هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلها، كما تقدم ذكره.
وإثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والإثبات المقتضي للحصر؛ فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال؛ ولهذا -والله أعلم- لما قال تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163]، قال بعده: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]؛ فإنه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني: هب أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره، فقال تعالى: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:163]].
وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ري الظمآن)، فقال: هذا كلام من لا يعرف لسان العرب، فإن (إله) في موضع المبتدأ على قول سيبويه ، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين فلابد من خبر للمبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد، وأما قوله: إذا لم يضمر يكون نفياً للماهية؛ فليس بشيء؛ لأن نفي الماهية هو نفي الوجود، لا تتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين لا ماهية ولا وجود، وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهية عارية من الوجود، و(إلا الله) مرفوع بدلاً من (لا إله)، لا يكون خبراً لـ(لا)، ولا للمبتدأ. وذكر الدليل على ذلك].
فسبب الخلاف في هذه التقديرات ناشئ عن مذاهب الناس في التوحيد.
فالباطنية والفلاسفة وغلاة المتكلمين يقدرون العبارة هكذا: لا إله موجود، وهذا تقدير ناشئ عن تصورهم أن غاية ما يمكن أن يثبت لله من التوحيد هو إثبات الوجود، وما يستلزمه من لوازم أخرى عند المتكلمين.
وطائفة أخرى -ومنهم أغلب المتكلمين، وبعض من ينتسب للسنة- قدروا التقدير الثاني، ولم يذكره هنا ولكنه أشار إليه، فقالوا بأن المقصود تقدير الخالق، أي: لا إله خالق وموجد أو رب غير الله.
وهناك تقدير ثالث أيضاً قال به بعض المتكلمين، وهو: (لا إله إلا الله) بلا تقدير، فقالوا: لا داعي للتقدير، فنفوا الإلهية عن غير الله تعالى مطلقاً، وهذا قريب من الحق، لكن لا يتم به المعنى اللغوي؛ لأنه لا يتم المعنى اللغوي إلا بتقدير.
فلذلك الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة أن تقدير الكلام: لا إله بحق، أو لا إله حق، أو معبود بحق، فكلها عبارات متقاربة صحيحة، لا إله معبود بحق، أو لا إله حق، أو لا إله بحق إلا الله؛ لأنه ليس المقصود مجرد نفي الآلهة؛ لأنه يوجد في البشر من يعبد آلهة غير الله، وإن كانت آلهة لا تستحق العبادة، لكنها موجودة، إذاً: فنفي الوجود لآلهة غير الله ينافي الواقع؛ لأن هناك من يعبد غير الله ويزعم أنه إله.
وكذلك نفي الماهية، وهو نفي الإلهية مطلقاً دون أن تقيد لا معنى له ولا يتم به المعنى اللغوي.
وكذلك تقدير المتكلمين بأنه لا إله خالق أو رازق أو مدبر، أو لا إله يستحق الربوبية غير الله، فهذا تقدير ناقص؛ لأنه ليس المقصود نفي الربوبية؛ لأن نفي الربوبية عن غير الله مما يعترف به المشركون، يعترفون بأنه لا رب -أي: لا رزاق ولا خالق- إلا الله، إنما جاء النفي في الرد على المشركين، أي: نفي المعبودين من دون الله سبحانه، وهذا هو الذي نزل من أجله القرآن؛ لأن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأول ركائز الهدى: الدعوة إلى توحيد الله في العبادة، وهو الذي نازع فيه المشركون، بل نازعت فيه جميع الأمم التي خالفت الأنبياء، نازعت في طاعة غير الله وفي عبادة غير الله، وجعلت غير الله معبوداً من دون الله، وجعلت غير الله مطاعاً من دون الله، فلذلك جاء القرآن للرد عليهم، ولتقرير الإلهية بمعنى العبودية لله سبحانه وتعالى.
إذاً: إذا قيل: لا إله غيره. فالمعنى: لا إله يعبد ويستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى.
قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز حفظه الله تعليقاً على هذا الكلام من شرح الطحاوية: [ما قاله صاحب المنتخب ليس بجيد، وهكذا ما قاله النحاة وأيده الشيخ أبو عبد الله المرسي من تقدير الخبر بكلمة (في الوجود)، ليس بصحيح؛ لأن الآلهة المعبودة من دون الله كثيرة وموجودة، وتقدير الخبر بلفظ (في الوجود) لا يحصل به المقصود من بيان أحقية ألوهية الله سبحانه وبطلان ما سواها؛ لأن لقائل أن يقول: كيف تقولون: لا إله في الوجود إلا الله، وقد أخبر الله سبحانه عن وجود آلهة كثيرة للمشركين، كما في قوله سبحانه: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [هود:101]، وقوله سبحانه: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً [الأحقاف:28] الآية؟!
فلا سبيل إلى التخلص من هذا الاعتراض، وبيان عظمة هذه الكلمة، وأنها كلمة التوحيد المبطلة لآلهة المشركين وعبادتهم من دون الله إلا بتقدير الخبر بغير ما ذكره النحاة، وهو كلمة (حق)؛ لأنها هي التي توضح بطلان جميع الآلهة وتبين أن الإله الحق والمعبود الحق هو الله وحده، كما نبه على ذلك جمع من أهل العلم، منهم: أبو العباس ابن تيمية ، وتلميذه العلامة ابن القيم وآخرون رحمهم الله.
ومن أدلة ذلك قوله سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]، فأوضح سبحانه في هذه الآية أنه هو الحق، وأن ما دعاه الناس من دونه هو الباطل، فشمل ذلك جميع الآلهة المعبودة من دون الله من البشر والملائكة والجن وسائر المخلوقات.
واتضح بذلك أنه المعبود الحق وحده، ولهذا أنكر المشركون هذه الكلمة وامتنعوا من الإقرار بها؛ لعلمهم بأنها تبطل آلهتهم؛ لأنهم فهموا أن المراد بها نفي الألوهية بحق عن غير الله سبحانه؛ ولهذا قالوا جواباً لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: (قولوا لا إله إلا الله): أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، وقالوا أيضاً: أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:36].
وما في معنى ذلك من الآيات، وبهذا التقرير يزول جميع الإشكال ويتضح الحق المطلوب. والله ولي التوفيق].
قال رحمه الله تعالى: [وليس المراد هنا ذكر الإعراب، بل المراد دفع الإشكال الوارد على النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة، وهو فاسد؛ فإن قولهم: في الوجود ليس تقييداً؛ لأن العدم ليس بشيء، قال تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم:9]، ولا يقال: ليس قوله: (غيره)، كقوله: (إلا الله)؛ لأن (غير) تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد (إلا)، فيكون التقدير للخبر فيهما واحداً، فلهذا ذكرت هذا الإشكال وجوابه هنا].
قال الله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ [الحديد:3]، وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)، فقول الشيخ رحمه الله: (قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء) هو معنى اسمه الأول والآخر].
يقصد بذلك أنها شرح للفظتي (الأول) و(الآخر)، لا يقصد أن المعنى يثبت به اسم، إنما هو شرح لمعنى (الأول) ولمعنى (الآخر).
قوله: [واجب الوجود لذاته] مجاراة للمتكلمين في التعبير؛ لأنه يقصد الرد عليهم، وبعض الأئمة يتسامح في مجاراة المتكلمين في ألفاظهم إذا كان المقصود الرد عليهم، أو بيان باطلهم، أو إزالة الشبه التي يثيرونها، وإلا فكلمة (واجب الوجود) كلمة فلسفية، وهي تعني: الإقرار بوجود الله ضرورة، بمعنى: أن العقل السليم والفطرة لابد من أن ينتهيا إلى ضرورة الإقرار بالموجود الأول الذي أوجد غيره، فمعنى الوجوب هنا: الضرورة العقلية التي تستلزم وتلزم بأنه لابد من وجود خالق لا يسبق بوجود آخر قطعاً للتسلسل.
ومعنى التسلسل هنا تسلسل الموجب؛ لأنَّا لو افترضنا أن إنساناً توهم باطلاً فقال: لابد للخالق الأول من خالق، ثم تقرر في وهمه ذلك؛ فإنه ينشأ وهم آخر بناءً على هذه الشبهة، وهو لابد للخالق أيضاً من خالق، ثم لابد للخالق من خالق، وهكذا، وهذا ممنوع عقلاً، أي أن العقل يقضي بضرورة نفيه ومنعه، إذاً: فلابد من الإقرار بأن الله سبحانه وتعالى الخالق الأول الذي ليس قبله شيء، وهذا الإقرار عقلي يقتضيه العقل، أي أن الله تعالى أول لا بداية له ولا نهاية له، ولا يمكن توهم أو تصور أن للخالق خالقاً، وإن توهم فمن باب ما يدخله الشيطان من شبهات على الناس، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سيأتي إلى: أن الإنسان قد يأتيه الشيطان ويقول له: من خلق الله، فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن هذا أمر تنفيه الفطرة السليمة وينفيه العقل، فإنه لا يمكن أن يرد هذا السؤال؛ لأنه لو ورد لورد مثله في الخالق الأول، ثم هكذا إلى ما لا نهاية، وهذا يمتنع؛ لأنه لا يقطع التصور بهذا.
قال رحمه الله تعالى: [فإنا نشاهد حدوث الحيوان والنبات والمعادن وحوادث الجو كالسحاب والمطر وغير ذلك، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة؛ فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها؛ فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم، وهذه كانت معدومة ثم وجدت، فعدمها ينفي وجودها، ووجودها ينفي امتناعها، وما كان قابلاً للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]].
هذا السؤال الذي ورد في القرآن الكريم هو سؤال الفطرة والعقل السليم، وجوابه بدهي لا يحتاج إلى تكلف، والقرآن نزل لجميع الناس بجميع أفهامهم ودرجات فهمهم، وهو -أي: كتاب الله- منزه عن التعقيد وعن التطويل وعن الغموض، ففيه كامل الوضوح، فمثل هذا السؤال يغني عن جميع فلسفات المتفلسفة وكلام المتكلمين وتكلف المتكلفين في إثبات وجود الله؛ لأنه يخاطب الفطرة والعقل السليم، فكل إنسان يورد هذه السؤال بجد ويتمعن فيه يجد أن الجواب واضح، حيث يقول تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ [الطور:35] ولابد من أن يكون خلقوا من شيء، ولابد أن يكون هذا الشيء له موجد وهو الله سبحانه وتعالى، فالمخلوق لابد له من خالق.
وفي الشق الثاني يقول تعالى: أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، وكل عقل وفطرة سليمين يدركان أنهم ليسوا هم الخالقين، ولا يمكن أن يتأتى ولا أن يتصور أن يكون المخلوق هو الذي خلق نفسه؛ يدرك ذلك المخلوق العاقل، فكيف بغير العاقل؟!
فالمخلوق العاقل يجد ضرورة في نفسه أنه بحاجة إلى غيره، وأن وجوده متوقف على موجد له، وهذا الإنسان قبل أن يعقل نشأ وترعرع بخلق الله ورعايته وقدرته، ثم لما عقل عرف أنه قبل أن يعقل لم يوجد نفسه؛ لأنه لا قدرة له في أمور أقل من الوجود، لا قدرة له في أن يبقى على الحياة، ولا في أن يدفع عن نفسه المرض ولا الفناء، ولا قدرة له في أن يتحكم في أي أمر من الأمور اللاإرادية التي أوجدها الله فيه.
إذاً: فمن باب أولى ألا يتصور أنه خلق نفسه.
فمثل هذه الأسئلة أسئلة مباشرة تمس الفطرة والعقل السليم مباشرة، ولا تحتاج إلى تكلف، لا في الفهم ولا في الجواب.
وجوابها بدهي لا يحتاج إلى كثير تفكير، بخلاف ما يسميه المتكلمون أدلة، أو يسمونه براهين ودلائل على وجود الله، ففيه التكلف كل التكلف، لأنها أدلة تنشأ من شبهات ثم ترد على الشبهات، وفي الغالب أن أي شبهة تنشأ في أمر غيبي لا يمكن أن يكون الجواب عليها إلا بالوحي أو بعقل يسترشد بالوحي، أما بمجرد قوة العقل فيستحيل لعاقل أن يدرك أسرار الغيب.
قال رحمه الله تعالى: [يقول سبحانه: أحدثوا من غير محدث أم هم أحدثوا أنفسهم؟ ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجوداً بنفسه، بل إن حصل ما يوجده وإلا كان معدوماً، وكل ما أمكن وجوده بدلاً عن عدمه وعدمه بدلاً عن وجوده؛ فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له].
ولا نقول: لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية والأدلة الطويلة؛ فإن الخفاء والظهور من الأمور النسبية، فربما ظهر لبعض الناس ما خفي على غيره، ويظهر للإنسان الواحد في حال ما خفي عليه في حال أخرى].
الملحد الذي ينكر وجود الخالق أو ينكر أمراً من الأمور القطعية التي جاء بها الوحي قد يحتاج إلى المقدمات المنطقية والعقلية من أجل أن يقر إذا أراد الله له الهداية، أما المسلم فلا يتأتى منه أن يحتاج إلى المقدمات؛ لأنه مسلم ابتداء، والإسلام معناه الخضوع والتسليم لله سبحانه وتعالى بالتصديق أولاً، ثم بالالتزام والامتثال ثانياً، فإذا كان كذلك فلا يتأتى لمسلم أن يظن أنه يحتاج إلى مقدمات طويلة منطقية تقوي ثقته بوجود الله، أما في الأمور الأخرى فقد يحتاج المسلم إلى أن يعرف بعض العلل وبعض الحكم ليزيد إيماناً.
أما فيما يتعلق بوجود الله فالمسلم مُسلِّم بفطرته وعقله بوجود الله، ولا يحتاج إلى الأدلة المنطقية المعقدة، وإن لجأ إليها فلا بد من أن يكون في قلبه من الشك بقدر ما لديه مما يسميه أدلة، كل مسلم يلجأ إلى الأدلة العقلية والمنطقية المعقدة في إثبات وجود الله فإنه لا بد من أن يكون في قلبه من الشك بقدر ما لجأ إليه من الأدلة والبراهين، وكلما سَلَّم بفطرته وعقله سلم إيمانه ووقر في قلبه الإيمان.
أما غير المسلم أو الشاك أو المضطرب فقد يحتاج إلى الأدلة المعقدة بقدر مستوى تفكيره، وقد يهتدي وقد لا يهتدي، فإنما الهداية بيد الله؛ فإن البراهين لا تغني عمن ختم الله على قلبه.
قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فالمقدمات وإن كانت خفية فقد يسلمها بعض الناس وينازع فيما هو أجلى منها، وقد تفرح النفس بما علمته بالبحث والنظر ما لا تفرح بما علمته من الأمور الظاهرة، ولا شك أن العلم بإثبات الصانع ووجوب وجوده أمر ضروري فطري، وإن كان يحصل لبعض الناس من الشبه ما يخرجه إلى الطرق النظرية ].
استعمال كلمة (الصانع) -كما أسلفنا في درس سابق- إنما هو مجاراة المتكلمين من باب الرد عليهم أو إلزامهم بألفاظهم وقواعدهم، وإلا فالأولى أن يقال: الخالق؛ لأن كلمة (الخالق) أصدق وأقرب، فهي من ألفاظ الشرف وهي أقرب إلى الفطرة والعقل السليم، فالخالق هو المبدع الموجد، وأما الصانع فلفظ مشترك بين الخالق والمخلوق، وإن كانت في حق الخالق إذا أطلقت عليه تليق بجلاله سبحانه، لكنها من الألفاظ التي لم ترد في الشرع، بمعنى أن من أسماء الله الصانع، وإن وردت بمعنى فعل الله سبحانه وتعالى، لكنها ليست من أسماء الله، فالأولى أن يقال: الخالق؛ لأنها من الألفاظ الخاصة بالله سبحانه وتعالى.
وأما إدخال القديم في أسماء الله تعالى فهو مشهور عند أكثر أهل الكلام، وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف، منهم ابن حزم ، ولا ريب أنه إذا كان مستعملاً في نفس التقدم؛ فإن ما تقدم على الحوادث كلها فهو أحق بالتقدم من غيره، لكن أسماء الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به، والتقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى.
وجاء الشرع باسمه الأول، وهو أحسن من القديم؛ لأنه يشعر بأن ما بعده آيل إليه وتابع له، بخلاف القديم. والله تعالى له الأسماء الحسنى لا الحسنة.
قوله: (لا يفنى ولا يبيد): إقرار بدوام بقائه سبحانه وتعالى، قال عز من قائل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].
والفناء والبيد متقاربان في المعنى، والجمع بينهما في الذكر للتأكيد، وهو أيضاً مقرر ومؤكد لقوله: (دائم بلا انتهاء) ].
سنترك الكلام عما ذكره المؤلف في القدر؛ لأن البحث فيه صعب ومتكرر، وسننتقل إلى قوله: (لا تبلغه الأوهام).
قال الله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، قال الجوهري في الصحاح: توهمت الشيء: ظننته، وفهمت الشيء: علمته. فمراد الشيخ رحمه الله: أنه لا ينتهي إليه وهم، ولا يحيط به علم. قيل: الوهم ما يرجى كونه، أي: يظن أنه على صفة كذا، والفهم: هو ما يحصله العقل ويحيط به. والله تعالى لا يعلم كيف هو سبحانه إلا هو سبحانه وتعالى، وإنما نعرفه سبحانه بصفاته، وهو أنه أحد، صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255]، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:23-24] ].
هذه الإشارة التي أشار إليها الإمام الطحاوي رحمه الله ثم شرحها الشارح، وهي قوله: (لا تبلغه الأوهام..) فيها تصريح بأن كل ما خاض فيه الناس من أسماء الله وصفاته بغير ما ورد في الكتاب والسنة والآثار الصحيحة إنما هو أوهام، وهذا هو الحق.
فكل خوض في أسماء الله وصفاته وأفعاله وفي سائر أمور الغيب بما لم يرد في الكتاب والسنة، ولا فيما فهمه أئمة السلف من المفاهيم القطعية لهذه النصوص؛ إنما هو أوهام، والأوهام لا تعتقد، بل هي رجم بالغيب، وهي إساءة أدب في حق الله سبحانه وتعالى، بل هي اتباع للمتشابه وإلحاد في كلام الله وأسمائه وصفاته.
فما تكلم به المتكلمة من الجهمية والمعتزلة، ثم من متكلمي الأشاعرة والماتريدية والكلابية، ومن نحا نحوهم من الذين تكلموا في ذات الله وأسمائه وصفاته بغير ما قاله السلف بناءً على النصوص الشرعية، كل ذلك إنما هو خوض بالأوهام، حيث توهموا أموراً في أذهانهم فجعلوها عقيدة، ولذلك نجد أنهم يسمون أوهامهم علم التوحيد، وهذا هو السائد عند أغلب هؤلاء، تجدهم إذا عرفوا علم التوحيد قالوا: هو الكلام. ويقصدون بالكلام أوهامهم التي توهموها وقالوها بغير حق في الله سبحانه وتعالى.
إذاً: الإشارة إلى الأوهام هنا فيها تأكيد على أن ما قاله الناس في الله تعالى وأسمائه وصفاته من غير ما ورد في النصوص إنما هو توهمات، والتعويل عليه إنما هو تعويل على الوهم الذي لا أصل له، بل هو الباطل.
وقال نعيم بن حماد : من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه.
وقال إسحاق بن راهويه : من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم. وقال: علامة جهم وأصحابه دعواهم على أهل السنة والجماعة ما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة، بل هم المعطلة.
وكذلك قال خلق كثير من أئمة السلف: علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة؛ فإنه ما من أحد من نفاة شيء من الأسماء والصفات إلا يسمي المثبت لها مشبهاً، فمن أنكر أسماء الله بالكلية من غالية الزنادقة القرامطة والفلاسفة، وقال: إن الله لا يقال له: عالم ولا قادر؛ يزعم أن من سماه بذلك فهو مشبه؛ لأن الاشتراك في الاسم يوجب الاشتباه في معناه، ومن أثبت الاسم وقال: هو مجاز -كغالية الجهمية- يزعم أن من قال: إن الله عالم حقيقة، قادر حقيقة؛ فهو مشبه، ومن أنكر الصفات وقال: إن الله ليس له علم ولا قدرة ولا كلام ولا محبة ولا إرادة؛ قال لمن أثبت الصفات: إنه مشبه، وإنه مجسم. ولهذا كتب نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم كلها مشحونة بتسمية مثبتي الصفات مشبهة ومجسمة].
الرافضة -كما هو معلوم- هم أول من قال بالتشبيه والتجسيم كما قالت اليهود، فأول من أعلن التشبيه والتجسيد الكفري الذي استعاذ منه السلف وكفروا أصحابه هم طوائف من الرافضة، كـهشام بن سالم الجواليقي وهشام بن الحكم وداود الجواربي ومن نحا نحوهم، هؤلاء كلهم رافضة، بل كان التشبيه في آخر القرن الثاني الهجري وما بعده لا يعرف إلا في الرافضة، ثم بعد ذلك - أي: في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع - تحولت الرافضة إلى جهمية معطلة وانقسمت فيما بينها، فلما تحولت إلى جهمية معطلة سمت أهل السنة بالحشوية والمشبهة؛ لأنهم أخذوا بمذهب المعتزلة والجهمية، أي: صاروا معتزلة في أصول الاعتقاد.
يشير بهذا إلى أن المؤولة -كمؤولة الأشاعرة ومؤولة الماتريدية والكلابية- يسمون أهل السنة والجماعة بالمشبهة والمجسمة، وقد نبتت نابتة من غلاة الأشاعرة المتأخرين ما فتئت تطلق على أهل السنة لفظ (الحشوية) بأسلوب فيه سخرية ولمز، حتى لأئمة السنة الكبار أهل الحديث المشهورين، بل منهم من تجرأ على متأخري الصحابة وقال: بأن هؤلاء رووا للناس أحاديث الحشوية، ويقصد أحاديث الصفات.
إذاً: ليس الجهمية والمعتزلة الذين يلمزون أهل السنة بذلك فقط، بل المتكلمون من الأشاعرة يقولون لأهل السنة إلى اليوم بأنهم حشوية، ويقولون بأنهم مشبهة ومجسمة، وهذا أيضاً كثر أخيراً عندما بدأت تظهر مؤلفاتهم وبدءوا يقررون مذهبهم مقابل مذهب أهل السنة والجماعة في الآونة الأخيرة.
والخلاصة أن مسألة التشبيه من الألفاظ التي أصبحت تلعب بها الفرق، فالغلاة جداً في التعطيل -كغلاة الجهمية وكالقرامطة والباطنية- يسمون كل من أثبت شيئاً من الأسماء والصفات مشبهاً، حتى إن غلاة الجهمية يسمون المعتزلة مشبهة؛ لأنهم أثبتوا الأسماء.
ثم بعد ذلك تأتي في الدرجة الثانية المعتزلة نفسها، فالمعتزلة تثبت الأسماء وتنكر الصفات، وتخالف المعطلة، بمعنى: أنها تثبت شيئاً، فالمعتزلة يقولون لأهل السنة والجماعة وللماتريدية وللأشاعرة وللكلابية بأنهم مشبهة ومجسمة وحشوية.
وفي الدرجة الثالثة من دون المعتزلة، وهم الذين تأثروا بالمقولات الجهمية في مسألة التأويل، أخذوا جانب التأويل من الجهمية والمعتزلة، وهم المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية والكلابية ومن نحا نحوهم، فهؤلاء -نظراً لأنهم يؤولون بعض الصفات- يقولون لأهل السنة -لأنهم يثبتونها كما أثبتها الله لنفسه وكما أثبتها الرسول صلى الله عليه وسلم له- بأنهم مشبهة وحشوية ومجسمة.
وسيأتي في كلام الشيخ إثبات الصفات؛ تنبيهاً على أنه ليس نفي التشبيه مستلزماً لنفي الصفات].
يعني بذلك أنا إذا قولنا بقول الله تعالى عن نفسه: أنه ليس كمثله شيء؛ فهذا لا يعني أننا ننفي صفاته، بل نثبتها كما أثبتها الله لنفسه، وإذا أثبتنا صفات الله سبحانه وتعالى فلا يعني أنا نقول: إنها تشبه صفات المخلوقات، بل القاعدة هي التي دلت عليها الآية الكريمة: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ؛ فيقاس على هذا بقية الصفات التي وردت في الكتاب والسنة.
قياس التمثيل هو إلحاق الشيء بنظائره التي هي مثله تماماً، وقياس الشمول هو إدخال الشيء الواحد في حكم عام تدخل فيه أشياء أخرى مشتركة، كالحيوانية بين البهائم والإنسان.
قال رحمه الله تعالى: [فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها، ولهذا لما سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والاضطراب؛ لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافؤها، ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60]، مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للمكن أو للمحدث، ولا نقص فيه بوجه من الوجوه -وهو ما كان كمالاً للوجود غير مستلزم للعدم بوجه- فالواجب القديم أولى به].
الأولى أن يقال: فالله سبحانه وتعالى أولى به. يعني: أنَّ كل كمال تقرر الفطر السليمة والعقول السليمة أنه كمال؛ فالله أولى به، لكن هذا يندرج تحت ألفاظ كتاب الله وألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا مما ينبغي أن يعلم؛ لئلا يأتينا جاهل ويقول: أنا أثبت كمالات لله تعالى لم ترد في الكتاب والسنة، فنقول له: لا. فكل كمال تعترف العقول السليمة والفطر المستقيمة بأنه كمال مما اشتملت عليه ألفاظ القرآن وألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالله تعالى؛ فالله أولى به.
قال رحمه الله تعالى: [وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه للمخلوق المربوب المدبر؛ فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، فهو أحق به منه، وأن كل نقص وعيب في نفسه -وهو ما تضمن سلب هذا الكمال- إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات؛ فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الأولى].
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تخلقوا بأخلاق الله) فإذا كانوا ينفون الصفات، فبأي شيءٍ يتخلق العبد على زعمهم؟!].
يظهر لي -والله أعلم- أن أصل العبارة: (ويروي)، يقصد أن هذه الطائفة تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تخلقوا بأخلاق الله)؛ لأن هؤلاء زعموا أن الإنسان قد يرتقي بالارتقاء الكمالي، ويسمون ذلك: الإنسان الكامل تبعاً للفلاسفة اليونانيين وغيرهم الذين زعموا أن الإنسان قد يرتقي إلى درجة توصله إلى الوحدة والحلول والاتحاد بالله تعالى، وهذا ما أشار إليه المؤلف، فهؤلاء جاءوا متأخرين في آخر القرن الثالث الهجري، وكانوا أيضاً لا يعرفون الحديث ولا الآثار، بل هم من أجهل الناس مع شهرتهم عند الناس، من أجهل الناس بالآثار، فكانوا يتلقفون الأحاديث الموضوعة، بل أحياناً يضعون أحاديث من عند أنفسهم كما فعل ابن عربي ، فـابن عربي يسرد بلا سند -بزعمه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحال أنه عن الشيطان، ثم يقول ما شاء، وأحياناً يصل الحديث إلى ثلاثين صفحة أو أربعين، أحاديث لم نعرف مثلها في السنة، بل هناك كتب كاملة، مثل كتاب الوصايا الذي قال عنه ابن عربي الهالك -نسأل الله العافية- بأن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه في المنام وقال له: أخرج هذا للناس.
وقد جعل فيه نوعاً من التلبيس، حيث يبدأ الكتاب بتقرير عقيدة أهل السنة والجماعة، حتى إنَّ من يقرأه من الناشئة أو الجهلة أو المثقفين والمفكرين الذين لا يفقهون العقيدة يقول: هذا بقية الصالحين. حيث يقرر مذهب السلف أكثر مما قرره كثير منهم، ثم يتدرج بالقارئ إلى الكفر الصريح، ويزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بأن يخرج هذا الكتاب للناس.
فهذه الفئة هي التي قالت بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وهي التي نزعت إلى هذه النزعة التي تزعم بأن الإنسان بإمكانه أن يرتقي إلى صفات الإلهية ويتخلق بأخلاق الله تعالى، لا بمعنى الفضائل، لكن بمعنى الوصول إلى القداسة.
وهذا كلام الباطنية والفلاسفة المتأخرين الذين يسمون بالفلاسفة الإسلاميين، وقد نكب بهم الإسلام، وكذلك غلاة الصوفية المتأخرين، فهذا الكلام كثر بعد القرن الثالث في الصوفية وفي الفلاسفة وفي الباطنية على مختلف أشكالهم، كباطنية القرامطة والدروز والإسماعيلية وباطنية إخوان الصفا وغيرهم من فرق الباطنية التي تعددت وكثرت، فكلها فيها نزعات دعوى الارتقاء إلى درجة الكمال الإلهي، أو ارتقاء الإنسان إلى درجة التخلق بصفات الله تعالى، ليس بمعنى أن يأخذ بالصفات الفاضلة، لكن أن يكون على درجة القداسة.
وأول من صرح بمثل هذه المقولات الحلاج حتى زعم أنه هو الله! وأصر على هذا واستحوذ عليه الشيطان، وختم على قلبه حتى أصر على هذه المقولة وهو أمام السيف، وفي آخر لحظة كان يقال له: تب إلى الله، ويلقنه العلماء والقضاة التوبة، ويقول -نسأل الله العافية-: ما في الجبة إلا الله، وكان لابساً جبة. حتى قتل بهذا وتفرق دمه على المقربين إليه؛ لأنهم جاءوا على سبيل التحدي يظنون أنه لن يأتيه الموت، فأتباعه كانوا يزعمون أنه لن يموت، فلما انقطعت رقبته وتلطخوا بدمه أصيبوا بصدمة، وبعضهم رجع، وبعضهم ارتد، وحصلت لهم أمور عجيبة.
النصارى تبعتهم الباطنية والرافضة ونحوهم، واليهود أيضاً تبعتهم المشبهة، فاليهود شبهوا الله بخلقه وزعموا أن الله كالخلق، والنصارى أشركوا من جانب آخر، وهو أنهم شبهوا المخلوق بالله، فنفوا عن الله الأسماء والصفات، لكنهم شبهوا المخلوق بالله، فلذلك عبدوا عيسى على أنه روح الله، وزعموا أنه ابن الله! تعالى الله عما يزعمون.
إذاً: فاليهود تشبه الله بالمخلوقين، والنصارى تشبه المخلوقين بالله، والطوائف التي وقعت في الكفر والضلال إما تبع لليهود وإما تبع للنصارى، وبعضها يجمع بين الأمرين، كغلاة المتصوفة وغلاة الباطنية وغلاة الفلاسفة، يجمعون بين التشبيه من جانب وبين التعطيل من جانب آخر، فيعطلون الله من أسمائه وصفاته التي ثبتت في القرآن والسنة، لكنهم يشبهون الله بخلقه بصفات ابتدعوها من عند أنفسهم.
قال رحمه الله تعالى: [ونفي مشابهة شيء من مخلوقاته له مستلزم لنفي مشابهته لشيء من مخلوقاته، فلذلك اكتفى الشيخ رحمه الله بقوله: (ولا يشبه الأنام). والأنام: الناس، وقيل: الخلق كلهم، وقيل: كل ذي روح، وقيل: الثقلان. وظاهر قوله تعالى: وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ [الرحمن:10] يشهد للأول أكثر من الباقي، والله أعلم].
قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]، فنفي السنة والنوم دليل على كمال حياته وقيوميته.
وقال تعالى: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:1-3]، وقال تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111]، وقال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58]، وقال تعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [غافر:65] .
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام) الحديث.
لما نفى الشيخ رحمه الله التشبيه أشار إلى ما تقع به التفرقة بينه وبين خلقه بما يتصف به تعالى دون خلقه، فمن ذلك: أنه حي لا يموت؛ لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تعالى دون خلقه؛ فإنهم يموتون.
ومنه: أنه قيوم لا ينام؛ إذ هو مختص بعدم النوم والسنة دون خلقه، فإنهم ينامون، وفي ذلك إشارة إلى أن نفي التشبيه ليس المراد به نفي الصفات، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال لكمال ذاته، فالحي بحياة باقية لا يشبه الحي بحياة زائلة، ولهذا كانت الحياة الدنيا متاعاً ولهواً ولعباً، وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64] .
فالحياة الدنيا كالمنام، والحياة الآخرة كاليقظة، ولا يقال: فهذه الحياة الآخرة كاملة، وهي للمخلوق؛ لأنا نقول: الحي الذي الحياة من صفات ذاته اللازمة لها هو الذي وهب المخلوق تلك الحياة الدائمة، فهي دائمة بإدامة الله لها، لا أن الدوام وصف لازم لها لذاتها، بخلاف حياة الرب تعالى، وكذلك سائر صفاته، فصفات الخالق كما يليق به، وصفات المخلوق كما يليق به.
واعلم أن هذين الاسمين -أعني: الحي القيوم- مذكوران في القرآن معاً في ثلاث سور كما تقدم، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى، حتى قيل: إنهما الاسم الأعظم؛ فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه، ويدل القيوم على معنى الأزلية والأبدية ما لا يدل عليه لفظ القديم، ويدل أيضاً على كونه موجوداً بنفسه، وهو معنى كونه واجب الوجود، والقيوم أبلغ من القَيَّام؛ لأن الواو أقوى من الألف، ويفيد قيامه بنفسه باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة.
وهل يفيد إقامته لغيره وقيامه عليه؟ فيه قولان، أصحهما: أنه يفيد ذلك. وهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه؛ لما فيه من المبالغة، فهو سبحانه لا يزول ولا يأفل، فإن الآفل قد زال قطعاً، أي: لا يغيب ولا ينقص ولا يفنى ولا يعدم، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل -ولا يزال- موصوفاً بصفات الكمال.
واقترانه بالحي يستلزم سائر صفات الكمال، ويدل على بقائها ودوامها، وانتفاء النقص والعدم عنها أزلاً وأبداً؛ ولهذا كان قوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] أعظم آية في القرآن، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما يرجع معانيها؛ فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة.
وأما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته؛ فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام].
الحي القيوم من أعظم أسماء الله سبحانه، وقيل: إنهما اسم الله الأعظم، كما يشملان كل كمال يعلمه البشر أو لا يعلمونه، وهذا يستلزم بالضرورة أن أي كمال يتخيله المتخيلون أو ينطق به الناطقون أو يتصوره المتصورون لا يمكن أن يزيد عما في هذين الاسمين.
وهذا فيه إشارة إلى أن الذين خاضوا بمجرد عقولهم وأفكارهم ليزعموا أنهم أتوا بأسماء وصفات من الكمال لله تعالى بأعظم مما جاء في القرآن أو مثله؛ إنما رجموا بالغيب، وأعظم منهم إثماً من زعم أنه يمكن أن يأتي في نفي النقائص بأكثر مما نفى الله عن نفسه من النقائص؛ لأن (الحي القيوم) جاء بعدهما قوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] فجاء النفي بعد الإثبات، والإثبات مفصل والنفي مجمل في عموم كتاب الله تعالى.
ومن أسماء الله الجامعة التي يدخل فيها كل كمال يتوهمه المتوهمون ويتكلم به المتكلمون، أو ما استأثر الله بعلمه في علم الغيب عنده؛ اسم الجلالة (الله)، فهو متضمن كل كمال على الإطلاق، وكذلك (العلي العظيم) يتضمنان كل كمال.
وأسماء الله تعالى كلها كمال، لكن بعضها يستلزم جميع الكمال المتصور وغير المتصور، وبعضها قد يفهم له معنىً من معاني الكمال على إطلاقه.
قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، وقال تعالى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [محمد:38]، وقال تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14] .
وقال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر) الحديث. رواه مسلم .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر