذا صدق وتوافرت فيه شروط التوبة، وهذا باتفاق، وإن كان هناك من بعض الجهلة من يخوض في بعض تفاصيل المسألة، لكن في الجملة لا نجد في أصول الفرق التي خالفت أهل السنة والجماعة -كالخوارج والمعتزلة- من يشك في هذه المسألة، أن من تاب تاب الله عليه.
وأما إذا أصر عليها في الدنيا ثم مات عليها فأقوال الناس في هذه المسألة على النحو الآتي:
أما في الآخرة فإن مرتكب الكبيرة إذا مات مصراً على كبيرته فإنه تحت مشيئة الله عز وجل: إن شاء غفر له، وأسباب الغفران كثيرة جداً، وأحياناً يغفر الله للعبد بغير سبب منه، بل برحمة الله عز وجل ولطفه بعبده، وإن شاء عذبه في النار، وإن عذبه الله عز وجل فلابد أن يخرج منها بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الشفاعة لأهل الكبائر من أمته، وقد ضمنها الله له يوم القيامة، أو بشفاعة الشافعين الآخرين، كشفاعة الأنبياء، وشفاعة الرسل، وشفاعة الصالحين، وشفاعة الشهداء على القول بأن حديث شفاعة الشهداء صحيح، وشفاعة القرآن، وشفاعة الصيام، وشفاعة أطفال المسلمين إذا ماتوا قبل البلوغ واحتسبهم أهلهم عند الله عز وجل، كل هذه من أسباب خروج أهل الكبائر من النار، ثم برحمة الله عز وجل قبل ذلك وبعده.
أما الفرق فقد اختلفت اختلافاً كثيراً في مصير أهل الكبائر في الآخرة نوجزه على النحو الآتي:
ثانياً: المعتزلة، وقد وافقوا الخوارج في بعض أقوالهم وخالفوهم في بعضها، فأما في الدنيا فقد نفت المعتزلة عن مرتكب الكبيرة الإيمان ونفت عنه الكفر، وبعضهم يسميه فاسقاً، وبعضهم يقول: هو في منزلة بين المنزلتين، فمنزلة بين المنزلتين اصطلاح جديد لم يرد به الشرع، يريدون به أنه ليس بمؤمن ولا بكافر.
أما في الآخرة؛ فإن مرتكب الكبيرة عندهم -كما هو حاله عند الخوارج- من أهل النار المخلدين فيها، ولا يدخل تحت مشيئة الله عز وجل ولا تشمله الشفاعة، لكن بعضهم يقول بأن له ناراً غير نار الكافرين، أي أنها أخف من نار الكافرين، وهذه أيضاً مقولة عجيبة ليس لها مستند.
ثالثاً المرجئة، وأقوال المرجئة أيضاً تتفاوت، فالمرجئة الغلاة يرون أن مرتكب الكبيرة ما دام مؤمناً بالله عز وجل فهو مؤمن في الدنيا والآخرة، ولا يضره أي ذنب يفعله ما دام مؤمناً، وهو في الآخرة مضمونة له الجنة، حتى وإن ارتكب من الكبائر ما ارتكب.
أما مرجئة الفقهاء فيقولون بأن مرتكب الكبيرة في الدنيا عاص، وقولهم شبيه بقول أهل السنة والجماعة عموماً، وإن كان المتأخرون منهم تساهلوا في مسألة الحكم على مرتكب الكبيرة، خاصة فيما يتعلق بالتعامل معه، وأما الأوائل فإن رأيهم في مرتكب الكبيرة في الدنيا قريب من رأي أهل السنة والجماعة، وإن كان عندهم نوع تساهل، ومن ذلك أن بعضهم يدخل بعض الأمور المكفرة المخرجة من الملة في مسمى الكبائر، فلا يرون أن مرتكبها يخرج بها من الملة مادامت عملية، وهذا من أهم الفوارق في حكم مرتكب الكبيرة في الدنيا بين أهل السنة والمرجئة عند التفصيل، فهم عند الإجمال يقولون بقول أهل السنة والجماعة، لكن عند التفصيل فإن الكبائر المكفرة عندهم ما دامت عملية لا تخرج من الملة، ويبقى صاحبها مؤمناً، ويكون حكمه حكم المؤمنين في الدنيا والآخرة، وهذا فيه نظر؛ فإن الكبائر المخرجة -كالشركيات والبدع المغلظة- يخرج بها المؤمن من مسمى الإيمان إلى الردة والكفر، أما في الآخرة فإن مرجئة الفقهاء يقولون بقول أهل السنة والجماعة في الجملة.
قال رحمه الله تعالى: [ فقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون) رد لقول الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار، لكن الخوارج تقول بتكفيرهم، والمعتزلة بخروجهم من الإيمان، لا بدخولهم في الكفر، بل لهم منزلة بين منزلتين، كما تقدم عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله).
وقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم) تخصيصه أمة محمد يفهم منه أن أهل الكبائر من أمة غير محمد صلى الله عليه وسلم قبل نسخ تلك الشرائع به حكمهم مخالف لأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذاك نظر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) ولم يخص أمته بذلك، بل ذكر الإيمان مطلقاً، فتأمله، وليس في بعض النسخ ذكر الأمة.
وقوله: (في النار) معمول لقوله: (لا يخلدون)، وإنما قدمه لأجل السجعة، لا أن يكون (في النار) خبراً لقوله: (وأهل الكبائر)، كما ظنه بعض الشارحين ].
هذا هو أجمع الأقوال، خاصة إذا أضيف إليه الإصرار على الصغيرة، فالكبيرة ما يترتب عليه حد في الدنيا أو وعيد بالنار في الآخرة أو اللعنة أو الغضب من الله عز وجل، وكذلك ما يشابهه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا)، (من تشبه بقوم فهو منهم) إذا كان التشبه يتعلق بالأمور العقدية والعبادية ونحوها، وكذلك البراءة من الفاعل ونحو ذلك، فالمهم أن الألفاظ التي يفهم منها الوعيد بأي وجه مع الإصرار على الصغائر نستطيع أن نفرق بها بين الكبيرة والصغيرة وإن لم تكن حدية قاطعة، لكنها أحسن الضوابط، تجمع الفروق بين الصغيرة والكبيرة بشيء من الدقة.
قال رحمه الله تعالى: [ واختلفت عبارات قائليه: منهم من قال: الصغيرة ما دون الحدين: حد الدنيا وحد الآخرة ].
المقصود بذلك الحدود في الدنيا، وحد الآخرة الذي هو الوعيد بالنار ونحو ذلك، كالوعيد بعذاب القبر.
قال رحمه الله تعالى: [ ومنهم من قال: كل ذنب لم يختم بلعنة أو غضب أو نار، ومنهم من قال: الصغيرة ما ليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة، والمراد بالوعيد: الوعيد الخاص بالنار أو اللعنة أو الغضب، فإن الوعيد الخاص في الآخرة كالعقوبة الخاصة في الدنيا، أعني المقدرة، فالتعزير في الدنيا نظير الوعيد بغير النار أو اللعنة والغضب ].
ضوابط الصغيرة هنا تعود إلى ضوابط الكبيرة، فإذا قلنا: إن ضوابط الكبيرة هي تلك الضوابط؛ فالصغيرة ما دون ذلك، وهذا ما أراد أن يقرره، لكن فصله مرة أخرى على وجه كان ينبغي أن يقرره على القاعدة الأولى، فيقول: ما دون ذلك فهو صغيرة، وينتهي الإشكال.
وترجيح هذا القول من وجوه:
أحدها: أنه هو المأثور عن السلف كـابن عباس وابن عيينة وابن حنبل وغيرهم.
الثاني: أن الله تعالى قال: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، فلا يستحق هذا الوعد الكريم من أوعد بغضب الله ولعنته وناره، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر.
الثالث: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله من الذنوب؛ فهو حد متلقى من خطاب الشارع.
الرابع: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، بخلاف تلك الأقوال.
فإن من قال: سبعة، أو سبعة عشر، أو إلى السبعين أقرب مجرد دعوى، ومن قال: ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت فيه يقتضي أن شرب الخمر، والفرار من الزحف، والتزوج ببعض المحارم، والمحرم بالرضاعة والصهرية. ونحو ذلك ليس من الكبائر! وأن الحبة من مال اليتيم، والسرقة لها، والكذبة الواحدة الخفيفة ونحو ذلك من الكبائر! وهذا فاسد.
ومن قال: ما سد باب المعرفة بالله، أو ذهاب الأموال والأبدان يقتضي أن شرب الخمر، وأكل الخنزير والميتة والدم، وقذف المحصنات ليس من الكبائر! وهذا فاسد.
ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، أو: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر! وهذا فاسد؛ لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر.
ومن قال: إنها لا تعلم أصلاً، أو: إنها مبهمة؛ فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها، فلا يمنع أن يكون قد علمها غيره، والله أعلم ].
وقوله: (بعد أن لقوا الله تعالى عارفين) لو قال: (مؤمنين) بدل قوله: (عارفين) كان أولى؛ لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر، وإنما اكتفى بالمعرفة وحدها الجهم ، وقوله مردود باطل كما تقدم؛ فإن إبليس عارف بربه: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36]، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83].
وكذلك فرعون وأكثر الكافرين، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:84-85].. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى، وكأن الشيخ رحمه الله أراد المعرفة الكاملة المستلزمة للاهتداء، التي يشير إليها أهل الطريقة، وحاشا أولئك أن يكونوا من أهل الكبائر، بل هم سادة الناس وخاصتهم.
وقوله: (وهم في مشيئة الله وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله).. إلى آخر كلامه، فصل الله تعالى بين الشرك وغيره؛ لأن الشرك أكبر الكبائر، كما قال صلى الله عليه وسلم، وأخبر الله تعالى أن الشرك غير مغفور، وعلق غفران ما دونه بالمشيئة، والجائز يعلق بالمشيئة دون الممتنع، ولو كان الكل سواء لما كان للتفصيل معنى، ولأنه علق هذا الغفران بالمشيئة، وغفران الكبائر والصغائر بعد التوبة مقطوع به غير معلق بالمشيئة، كما قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، فوجب أن يكون الغفران المعلق بالمشيئة هو غفران الذنوب سوى الشرك بالله قبل التوبة.
وقوله: (ذلك أن الله مولى أهل معرفته) فيه مؤاخذة لطيفة، كما تقدم ].
أشار إلى المعرفة؛ لأن مسألة المعرفة ليست هي الكافية في إثبات الإيمان، وليست هي دلالة الولاية، ففيها مأخذ من حيث موافقتها لمرجئة الجهمية؛ لأنهم يعدون الإيمان هو المعرفة، وأن الولاية تتم بالمعرفة، وكذلك لموافقتها عبارة المتصوفة؛ لأنهم يعبرون عن الأولياء بأهل المعرفة، وهذا التعبير فيه تساهل شديد، ولا شك أن أغلب أهل التصوف من مرجئة الجهمية.
روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه (الفاروق) بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: (كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا ولي الإسلام وأهله، مسكني بالإسلام حتى ألقاك عليه)، ومناسبة ختم الكلام المتقدم بهذا الدعاء ظاهرة، وبمثل هذا الدعاء دعا يوسف الصديق صلوات الله عليه، حيث قال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، وبه دعا السحرة الذين كانوا أول من آمن بموسى صلوات الله على نبينا وعليه، حيث قالوا: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف:126]، ومن استدل بهاتين الآيتين على جواز تمني الموت فلا دليل له فيه؛ فإن الدعاء إنما هو بالموت على الإسلام، لا بمطلق الموت، ولا بالموت الآن، والفرق ظاهر ].
ينبغي للمسلم دائماً أن يعود نفسه ويعود من حوله ومن تحت ولايته وأن يذكر المسلمين دائماً بضرورة الإكثار من الدعاء بالتثبيت، لاسيما عند الفتن وعند كثرة البدع والضلالات وكثرة الفسوق والفجور كما هو حاصل في حال المسلمين اليوم، فينبغي للمسلم دائماً أن يتحرى مثل هذا الدعاء: يا مقلب القلوب والأبصار! ثبت قلبي على دينك، وغيره من الأدعية التي يجب أن يكثر بها المسلم من اللجوء إلى الله عز وجل بأن يثبته ويعصمه من الضلالة والفتن وأن يميته على الإسلام.
الجواب: الخبر أوسع من الصفة فيما يتعلق بالله عز وجل، والإخبار عنه على درجات: أخصها الأسماء، فالأسماء توقيفية، ثم بعد ذلك الصفات، والصفات كذلك توقيفية، لكنها أوسع من الأسماء؛ ذلك أن الأسماء يشتق منها صفات، وهناك صفات أخرى أوسع من الأسماء، فالصفات أكثر من الأسماء، ثم الأفعال، فأفعال الله عز وجل منها ما هو متعلق بأسمائه، ومنها ما هو متعلق بصفاته، ومنها ما هو أفعال لا نجزم بأنها يمكن أن تطلق على الله صفات مستقلة، والإخبار أوسع من هذا كله، فالخبر هو الإخبار عن ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن ذلك الإخبار عن جزاء العباد والإخبار عن أمور تتعلق بخلق الله وتدبيره وأمره ونهيه، وهذه الأمور بابها واسع جداً، فأوامر الله ونواهيه وأفعاله ومشيئته وخلقه جملة وتفصيلاً كل هذه تتعلق بالأفعال، ولذلك ليس كل خبر نستنتج منه صفة، ولذلك اختلف العلماء في مسألة الهرولة، هل هي صفة تثبت مستقلة أو تثبت على سياقها في الحديث؟ والخلاف في مسألة الملل أكثر منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن الله لا يمل حتى تملوا)، ومثلها التردد، هذه أخبار عن أفعال الله عز وجل تتعلق بخلقه، فهذه الأفعال بعضها معلوم لدى المخاطبين، وبعضها قد يلتبس، وبعضها غيبي، فعلى هذا ليس كل خبر عن أفعال الله عز وجل في خلقه يعتبر صفة؛ لأن الصفة على كل الأحوال تلزم مفردة بصرف النظر عن السياق، في حين أن كثيراً من الأفعال والأخبار ترد بالسياق حسب مقاماتها وحسب المفهوم من السياق، فمثلاً: الهرولة الواردة في الحديث: (وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) يفهم منها المجازاة لا شك، فواضح أن المقصود أن الله عز وجل يجازي عبده على فعله، وإن كنا لا نجعل مفهوم الهرولة كله ينصرف إلى المجازاة، لكن نفهم المقصود من إطلاق الهرولة، وعلى هذا لا نستطيع أن نجزم بأنها صفة تثبت بدون سياقها، وكذلك صفة المقت لا نستطيع أن نثبتها إلا مقيدة، وكذلك نقول: إن الله عز وجل يمكر بالماكرين: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال:30]، وكذلك الاستهزاء، وكل هذه الأمور بعضها من باب الخبر، وبعضها فعل، وبعضها صفة، فعلى هذا يكون الفرق بين الصفة والخبر أن باب الإخبار أوسع من باب الصفات، فليس كل الأخبار نستطيع أن نستنج منها صفات، كالتردد في قبض روح المؤمن، والاستهزاء بالمنافقين، والمكر بالكافرين.
الجواب: أي: يرى أنه حلال، أو يعتقد عدم تحريمه بما يخالف قطعية النص، فالمقصود بالاستحلال: اعتقاد عدم تحريمه، سواءً فعله أو لم يفعله، فمن اعتقد أن الربا حلال فقد كفر، سواء أكل الربا أو لم يأكله.
وليس المقصود بالاستحلال مجرد الفعل، إنما المقصود بالاستحلال اعتقاد ما يخالف القطعي في الدين.
لكن الغالب أن الاستحلال يرجع إلى المحرم، وأحياناً يطلق السلف كلمة الاستحلال لاعتقاد خلاف الشرع في الحلال والحرام وغيرهما.
فلذلك توقف بعض أهل العلم عن هذه العبارة، كثير من شراح الطحاوية والذين يدرسونها يتوقفون عند هذه العبارة ويرون أنها تستبدل؛ بأن يقال: ما لم يعتقد خلافه، أو ما لا يعتقد خلاف الحق، أو بما لا يرد به النص، أو بما خالف الإجماع أو نحو ذلك.
ثم ذكر من يقر بعض الأمور الكفرية التي تخالف الإسلام ويحميها، هل يعتبر مستحلاً لها؟ والجواب: لا يلزم أن يكون مستحلاً لها، فالاستحلال -كما ذكرنا- هو اعتقاد أن المحرم ليس بمحرم، أما مجرد الفعل والانتهاك سواء في الربا أو غيره فهذا من عموم الذنوب، ومثله من يقر عملاً كفرياً، أو يدافع عنه بهوى، لكنه لم يستحله اعتقاداً، أي: لم يخالف ما جاء في تحريمه أو تحليله، فإنه بذلك يكون مرتكباً لكبيرة مهما فعل، ما دام أنه لم يعتقد خلاف الحق، أما مجرد الأكل والانتهاك والحماية وغير ذلك فإنه يعتبر من الكفر العملي إن كان كفراً وإلا فيعتبر من الكبائر العادية، وإن كانت الكبائر تتفاوت بلاشك.
السؤال: ما معنى الشر الجزئي والشر الكلي، وما صحة القول بأن العقيدة قاعدة وثلاث نتائج، وما معنى القول بأن الشر ليس في الشرع، ولكن في تأخر الخير عن الشر؟
الجواب: هذا السؤال من الأسئلة التي أعتذر عن الإجابة عن مثلها، وأنصح السائل ألا يعلق نفسه بمثل هذه الأمور.
وأما ما يتعلق بجواب هذا السؤال فالسؤال نفسه يحتاج إلى عدة أسئلة تبينه، فما معنى الشر الجزئي والشر الكلي؟ هذا كلام مبهم، وكذلك القول بأن العقيدة قاعدة وثلاث نتائج، فالذي قال هذا ماذا قصد بالقاعدة؟
فإن كانت القاعدة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، والثلاث المسائل تتعلق بالإسلام والإيمان والإحسان؛ فهذا صحيح.
فلذلك مثل هذا السؤال من المحارات التي يضر تعلق النفس بها، فهي إما تكلف، وإما تقليد للغير، وإما نوع من الطموح إلى المثاليات الفكرية الوهمية، ومع ذلك نعتذر عن الجواب عن مثل هذا السؤال؛ لأنه لا يزال غامضاً يحتاج إلى شرح.
وأنصح السائل وجميع الإخوان ألا يتعلقوا بمثل هذه الأسئلة التي لا يتعلق بها اعتقاد ولا عمل، وليست من متعلقات العقيدة، ولا من أمورها الكمالية فضلاً عن الضرورية.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر