وبه نستعين. باب فضل الإسلام، وقول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، وقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ [يونس:104] الآية، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28] ].
قبل أن ننتقل إلى الأحاديث نتأمل المعاني التي أشار إليها وإن لم يذكرها شيخ الإسلام في هذه الآيات، وتندرج تحت فضل الإسلام، وعندما تأملت هذه الآيات تذكرت ما اتسم به هذا الشيخ الإمام الجليل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب من دقة في الفقه واستنباط المعاني الشرعية من النصوص، سواء ما يتعلق بالعقيدة أو ما يتعلق بالأحكام، ولا يظن الناس أن مؤلفات الشيخ فيها شيء من العموم وعدم العمق، أو قد يقول قائل عن جهل بحقيقة هذا الإمام: إن الشيخ تميّزت مؤلفاته بشيء من السطحية! أقول: لا، إن إيراده للنصوص على هذا النحو يدل على فقه عظيم، ويذكرني فقهه واستنباطه وإشارته إلى المعاني بمنهج البخاري رحمه الله، فإنه يتميز بالعمق والمنهجية في استنباط المعاني الشرعية والقواعد العظمى من النصوص بأيسر أسلوب، والشيخ هنا لم يذكر الأمور التي استنبطها في فضل الإسلام من هذه النصوص بل تركها للقارئ، ولكن مجرد أن بوّب وجاء بها تحت باب فضل الإسلام فكأنه بذلك وجّه القارئ إلى استنباط فضل الإسلام من هذه النصوص، ولو تأملنا هذه الثلاث الآيات لوجدنا أكثر من ثنتي عشرة مسألة في فضل الإسلام:
الفائدة الأولى: كمال هذا الدين، بحيث لا يحتاج الناس إلى مصادر أخرى ولا إلى ابتداع أمور ليثبتوها من عند أنفسهم؛ لأن الله عز وجل قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، وهذا من أبرز خصائص الدين وفضل هذا الدين، والذي هو الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص إلى قيام الساعة، بخلاف الأديان السابقة فقد اعتراها النقص بتقصير أهلها، وبأن الله لم يتكفل بحفظها، فوقع فيها التغيير والتبديل ثم النسخ.
الفائدة الثانية: يستنبط من قوله تعالى: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3]، أن الله عز وجل أتم بهذا الدين النعمة على العباد، وهذا من أبرز فضائل الدين، وهو أن الله أنعم على هذه الأمة، وأتم به النعمة، فتحقق بالإسلام تمام النعمة من الله عز وجل على هذه الأمة.
الفائدة الثالثة: أن من فضل الإسلام أنه يحقق رضا الله عز وجل، فالله رضيه لعباده، وأي شيء أعظم من دين رضيه الله لعباده؟ قال الله تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
هذه ثلاث فوائد في فضل الإسلام في آية واحدة، مع عدم التعمّق والتطويل، ولو طوّلنا لأخذنا فوائد كثيرة، لا شك أن الشيخ يشير إليها؛ لأن كونه أدرج هذه الآية في فضل الإسلام دليل ظاهر على أنه أدرك بفقهه وبعمق فهمه رحمه الله هذه المعاني.
وفي الآية الثانية استنبط فوائد في فضل الإسلام:
الأولى: أن هذا الدين هو الذي لا يقبل الله من الناس سواه، قال عز وجل: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ [يونس:104] فقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي [يونس:104] دل على أن هذا الدين هو الذي يقبله الله، وأنه الذي لا شك فيه، ولا يمكن أن يتطرق الشك إلى شيء من هذا الدين.
الثانية: أن من فضل الإسلام أنه يحقق التوحيد الخالص، قال الله تعالى: فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [يونس:104] فهو يحقق التوحيد الخالص، وينفي الشرك، ويحقق العبادة الحقة والتوحيد والدين الذي رضيه الله للعباد، وهذا كله من فضائل هذا الدين.
وفي الآية الثالثة ذكر عدة فوائد: الأولى: أن من فضل هذا الإسلام أنه يتحقق به التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [الحديد:28]، ويتحقق به الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه من غايات الدين ومن أسباب السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة، فهي فضائل لهذا الدين.
الثانية: أن الله عز وجل وعد هذه الأمة بمضاعفة الأجر: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد:28].
الثالثة: أن الله ينوّر به للعبد الطريق المستقيم، فينوّر به القلوب وينوّر به أحوال العبد في الدنيا والآخرة، حتى يمشي على مثل البيضاء في الوضوح والبيان لما تكفّل الله به من حفظه لهذا الدين وبيانه، وإقامة الحجة فيه، فلذلك فُضل هذا الدين بكونه نوراً يمشي به العباد وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ [الحديد:28]، وهو هذا الدين.
الرابعة: أن الله عز وجل يحقق لمن أسلم وحقق إسلامه المغفرة لذنوبه وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28].
هذه معان عظيمة مما يُستنبط من هذه الآيات في فضل الإسلام، ومسألة فضل الإسلام لها عدة اعتبارات، فضل الإسلام من حيث ذاته.. فالإسلام بذاته فاضل؛ لأن الله عز وجل جعله خيار الأديان وخاتم الأديان وأفضل الأديان، وناسخاً للأديان ومهيمناً عليها، ثم فضل الإسلام بفضائل هذه الأمة بما منحه الله عز وجل لهذه الأمة من الفضائل، ثم فضل الإسلام على الأفراد أيضاً، فالإسلام هو طريق النجاة، وهو طريق السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، وليس المقصود بفضل الإسلام خصائصه فقط، بل المقصود الخصائص والسمات والميزات التي تميزه عن غيره، ثم الفضائل والأجور والخصائص التي يتميز بها أتباعه، ثم النتائج التي وعدها الله للمستمسكين بالإسلام في الدنيا والآخرة، ففضله في نفسه، وفضله على غيره، والفضل الذي يحصل به للعباد.. كل ذلك يدخل في معنى فضل الإسلام.
وفيه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة)، وفيه تعليقاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة) انتهى ].
في هذه الأحاديث أشار الشيخ إلى بعض ما ورد في الآيات، وإلى زيادة وردت في الأحاديث.
ففي الحديث الأول: إشارة إلى أن من فضائل الإسلام مضاعفة الأجور، وهذا خاص لهذه الأمة في جميع أعمالها الصالحة، وهذا لم يكن موجوداً في الأمم الأخرى، ولذلك فإن اليهود والنصارى اعترضت، فبيّن الله عز وجل أن ذلك من فضله، وفضل الله يؤتيه من يشاء.
وفي الحديث الثاني: أشار إلى فضل الأجور وإلى أمر آخر وهو تقدم هذه الأمة على الأمم الأخرى، سبقاً في الفضل والهبات من الله عز وجل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
كما أن الإسلام تميز بفضائل أخرى ذكرها في الحديث الآخر المعلّق، وهي سماحة الإسلام ويسر الدين، فالإسلام أسمح الأديان في دفع المشقة عن العباد، وفي مضاعفة الأجور لهم، ومغفرة الذنوب، وفي جلب التيسير لجميع أحكام الدين، حتى عند غير الضرورات والحاجات، وحتى عند وجود مجرد المشقة، فإن الدين يسر، وهذا من فضل الإسلام كما أشار إليه الشيخ.
تضمنت هذه الآثار المعاني السابقة التي منها مضاعفة الأجور وزيادة تكفير الخطايا والذنوب لهذه الأمة، وكذلك تضمنت هذه الآثار معانٍ أخرى وهي أن هذه الأمة يكثر فيها أهل الحزم ورجاحة العقل، كما قال: يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم، بمعنى أن هذه الأمة فيها طوائف من العُبّاد الذين هم على السنة، وأهل السنة هم الظاهرون من العلماء والعُبّاد والقائمون بأمر الله عز وجل.. وهؤلاء تميّزوا بالحزم والعقل -وهو الكيس- في أخذ هذا الدين والتوجه إلى الله عز وجل بالعبادة والخشية والإنابة والزهد، فلذلك فُضّلت هذه الأمة بمضاعفة الأجور لوجود أمثال هؤلاء القدوة فيهم، وهذا من فضل الإسلام، ولذلك كان من وسائل حفظ هذا الدين الذي جعله الله عز وجل من أسباب فضله وتميزه على الأديان الأخرى.. بقاء هذه الطائفة أهل الكيس والعقل والدين والقدوة، كما أنهم معتزون بهذا الدين وهم ظاهرون لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم إلى أن تقوم الساعة، كل هذا من وسائل حفظ الدين وهو آخر الأديان وأفضلها وأبقاها حتى ولم يبق على الأرض أحد من البشر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر