الموت صفة وجودية، خلافاً للفلاسفة ومن وافقهم، قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2] والعدم لا يوصف بكونه مخلوقاً.
وفي الحديث: (إنه يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار)، وهو وإن كان عرضاً فالله تعالى يقلبه عيناً، كما ورد في العمل الصالح (أنه يأتي صاحبه في صورة الشاب الحسن، والعمل القبيح على أقبح صورة)، وورد في القرآن (أنه يأتي على صورة الشاب الشاحب اللون)، الحديث. أي: قراءة القرآن. وورد في الأعمال: أنها توضع في الميزان، والأعيان هي التي تقبل الوزن دون الأعراض.
وورد في سورة البقرة وآل عمران أنهما يوم القيامة يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف، وفي الصحيح أن أعمال العباد تصعد إلى السماء، وسيأتي الكلام على البعث والنشور إن شاء الله تعالى].
أي: أن الله سبحانه وتعالى لم يزل متصفاً بصفات الكمال: صفات الذات وصفات الفعل، ولا يجوز أن يعتقد أن الله وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها؛ لأن صفاته سبحانه صفات كمال، وفقدها صفة نقص، ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفاً بضده.
ولا يرد على هذا صفات الفعل والصفات الاختيارية ونحوها، كالخلق والتصوير، والإحياء والإماتة، والقبض والبسط والطي، والاستواء والإتيان والمجيء والنزول، والغضب والرضا، ونحو ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، وإن كنا لا ندرك كنهه وحقيقته التي هي تأويله، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا، ولكن أصل معناه معلوم لنا كما قال الإمام مالك رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]: كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. وإن كانت هذه الأحوال تحدث في وقت دون وقت، كما في حديث الشفاعة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثل) ؛ لأن هذا الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع، ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن، ألا ترى أن من تكلم اليوم وكان متكلماً بالأمس لا يقال: إنه حدث له الكلام، ولو كان غير متكلم لآفة -كالصغر والخرس- ثم تكلم يقال: حدث له الكلام، فالساكت لغير آفة يسمى متكلماً بالقوة، بمعنى أنه يتكلم إذا شاء، وفي حال تكلمه يسمى متكلماً بالفعل، وكذلك الكاتب في حال الكتابة هو كاتب بالفعل، ولا يخرج عن كونه كاتباً في حال عدم مباشرته للكتابة].
أقول: منشأ هذا التصور هو أن المتكلمين قالوا في الله سبحانه وتعالى بقول الفلاسفة عن قصد وعن غير قصد. أما ما كان عن قصد فكثير ممن دخلوا في الإسلام وكادوا له أدخلوا هذه الأفكار عن قصد، وأما ما كان عن غير قصد فإن الذي جرَّ أكثر المتكلمين إلى هذه التصورات الباطلة عن الله تعالى مجادلتهم لأهل الأهواء والأمم المعاصرة لهم في ذلك الوقت، كالسمنية والمجوس والصابئة واليهود والنصارى، وتلك الأمم كلها تنظر في تصورها إلى الله سبحانه وتعالى على أن وجوده وجود ذهني أو عقلي، أي: ليس لله ذات تقبل الاتصاف بالصفات.
فهذه فكرة الفلاسفة اليونانيين ومن جاء بعدهم، وانبنت عليها كثير من التحريفات في الأديان، وانبنت عليها كثير من الفلسفات، وانبنى عليها الحوار الأساسي الذي قام بين جهم ومن جاء بعده وبين الفرق والأمم الضالة التي نشأت بين المسلمين أو كانت مجاورة للمسلمين، كالديانات الهندية.
فالذين جادلوا أولئك لم تكن إحاطتهم بالعقيدة والسنة كافية، وجرأتهم على الجدل في ذات الله وأسمائه وصفاته جعلتهم يسلمون لبعض أوهام تلك الأمم، فمن هنا تصوروا أن وجود الله -تعالى الله عما يزعمون وما يتوهمون ويظنون- وجود ذهني، ووجود كلي عام، وقد يسمونه العقل الفعال، وقد يسمونه المحيط، وقد يسمونه بأسماء أخرى، فهذا التصور أوجد عندهم هذا الخلل في جميع قضايا العقيدة وأصولها، فحينما تصوروا أن وجود الله وجود ذهني لم يتواءم هذا التصور عندهم مع الصفات التي ثبتت لله تعالى.
فإذا قيل: إن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه، بدليل قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]؛ تنافى ذلك مع تصورهم عن الله؛ لأنه كيف يستوي ووجوده عقلي ذهني؟! وكيف يستوي عندهم -كما يزعمون- وهو مجرد تصور كلي؟!
فقالوا: إذاً: الاستواء له معنىً آخر، ثم سحبوا ذلك على بقية الصفات، حتى إن بعضهم لا يقر إلا بصفة الوجود لله، وبقية الصفات كلها ينكرها، ومع ذلك يخاصم حتى في هذه الصفة.
فيقال له: الوجود إذا كان في الأذهان فقط هل يكون وجوداً حقيقياً؟
إذاً: الوجود لا بد من أن يكون وجوداً فعلياً، والوجود الفعلي لا بد من أن تلزم منه صفات أخرى لهذا الموجود، فإن كان الموجود هو الخالق سبحانه وتعالى فلا بد من أن يتصف بالصفات اللازمة، ومنها: أن يكون خالقاً، وأن يكون عالماً قديراً سميعاً بصيراً، إلى آخر ذلك من اللوازم التي تلزم الوجود الكامل، وإن كان هذا الموجود هو المخلوق -وهذا ما نراه ونحسه ونشاهده- فله صفات تخصه.
المهم أنهم تصوروا هذا التصور التجريدي الذي هو في الأذهان والأوهام، وخضعوا له وقرب من أذهانهم بحسب درجاتهم، أو رضوا ببعض لوازمه، كالأشاعرة والماتريدية؛ لأنهم لا يرضون بهذا القول، فهم يعتقدون أن لله ذاتاً، لكن بعضهم يفلسف معنى ذات الله سبحانه وتعالى بما يميل إلى قول الفلاسفة، وبعضهم يفلسفه بمعنى آخر.
فهذا التصور هو الذي جعل هؤلاء يعطلون أو يؤولون؛ لأنهم تأثروا تأثراً سلبياً بالأمم التي جادلوها، وكان المفروض أن يجادلوا بالقرآن فقط، وإذا لم يكن المتكلم خاضعاً للقرآن جودل ببراهين القرآن، حتى لو لم نسمها آيات أو نسمها قرآناً، فينبغي أن يكون الجدال في الله سبحانه وتعالى ببراهين القرآن؛ لأننا لا نملك أبداً -ويستحيل أن يملك أحد من الناس- دليلاً من الأدلة على ذات الله وأسمائه وصفاته غير ما ورد في الكتاب والسنة، ولا يملك أن يضع تصوراً يلزم به الآخرين غير ما ورد في الكتاب والسنة.
إذاً: فليس هناك براهين نستطيع أن نقنع بها أو نجادل بها فيما يتعلق بالله سبحانه وتعالى -سواءٌ وجوده وأسماؤه وصفاته، أو عبادته وطاعته- إلا ما له أصل في القرآن، وما عدا ذلك فإنما هو خبط ورجم بالغيب، ومن شاء فليراجع أقوالهم، ولكن عافية الله أوسع له.
حلول الحوادث أيضاً هو من اللوازم الباطلة التي التزم بها المتكلمون تأثراً بمن خاصموهم من أهل الأهواء من الأمم الأخرى، ويقصد الفلاسفة بحلول الحوادث: ما يطرأ من أفعال الله تعالى مما له صلة بأسماء الله وصفاته، كقولهم: إن الله -سبحانه وتعالى- صار خالقاً بعد أن لم يكن خالقاً؛ لأنه خلق الخلق بـ(كن) سبحانه وتعالى، فيعتبرون هذا من حلول الحوادث.
وأما المتكلمون فيعبرون عن الحوادث بمثل الاستواء وبمثل المجيء والنزول والغضب والرضا، يقولون: هذه حوادث. وهذه كلمة مجملة، فهي حوادث بتعبيرنا، والله سبحانه وتعالى ما عبر عنها بـ(حوادث)، فهم عبروا عنها بأنها حوادث حسب تصورهم، فنظراً لأنهم يتصورون أن وجود الله سبحانه وتعالى وجود ذهني فقط؛ فإنه من الطبيعي أن من يُتصَور بهذا الشكل لا يتوقع منه أن تحدث منه تلك الأفعال.
فهذه الأفعال -كالمجيء والنزول والرضا والغضب- لا يتصور أن تحدث إلا من الكامل الذي له وجود ذاتي، وهو مستو على عرشه سبحانه، فهذا هو الذي يتصور منه المجيء والنزول، فنظراً لأنهم أنكروا الوجود الذاتي بمعناه وخصائصه اللائقة بالله سبحانه وتعالى أنكروا لوازمه من الاستواء والعلو والفوقية، ثم أنكروا لوازمه الأخرى، وبعد ذلك أنكروا الصفات الفعلية؛ لأنهم قالوا: إنها حوادث، حتى القرآن قالوا بأنه أزلي بحروفه، وأن الله لم يتكلم بالقرآن؛ لأنه إذا تكلم فهذا يعني أنه حدث منه شيء، تعالى الله عمَّا يزعمون.
ولولا أني أخشى أن يلتبس الأمر بعد طول الكلام لذكرت الأصل الثاني الذي نشأ عنه ضلال أكثر الفرق التي ضلت عن أهل السنة، خاصة الفرق التي تأخذ بالسنة في بعض الأصول، كالماتريدية والأشاعرة ومن نحا نحوهم، ولعله تأتي له مناسبة في درس قادم إن شاء الله، لكن من فهم هذه الأصول التي هي منشأ الانحراف عند المؤولة فإنه بذلك تطرد عنده القاعدة، ويستطيع أن يفسر كل خلاف خالف فيه بعض المؤولة أهل السنة، فيفسره بهذا التفسير ويكون مرتاح الضمير مطمئناً بعقيدته عقيدة السلف، وكلنا -إن شاء الله- مطمئنون، لكن يطمئن بالبرهان، لأنه إذا عرف منشأ الخطأ وأصله فسر كثيراً مما يحدث، فلا يبقى الإشكال الوارد في الذهن، وهو: كيف يقول إمام كـالأشعري رحمه الله، أو كـالباقلاني رحمه الله، أو كـالجويني أو الغزالي رحمهما الله في هذه المسألة بغير الحق وهو عالم يدرك ويعرف؟!
أقول: لو عرفنا منشأ الانحراف من أصله لاستطاع كثير من طلاب العلم بناءً على هذا أن يفسروا هذه الأمور بتفسيرات واضحة.
فهم يقصدون بمسألة حلول الحوادث الأفعال التي تطرأ، فمثلاً: الله سبحانه وتعالى تكلم بالقرآن بعد أن لم يكن تكلم به، والله سبحانه وتعالى -كما ورد في النصوص الصريحة أيضاً- يتكلم يوم القيامة بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، فهذا أمر سيحدث فيما بعد، وهم يقولون: لا، هذا كله ليس كلاماً، إنما هو صفة أزلية في ذات الله تعالى، والله يصنع من خلقه ما يعبر عنه بأنه كلام. فيقولون مثلاً: الله كلم موسى، لكنه كلمه بحروف وأصوات صنعها في مخلوقاته، ولازم قولهم أن كلامه من مخلوقاته وإن لم يلتزموا به، فلذلك قالت المعتزلة بخلق القرآن؛ لأنهم زعموا أنهم لو قالوا بأن الله تكلم بالقرآن لصار حادثاً في الله، تعالى الله عما يزعمون.
وهذا كله فلسفة عقلية، وكله خوض ورجم بالغيب، فالمسلم عليه أن يسلم بما جاء عن الله تعالى، فإن فهم فهذا طيب، وإذا لم يفهم لم يطالب بالفهم الذي يعني ضرورة التخلص مما يظهر من الإشكالات، فهذا ليس بضروري، لأن المسلم عليه أن يثق بأن كلام الله حق على حقيقته، وأن ما جاء من أسماء الله وصفاته وأفعاله حق على حقيقته، لكننا لا نفهم الكيفية؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وما دام الله ليس كمثله شيء فلا سبيل إلى فهم الكيفيات، بل لا سبيل إلى الكلام في هذه الأمور بغير علم أصلاً.
إذاً: فكل ما يرد من هذه العبارات -مثل حلول الحوادث أو مثل المباينة والمفاصلة والجهة ونحوها- خبط ورجم بالغيب، وإذا كانت في حق الله تعالى فهي بدعة شنيعة لا يجوز الكلام بها، لكن قد يضطر طالب العلم المتمكن والمتخصص إلى أن يتكلم بها حينما يظهر الإشكال ويوجد في الكتب ويتكلم به المتكلمون ويظهر على ألسنة الناس، فيتكلم لإيضاح الحق وتقريره، لا للانجرار والاستجابة لفلسفة المتفلسفين.
أهل السنة والجماعة الذين يثبتون لله تعالى الصفات الفعلية والصفات الاختيارية -كالخلق والتصوير، والإحياء والإماتة، والقبض، والنزول، والمجيء.. إلى آخره- لا يقولون بأن الله يحدث في ذاته شيء، تعالى الله عما يظنه الظانون وعما يلزم به الملزمون أهل السنة في ذلك، فأهل السنة برآء من أن يقولوا هذا القول، أي أن الله تحدث في ذاته أشياء، بل أهل السنة لا يتكلمون في هذه الأمور، وهم أعظم إجلالاً وتعظيماً لله سبحانه وتعالى، فالله تعالى هو العلي العظيم، والله تعالى هو الحي القيوم، والله تعالى هو الذي لا تدركه الأبصار، وهو بكل شيء محيط، فكيف يتأتى لبشر يعرف الحق ويعرف السنة أن يتكلم في هذه الأمور ويزعم أنه يقول فيها قولاً فاصلاً بنفي أو إثبات؟! لكن ننفي اللوازم الباطلة.
وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث، فيسلم السني للمتكلم ذلك على ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله].
المراد السني الجاهل؛ لأن عامة أهل السنة والجماعة الذين هم على الحق والاستقامة لا يخوضون في هذه الأمور، فهم على الفطرة، والله سبحانه وتعالى سلم أفكارهم وعقولهم من الخوض في هذه الأمور، فلذلك قد يستغفل السني وإن كان مثقفاً وإن كان مفكراً وإن كان عالماً إذا لم يكن له إلمام بمثل هذه المسائل، قد يستدرجه المتكلمون بمثل هذه الأمور، فيأتي المتكلم للسني فيقول: الكلام حادث، فيسلم بأنه حادث، ثم يقول: الله سبحانه وتعالى منزه عن الحوادث. فيقول: نعم، الله منزه عن الحوادث، فيقول: إذاً: الله ليس بمتكلم. فقد يجر السني إلى هذه الأمور دون أن يشعر، كما قالت المعتزلة وغيرهم في مسألة الرؤية، حيث قالوا: لا ترى الشيء إلا وهو أمامك، فقال لهم بعض الجهلة: نعم. فقالوا: ولا ترى الشيء إلا وله صورة ولون وشكل، فينطبع في ذهنك عنه صورة ولون وشكل. فقال لهم بعض الجهلة: نعم. فقالوا: إذاً: فإذا قلنا: إن الله تعالى يرى فهذا يعني أن له لوناً وصورة وشكلاً، فهو -إذاً- لا يرى.
فرتبوا مقدمات فاسدة وبنوا عليها؛ لأنهم قاسوا الله على الخلق، صحيح أنهم فروا من التشبيه، ولكنهم فروا منه حينما تصوروه، فتصوروه أولاً ثم أرادوا أن يفروا منه، فهم كالإنسان الذي وقع في الشراك ثم أراد أن يخرج، مع أن الأصل أن الله ليس كمثله شيء.
فإذا قال لك قائل: لا نرى الشيء إلا وهو أمامنا فتنطبع في أذهاننا منه صورة، فقل له: هذا في حق المخلوقات، أما الله سبحانه وتعالى فلا؛ إذ ليس هو كالخلق.
وإذا قال: لا يستوي الشيء على الشيء إلا وهو معتمد عليه، فقل له: هذا بالنسبة للمخلوق، أما بالنسبة للخالق فلا، فالله مستو على عرشه على ما يليق بجلاله من غير حاجة إلى العرش، لأنه قد يقول لك قائل من الأشاعرة وغيرهم الذين يؤولون الاستواء: إذا استوى المخلوق على شيء فهو معتمد عليه محتاج إليه، فهل تسلم له على الإطلاق؟! والجواب أنه بالنسبة للمخلوق قد يرد هذا، لكن الخالق سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء تعالى الله عما يتوهمون.
إذاً: هم فروا من التشبيه حينما تصوروه، وأهل السنة والجماعة لم يتصوروا التشبيه أصلاً، بل أخذوا بالقاعدة كما ورد في الآية، إذ فيها أولاً: أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وثانياً: أنه هو السميع البصير.
فهذه قاعدة الاعتقاد؛ لأن اعتقاد الكمال لله سبحانه وتعالى مفطورة عليه الخلائق، فلا يمكن أن يتصور أن عاقلاً من العقلاء يظن أن الله سبحانه الخالق لهذه المخلوقات مثلها؛ لأنه لا بد من أن يكون سبحانه وتعالى أعظم وأجل وأكمل؛ لأننا نرى في المخلوقات كل معاني النقص، فإذا كان كذلك فإن تقرير النفي -أي: نفي المشابهة- لا بد من أن يكون أصلاً متأصلاً في ذهن كل شخص.
فلذلك يجب ألا يستقر التصور، بل يجب أن تعتقد أن هذه الصفة التي تصورتها لله ما هو أعظم منها، وأن الله منزه عن التصورات والأوهام، وأن الله ليس كمثله شيء، وأن الله أعظم وأجل من أن تستقر صفاته بأذهان المخلوقين؛ لأنه لو استقرت عرفنا الكيفيات، ولا سبيل إلى معرفة كيفيات صفات الله وأفعاله، فلذلك أقول: يجب أن نفصل ما نتصوره في الأذهان عن الاعتقاد، فما نتصوره في الأذهان إنما يقرب إلى الحقائق فقط في بعض أمور الغيب، فعندما يقال لك: (جبريل) تتصور شيئاً ما عليه جبريل، أليس كذلك؟!
فهذا التصور أعطاك انطباعاً بأن هذا الملك له وجود، لكن هل وجوده هو ما في ذهنك؟! والجواب: لا.
وكذلك في المشاهدات، فلو أن إنساناً -مثلاً- قيل له: هناك مدينة اسمها: نيويورك أو موسكو أو نحو ذلك من المدن الشهيرة، فلابد من أن ينطبع في ذهنه عمارات وشوارع وأعلام وأشخاص ومؤسسات وأشكال، فهل هي الحقيقة؟
فإذا كان هذا في المخلوقات -ولله المثل الأعلى- فالله أعظم وأجل من أن تنطبع في أذهان الناس عنه صفة.
قلت هذا لأن الذين تكلموا في ذات الله وأسمائه وصفاته ونفوا وخبطوا وخلطوا وأحرجوا المسلمين وأوقعوا الأمة في الإشكال؛ إنما وقعوا في ذلك لأنهم استجابوا لأوهامهم وتصوراتهم التي في أذهانهم، والتصورات التي في الأذهان إنما هي أوهام وليست هي الحقيقة في أمور الغيب، فالحقيقة أمر آخر لا يمكن أن يطلع عليه إنسان، ولو اطلع عليه أحد ما صار غيباً.
فالتسليم بأن الله ليس كمثله شيء سبحانه، وأن الله تعالى له الكمال المطلق، وأن الله متصف بهذه الصفة على ما يليق بجلاله به تسلم العقيدة، وإلا فلا يمكن لأحد أن ينفك من التصور، والذين خاضوا في ذات الله وفي أسمائه وصفاته هم أشنع تصوراً من الذين لم يخوضوا.
إذاً: فالعبرة بما ينتهي إليه الاعتقاد لا بمجرد التصور، فأنت إذا تصورت شيئاً في أمر الغيب وجب عليك أن تعتقد أن حقيقة الغيب غيره، بمعنى: أن ما تصورته من أمور الغيب وهم في ذهنك، لكن هذا الأمر الذي ورد في النص هو حقيقة، والحقيقة تعني أنه حق موجود، لكن هذه الحقيقة نجهل كيفيتها وصورتها، وهذا هو الفارق، أما الحقيقة فلابد من اعتقادها دفعاً لقول الذين يقولون بأن هذه الألفاظ ألفاظ ليس وراءها معانٍ؛ لأنه لا يعقل أن الله سبحانه وتعالى يخاطبنا بألفاظ ليس لها معانٍ، فذلك لا يليق بالله سبحانه وتعالى.
إذاً: فلابد من الاعتقاد، لكن تعتقد الكمال المطلق لله سبحانه وتعالى، وأن الله ليس كمثله شيء، وما ينطبع في ذهنك من صورة إنما هو للفظ فقط لا لحقيقة اللفظ، بمعنى: أن اللفظ فقط هو الذي تستطيع أن تقربه إلى ذهنك، وإلا فالحقيقة غيره قطعاً؛ لذلك جاءت الآية بالمبالغة في نفي المشابه لله تعالى؛ لأن الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، مبالغة في البعد عما يمكن أن يتوهم الإنسان ويتصوره في ذهنه.
فتصورات الخواطر قد تتعلق بالغيب، وكذلك في أمور الحلال والحرام، كما ورد في الحديث أن الإنسان قد يهم بالشيء ولا يؤاخذ عليه إلا إذا فعله أو تكلم به، فالإنسان إذا تخيل معصية من المعاصي ومالت إليها نفسه، فإن فعلها أو سعى إلى فعلها أثم، وإن تركها ولم يسع إلى فعلها فهو مأجور على طرد هذا الطارئ على ذهنه، وكذلك بالنسبة لما يتعلق بتصورات الغيب، فالإنسان لا ينفك عن أن يضع تصوراً للغيب، بل أحياناً يرد السؤال عن بعض الخصائص المتعلقة بذات الله سبحانه وتعالى، كما ورد في الحديث الصحيح.
فالإنسان عليه ألا يتمادى في هذه الأوهام، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليعلم ابتداء وانتهاء أن ما في ذهنه من أمور الغيب إنما هو أوهام ومجرد تصور للألفاظ، والحقيقة لا يعلم كيف هي في أمور الغيب إلا الله سبحانه وتعالى.
وكذا مسألة الصفة: هل هي زائدة على الذات أم لا؟ لفظها مجمل، وكذلك لفظ الغير فيه إجمال: فقد يراد به ما ليس هو إياه، وقد يراد به ما جاز مفارقته له.
ولهذا كان أئمة السنة رحمهم الله تعالى لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره ولا أنه ليس غيره؛ لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو؛ إذ كان لفظ (الغير) فيه إجمال، فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل، فإن أريد به أن هناك ذاتاً مجردة قائمة بنفسها منفصلة عن الصفات الزائدة عليها فهذا غير صحيح، وإن أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات، بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها، وإنما يفرض الذهن ذاتاً وصفة كلاً وحده، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة، فإن هذا محال.
ولو لم يكن إلا صفة الوجود، فإنها لا تنفك عن الوجود، وإن كان الذهن يفرض ذاتاً ووجوداً يتصور هذا وحده وهذا وحده، لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج، وقد يقول بعضهم: الصفة لا عين الموصوف ولا غيره، وهذا له معنى صحيح، وهو: أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة، بل هي غيرها، وليست غير الموصوف، بل الموصوف بصفاته شيء واحد غير متعدد.
والتحقيق أن يفرق بين قول القائل: الصفات غير الذات، وبين قوله: صفات الله غير الله، فإن الثاني باطل؛ لأن مسمى الله يدخل فيه صفاته، بخلاف مسمى الذات فإنه لا يدخل فيه الصفات؛ لأن المراد أن الصفات زائدة على ما أثبته المثبتون من الذات، والله تعالى هو الذات الموصوفة بصفاته اللازمة، ولهذا قال الشيخ رحمه الله: (لا زال بصفاته)، ولم يقل: لا زال وصفاته؛ لأن العطف يؤذن بالمغايرة، وكذلك قال الإمام أحمد رضي الله عنه في مناظرته الجهمية: لا نقول: الله وعلمه، الله وقدرته، الله ونوره، ولكن نقول الله بعلمه وقدرته ونوره، هو إله واحد سبحانه وتعالى، فإن قلت: (أعوذ بالله) فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدس الثابتة التي لا تقبل الانفصال بوجه من الوجوه، وإذا قلت: (أعوذ بعزة الله) فقد عذت بصفة من صفات الله تعالى ولم أعذ بغير الله، وهذا المعنى يفهم من لفظ الذات، فإن (ذات) في أصل معناها لا تستعمل إلا مضافة، أي: ذات وجود، ذات قدرة، ذات عز، ذات علم، ذات كرم إلى غير ذلك من الصفات، فذات كذا بمعنى: صاحبة كذا، تأنيث (ذو)، هذا أصل معنى الكلمة، فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه، وإن كان الذهن قد يفرض ذاتاً مجردة عن الصفات كما يفرض المحال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، ولا يعوذ صلى الله عليه وسلم بغير الله.
وكذا قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات).
وكذلك قولهم: الاسم عين المسمى أو غيره، وطالما غلط كثير من الناس في ذلك، وجهلوا الصواب فيه، فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت: قال الله كذا، أو: سمع الله لمن حمده ونحو ذلك؛ فهذا المراد به المسمى نفسه، وإن قلت: الله اسم عربي، والرحمن اسم عربي، والرحمن من أسماء الله ونحو ذلك؛ فالاسم هاهنا لمسمى، ولا يقال: غيره؛ لما في لفظ الغير من الإجمال، فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد به أن الله سبحانه كان ولا اسم له حتى خلق لنفسه أسماء، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم؛ فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى].
قوله: [فالاسم هاهنا لمسمى؛ ولا يقال: غيره] هذه عبارة صحيحة، لكن العبارة الموجودة في طبعة أخرى أسلم، والسياق يؤيد هذه العبارة، وهي قوله: [فالاسم هاهنا للمسمى]، وهو قول السلف، يقولون: لله الأسماء الحسنى، فالاسم للمسمى، الاسم الذي أطلقه الله على نفسه هو اسم لله، يقال: اسم لله، فالأفضل ألا يقال: هو غيره، ولا: هو هو، وإن كان قول: (هو هو) يطلق على ذات الله تعالى، لكنه ملبس؛ لأنه يشتبه بقول القائلين بأنه لا فرق بين أسماء الله وذاته وصفاته، وإنما هي ألفاظ لا معنى لها تدل على مسمى واحد وهو الوجود المجرد في الأذهان، تعالى الله عما يزعمون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر