أما بعد:
فقد تناولنا في الدرس الماضي في فتاوى شيخ الإسلام الموضوع الأول وهو متعلق بمصادر الدين، وكأن الشيخ رحمه الله راعى -كما ذكرت سابقاً- أن يبدأ بما يتعلق بمصادر الدين، يعني: ما أول ما ينبغي أن يقرر فيما يتعلق بأصول الدين؟ ثم بعد ذلك انتقل إلى الموضوع الثاني أو الرسالة الثانية في الجماعة والفرقة، وهو الموضوع الذي سنتناوله الآن، وقد كان الكثير من مصنفي العقائد والسنن من السلف رحمهم الله يبدءون عقائدهم غالباً بموضوع الاعتصام بالكتاب والسنة والنهي عن الفرقة، وهذا مدخل جيد في التأصيل؛ ليتبين للقارئ أن الجماعة مطلب عظيم من مطالب الدين، وأصل كبير من أصول الإسلام، وأن الاعتصام بالكتاب والسنة يعني الحفاظ على الجماعة وعدم الفرقة، وأنه لا يستقر للناس عقيدة ولا دين إلا بالجماعة، فمن فارق الجماعة في الاعتقاد فقد خرج عن السنة، ومن فارق الجماعة في العمل فقد شذ، والشذوذ هلكة، وصاحب الشذوذ إلى النار، نسأل الله العافية.
ومن هنا كان من المناسب بعد الكلام عن مصادر الدين أن يذكر الشيخ الرسالة المتعلقة بالجماعة والنهي عن الفرقة.
قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13].
أخبر سبحانه أنه شرع لنا ما وصى به نوحاً والذي أوحاه إلى محمد، وما وصى به الثلاثة المذكورين، وهؤلاء هم أولوا العزم المأخوذ عليهم الميثاق في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7]، وقوله: مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ [الشورى:13]، فجاء في حق محمد باسم: (الذي)، وبلفظ (الإيحاء)، وفى سائر الرسل بلفظ: (الوصية).
ثم قال: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ . وهذا تفسير الوصية و( أن ): المفسرة التي تأتي بعد فعل من معنى القول لا من لفظه، كما في قوله: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ [النحل:123]، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، والمعنى: قلنا لهم: اتقوا الله، فكذلك قوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ [الشورى:13] في معنى: قال لكم من الدين ما وصى به رسلاً، قلنا: أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، فالمشروع لنا هو الموصى به والموحى، وهو: أَقِيمُوا الدِّينَ [الشورى:13]، فأقيموا الدين مفسر للمشروع لنا، الموصى به الرسل، والموحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فقد يقال: الضمير في (أقيموا) عائد إلينا، ويقال: هو عائد إلى المرسل، ويقال: هو عائد إلى الجميع، وهذا أحسن، ونظيره: أمرتك بما أمرت به زيداً أن أطع الله، ووصيتكم بما وصيت بني فلان أن افعلوا، فعلى الأول: يكون بدلاً من (ما) أي: شرع لكم (أن أقيموا) وعلى الثاني: شرع (ما) خاطبهم، (أقيموا) فهو بدل أيضاً، وذكر ما قيل للأولين، وعلى الثالث: شرع الموصى به (أقيموا).
فلما خاطب بهذه الجماعة بعد الإخبار بأنها مقولة لنا، ومقولة لهم، علم أن الضمير عائد إلى الطائفتين جميعاً، وهذا أصح إن شاء الله ].
يعني: إلى الرسل والمرسل إليهم.
قال رحمه الله: [ والمعنى على التقديرين الأولين يرجع إلى هذا، فإن الذي شرع لنا هو الذي وصى به الرسل، وهو الأمر بإقامة الدين، والنهي عن التفرق فيه، ولكن التردد في أن الضمير تناولهم لفظه، وقد علم أنه قيل لنا مثله، أو بالعكس، أو تناولنا جميعاً.
وإذا كان الله قد أمر الأولين والآخرين بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، وقد أخبر أنه شرع لنا ما وصى به نوحاً، والذي أوحاه إلى محمد، فيحتمل شيئين:
أحدهما: أن يكون ما أوحاه إلى محمد يدخل فيه شريعته التي تختص بنا، فإن جميع ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم قد أوحاه إليه من الأصول والفروع، بخلاف نوح وغيره من الرسل، فإنما شرع لنا من الدين ما وصوا به من إقامة الدين، وترك التفرق فيه، والدين الذي اتفقوا عليه هو الأصول، فتضمن الكلام أشياء:
أحدها: أنه شرع لنا الدين المشترك وهو الإسلام والإيمان العام، والدين المختص بنا وهو الإسلام والإيمان الخاص.
الثاني: أنه أمرنا بإقامة هذا الدين كله المشترك والمختص، ونهانا عن التفرق فيه
الثالث: أنه أمر المرسلين بإقامة الدين المشترك، ونهاهم عن التفرق فيه.
الرابع: أنه لما فصل بقوله: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الشورى:13] بين قوله: مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا [الشورى:13] ، وقوله: وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى [الشورى:13] أفاد ذلك.
قال بعد ذلك: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران:19]، فأخبر أن تفرقهم إنما كان بعد مجيء العلم الذي بين لهم ما يتقون، فإن الله ما كان ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون. وأخبر أنهم ما تفرقوا إلا بغياً، والبغي مجاوزة الحد، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: الكبر والحسد؛ وهذا بخلاف التفرق عن اجتهاد ليس فيه علم، ولا قصد به البغي، كتنازع العلماء السائغ، والبغي إما تضييع للحق، وإما تعد للحد، فهو إما ترك واجب، وإما فعل محرم، فعلم أن موجب التفرق هو ذلك ].
هنا أحب أن أنبه على أن وجه الاستشهاد في مسألة الجماعة وعدم الفرقة، وإن كان واضحاً، لكن التأكيد عليه يبين سبب اختيار هذا المقطع في قاعدة الجماعة والفرقة: قوله تعالى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ [الشورى:13]، فتضمن بالضرورة أن هذا الدين لا يقام إلا بالاجتماع عليه، ودليل ذلك أن الله عز وجل نهى عن التفرقة بعد الأمر بإقامة الدين، فلا يمكن أن يقام الدين مع التفرق لاسيما وأن الدين قد قام على الأمر بالاجتماع، وأن أكثر أصول الدين وفروعه لا يمكن أن تكون على الوجه الحق الذي يرضاه الله عز وجل إلا بالاجتماع، ثم إن الدين هو السنة، والسنة لا تكون إلا بالاجتماع عليها؛ لأن الناس لو سلكوا مسالك عدة في السنة لصارت أدياناً وليست ديناً واحداً، ولو اغتر الناس على ما هم عليه من بدع وأهواء وفرقة، وادعوا كلهم أنهم أهل السنة ما استقام هذا؛ لأن الله عز وجل أمر بالالتزام بالحق، والحق والدين واحد، ثم قال: وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، فدل دلالة واضحة على أن المقصود هنا هو الأمر بالجماعة؛ لأنه لا يمكن أن يقام الدين إلا بالاجتماع عليه، ولذلك نهى عن التفرق بعد الأمر بإقامة الدين.
وهذا فيه أيضاً رد على كثير من أصحاب الشعارات المعاصرة، ممن -أحياناً- يدّعون بأنهم يدْعون إلى الإسلام والسنة، ففيه رد عليهم حينما زعموا أنه ليس على الأمة الآن أن تجتمع على أي شعار ولو تفرقت عقائدها وأصولها، وكانت على مختلف الطرائق والمناهج التي تخالف السنة، بل إن بعضهم ربما يدعو إلى غير السنة زعماً منه أن السنة أصبحت تُفَرِّق! وأنه ليس على المسلمين أن يجتمعوا على شعار عام أو أن يرفعوا شعار السنة، وما عرفوا أن الحق لا يكون إلا بالسنة، وأن الناس لا يجتمعون إلا على الحق، وأن الله عز وجل لم يأمر بالاجتماع إلا على الحق الذي هو السنة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالاستمساك بالسنة ولو خالف المخالفون، وأن من خالف السنة لا يجوز الاجتماع معه إلا على مصالح عامة، أما في الدين والدعوة فلا يجوز ذلك.
ليس المقصود بالموسوية ملة موسى عليه السلام، وإنما المقصود أتباع موسى عليه السلام من اليهود الذين ابتدعوا مع العلم، بينما العيسوية تعني: الابتداع مع المجاهرة، إذاً فالموسوية رمز لمن ابتدع في الدين من العلماء مع العلم والبصيرة، وهذا إما كبراً وإما هوى وإما حسداً، والعيسوية: هم النصارى الذين عبدوا الله على جهل، وهذا فيه إشارة إلى العباد، أعني: عباد هذه الأمة الذين ظهرت عندهم نزعات البدع والأهواء لجهلهم في الدين، حتى صارت هذه النزعات بذور الصوفية فيما بعد، وأصبحت الآن طرقاً ابتليت بها الأمة، بل ودخل فيها فئام من الأمة أو من المسلمين، ربما يكونون في كثير من البلاد الإسلامية هم الأكثر، وأغلب هؤلاء على دين العيسوية.
قال رحمه الله: [ حتى يبقى فيهم شبه من الأمتين اللتين قالت كل واحدة: ليست الأخرى على شيء، كما نجد المتفقه المتمسك من الدين بالأعمال الظاهرة، والمتصوف المتمسك منه بأعمال باطنة، كل منهم ينفي طريقة الآخر، ويدعي أنه ليس من أهل الدين، أو يعرض عنه إعراض من لا يعده من الدين، فتقع بينهما العداوة والبغضاء.
قوله: (أن الله أمر بطهارة القلب) إشارة إلى أعمال القلوب من المحبة لله عز وجل والخشية، ورجاء الثواب منه واليقين .. ونحو ذلك من الأعمال القلبية.
وقوله: (وأمر بطهارة البدن) تشمل الطهارة الحسية التي هي التنزه والتطهر بالماء، وتطهير الثياب والظهور بالمظهر اللائق في العبادة كما أمر الله عز وجل، كما أنها أيضاً تشمل طهارة الأعمال، أعني: كون الأعمال تكون صادقة ومبنية على البر والتقوى، وهذا من علامات الطهارة الظاهرة.
قال رحمه الله: [ وكلا الطهارتين من الدين الذي أمر الله به وأوجبه، قال تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [المائدة:6].
وقال: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108].
وقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].
وقال: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
وقال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [المائدة:41].
وقال: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28].
وقال: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33].
فنجد كثيراً من المتفقهة والمتعبدة إنما همته طهارة البدن فقط، ويزيد فيها على المشروع اهتماماً وعملاً، ويترك من طهارة القلب ما أمر به إيجاباً أو استحباباً ولا يفهم من الطهارة إلا ذلك، ونجد كثيراً من المتصوفة والمتفقرة إنما همته طهارة القلب فقط حتى يزيد فيها على المشروع اهتماماً وعملاً، ويترك من طهارة البدن ما أمر به إيجاباً أو استحباباً.
فالأولون يخرجون إلى الوسوسة المذمومة في كثرة صب الماء، وتنجيس ما ليس بنجس، واجتناب ما لا يشرع اجتنابه، مع اشتمال قلوبهم على أنواع من الحسد والكبر، والغل لإخوانهم، وفي ذلك مشابهة بينة لليهود.
والآخرون يخرجون إلى الغفلة المذمومة، فيبالغون في سلامة الباطن حتى يجعلون الجهل بما تجب معرفته من الشر الذي يجب اتقاؤه من سلامة الباطن، ولا يفرقون بين سلامة الباطن من إرادة الشر المنهي عنه، وبين سلامة القلب من معرفة الشر المعرفة المأمور بها، ثم مع هذا الجهل والغفلة قد لا يجتنبون النجاسات، ويقيمون الطهارة الواجبة مضاهاة للنصارى ].
وقال تعالى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:4].
وقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ [الجاثية:16].
وقال تعالى في موسى بن عمران مثل ذلك.
وقال: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105].
وقال: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159].
وقال: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:30-32]؛ لأن المشركين كل منهم يعبد إلهاً يهواه، كما قال في الآية الأولى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى:13]، وقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:51-53].
وسبب الفرقة ترك حظ مما أمر العبد به والبغي بينهم.
ونتيجة الجماعة رحمة الله ورضوانه وصلواته وسعادة الدنيا والآخرة وبياض الوجوه.
ونتيجة الفرقة عذاب الله ولعنته وسواد الوجوه وبراءة الرسول صلى الله عليه وسلم منهم.
وهذا أحد الأدلة على أن الإجماع حجة قاطعة، فإنهم إذا اجتمعوا كانوا مطيعين لله بذلك مرحومين، فلا تكون طاعة لله ورحمته بفعل لم يأمر الله به، من اعتقاد أو قول أو عمل، فلو كان القول أو العمل الذي اجتمعوا عليه لم يأمر الله به، لم يكن ذلك طاعة لله ولا سبباً لرحمته، وقد احتج بذلك أبو بكر عبد العزيز في أول (التنبيه) نبه على هذه النكتة ].
يظهر لي أن هذا من كلام الخلال المشهور بغلام الخلال، وقد توفي سنة (363هـ)، وهو من أئمة السنة ومن علماء الحنابلة، وله مواقف مشهودة ضد البدع وأهلها، كما أنه من مؤصلة المذهب الحنبلي من حيث التأصيل العقدي والتأصيل الفقهي.
قال صلى الله عليه وسلم فى الحديث المشهور في السنن من رواية فقيهي الصحابة عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهما: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)، وفى حديث أبي هريرة المحفوظ: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم) ].
هذه الأمور من قواعد الدين العظمى التي قد تساهل فيها كثير من الناس، أو تساهلوا في تقريرها وفي العمل بها وربما في اعتقادها؛ لذا فإن كثيراً من الناس يجهل هذه المعاني، ويظنها من السنة أو من فروع الدين أو أنها من مناهج السلف التي قد لا تصلح لكل زمان.. إلى آخر ذلك من الظنون التي تخالف أصول الحق؛ وهذه القواعد مما أمر الله بها جميع المرسلين والأمم، ولا يمكن أن يستقيم للأمة دين، وأن تكون لها قوة، وأن تسلم من الأهواء والفرقة إلا بهذه الأصول الثلاثة: الإخلاص، والمناصحة لولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين.
قال رحمه الله: [ فقد جمع في هذه الأحاديث بين الخصال الثلاث: إخلاص العمل لله، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، وهذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده، وتجمع الحقوق التي لله ولعباده، وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة.
وبيان ذلك أن الحقوق قسمان: حق لله، وحق لعباده، فحق الله أن نعبده ولا نشرك به شيئاً كما جاء لفظه في أحد الحديثين، وهذا معنى إخلاص العمل لله كما جاء في الحديث الآخر.
وحقوق العباد قسمان: خاص وعام، أما الخاص فمثل: بر كل إنسان والديه، وحق زوجته وجاره، فهذه من فروع الدين؛ لأن المكلف قد يخلو عن وجوبها عليه، ولأن مصلحتها خاصة فردية.
وأما الحقوق العامة فالناس نوعان: رعاة ورعية، فحقوق الرعاة مناصحتهم، وحقوق الرعية لزوم جماعتهم، فإن مصلحتهم لا تتم إلا باجتماعهم، وهم لا يجتمعون على ضلالة، بل مصلحة دينهم ودنياهم في اجتماعهم واعتصامهم بحبل الله جميعاً، فهذه الخصال تجمع أصول الدين.
وقد جاءت مفسرة في الحديث الذي رواه مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم). فالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله تدخل في حق الله وعبادته وحده لا شريك له، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم هي مناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعتهم، فإن لزوم جماعتهم هي نصيحتهم العامة، وأما النصيحة الخاصة لكل واحد واحد منهم بعينه، فهذه يمكن بعضها ويتعذر استيعابها على سبيل التعيين ].
والمناصحة لعامة المسلمين تعني أن يحرص المسلم على أن ينشر الخير بينهم، وألا يكون ساعياً إلى إشاعة الذل بينهم، بل يحرص أو يهتم بما يصلح أحوال المسلمين بقدر ما يستطيعه؛ لأن من الصعب كما يقول الشيخ رحمه الله: أن يقوم بواجب النصيحة لكل فرد مسلم، لكن مقتضى النصيحة ما يمكن أن يصل نفعه لكل فرد وأنت جالس كالدعاء لعموم المسلمين، وكالاهتمام بشئونهم بالنصح لهم نصحاً عاماً يصل إلى أفرادهم ولو لم تعلمهم أو تدركهم، فقد تنفع المسلم في أقصى الدنيا بكلمة طيبة أو برسالة أو بكتاب تبعثه أو بشريط أو بدعاء، أو بنفع عام من المنافع العامة التي ربما تكون الوسائل متاحة لها الآن أكثر من أي زمن مضى، كان من الصعوبة في الماضي أن يستطيع المسلم أن ينفع مسلماً بينه وبينه الصحاري البعيدة والبحار والقفار، لكن الآن بحمد الله يستطيع كل مسلم أن ينفع عموم المسلمين بشتى الوسائل، وكما قلت: ولو لم يكن من ذلك إلا الدعاء لكان في ذلك خير كثير، مع أن فرص أعمال البر الكثيرة أتيحت الآن جداً، فمن هنا يستطيع المسلم أن يحقق معنى النصيحة لعامة المسلمين والاهتمام بشئونهم وبرعاية مصالحهم، وبأعمال البر ولا يحتقر منها شيئاً.
ونسأل الله للجميع التوفيق والسداد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر