أما بعد:
فإن شاء الله سيتكلم شيخ الإسلام رحمه الله في هذا المقطع عن حقيقة الألوهية، ويذكر قواعد هامة في الألوهية، وهو رحمه الله قد تكلم أولاً في حقيقة الألوهية وعلاقتها بالربوبية، وأيضاً ذكر بعض أنواع الألوهية، ثم قعد قواعد جيدة في حقيقة الألوهية سيذكرها مفصّلة بعد ذلك.
وبعد: فهذه قاعدة جليلة في توحيد الله، وإخلاص الوجه والعمل له، عبادة واستعانة، قال الله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران:26].. الآية.
وقال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53].
وقال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17].
وقال تعالى في الآية الأخرى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107].
وقال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
وقال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123].
وقال تعالى: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
وقال تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن:1].
وقال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19].
وقال تعالى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر:38].. الآية.
وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:22-23].
وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:56-57].
وقال تعالى: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88].
وقال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا * الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا [الفرقان:58-59].. الآية.
وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ [البينة:5].. الآية، ونظائر هذا في القرآن كثير، وكذلك في الأحاديث، وكذلك في إجماع الأمة، ولا سيما أهل العلم والإيمان منهم، فإن هذا عندهم قطب رحى الدين كما هو الواقع ].
يقصد الشيخ بهذا أن توحيد الله عز وجل بالربوبية والإلهية، وإخلاص الوجه والعمل له، عبادة واستعانة، وكل هذا جماعها قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وهو قطب رحى الدين التي من أجلها بعث الله الرسل، وهي الغاية الكبرى التي يسعى إليها كل موحد وكل مخلص لله عز وجل، أعني: تحقيق التوحيد بمعانيه جملة وتفصيلاً، وأن هذا هو ما أطلقت عليه النصوص والأحاديث وإجماع الأمة.
وذلك أن العبد، بل كل حي، بل وكل مخلوق سوى الله، هو فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة، والمضرة هي من جنس الألم والعذاب؛ فلا بد له من أمرين:
أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع ويلتذ به.
والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع من دفع المكروه. وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية، فهنا أربعة أشياء:
أحدها: أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
والثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.
والثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد، بل ولكل حي لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها، وأما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر.
إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه ].
أي: أن هذه الوجوه التي أشار إليها الشيخ تعتبر قواعد لتحقيق التوحيد وإخلاص العمل لله عز وجل، فهي تمثل قواعد ذهبية عظيمة ترجع إليها جميع مسائل توحيد الربوبية والإلهية.
قال رحمه الله تعالى: [ أحدها: أن الله تعالى هو الذي يحب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه؛ فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب، فالأول: من معنى الألوهية، والثاني: من معنى الربوبية، إذ الإله: هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالاً وإكراماً، والرب: هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة.. وغيرها.
وكذلك قوله تعالى: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
وقوله: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123].
وقوله: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4].
وقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58].
وقوله تعالى: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ [الرعد:30].
وقوله: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل:8-9] فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين ].
أي: مطلوب من العبد أن يحقق توحيد العبودية أو توحيد الإلهية لله عز وجل، وهذا هو الأول من معنى الألوهية، والثاني من معنى الربوبية، ذلك بأن الله عز وجل هو الذي يقدر النافع، وهو الذي يقدر المكروه، والنزعة إلى جلب النافع ودفع المكروه نزعة فطرية غريزية تجعل الإنسان يلجأ إلى من يقدر على ذلك، لذا فكل إنسان لا بد أن يميل وينزع إلى جلب النافع ودفع المكروه، وإلى دفع الضار وكراهية المكروه، ثم هذه النزعة لا بد للإنسان فيها أن يلجأ إلى من يقدر على جلب النافع ويقدر على النفع به، وهو الله عز وجل، وكذلك الذي يقدر على دفع المكروه، وهو الله عز وجل، الذي خلق المكروه ابتلاء ويقدر على دفعه.
فهذه المسائل يجتمع فيها معنى الربوبية ومعنى الإلهية، أما معنى الربوبية فهو واضح بأن الله عز وجل هو الذي خلق الأشياء النافعة والضارة، وهو الذي أوجدها وقدرها قدراً، وأما معنى الألوهية فهو أن يعرف العبد أنه لا يقدر على جلب النفع مطلقاً ودفع الضار مطلقاً إلا الله عز وجل، ومن هنا يتحقق على هذا الأساس توحيد الإلهية، وهو الاستعانة بالله عز وجل وطلبه سبحانه دون سواه.
وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم ولا لذة بدون ذلك بحال، بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكاً، ونحشره يوم القيامة أعمى.
ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول: لا إله إلا الله، رأس الأمر.
فأما توحيد الربوبية الذي أقر به الخلق، وقرره أهل الكلام؛ فلا يكفي وحده، بل هو من الحجة عليهم، وهذا معنى ما يروى: (يا ابن آدم خلقت كل شيء لك، وخلقتك لي، فبحقي عليك ألا تشتغل بما خلقته لك، عما خلقتك له) .
واعلم أن هذا حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، كما في الحديث الصحيح الذي رواه معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدري ما حق الله على عباده؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم ألا يعذبهم).
وهو يحب ذلك، ويرضى به، ويرضى عن أهله، ويفرح بتوبة من عاد إليه، كما أن في ذلك لذة العبد وسعادته ونعيمه، وقد بينت بعض معنى محبة الله لذلك وفرحه به في غير هذا الموضع.
فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه، إلا الله سبحانه، ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل طعام المسموم: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الأنبياء:22] فإن قوامهما بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلهاً حقاً؛ إذ الله لا سمي له ولا مثل له، فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها هذا من جهة الإلهية. وأما من جهة الربوبية فشيء آخر كما نقرره في موضعه ].
اشتملت الآية على تقرير الإلهية والربوبية، والذين حصروها على معنى الإلهية أخطئوا، والذين حصروها على معنى الربوبية أيضاً أخطئوا، فقوله عز وجل: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، تعني: أنه لو كان في الأرض والسماوات وجميع الكون معبود غير الله لفسدت؛ لأن العبد لا يمكن أن يتوجه إلى إلهين، وإذا توجه إلى إلهين توزعت رغبته وتنازعت العبودية به أكثر من معبود، ومن هنا تفسد حقيقة التوجه ويفسد الإخلاص.
أيضاً: أنه لو كان هناك أحد يستحق العبادة غير الله عز وجل لكان هذا المستحق يستحق كل معاني العظمة والجلال، وهذا يتنافى مع تدبير الكون.
كذلك: كما أن الآية تضمنت على معنى الربوبية، فإنه لا يمكن أن يكون للخلق مدبر غير الله عز وجل، ولو كان هناك تدبير مع الله عز وجل في الكون لتعارض وتناقض التدبير، ومن هنا يفسد الكون.
ومفهوم الآية: أن معنى الإلهية بني على معنى الربوبية، فإن كان معنى الآية: أنه لا رب للخلق غير الله عز وجل، فكذلك لا معبود غير الله عز وجل، ولا معبود بحق إلا الله.
فإذاً: الآية قد تضمنت نفي الربوبية والإلهية عن غير الله، وهي متلازمة وتتضمن المعنيين بوضوح.
قال رحمه الله تعالى: [ واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً، ليس له نظير فيقاس به، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة.
فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه ].
كأنه يشير بهذا إلى أنه ما دام أن الله عز وجل قد جبل العبد على الكدح، وأنه لا بد أن يتعب وينصب في هذه الحياة، فكونه ينصب فيما يرضي الله عز وجل خير له في مآله وعاجل أمره من أن ينصب في غير مرضاة الله عز وجل، وعلى هذا فإن توجه العبد إلى الربوبية ثم توجهه إلى الإلهية توجهاً ضرورياً بمقتضى الفطرة ومقتضى الشرع ومقتضى العقل السليم؛ لأن الإنسان لا يستطيع أبداً أن يجلب لنفسه السرور الكامل في الدنيا والآخرة، ولا يستطيع أيضاً أن يسلم من الكدح والتعب والنصب إطلاقاً إلا بالتوجه إلى الله عز وجل، فإذا كان الأمر كذلك فخير له في الدنيا والآخرة أن يكدح فيما يرضي الله عز وجل، والعكس بالعكس.
قال رحمه الله تعالى: [ ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده، ويضره ذلك ].
يعني بذلك: أن العبد إذا تعلق بغير الله عز وجل فإن تعلقه لا بد أن ينتهي، مهما كان سروره وتعلقه بغير الله، فإن سروره مؤقّت، فإذا وجد الإنسان أو العبد الذي يعلّق أعماله وسروره بغير الله عز وجل شيئاً من السرور المؤقت من متاع الدنيا وشهواتها، أو الركون إلى أحد من الخلق.. أو نحو ذلك، فإن ذلك لا يدوم، بمعنى: أنه سيأتي يوم من الأيام يسأم من هذه اللذة وينتقل إلى لذة أخرى.. وهكذا.
وأمر آخر: لو افترضنا أن هذا الإنسان بقي طول عمره متلذذ بشيء من الملذات التي يصرف بها عمله إلى غير الله، عز وجل من الأصنام والأوثان والمحبوبات والشهوات والمطعومات والمشروبات.. وغيرها، فإن ذلك لا بد أن ينتهي؛ لأن هذا الإنسان لا يخلد في هذه الحياة، وعلى هذا لا يمكن أن يكون السرور الدائم والنعيم الدائم والهدى الدائم إلا باللجوء إلى الله عز وجل، والتنعم بعبادته والتلذذ بمناجاته، وهذا هو السرور الدائم الذي يبقى مع العبد في دنياه وآخرته، ولو جاءه ما يشوبه في الدنيا من التقصير.. أو غيره فإن العبد سيلقى جزاءه في الآخرة حتماً، أما السرور واللجوء والاستئناس والاطمئنان إلى غير الله عز وجل فهو مؤقّت، ويشوبه شيء من الحذر وترقب العجز والموت والهرم.. وغير ذلك من الأمور، ثم إن الغالب أن الإنسان لا يدوم له سرور، وإذا سُر بشيء انتهى بنكد، ثم قد يسر بشيء ويمل منه فينتقل إلى شيء آخر، وهذه طبيعة الإنسان.
واعلم أن هذا الوجه مبني على أصلين:
أحدهما: على أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن، لا كما يقول من يعتقد من أهل الكلام ونحوهم: إن عبادته تكليف ومشقة!
وخلاف مقصود القلب لمجرد الامتحان والاختبار، أو لأجل التعويض بالأجرة كما يقوله المعتزلة.. وغيرهم، فإنه وإن كان في الأعمال الصالحة ما هو على خلاف هوى النفس، والله سبحانه يأجر العبد على الأعمال المأمور بها مع المشقة، كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ [التوبة:120] .. الآية، وقال صلى الله عليه وسلم لـعائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نصبك) فليس ذلك هو المقصود الأول بالأمر الشرعي، وإنما وقع ضمناً وتبعاً لأسباب ليس هذا موضعها، وهذا يفسر في موضعه ].
يريد الشيخ هنا أن يبين أن حقيقة العبادة لله عز وجل إذا توافر فيها الإخلاص والاستقامة والخشوع.. وغير ذلك من الأمور التي تجلب قوة الإيمان واليقين في القلب، وهي في حقيقتها لذة وليست نصباً، والنصب أمر خارجي عارض، بمعنى: أن الإنسان قد ينصب ويتعب في بعض العبادات، كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن ليس المقصود هنا مجرد التعب بالبدن؛ لأن التعب هذا تعب عارض، لذا فأول النعيم ما يجده العبد من اليقين ومن قوة الإيمان ومن لذة المناجاة لله عز وجل، فمن حقق العبادة بأوصافها الحقيقية لا يجد المشقة التي يستشعرها الناس، بل يجد اللذة والقوة واليقين، ويجد المتعة في الأعمال وإن كانت شاقة ظاهراً، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم -وهو أعظم من حقق العبادة لله عز وجل، وهو أخشع الخاشعين لله- يقول إذا حزبه أمر: (أرحنا يا
أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حبب إلي من دنياكم: الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة) فهذه الصلاة مع أن فيها نوعاً من المشقة النسبية، كالوضوء والركوع والسجود وطرد للنوم والكسل، بل وطرد للعوارض التي يتعب الإنسان في طردها من وساوس الشيطان والأفكار والأوهام والإصرار على الخشوع والمداومة عليه، وكل ذلك متاعب جسمية ونفسية، لكن مع ذلك يجد فيها الإنسان الموقن -إذا توافرت فيه شروط الإخلاص واليقين والخشوع- اللذة، وعند ذلك تنتفي المشقة.
إذاً: المشقة أمر عارض وليست في أصل الأعمال، بل الأعمال تنسجم مع طبيعة ما رتّب الله على الإنسان في جسمه ونفسه وروحه وقلبه، وسواء كانت هذه الأعمال ظاهرة أو قلبية، فكلها في الأصل ينسجم معها القلب والروح والنفس، وبذلك يسعد الإنسان سعادة تامة، ومن هنا تنتفي المشقة التي يتصورها كثير من الناس.
قال رحمه الله: [ ولهذا لم يجئ في الكتاب والسنة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح: أنه تكليف كما يطلق ذلك كثير من المتكلمة والمتفقهة، وإنما جاء ذكر التكليف في موضع النفي، كقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84]، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]أي: وإن وقع في الأمر تكليف، فلا يكلف إلا قدر الوسع، لا أنه يسمي جميع الشريعة تكليفاً، مع أن غالبها قرة العيون وسرور القلوب، ولذات الأرواح وكمال النعيم، وذلك لإرادة وجه الله والإنابة إليه، وذكره وتوجه الوجه إليه، فهو الإله الحق الذي تطمئن إليه القلوب، ولا يقوم غيره مقامه في ذلك أبداً، قال الله تعالى: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65] فهذا أصل ].
عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟! ألم يبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟! قال: فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه سبحانه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه. وهو الزيادة).
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله في الجنة لم يعطهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وإنما يكون أحب إليهم؛ لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره، فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب، فكلما كان الشيء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له، وتنعمه به أعظم. وروي أن يوم الجمعة يوم المزيد، وهو يوم الجمعة من أيام الآخرة، وفي الأحاديث والآثار ما يصدق هذا، قال الله تعالى في حق الكفار: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ [المطففين:15-16]فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب، ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات، ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم منه تعالى.
وهذان الأصلان ثابتان في الكتاب والسنة، وعليهما أهل العلم والإيمان، ويتكلم فيهما مشايخ الصوفية والعارفون، وعليهما أهل السنة والجماعة، وعوام الأمة، وذلك من فطرة الله التي فطر الناس عليها ].
يقصد بالأصلين هنا:
أولاً: أن الإيمان بالله عز وجل هو غذاء الروح والقلب، بمعنى: أن الإنسان يجد فيه القوة والسعادة والطمأنينة والأمن، بل وكل معاني السعادة التي يسعى إليها الناس ويطمحون إليها، وهذا في الدنيا.
ثانياً: أنه بعبادة الله عز وجل يحصل النعيم في الآخرة بنوعيه: التنعم بالمخلوقات، والنعيم بما يسعد الله به عباده برؤيته سبحانه، نسأل الله أن يمتعنا جميعاً بذلك.
فهذان الأصلان يغفل عنهما كثير من الناس، وكثير من الذين تكلموا عن مسائل التكليف والعبادة والأحكام، ولا نجد إدراك هذا بشكل واضح إلا عند بعض الأئمة، بل عند أئمة السنة، ولـشيخ الإسلام رحمه الله في هذا قصة ملخصها تدل على إدراكه لهذا المعنى وسعيه إلى هذا، وهو أنه كان له ورد طويل يقوله في يومه، وفي يوم من الأيام كان معه تلاميذ ومنهم ابن القيم ، ويظهر لي أنهم كانوا في مهمة يريدون أن يذهبوا إليها، لكنه بعد الصلاة -أي: شيخ الإسلام - جلس طويلاً يقول ورده، فنسي من حوله حتى ارتفعت الشمس، وطال عليهم الوقت، واستحوا أن يقولوا له شيئاً، وهو مستمر في اللجوء إلى الله عز وجل، ولما التفت فطن أنه قد نسيهم فقال: هذا غذائي الذي أتغذى به. يعني: أنه انسجم وسمت روحه واطمأن قلبه بهذه العادة حتى نسي شغله وحبس الناس من حوله، فهذا يعتبر أنموذجاً للشعور في التغذي بعبادة الله عز وجل.
قال رحمه الله: [ وقد يحتجون على من ينكرها بالنصوص والآثار تارة، وبالذوق والوجد أخرى، إذا أنكر اللذة فإن ذوقها ووجدها ينفي إنكارها، وقد يحتجون بالقياس في الأمثال تارة، وهي الأقيسة العقلية ].
فهذا الوجه يقتضي التوكل على الله والاستعانة به ودعاءه ومسألته دون ما سواه، ويقتضي أيضاً محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، وحاجة العبد إليه في هذه النعم، ولكن إذا عبدوه وأحبوه وتوكلوا عليه من هذا الوجه، دخلوا في الوجه الأول، ونظيره في الدنيا من نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولاً، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولاً حتى يطلبه ويشتاق إليه.
والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه، ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم في الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شيء من هذا؛ فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إحسانه ].
واعلم أن كل من أحب شيئاً لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سبباً لعذابه، ولهذا كان الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله يمثل لأحدهم كنزه يوم القيامة شجاعاً أقرع يأخذ بلهزمته، يقول: أنا كنزك، أنا مالك.
وكذلك نظائر هذا في الحديث: (يقول الله يوم القيامة: يا ابن آدم، أليس عدلاً مني أن أولي كل رجل منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟)وأصل التولي الحب، فكل من أحب شيئاً دون الله ولاه الله يوم القيامة ما تولاه، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً، فمن أحب شيئاً لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد أو فقد، فإن فقد عُذِّب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة، وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء، وكل من أحب شيئاً دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته، فصارت المخلوقات وبالاً عليه إلا ما كان لله وفي الله، فإنه كمال وجمال للعبد، وهذا معنى ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه)رواه الترمذي.. وغيره ].
وهذان الوجهان في المخلوقات نظير العبادة والاستعانة في المخلوق، فلما قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]كان صلاح العبد في عبادة الله واستعانته، وكان في عبادة ما سواه، والاستعانة بما سواه مضرته وهلاكه وفساده ].
وكذلك من أحب إنساناً لشجاعته أو رياسته أو جماله أو كرمه، فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة، ولولا التذاذه بها لما أحبه، وإن جلبوا له منفعة كخدمة أو مال، أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو -ولو بالدعاء أو الثناء-، فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك، وعبيد المالك، وأجراء الصانع، وأعوان الرئيس، كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، لا يعرّج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم، إلا أن يكون قد عُلِّم وأُدِّب من جهة أخرى، فيدخل ذلك في الجهة الدينية، أو يكون فيها طبع عدل، وإحسان من باب المكافأة والرحمة، وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه، وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه، وقسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات؛ ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً.
إذا تبين هذا ظهر أن المخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وإن كان ذلك قد يكون عليك فيه ضرر إذا لم يراع العدل، فإذا دعوته فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه ].
الشيخ هنا قد استثنى أكثر من مرة، قال: إلا إذا كان لله، أو كان العمل لله، أو كانت المحبة لله، فيستثني من هذا علاقات الناس أو علاقات المؤمنين فيما بينهم، والتي أصلها المحبة في الله؛ لأنه قصد به وجه الله، فالإنسان قد يحب عبداً أو إنساناً آخر لما فيه من الخير والخصال الطيبة، فهذه المحبة لله داخلة في إخلاص العمل لله عز وجل، ولذلك فهذه قد يسعى فيها الإنسان إلى نفع أخيه احتساباً وابتغاء وجه الله عز وجل، لكن ليس هذا عليه علاقات أكثر الناس، بل علاقات أكثر الناس مبنية على المنافع وعلى المصالح، ولذلك تجد الناس يتهافتون على من لهم عنده مصلحة، سواء كانت مادية أو معنوية، فإذا انقطعت وانتهت هذه المصلحة، كأن يكون صاحب منصب فعُزل عن منصبه أو تقاعد أو قلّت موارده المالية، انفض الناس من حوله، وهذا ما يقصده الشيخ، وعليه فقس علائق الناس بالأشياء وحبهم لها وتعلقهم بها، فقد تكون لأغراض ترجع إلى مصالحهم ومنافعهم، ولذلك الشيخ استثنى فقال: إنما كان القصد فيه وجه الله، يقصد التحاب في الله، وما بين المسلمين والمتحابين في الله من نفع بعضهم لبعض حسبة لطلب الأجر من الله سبحانه.
لكن قد يقول قائل: أليست المحبة الدينية يحصل للعبد بها انتفاع؟
فنقول: نعم سينتفع العبد من هذه المحبة، وذلك بالأجر من الله عز وجل يوم القيامة، وهذا يرجع إلى إخلاص العبادة لله؛ لأن الله عز وجل أمر بالتحاب بين المؤمنين، وجعله من أسباب الثواب، فالمنفعة التي ترجع إلى إخلاص العمل لله عز وجل ترجع إلى طلب الثواب من الله عز وجل، وهذه هي المنفعة التي فطر الله الناس عليها وأمرنا بطلبها، وليس فيها حرج.
أيضاً: قد يقول قائل: إن العباد لا يحبون بعضهم بعضاً إلا لمنفعة تحصل لهم، سواء كانت دينية أو دنيوية، فنقول: هذا صحيح، يعني: بمعنى أن الناس لا بد أن يسعوا إلى منفعة لهم، سواء كانت دينية أو دنيوية، لكن كلام الشيخ يشعر بذم الوجه الآخر، فأقول: إنه يميز الوجه الذي يقصد به المنافع العاجلة أو الدنيوية أو الشهوية، والمنافع الحقيقة التي هي طلب الأجر من الله عز وجل، فيما يحققه الإنسان بعلاقته بالآخرين أو بإخوانه في الله.
قال رحمه الله تعالى: [ والرب سبحانه يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك، وذلك منفعة عليك بلا مضرة، فتدبر هذا، فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك، فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول، كما أنه لا يقدر عليه، ولا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم، وكما لا تخفهم فلا ترجهم، وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله، وارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله، وكن ممن قال الله فيه: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [الليل:17-20].
وقال فيه: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:9].
قال الله تعالى: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ [الملك:20-21].
والنصر يتضمن دفع الضرر، والرزق يتضمن حصول المنفعة، قال الله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4].
وقال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [القصص:57].
وقال الخليل عليه السلام: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ [البقرة:126].. الآية.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟) بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم ].
فهذه خلاصة الوجوه أو القواعد التي ذكرها الشيخ رحمه الله.
هذه أيضاً قاعدة عظيمة، وهي عبارة عن خلاصة لما سبق، ولذلك كان الأولى حتى تتسلسل هذه المعاني العظيمة في نفس القارئ أن تكون هذه هي القاعدة العاشرة أو الوجه العاشر، والله أعلم.
الجواب: ليس المقصود مفهوم العبارة، فالعبارة لا تتم إلا ببقيتها، وإنما المقصود تعليق الأمر على الغيب الذي لا يعلمه العبد، بمعنى: إن كان في سابق علمك كذا.
وأما عبارة الإيجاب فغير لائقة في حق الله عز وجل؛ لأن الله لا يوجب عليه شيء، إلا إذا كان ورد فيه نص، يعني: أن كل ما يعبر به عن الحقوق التي كتبها الله على نفسه لعباده أو بعض عباده، لا ما ينبغي أن يعبّر بالوجوب على الله أو بالالتزام، وإنما يعبر عنها كما وردت؛ لأن الله لا يوجب عليه العباد شيئاً، وكونه أوجب على نفسه شيئاً لا يعني أن نعبر بالوجوب على الله إلا ما ورد فيه نص؛ لأن فيه سوء أدب مع الله، والسلف قد أنكروا على المعتزلة قولهم: يجب على الله كذا، مع أنهم ما قصدوا الوجوب الشرعي، وإنما قصدوا أن الله ألزم نفسه بذلك، وأنها من سنن الله الكونية.
الجواب: الطيب من أوصاف الله عز وجل وليس من أسمائه، وأما المطلّب فليس من أسماء الله عز وجل.
الجواب: نعم، فمسألة التقسيم هذه أمور اصطلاحية ترجع إلى استقراء المعاني واستقراء الألفاظ، والتوحيد أصلاً هو توحيد الله عز وجل لا ينقسم، لكن من الناحية العلمية التنظيرية لا شك أننا نجده أقساماً عديدة، فالخبر عن أسماء الله عز وجل هو توحيد الأسماء، والخبر عن صفات الله هو توحيد الصفات، والخبر عن أفعال الله هو توحيد الأفعال، وما يتعلق بالربوبية هو توحيد الربوبية، وما يتعلق بالعبادة لله عز وجل يسمى توحيد العبادة أو الألوهية، ويمكن أن تقسم التوحيد إلى أكثر من ذلك أيضاً، وقد يصل إلى عشرة أقسام أو أكثر؛ لأنك إذا أخذت مفردات العبادة فستجد كلها توحيداً، فتوحيد التوكل معناه: وحّدت التوكل على الله عز وجل، وتوحيد الإنابة واليقين هو توحيد توجه الإنسان إلى الله عز وجل، وتوحيد الربوبية يمكن أن نقول: هو توحيد الخلق، توحيد التدبير لله عز وجل، فهو خالق الخلق، توحيد الرزق؛ لأنه لا رازق إلا الله.. وهكذا ليس هناك مانع في التقسيم، فتقسيم التوحيد تقسيم اصطلاحي علمي فني، وهو نتيجة لاستقراء نصوص التوحيد، فتجد أن هناك أشياء تتعلق بإثبات الربوبية، ويمكن أن هذا يسمى بتوحيد الربوبية، وأشياء تتعلق بالصفات الإلهية يمكن أن تسمى بتوحيد الإلهية، ونصوص تتعلق بإثبات صفات الله عز وجل يمكن أن نسميها بتوحيد الصفات، وأسماء الله يمكن أن نسميها بتوحيد الأسماء، وأفعال الله عز وجل يمكن أن نسميها بتوحيد الأفعال، لكن الأقسام الرئيسية للتوحيد ثلاثة: الربوبية، وهذا واضح جداً، الإلهية، وهذا واضح جداً، الأسماء والصفات وهذا واضح جداً، يمكن أيضاً اختصار أنواع التوحيد إلى اثنين: الربوبية، والإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات في الربوبية من وجه، وفي توحيد الإلهية من وجه آخر، وأغلب الأسماء والصفات تدخل في توحيد الربوبية.
الجواب: في الحقيقة أن العبارة فيها إشكال، لكن الذين أطلقوها من أهل العلم قصدوا بتقديس الروح إعلاء الروح إلى عليين، أو إلى أعلى المنازل في الجنة، وليس المقصود بالتقديس التعظيم، والأولى اجتناب العبارة مع إحسان الظن بمن قالها.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر