وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فلا زلنا في موضوع الاستغاثة والاستعانة والاستشفاع ومعانيها الشرعية، وما ينافي المعاني الشرعية من المفاهيم والمعاني البدعية.
قال رحمه الله تعالى: سئل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، وفقهم الله لطاعته فيمن يقول ].
من الأشياء التي ينبغي على طلاب العلم أن يتفطنوا لها التنبيه على ما كان عليه سلف هذه الأمة من التأدب مع كل من له قدر، فتلاحظون في صيغة السؤال ما هو سائد عند المسلمين في جميع الأعصار والأمصار إلى وقت قريب، ولا يزال على هذا كثير من طلاب العلم، لكن ظهرت عند بعض الناس مظاهر الجفوة؛ لأسباب كثيرة لسنا بصدد ذكرها، لكن أحب أن أنبه إلى أن مثل هذه الصياغة التي قدم بها السائل لشيخ الإسلام ابن تيمية هي مقتضى الأدب، وينبغي أن ننبه على ذلك، بل يجب على طلاب العلم أمثالكم أن ينبهوا على تربية أبناء المسلمين في هذا العصر على مثل هذا الأدب مع كل مَن مِن حقه الأدب: كالأدب مع الوالدين، والأدب مع الإخوة، والأدب مع طالب العلم، والأدب مع العالم، والأدب مع المسئول ومع الوالي، والأدب مع كل من كان له اعتبار في المجتمع، أو له اعتبار يستحق به أن يكون من أصحاب المقامات، سواء كانت مقامات شرعية، أو مقامات اعتبارية، أو مقامات اجتماعية لها وزنها في العرف العام.. وغيرها.
لذا كان أصحاب المقامات لا بد أن نخاطبهم بقدر مقاماتهم، ولذلك كان خطاب الأنبياء لكبراء القوم فيه شيء من اللين، وشيء من اعتبار المقام كما أرشد الله نبيه موسى عليه السلام في خطابه لفرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44]، فكان توجيه الله عز وجل لأنبيائه ورسله أن يخاطبوا الناس بقدر عقولهم، وأن يخاطبوا الملوك والعظماء بقدر مقاماتهم؛ لأن هذا أدعى للين القلوب ورقتها وقبولها للحق.
ثم بعد ذلك نجد أن هذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يقدر للناس أقدارهم، ولذلك كان يخص المؤلفة قلوبهم بما لا يخص غيرهم من الامتيازات، حتى كبار الصحابة، الامتيازات المادية والاعتبارات والجاه .. وغير ذلك، وخير مثال على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يؤلف قلب أبي سفيان رضي الله عنه في أول إسلامه قال: (من دخل دار
يمكن أن يقول بعض الناس هذه المقالة على مبدأ كثير من الناس، أو كثير من المتعالمين اليوم.
ولذا نجد هذا أيضاً في صور كثيرة من كبار الصحابة والتابعين ومن تبعهم من أئمة الهدى، أعني: التأدب واعتبار المقامات للناس.
مع أن هذا السؤال ليس غريباً، فهو لشيخ الإسلام ابن تيمية ، لكن مع ذلك أقول: إنه قاعدة لكل من أراد أن يتعامل مع الآخر بأن يقدر له قدره.
قد تلاحظون من السؤال شدة التباس الأمر على السائل، وهذا يدل على أن تلبيس أهل الأهواء والبدع على المسلمين قد وقع موقعه في قلوب كثير من العامة في ذلك العصر، فكيف بعصورنا المتأخرة؟!
إذاً: تلبيس أهل الأهواء والبدع على الناس، وقلبهم للحقائق حتى جعلوا الحق باطلاً والباطل حقاً.
والسؤال هنا يجعل القارئ يتردد: هل القصد بالحكم بالكفر على من قال السنة أو على من قال البدعة؟
وعلى أي حال فالسؤال يتعلق بالاستغاثة بالمخلوق، ويدل السؤال على أنه قد وجد في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية من أهل الأهواء والبدع والطرق والفرق والجماعات من جعل الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم من دون الله عز وجل من أساسيات الدين، وجعل الاستغاثة بالمخلوق من أعظم العبادة، حتى إنهم ظنوا أن من أنكر هذا فهو كافر، ولذلك تجد السؤال فعلاً يظهر من خلال سياقه اللبس.
وكما أنه معلوم -كما يقرره الشيخ- أنه لا يجوز الاستغاثة والاستعانة بغير الله عز وجل من باب الدعاء، أو فيما لا يقدر عليه إلا الله.
والسؤال فيما يظهر أنه ليس فيما يقدر عليه المخلوق؛ لأن ما يقدر عليه المخلوق أمر لا يحتاج إلى سؤال، وليس هو محل إشكال؛ لأنه بدهي فطري، فلا معنى أن تقول لأخيك: ناولني القلم، فهذه استعانة، لكن استعانة بما يقدر عليه، وليس فيها أي حرج، ولا يرد فيها أي إشكال، وإنما ورد الإشكال في الأمور البدعية والشركية، والاستعانة بغير الله عز وجل، والاستغاثة بغير الله عز وجل فيما لا يقدر عليه إلا الله، وصرف العبادة لغير الله.
إذاً أقول: هذا الأمر الصريح الشركي في خروجه عن العقيدة والدين قد صار محل إشكال؛ بسبب تلبيس الملبسين من أهل البدع والأهواء.
الحمد لله، قد ثبت بالسنة المستفيضة، بل المتواترة واتفاق الأمة أن نبينا صلى الله عليه وسلم الشافع المشفَّع، وأنه يشفع في الخلائق يوم القيامة، وأن الناس يستشفعون به، يطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم، وأنه يشفع لهم.
ثم اتفق أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر، وأنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد.
وأما الخوارج والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر، ولم ينكروا شفاعته للمؤمنين، وهؤلاء مبتدعة ضلال، وفي تكفيرهم نزاع وتفصيل ].
هذا الكلام كله في الشفاعة يوم القيامة، ولا شك أن الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ثابتة بشروطها، بل له عليه الصلاة والسلام عدة شفاعات ثابتة بشروطها، وبعضها متواتر، كشفاعته لأهل الكبائر، والذي من أنكره فقد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة.
قال رحمه الله: [ وأما من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة، وسواء سمى هذا المعنى استغاثة أو لم يسمه ].
وأما من أقر بما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع من شفاعته والتوسل به .. ونحو ذلك، ولكن قال: لا يدعى إلا الله، وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله لا تطلب إلا منه، مثل غفران الذنوب، وهداية القلوب، وإنزال المطر، وإنبات النبات .. ونحو ذلك، فهذا مصيب في ذلك، بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضاً، كما قال الله تعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ [آل عمران:135]، وقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، وكما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [فاطر:3]، وكما قال تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]، وقال: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] ].
قبل أن يقول الشيخ القول الفصل في موضوع مقدمات الشفاعة هنا، فإنه سيتكلم عن هذا في فصول قادمة كثيرة، وسيأتي قريباً إن شاء الله كل كتاب (التوسل والوسيلة).
لكن أحب أن أنبه على أن الشيخ هنا لم يفصح عن مسألة قد ينساها بعض الناس من خلال قراءة هذا المقطع، ألا وهي: أنه حينما ذكر استشفاع الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنه يقصد استشفاعهم به وهو حي، وهذا أمر معلوم بالضرورة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يستشفعون به وهو ميت، والاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم أنواع كثيرة، لكن أهمها: طلب الشفاعة منه يوم القيامة، وهذا أمر يحدث بشروطه وفي وقته، ولا يحدث قبل القيامة، وكون الخلائق يطلبون منه صلى الله عليه وسلم الشفاعة لهم عند الله حتى يفصل بينهم، وكون أهل الجنة -نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم- يطلبون منه أن يشفع لهم عند ربهم حتى يفتح لهم الجنة، وكونه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته بأن يخرجوا من النار، فكل ذلك من الشفاعات في الآخرة التي لا تحدث في الدنيا، وإنما تحدث يوم القيامة، لكن بشروطها، ولا مزيد عما ورد فيها.
وأما الشفاعة به صلى الله عليه وسلم في الدنيا فهي على نوعين:
الأول: الاستشفاع به عليه الصلاة والسلام وهو حي، بمعنى: أن يطلب منه أن يدعو الله عز وجل، سواء لإنسان بذاته أو للمسلمين عموماً في نفع عام أو نفع خاص، فهذا جائز ومشروع، والصحابة كانوا يفعلونه.
الثانية: الاستشفاع به أو بدعائه وهو ميت، وهذا لا شك أنه من أبواب الشرك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يعد يستجيب لأحد، وهو كغيره من سائر الأموات، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خص ببعض الخصائص، كأن يرد السلام على من سلَّم عليه في أي مكان، فهذه الخصيصة لا دخل لها في مسألة استجابة الدعاء، وإنما هذه خاصة برد السلام فقط.
فإذاً: لا يجوز ولا يشرع، بل من البدع المغلظة وأحياناً من الشرك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستشفاع به وهو ميت، سواء عند قبره، أو بعيداً عن قبره.
هذه في الحقيقة قاعدة عظيمة، لكن فيها غموض، وهي قوله: (فالمعاني الثابتة في الكتاب والسنة يجب إثباتها) فقصده بالمعاني: المعاني العامة المجملة التي إما أن يفهمها عامة الناس، أو يفهمها أهل العلم ويستنبطوها بقواعد وبأصول، وهذه المعاني الثابتة في الكتاب والسنة يجب إثباتها، بمعنى: يجب أن تكون هي المرجع وهي قواعد الدين؛ لأنه ليس المقصود هنا مجرد المعاني اللفظية الفردية؛ لأن هذه قد يتنازع عليها الناس، ولذلك ينبغي أن يتعود طلاب العلم في تبصير الناس في دينهم أن يبصّروهم بمجملات الدين، ولا يدخلون عليهم التفاصيل وتفصّل لهم، ومن هنا أحب أن أنبه كثيراً من أهل العلم الذين يخطئون في تعليم الناس، سواء في المساجد أو في الدروس الخاصة أو في المدارس .. أو غيرها، فيدخلون في تفاصيل قضايا الدين، وهذا في الغالب يكون فيه فتنة على الناس، لذا ينبغي على طلاب العلم أن يُعلّموا الناس الدين بقدر مداركهم، وإذا كانت المجالس فيها العامة والخاصة فينبغي أن تراعى العامة قبل الخاصة، وإذا كانت المجالس فيها طلاب علم وعوام فينبغي أن يراعى العوام قبل طلاب العلم، ولا تتحدث بحديث قد تدخل الآخرين في عماية وشك وحيرة، ولذلك كان السلف يطردون القُصّاص من المساجد؛ لأنهم يحدثون الناس بما لا يعرفون، مع أن أكثر ما يحدثون به قد يكون حقاً.
ومن هنا فهذه الجملة جملة عظيمة جداً، أعني: جملة: (المعاني الثابتة بالكتاب والسنة يجب إثباتها، والمعاني المنفية بالكتاب والسنة يجب نفيها في الجملة) أما إذا دخل التفصيل فقد يكون فيه نزاع، وقد يكون فيه خلاف، وقد يختلف الناس في فهمه .. إلى آخره.
ثم قال: ( والعبارة الدالة على المعاني نفياً وإثباتاً إن وجدت في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجب إقرارها ) يعني: إقرارها كما جاءت، فإن فُهمت فبها ونعمت، وإن لم تفهم فيجب الالتزام بلفظها والتسليم، ولا تكون محل نزاع أو محل نظر ولا ترد عليها الإشكالات؛ لأن إيراد الإشكالات على معاني ألفاظ الكتاب والسنة إنما هو في الغالب فيه نوع من المشاقّة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
إذاً أقول: هذه قواعد عظيمة في الحقيقة ينبغي أن نستفيد منها، وأن نعرف ما يترتب عليها من فروع جيدة ومفيدة لنا في حياتنا العلمية والعملية.
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وهو قول أبي طالب ؛ ولهذا قال العلماء المصنفون في أسماء الله تعالى: يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله، وأن كل غوث فمن عنده، وإن كان جعل ذلك على يدي غيره فالحقيقة له سبحانه وتعالى ولغيره مجاز.
قالوا: من أسمائه تعالى المغيث والغياث، وجاء ذكر المغيث في حديث أبي هريرة قالوا: واجتمعت الأمة على ذلك.
وقال أبو عبد الله الحليمي : الغياث هو المغيث، وأكثر ما يقال: غياث المستغيثين، ومعناه: المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه ومجيبهم ومخلّصهم، وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا). يقال: أغاثه إغاثة وغياثاً وغوثاً، وهذا الاسم في معنى المجيب والمستجيب، قال تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9]، إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة أحق بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر ].
والاستغاثة برحمته استغاثة به في الحقيقة، كما أن الاستعاذة بصفاته استعاذة به في الحقيقة، وكما أن القسم بصفاته قسم به في الحقيقة، ففي الحديث: (أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق)، وفيه (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).
ولهذا استدل الأئمة فيما استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق بقوله: (أعوذ بكلمات الله التامة). قالوا: والاستعاذة لا تصلح بالمخلوق ].
يقصد الشيخ أن كلمات الله من كلامه الذي هو صفته، وعلى هذا فإن كلام الله غير مخلوق؛ لأن صفات الله غير مخلوقة جزماً، ولذلك ورد الاستعاذة بكلمات الله التامة، ولا يجوز الاستعاذة بالمخلوق، فلو كانت كلمات الله مخلوقة ما استعاذ بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا جازت الاستعاذة بها، ولو كانت كلمات الله مخلوقة بما فيها القرآن أو شيء من كلمات الله مخلوق ما جاز الاستعاذة بها؛ لأنه لا يجوز الاستعاذة إلا بالله أو بصفاته، فدل ذلك دلالة قاطعة على أن كلمات الله هي صفته وليست مخلوقة.
قال رحمه الله تعالى: [ وكذلك القسم، قد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وفي لفظ: (من حلف بغير الله فقد أشرك) رواه الترمذي وصححه، ثم قد ثبت في الصحيح: الحلف بعزة الله، ولعمر الله .. ونحو ذلك مما اتفق المسلمون على أنه ليس من الحلف بغير الله الذي نهي عنه ].
وأما بالمعنى الذي نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أيضاً مما يجب نفيها، ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضاً كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها.
ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي : استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق.
وقول الشيخ أبي عبد الله القرشي المشهور بالديار المصرية: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون.
وفي دعاء موسى عليه السلام: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك.
ولما كان هذا المعنى هو المفهوم منها عند الإطلاق، وكان مختصاً بالله، صح إطلاق نفيه عما سواه، ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوّز مطلق الاستغاثة بغير الله، ولا أنكر على من نفى مطلق الاستغاثة عن غير الله.
وكذلك الاستغاثة أيضاً فيها ما لا يصلح إلا لله، وهي المشار إليها بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فإنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله، وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه، وكذلك الاستنصار، قال الله تعالى: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [الأنفال:72]، والنصر المطلق: هو خلق ما به يُغلب العدو ولا يقدر عليه إلا الله.
ومن خالف ما ثبت بالكتاب والسنة فإنه يكون إما كافراً، وإما فاسقاً، وإما عاصياً، إلا أن يكون مؤمناً مجتهداً مخطئاً فيثاب على اجتهاده، ويُغفر له خطؤه، وكذلك إن كان لم يبلغه العلم الذي تقوم عليه به الحجة، فإن الله يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وأما إذا قامت عليه الحجة الثابتة بالكتاب والسنة فخالفها، فإنه يُعاقب بحسب ذلك، إما بالقتل، وإما بدونه، والله أعلم.
سمى الله آلهتهم التي عبدوها من دونه شفعاء كما سماها شركاء في غير موضع ].
يريد الشيخ هنا أن يقرر قضية التبست على كثير من أهل البدع والأهواء والافتراق، وخاصة أصحاب التوسلات البدعية، ألا وهي أنهم زعموا أن هناك فرقاً بين عبادة من يقدّسونهم وبين جعلهم وساطة بينهم وبين الله، فجعلوا الوساطة جائزة، والعبادة المباشرة ممنوعة، فهو رحمه الله يريد أن يقرر أن مسألة اتخاذ الشفعاء من دون الله عز وجل بجميع الأسماء، سواء سمّيت وساطة أو سمّيت شفاعة أو سمّيت وجاهة أو سمّيت ولاية أو سمّيت بأي اسم من الأسماء، وما دام دخل فيها اتخاذ العبد من دون الله عز وجل وسيلة فهذه هي البدعة وهو المحرم، وقد يكون شركاً، وهذا هو الذي رده الله على طائفة المشركين قولهم فيه، وهم الذين قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].
إذاً: الشرك الذي وقع فيه المشركون قديماً وحديثاً على نوعين:
منه شرك مباشر وهو عبادة غير الله عز وجل بقصد العبادة والتقديس والتعظيم.
والآخر وهو الملبس والذي وقع فيه أكثر الذين وقعوا في الشرك من هذه الأمة، وهو: اتخاذ الوسائط من دون الله، سواء من الأولياء الأحياء أو الأموات، أو الأشخاص أو الأشجار أو الأحجار أو المشاهد أو العباد، فكل هذه الوسائل أو الوسائط سواء كان على سبيل التقديس أو على سبيل التوسط أو على سبيل التبرك البدعي .. أو نحو ذلك، فكله يدخل في الوسائط الممنوعة، وأغلبها من الصور الشركية، وقد يكون من الصور البدعية المغلّظة.
واتخاذ الشفعاء بزعم أنهم ليسوا هم المعبودين من دون الله غير صحيح؛ لأنهم في الحقيقة قد وجهوا لهم العبادة من حيث ظنوا أنهم سيشفعون لهم عند الله عز وجل، والشفاعة كما هو معلوم لا تجوز إلا بشروطها وضوابطها، وليست على نحو ما يفعله أهل البدعة، وليس في الدنيا الآن شفاعة تدخل في باب الشفاعة في الآخرة أو تكون وسيلة أو ممهدة للشفاعة في الآخرة، وإنما الشفاعة لا تأتي إلا في وقتها، أي: يوم القيامة.
فإذاً: كل ما سموه شفاعة أو وساطة .. أو غيره إنما هو نوع من الشرك.
قال رحمه الله تعالى: [ سمى الله آلهتهم التي عبدوها من دونه شفعاء، كما سماها شركاء في غير موضع، فقال في يونس: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18]، وقال: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر:43-44]، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ [الروم:12-13].
وجمع بين الشرك والشفاعة في قوله: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:22-23]. فهذه الأربعة هي التي يمكن أن يكون لهم بها تعلق:
الأول: ملك شيء ولو قل.
الثاني: شركهم في شيء من الملك، فلا ملك ولا شركة ولا معاونة يصير بها نداً، فإذا انتفت الثلاثة بقيت الشفاعة فعلقها بالمشيئة.
وقال: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا [النجم:26]، وقال: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا [الإسراء:56]، وقال في اتخاذهم قرباناً: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، وقال: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأحقاف:28] ].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر