الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورضي الله عن صحابته والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وإن أعظم الفقه في الدين هو الفقه الأكبر كما سماه السلف الصالح، أعني: فقه العقيدة والأصول والمسلمات والثوابت التي يقوم عليها الدين، لاسيما وأن المتأمل لحال المسلمين اليوم يجد أن حاجتهم إلى تثبيت العقيدة وأصول الدين ملحة، بل ضرورية؛ لأنها اختلت عند الكثيرين وجهلوها، ثم لأن العقيدة هي التي تحكم علاقة المسلم بربه عز وجل، وعلاقته بالخلق على منهج سليم يرضي الله سبحانه وتعالى، ويحقق له السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة والنجاة.
ثم أصول الدين والمسلمات هي الرابط الأبقى والأقوى بين المسلمين في كل زمان إلى قيام الساعة، كما أنها أيضاً الرابط فيما بينهم وبين الأمم الأخرى والبشرية جمعاء، وهي الرابط السليم بين عالم الشهادة وعالم الغيب، لأنها جاءت من لدن حكيم خبير.
ومن هنا تأكدت ضرورة تثبيت العقيدة في قلوب المسلمين، وغرسها بين أجيال الأمة، ومن هذا المنطلق أيضاً كان لابد على علماء الأمة خاصة وطلاب العلم عامة، أن تتظافر جهودهم عبر وسائل الإعلام للقيام بهذا الواجب.
ونظراً لأنه في بداية كل علم لابد من الوقوف على مصطلحاته، فلابد هنا أن نستهل هذا الدرس بالتعريف بأهم مصطلحات الموضوع أو مصطلحات العقيدة وما يرادفها.
أولاً: العقيدة لغة: مأخوذة من العقد وهو الشد والربط والإحكام بقوة، ولذلك فمما هو جارٍ على ألسنة الناس تسمية كل أمر ذي بال بأنه عقد؛ فإجراء النكاح عقد، وإجراء البيع عقد، وهكذا سائر العقود والعهود تسمى عقداً، مما يدل على أهميتها.
فالعقيدة تنبني على اليقين والعقد الذي يستقر في القلب، ويسلم به العقل ويحكم المشاعر والعواطف.
أما العقيدة في الاصطلاح فلها معنيان: معنى عام يشمل كل عقيدة، العقيدة الحق أو العقيدة الباطلة عند أهل الباطل، وهي تعني الإيمان واليقين الجازم الذي لا يتطرق إليه شك لدى معتقده.
أما العقيدة الإسلامية، فهي تعني: اليقين والتسليم والإيمان الجازم بالله عز وجل، وما يجب له من التوحيد والعبادة والطاعة، ثم بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر وسائر أصول الإيمان، ثم أركان الإسلام، والقطعيات الأخرى، وهي كثيرة، كالشفاعة والرؤية، والأمور العملية التي هي من قطعيات الدين؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، والحب في الله والبغض في الله، ونحو ذلك مما يندرج في الواجبات، وفي العلاقات بين المسلمين كحب الصحابة رضي الله عنهم، وحب السلف الصالح، وحب العلماء وحب الصالحين، ونحو ذلك مما هو مندرج في أصول الاعتقاد وثوابته.
وعلى هذا فإن أمور العقيدة هي: كل ما ثبت بالشرع، فسائر ما ثبت من أمور الغيب هو من أصول العقيدة، والأخبار التي جاءت في كتاب الله وصحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي من العقيدة، والثوابت والمسلمات العلمية أو العملية داخلة في أصول الاعتقاد، ومن ذلك التزام شرع الله عز وجل في الجملة، والتزام أصول الفضائل والأخلاق الحميدة ونفي ما يضاد ذلك، كل هذا داخل في مسمى الأصول والقطعيات، التي هي في مجموعها تسمى العقيدة.
فالعقيدة: هي الأسس التي يقوم عليها الدين، اعتقادية وعلمية وعملية، وهي بمثابة الأسس للبناء، ولذلك جاء وصفها في الشرع بالأركان، وهي من أسس الدين والعقيدة، فأسس الإسلام تسمى أركاناً، وكذلك بقية الأصول.
وهذه الأسس ليست محصورة بأركان الإيمان وأركان الإسلام، بل حتى أن أصول الإيمان وأركان الإسلام لها قواعد هي من قطعيات الدين، فمثلاً: الإيمان بالملائكة مبدأ قد يقر به الكثيرون، لكن قد يوجد عند بعض الجاهلين أو بعض أصحاب الشبهات والأهواء من ينكر ملكاً من الملائكة، كما كان من بعض الأمم التي تنكرت لجبريل عليه السلام، فلهذا ينتقض الإيمان، مع أن الفرد قد يقول: إني مؤمن بالملائكة.
فالعقيدة هي الأسس التي يقوم عليها الدين، وهي الركائز الكبرى، وتسمى ثوابت، وتسمى مسلمات، وتسمى قطعيات، وتسمى أصولاً.. وغير ذلك من المعاني المرادفة التي يفهم منها أن العقيدة هي أصول الدين العظمى التي ينبني عليها الدين للفرد والجماعة.
ومن العبارات التي يلزم استعمالها وارتباطها في ذهن المسلم، وهي من المصطلحات المهمة في تعريف العقيدة، كلمة السلف.
السلف المقصود بهم: القدوة في هذه الأمة، وهم الرواد الذين رسموا لنا منهج العقيدة على ضوء الكتاب والسنة؛ لأن منهج العقيدة: علمي وعملي، وهذا لا يمكن أن يكون واضحاً وبيناً إلا بقدوة؛ لأن الإسلام ليس مجرد نظريات أو علوم بل الإسلام منهج حياة يتمثل بأمة بأفرادها وعلى رأسها العلماء ومن دونهم؛ فنظراً لأن القدوة أصل في رسم معالم العقيدة وبيان مسلماتها، فلابد أن نتعرف على أول قدوة منهم، وهم السلف الصالح.
السلف الصالح: هم صدر هذه الأمة، والسلف هم الذين سلفوا وقضوا من القدوات، فالسلف هم صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى في القرون الثلاثة الفاضلة، وعلى هذا يطلق هذا الوصف أيضاً من باب التوسع في الوصف كما هو معروف عند تقرير الاصطلاحات، فيطلق هذا الوصف على كل من التزم هذا المنهج وإن كان معاصراً، فهو سلفي بمعنى أنه على نهج السلف.
إذاً: فالسلف لها معنيان: معنى خاص: وهم خيار هذه الأمة ابتداء من عصر الصحابة إلى يومنا هذا، والمعنى الآخر: هم من كان على هذا النهج وإن كان من المعاصرين.
السؤال: حكم من أنكر أصلاً من أصول الدين؟ وحكم من أنكر الرؤية؟
الجواب: القاعدة في إنكار أي أصل من أصول الدين أنه ينقض الإيمان وينقض الإسلام ويخرج به المسلم من مقتضى الإسلام، مع مراعاة عند الحكم فيها على المعين تطبيق شروط التكفير، بمعنى: أن الذي ينكر أصلاً من أصول الدين قد يكون جاهلاً فيعذر بجهله، وقد يكون متأولاً فيكون التبس عليه الأمر، وقد يكون مكرهاً، وقد يكون عنده اشتباه، وهكذا هناك صوارف كثيرة، فالمعنى أننا نحكم على المعين إذا صدر منه ما يقتضي إنكار أصل من الأصول، أما الحكم المجرد، فلا شك أن من أنكر أصلاً من الأصول فإن هذا كفر، لكن يبقى حكماً مجرداً، فتطبيقه على الأعيان لابد فيه من تحقيق شروط وانتفاء الموانع.
أما إنكار الرؤية، فالرؤية المقصود بها: رؤية المؤمنين لربهم في الجنة، وهذا أصل ثابت في قطعيات النصوص؛ في القرآن والسنة وبتصريح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عندما فسر آيات الرؤية، قال: (إنكم سترون ربكم عياناً).
فعلى هذا تعتبر الرؤية بهذا المفهوم أصلاً قطعياً من أصول الدين.
ومن أنكر الرؤية يحكم عليه بالحكم السابق؛ ونظراً لأن مسألة الرؤية من المسائل التي لا تستبين لكثير من عامة المسلمين، ولا يعرفون معانيها على وجه التفصيل، فإن من ينكر الرؤية لابد أن تقام عليه الحجة ويبين له وجه الدليل، ولا يحكم بكفره من أول وهلة، لكن إذا تبين له وجه الدليل والحق واستبان له، ولكنه عاند وكابر، فإنه يكون أنكر أصلاً من أصول الدين فحكمه ما سبق.
السؤال: هل الحكم على الفعل ليس هو كالحكم على الفاعل؟
الجواب: من ثوابت الاجتهاد عند السلف، بل هي أصل من أصول الأحكام على الناس، أن نفرق بين الاعتقاد والقول والفعل وبين من صدر عنه ذلك، فكما قد يقول المسلم قولاً كفرياً أو يفعل فعلاً كفرياً، أو يعتقد اعتقاداً كفرياً فيما يظهر لنا، فإنه لا يعني ذلك أن نحكم عليه بالكفر، حتى تنطبق عليه شروط التكفير، وتنتفي عنه الموانع، ويطبق ذلك أهل الرسوخ في العلم؛ لأن هذه من المصالح العظمى ومن القضايا الكبرى التي لا يتاح الحكم فيها لأفراد الأمة، ولا حتى سائر طلاب العلم، فالغالب أن هذه لا يحكم بها إلا الراسخون في العلم؛ لأنها حكم على العباد بحكم الله عز وجل، وهو أمر خطير قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه في البخاري وغيره: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما)، فالأمر خطير جداً.
وكذلك المنافق إذا ظهر منه ما يقتضي الردة فإننا لا نستطيع أن نحكم عليه؛ لأن النفاق الخالص قلبي لا يعلمه إلا الله عز وجل.
ومن المصطلحات المهمة في هذا الباب: السنة والجماعة أو أهل السنة والجماعة، وهذه المسألة من المسائل المستفيضة عند كثير من الناس، ويسمع بها أغلب المسلمين، لكن قد لا يفهم حقيقتها الكثيرون، ونحتاج إلى أن نقف على معناها.
أهل السنة والجماعة: هم كل من كان على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعون وأئمة الهدى، أي: من كان على السنة فهو من أهل السنة.
وسموا أهل السنة لاستمساكهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنهم أخذوا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر الأهواء والافتراق، قال: (فعليكم بسنتي)؛ فسموا أهل السنة لأنهم أخذوا بهذه الوصية، وكذلك لاتباعهم نهج السنة على جهة العموم.
وكذلك وصف الجماعة؛ وهي غالباً ما تقرن بالسنة، فيقال: السنة والجماعة.
فالسنة منهج، والجماعة كيان، والكيان: هم جماعة المسلمين الذين استمسكوا بالسنة وأخذوا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم واتبعوا السنة، وعلى هذا فإنهم وصفوا بالجماعة؛ لأنهم أخذوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة) ولأنهم اجتمعوا على الحق وأجمعوا عليه، واجتمعوا على الأصول الكبرى والمعاني العظمى ومسلمات الدين وثوابتها، وعلى مصالح الأمة العظمى، كبيعة إمام السمع والطاعة للوالي بالمعروف، وغير ذلك من المصالح العظمى فهم يجتمعون عليها، كما اجتمعوا على المصالح واجتمعوا على ما عليه سلف الأمة، والتزموا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجماعة.
وعلى هذا فإن وصف السنة والجماعة ليس شعاراً، ولا حزباً ولا مذهباً، بل هو وصف شرعي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما الذين يدعون العلم والتعالم ثم يطعنون في مفهوم السنة والجماعة ويزعمون أن هذا تحزب، أو يظنون أن هذا من صنع العلماء أو من صنع السلف، وأنهم اخترعوه ليميزوا أنفسهم عن غيرهم، فهذا خطأ فادح، والحق أن وصف السنة والجماعة وأهل السنة والجماعة وصف شرعي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، حين ذكر الافتراق وحذر منه وذكر الفتن والاختلاف، قال: (إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي)، وهذا إذا وجد الاختلاف.
فمع الاختلاف هؤلاء تمسكوا بالسنة هم أهل السنة الذين أخذوا بالوصية، فهذا وصف شرعي.
كذلك الجماعة، لما ذكر السلف والفرقة قال: (وعليكم بالجماعة)، وقال: (فعليكم بالجماعة)، وقال: (إن يد الله مع الجماعة)، فالجماعة وصف شرعي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهكذا الوصف بمجمله أهل السنة والجماعة أو السنة والجماعة: منهج شرعي يمثل الإسلام بمصادره ومنهجه، وليس فرقة ولا طائفة.
كذلك لأهل السنة والجماعة أوصاف: إما أن تكون أوصافاً حقيقية انطبقت عليهم لغة أو أوصافاً شرعية جاءت في السنة، أو أوصافاً أثرت عن السلف الصالح، ولا بأس من استعمال هذه الأوصاف إذا لم تقتض تعصباً، مثل: أهل الحديث، فأهل السنة هم أهل الحديث، وبعض الناس قد يفهم من أهل الحديث أنهم رواة الحديث فقط، مع أن من أعظم خصائص أهل السنة أنهم رواة الحديث، لكن لا يقف وصفهم على هذا، فهم أهل الحديث العاملون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم رواية ودراية، والحديث يرادف السنة؛ لأن الحديث هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم سواء من قوله أو فعله أو تقريره، فهو مرادف لكلمة السنة.
ومن أوصافهم: أنهم أهل الأثر؛ لأنهم على أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أثر السلف الصالح، ومن أوصافهم أنهم السلف، ومن أوصافهم أنهم أهل الاتباع، ومن أوصافهم أنهم الطائفة المنصورة، أي: أن الله عز وجل تكفل بنصرها إذا أخذت بأسباب النصر، وكذلك الفرقة الناجية.
ومن عداها من أهل الافتراق الذين ما خرجوا عن الملة، وما خرجوا عن مسمى الإسلام وهم الذين اتبعوا السبل ولم يخرجوا من الملة وهم أكثر فرق الأمة، ومن فرق الثنتين والسبعين التي خرجت عن السنة هم من المسلمين، لكنهم خرجوا عن السبيل، واتبعوا السبل، وخرجوا عن السنة فيسمون أهل الأهواء، ويسمون أهل الافتراق، ويسمون أهل البدع، ويسمون الفرق المفارقة؛ لأنهم اتبعوا السبل التي نهى الله عنها ونهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يخرجون من مسمى الإسلام، لكنهم لا يسمون أهل السنة والجماعة ولا يستحقون هذا الوصف؛ لأنهم خالفوا وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالاستمساك بالسنة.
ومن الأمور التي يجب أن نقف عندها في هذا التأصيل، هي: خصائص عقيدة السلف، لأن عقيدة أهل السنة والجماعة.. عقيدة السلف هي العقيدة الحقة، ولكن كيف نتعرف عليها؟ وكيف نعرف سماتها؟ وكيف نعرف الركائز التي تنبني عليها أو تعرف بها؟ ولاسيما في هذا العصر الذي كثر فيه تشقيق العلوم وعنصرتها أو ما يمكن أن يسمى بتعليب العلوم، فالناس كما علبت لهم المعلومات، فهم الآن يحتاجون أيضاً إلى ما يشبه تعليب العلوم أي: تيسيرها وتسهيلها، وبيان صفات المناهج والأصول والمفردات في هذه المناهج.
فلا بد من معرفة المنهج الحق الذي هو الإسلام بمصادره ومناهجه، الذي هو منهج أهل السنة والجماعة، الذي يتميز بخصائص كثيرة وركائز وسمات، وأهمها:
أولاً: أبرز سمة وأهم سمة هي: الكمال والشمول؛ لأنها دين الله، ودين الله كامل وشامل لكل زمان ولكل مكان ولكل فئة ولكل مجتمع ولكل دولة، وإن تخلفت في بعض الأزمان والأمكنة، فهذا بسبب تقصير المسلمين، وإلا فإن أبرز سمة للدين كله والذي تمثله السنة والجماعة هو الكمال والشمول؛ لأنها ربانية: تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وهو سبحانه العليم الخبير بمصالح العباد.
ثانياً: نقاء المصادر وسلامة المصادر، وأعني بذلك: أن مصادر السنة هي مصادر الدين النقية، بخلاف ما وقع فيه أهل الأهواء والبدع والافتراق، فإنهم تعكرت مصادرهم، وابتدعوا في الدين، وأخذوا من مصادر غير صافية، إما آراء الرجال، وإما الأهواء، وإما الابتداع، وإما غير ذلك فمصدرها القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية والتقريرية، أي: ما ثبت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومصدر الدين.
أما الإجماع فهو مبني على الكتاب والسنة، كما سيأتي فيما بعد.
ثالثاً: البقاء والحرص؛ لأنه الدين الحق، والدين قد تكفل الله بحفظه، كما قال عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، والله عز وجل كما تكفل بحفظ القرآن بحروفه وبمعانيه حفظاً كاملاً، كما تكفل بحفظ السنة، فالكفالة بالحفظ ليست للقرآن فقط، لكن القرآن له خصائص أن الله تكفل بحفظه بمعانيه وحروفه بحيث لا يزيد ولا ينقص منه ولا يمكن أن يتعرض له بأي تحريف أو نقص، أما السنة فقد تروى بعضها بمعانٍ، وقد تروى بالسلوك والقدوة، ومع ذلك فهي محفوظة؛ لأنها مصدر الدين.
وقد يقول قائل: أليس من عدا أهل السنة والجماعة عندهم مصادر محفوظة؟ نقول: نعم، فيما أخذوا به من القرآن والسنة محفوظ، لكن اعترتهم مصادر أخرى يعتريها جميع أنواع الاعتلال التي تعتري البشر من النسيان والنقص والخلل والفناء التي هي نتاج البشر الذي أدخلوه وجعلوه باسم الدين، وهذا لا شك أنه ناقص، وليس مصدراً، فمن هنا لا تتوفر صفات الثبات والبقاء والحرص والنقاء إلا لأصول أهل السنة والجماعة.
السؤال: هل يشترط للجماعة أن تكون هي الأغلبية؛ لأن هذا اللفظ يلتبس على كثير من الناس، ويستدلون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالجماعة، أم أن الأشاعرة مثلاً هم أكثر أعيان المسلمين، فهم إذاً على الصواب؟
الجواب: أولاً: ليس من شرط البقاء على الحق الأكثرية، بل نصوص ودلائل قطعيات النصوص تدل على عكس ذلك، خاصة في بعض الأزمان وبعض الأحوال، ولذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم أهل الحق أنهم في بعض الأحوال غرباء حينما يكثر الفساد ويبقى الصالحون قلة.
ثانياً: تشير النصوص إلى أن أهل السنة والجماعة ضمن فرق المسلمين فرقة من العديد من الفرق، كما جاء في حديث الافتراق، وعدد الفرق ثلاث وسبعين فرقة، واحدة الناجية واثنتان وسبعون وقعت في الافتراق والأهواء، فالواحدة من ثلاثة وسبعين قليلة، وإن كان هذا لا يتعلق بالعدد، لكن فيه إشارة إلى أن أهل الحق يقلون خاصة في بعض الأزمان وبعض الظروف.
ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الافتراق واتباع السنن، خاطب المجموع، مما يدل على أن الأكثرية ستقع فيما وقعت فيه الأمم من الافتراق والأهواء والاختلاف في الدين، فقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لتتبعن سنن من كان قبلكم)، الخطاب لعموم الأمة، ولا يعني ذلك كلها، إنما الأغلب لأن الحديث يدل على الأغلب، وإلا فهذا العموم مستثنى بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم إلى أن تقوم الساعة)، ولذلك فإن النصوص ينبغي أن يرد بعضها إلى بعض، لنأخذ النص العام ولا نخصصه بالجميع، وإذا خصصناه فسوف نقع في الهلكة أو الاعتقاد والتصور الخاطئ عن الناس.
إذاً: هذه الأدلة بمجموعها والواقع أيضاً ظاهر يدل على أن أهل الحق قد يقلون، بل أحياناً قد يتشتتون في بعض البلاد، فقد تجد في بعض الأماكن وبعض البلاد أهل السنة قلة، وقد تجد في بعض الأرياف والقرى البعيدة التي هيمنت عليها البدع واحداً صاحب سنة والبقية يكونون وقعوا في البدع والأهواء. والله أعلم.
إذاً: الأكثرية ليست هي القاعدة في كل زمان وفي كل مكان، إنما المعيار هو الحق، كما قال أحد السلف: الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك.
السؤال: مسألة التكفير خطيرة جداً، وذكرتم موانع التكفير للمعين، فما هي لو تفضلتم يا شيخ؟
الجواب: موانع التكفير كثيرة، أهمها: أولاً: الجهل، وثانياً: الإكراه، وثالثاً: التأويل، ورابعاً: الاشتباه، هذه أغلب قواعد الإعذار، ومع ذلك فالإعذار لا يتناهى، وأحياناً الإنسان قد يكون له ظرف معين يلتبس بأحوال يعذر بها دون هذه الأعذار الكبرى.
ومن خصائص السنة والجماعة: الوضوح، منهج أهل السنة والجماعة يتميز بالوضوح والنقاء، ولذلك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالبيضاء، يقول في الحديث الصحيح: (تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (جئتكم بيضاء نقية) أي: لا يعتريها أي غبش، وهذا الذي يصحب أصول السنة إلى قيام الساعة؛ لأنه لا يعقل أن يعتري السنة أي غبش؛ لأن هذا يقتضي النقص في الدين وحاجة الناس إلى الوحي، وقد انقطع الوحي بنبينا صلى الله عليه وسلم، وانقطعت النبوة وتكفل الله بحفظ الدين، وهذا يقتضي البقاء والنقاء والوضوح لكل من أعطاه الله بصيرة، والوضوح أمر نسبي لمن وفقه الله للهدى، وإلا فأهل الأهواء والافتراق هو عليهم عمى، قد تعمى عليهم الواضحات نسأل الله العافية، إنما هو واضح لمن جد في تحصيل الحق، ولمن صدق في البحث عن الحقيقة، ولمن وفقه الله وهداه، ولمن سلك وسائل وأسباب الهداية عن تجرد وإخلاص، فإنه يجدها واضحة نقية كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن سمات أهل السنة والجماعة الاعتدال والوسطية في كل شيء، ولذلك فإن أهل السنة والجماعة دائماً في أصول الدين وسط بين طرفين: طرف أهل الغلو وطرف أهل التساهل والإعراض في سائر أمور الدين؛ في أركان الإيمان وفي أركان الإسلام وفي مسائل النظر إلى الغيبيات وفي الأحكام على العباد، وفي تطبيق الشرع والعمل به، وفي العبادات.
فمثلاً: في الوعد والوعيد: هم وسط بين المرجئة الذين لا يضعون أي اعتبار للوعيد، وبين الخوارج الذين لا يضعون أي اعتبار للوعد، فالخوارج يأخذون بنصوص الوعيد على أشد محاملها، والمرجئة يأخذون بنصوص الوعد على أشد محاملها، فأهل السنة بين هذا وذاك، يؤمنون بالوعيد وأنه صدق وحق، ويؤمنون بالوعد ويردون هذا إلى هذا؛ لأن نصوص الشرع لابد أن تتكامل، لاسيما أن نصوص الوعيد كثير منها ما يقصد به الزجر، وله استثناءات، وله نصوص أخرى تفسره، فعلى هذا فأهل السنة في جميع أمور الدين الاعتقادية والقولية والعملية هم وسط، وهم منهج الاعتدال.
حتى في الأحداث المعاصرة نجد مواقف أهل الاعتدال، مثل: مشايخنا الكبار، والعلماء، والدعاة الذين استقاموا على السنة، نجد أن منهجهم هو منهج الاعتدال إزاء طائفتين من الأمة، طائفة الغلو الذين سلكوا مسالك التكفير والفساد في الأرض والتفجيرات، وطائفة الإعراض والتساهل الذين تميعوا في الدين وأضاعوا حقائق الدين والولاء والبراء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم وسط بين هذا وذاك.
ثم إنها توقيفية، منهج أهل السنة والجماعة توقيفي، لا مجال للاختراع فيه ولا الزيادة ولا النقص، بل موقوف على ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن أصول الاعتقاد.. الأصول والمسلمات والثوابت ليست مجالاً للاجتهاد، وهذا معنى كونها ثابتة، ولو كانت مجالاً للاجتهاد لما استقرت، ولو كان فيها مجال لإدخال العقل والعواطف والأهواء والرغبات والأمزجة، لما وجد فيها كمال ولا نقاء ولا سلامة ولا بقاء ولا وضوح ولا اعتدال ولا توقيفية، لكن نظراً لأن العقيدة هي الأصول والثوابت فهي محل إجماع عند السلف، وإن خالف فيها المخالفون فهذا لا يعني أنه اعتراها النقص، وإنما النقص فيمن خالفوا وليس فيها.
إذاً: هي توقيفية موقوفة على ثوابت القرآن والسنة، وموقوفة على ما أجمع عليه السلف، ومن هنا فلا مجال للاجتهاد فيها، إنما الاجتهاد في مسائل الأحكام في الفقه والأمور الأخرى، بل حتى في الفرعيات التي تتفرع عن مسائل العقيدة التي لم تثبت أدلتها، وفي مسائل تشكل على بعض طلاب العلم تدخل في بحوث العقيدة هي محل خلاف عند أهل العلم، ويظن بعض الناس أنها في العقيدة، ومنها ظنوا أن الخلاف فيها خلاف في العقيدة وهذا خطأ، بل هي مسائل تفرعت عن مسائل العقيدة وليست على أساسيات العقيدة، مثل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المعراج، فهذه ثابتة، لكن هل هي رؤية عينية أو قلبية؟ هذا محل خلاف، فكونه محل خلاف لا يعني أن أصله غير ثابت.
إن عقيدة السلف الصالح أهل السنة والجماعة نظراً لأنها تمثل الإسلام بمصادره ومنهجه الإسلام الحق، فهي التي تحقق الأمن والسعادة في الدارين لأفراد الأمة ومجموعاتها، والله عز وجل يقول: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ [الأنعام:82]، والأمن ليس فقط الأمن الظاهري وإن كان مقصوداً شرعاً، لكن الأمن الباطني هو مرتكز الأمن.. أمن القلوب وأمن النفوس وأمن العقول، ولذلك جاء الدين بحفظ الضروريات الخمس التي لا يمكن أن تحفظ إلا بالأمن، فقد جاء بحفظ الدين، وحفظ العرض، وحفظ المال، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وهذه الأمور لا يمكن أن تقوم إلا على أساس الدين، وتحقيق الأمن والسعادة في الدارين.
ولذلك فإن مما ينبغي أن يتنبه له المسلمون جميعاً في ظل الظروف القاسية التي تعيشها الأمة، وفي ظل الأحداث المؤلمة، وفي ظل الوهن والضعف والتفلت والفرقة، يجب أن نذكر المسلمين بأنه لا يمكن أن يستقيم لهم أمر ولا يعتزوا وينتصروا ولا يجتمع شملهم، ولا يخذل عدوهم إلا باستقامة العقيدة، بل لا يمكن أن تزدهر لهم مدنية وحضارة على وجه كامل إلا باستقامة العقيدة، والأمم الأخرى قد يعطيهم الله الحياة الدنيا، أي أمة من الأمم غير المسلمة قد تزدهر دنياها، وقد تملك حضارة مدنية، حتى لو لم تلتزم بشرع الله؛ لأن الله عز وجل تكفل للكفار بأن يعطيهم حظهم من الحياة الدنيا وليس لهم في الآخرة من نصيب، لكن المسلمين عزهم، واجتماعهم، ونصرهم ووحدتهم لا يمكن أن تكون إلا بالاجتماع على المعتقد الذي جعله الله عز وجل أصل الاجتماع وهو المعتقد السلفي.
فالسنة والجماعة تعني الإسلام نفسه في مصادره وأصوله وقواعده وأحكامه، فليست السنة والجماعة فرقة ولا مذهباً ولا حزباً، بل هي الدين الذي ارتضاه الله لعباده، ولذلك يجب التنبيه إلى ما يقع فيه بعض الجهلة من المنتسبين للسنة، من رفع السنة شعاراً أو انتماءات يكون عليها تعصب أو ولاء وبراء على أمور خلافية، وهذا مما تسبب في تشويه صورة السنة والجماعة عند كثير من المسلمن وغير المسلمين، فوجود طائفة ممن لا يعرفون هذا الأصل قد يتحزبون وقد يتكتلون تكتلات غير مشروعة تحت شعار السنة والجماعة، والسنة والجماعة إنما هو منهج أمة ينتمي إليه كل من سلكه دون أن يكون هناك تعصب لأفراد ولا لأصول يصنعها الناس ولا لتنظيمات ولا لتجمعات، فهو الدين الحق، والدين الحق يشمل كل من اعتنقه بدون أي وسيط.
فأهل السنة والجماعة هم الذين التزموا نهج النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من المسلمين، وبقية الفرق تبقى تحت مسمى الإسلام ومسمى المسلمين، لا لأن الإسلام ينقسم، لكن لأن المسلمين انقسموا على الإسلام، وانقسموا حوله، والإسلام لا ينقسم، ولأن الذين خرجوا عن السنة كان خروجهم ليس خروج ردة، فبقوا تحت مسمى الإسلام، لكنهم بأوصاف أخرى، والفرق معروفة ووصفت قديماً وحديثاً بأوصاف عامة، مثل: أهل الأهواء.. أهل البدع.. أهل الافتراق، فيبقون تحت مسمى الإسلام والمسلمين، وعلى هذا ليس كل المسلمين على السنة إلا من التزم هذا المنهج.
وأغلب عوام المسلمين الذين لم يتلبسوا بالبدع، ولم يكن عندهم اعتقادات باطلة، بقوا على الفطرة والسلامة، فالأصل فيهم أنهم أهل السنة والجماعة حتى ولو لم يعرفوا ذلك، ولو لم يعلنوا ذلك، أو حتى ولو انتموا لبعض الفرق مجرد انتماء، وإن كان الانتماء بدعة، لكنها زلة لا تخرج الإنسان من السنة، فأغلبية عوام المسلمين نظراً لأنهم ليسوا أهل بدع في اعتقاداتهم ولا عندهم أيضاً تأصيل للبدع، تبعيتهم تبعية غير بصيرة، وأيضاً لا يمارسون البدع العملية الكثيرة، وأغلبيتهم إن شاء الله يدخلون في مسمى السنة والجماعة.
ومن الأمور المهمة ما يتعلق بقواعد وأصول التلقي والاستدلال، وهذه من المصطلحات الحديثة، لكنها مصطلحات صحيحة، فمنهج التلقي والاستدلال مصطلح معاصر، لكنه صحيح؛ لأن معناه مصادر الدين، وكيف نستمد الدين منها، فمصادر الدين هي مصادر التلقي، وكيف نستمدها؟ هذا ما يسمى منهج الاستدلال.
وعندما نقول: مصادر الدين فقد يتفق معنا أغلبية المسلمين حتى الذين وقعوا في الأهواء والبدع والافتراق على أنها مصادر الكتاب والسنة، وكل يدعي وصلاً بليلى، بل لا تجد فرقة إلا وتدعي أنها تلتزم الكتاب والسنة، لكن كل دعوة لها حقيقة، لابد أن نميز الأمور بأصول شرعية، أيضاً الحقيقة أنا أفرضها على الآخرين ولا يفرضها علي الآخرون، حقيقة تحرير مصادر التلقي.. مصادر الدين.. وكيف نستمد منها؟ هذه حقيقة لها أصول شرعية رسمها النبي صلى الله عليه وسلم ورسمها أصحابه، وهذه الحقيقة تسمى منهج التلقي والاستدلال، وتتركز في الأصول التالية:
الأصل الأول: مصدر الدين عموماً والعقيدة على وجه الخصوص، هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وقلنا: الصحيحة؛ لأن ما لم يصح فلا يستمد منه الدين، ولا يعتبر مصدراً للدين؛ لأن الكلام عن الدين بأصوله وثوابته ومسلماته، لا الاجتهاديات، مع أن الاجتهاد أيضاً يرتكز على أدلة أحياناً في الأمور الاجتهادية، فمثلاً: مسألة الأخلاق والفضائل قد يستمد العالم بدليل ليس ثابتاً لكنه أيضاً قد يكون الدليل ضعيفاً، لكن فيه حكمة، فيعتبر على الأقل حكمة، وهذا بالأمور الاجتهادية، أما في قطعيات الدين والعقيدة والثوابت والمسلمات فلا يمكن أن يرد مصدر غير الكتاب والسنة والإجماع وإن كان الإجماع لابد أن يرتكز على الكتاب والسنة، ولذلك بحمد الله لا يوجد إجماع عند السلف لا يعتمد على النصوص؛ لأن الإجماع مبناه على الحق، ومصادر الحق: الوحي المعصوم (القرآن والسنة)، ومصادر الحق لابد أن تتضمن بعض الأصول التي تحتاج إلى استنباط، فهناك أشياء أجمع عليها السلف؛ لأنها إما أن تنبني على قاعدة جاءت بنص أو قاعدة جاءت بمجموعة نصوص، أو منهج علمي وعملي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته ورسمه الصحابة في سنة الخلفاء الراشدين، فصار هذا المنهج العملي إجماعاً؛ لأنه راجع إلى تطبيق الدين، وهذا يسمى منهجاً.
وأيضاً إذا قلنا: إن مصادر الدين: الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح، فقد يرد تساؤل: أليس العقل مصدراً؟ حيث أن العقل نعمة من الله عز وجل كرم الله بها العباد، وجعلها مناط التكليف؟
نقول: العقل وسيلة لا يستقل بتقرير الدين، نعم هو مناط التكليف ووسيلة الاجتهاد، ولولا أن الله أعطانا عقولاً ما عرفنا الهدى الذي يسره الله لنا، وإن كان هذا بتوفيق الله، لكن من توفيق الله أن أعطى البشر عقولاً يهتدون بها، فهو وسيلة وليس مصدراً، وكما أن العقل السليم يدرك المجملات دون تفصيلات الأصول وتفصيلات الشرائع، فيدرك مثلاً ضرورة التزام الصدق، والدين جاء بوجوب الصدق، ويدرك خطورة الكذب، والدين جاء بتحريم الكذب، وبعض العقول المتميزة قد تدرك ضرورة البحث؛ لأنه عندما يرى حياة الناس وما فيها من تفاوت وما فيها من ظلم وما فيها من مشاكل ولأواء يدرك بعقله أنه لابد من حياة أخرى يكون فيها إنصاف وعدل، وهذا الإدراك الإجمالي للعقل، أما أن يدرك به صاحبه البعث والنشور والصراط والميزان والحوض فلا يمكن لأنها أمور غيبية بحتة، والعقل لا يدركها على جهة التفصيل.
فلذلك العقل أحالنا على النص، فمادام أحالنا على النص أصبح العقل وسيلة وليس مصدراً، والعقل من مصادر العلوم الإنسانية والعلوم التجريبية، بل الله عز وجل أعطى العقل من التكاليف ما ينوء به ما يستطيع، ولذلك فإن عقول البشر التي كدت وكلت في البحث عن أسرار الكون إلى الآن ما انتهت إلا إلى جزء يسير جداً من أسرار هذا الكون.
السؤال: ما هو الطريق السليم للتمسك بعقيدة أهل السنة والجماعة في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن وأصبحت البلاد تعج بها؟
الجواب: أهل السنة والجماعة يجب أن يبذلوا كل وسيلة مشروعة لنشر السنة، لا لمجرد تكثير الناس وهذا مطلب شرعي، أنه كما يهتدي الناس على أيدينا هذا مطلب شرعي، لكن لأن الله أوجب ذلك، وأوجب علينا الدعوة إلى الحق والنصح للأمة، فمن مقتضى نصيحة هذه الأمة أن يسعى أهل السنة والجماعة إلى تحصيل كل وسيلة مشروعة لنصر السنة، وهي تنبني على الأسس التالية:
أولاً: الدعوة بالقدوة، ولو أن أهل السنة خاصة الشباب والدعاة المتحمسين ركزوا على وجود القدوة في تعاملهم مع الله عز وجل وتعاملهم مع الخلق، وإظهار السنة على سلوكياتهم لكان هذا كافياً عن كثير مما نقوله من محاضرات وندوات ووسائل، ولذلك نجد أكبر مؤثر في نشر السنة، بل وفي نشر الإسلام أيضاً عبر التاريخ هو القدوة، والقدوة بالسنة.
ثانياً: لا بد من ضرورة تحقيق الاجتماع الذي أمر الله به، والاجتماع يأخذ مراحل، وكثير من أهل السنة يطمح إلى جمع الأمة، وهذا مطمح كبير، لكن ينبغي أن يتدرج؛ لأن يجمع جهود أهل السنة للقيام بالنصيحة لباقي الأمة، ويكون ذلك بأن تتظافر الجهود لتطبيق السنة بين أهل السنة ثم القدوة ثم وسائل النشر تتكاتف الجهود وتتظافر بالوسائل المتاحة.
ثالثاً: أن نشر السنة ينبني على النصيحة، وأعني بذلك أن يبتعد دعاة السنة مما يقع فيه بعضهم مع الأسف من القسوة والتشهير والعنف في الكلمة وفي التعامل، ونأخذ وصية النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)، ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (إن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي بالعنف).
السؤال: كيف يمكن للمسلم أن يحافظ على أن يكون من أهل السنة والجماعة في هذا الزمان الذي اختلف عن زمان أهلنا؟
الجواب: المحافظة على السنة يسيرة ولله الحمد؛ لأن الله عز وجل جعلها نقية بينة وظاهرة وسهلة أيضاً؛ لأنها تحتاج إلى بذل أسباب الصدق: أولاً ينبني على التزام السنة الصدق مع الله عز وجل، والصدق في البحث عن الحق.
ثانياً: تأسيس السنة والجماعة من حيث المعتقد والمنهج بالتعلم، تعلم منهج السنة والجماعة خاصة عوامهم أو الذين أخذوا السنة والجماعة بالتبعية للآباء والأجداد وما ثبتوا أصول السنة في قلوبهم عن طريق التعليم، ويحتاج من يريد أن يثبت على السنة أن يتعلم الأصول الضرورية، ولا أقصد أن يكون عالماً في العقيدة، بل يتعلم بدهيات ومسلمات الدين التي ينبني عليها عقيدة أهل السنة والجماعة.
ثالثاً: النظر إلى القدوة، فالعلماء الذين يمثلون السنة والجماعة يجب أن يكونوا هم مرجعية صاحب السنة، بل يجب أن يكونوا مرجعية الأمة كلها، لكن هذا من أسباب البقاء على السنة، أن يكون العالم هو قدوتك ومرجعيتك.
رابعاً: تهيئة جو المخالطة والمجالسة؛ لأن المرء بجليسه، فيحرص المسلم والمسلمة على أن تكون مخالطته ومعايشته لمن حوله مع من يلتزمون السنة؛ ليسلم من غوائل الخلطة بأهل الأهواء.
السؤال: من يرتكب البدعة المغلظة هل يعتبر ذلك تكفيراً يا شيخ؟
الجواب: لا، البدعة من حيث التقسيم تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: بدعة مكفرة فهذه كفر، وتخرج صاحبها من الملة، كالشرك بالله عز وجل، ودعاء غير الله، فهذا شرك، وإن كان يدخل في منظومة البدع بالمفهوم العام، لكنها بدع شركية مخرجة من الملة، وهذا في العموم، ومع ذلك فإن إخراج الفرد يحتاج إلى تطبيق الشروط التي سبق ذكرها.
القسم الثاني: البدع التي لا تخرج من الملة وهي نوعان: بدع مغلظة وهي من الكبائر، كالبدع المنهجية الكبرى، أو مغلظة بمعنى أنه ورد فيها الوعيد، وبدع صغرى، مثل بعض أنواع التوسل البدعي، وبعض التبرك البدعي التي هي محل نزاع، أو بدع إضافية، فالبدع الكبرى والبدع الصغرى لا تخرج من الملة، ويبقى صاحبها صاحب بدعة، ويقال: إنه من أهل البدع إذا تكاثرت عنده، ومن هنا نحكم على الشخص بأنه مبتدع، أولاً: لا نحكم على المسلم بأنه خرج من الملة ببدعته إلا بتطبيق الشروط.
ثانياً: إذا وقع في البدعة، ولا نقل: هذا مبتدع ومن أهل الأهواء والبدع إلا عندما تجتمع هذه الشروط في وصفين:
الوصف الأول: إذا كان على نهج فرقة من الفرق المبتدعة، يلتزم نهجها ويدين بها ويعتقد ما تقوله في الجملة ولو لم يكن يعرف التفاصيل؛ إذا انتمى إلى فرقة مبتدعة وتسلم بنهجها فهو مبتدع.
الوصف الثاني: إذا كان صاحب البدعة تكاثرت عنده البدع، حتى أصبح هديه وسمته وسلوكه سلوك أهل البدع، فهذا يسمى مبتدعاً، أما إذا عمل بدعة صغيرة جزئية وبقية أموره على السنة فهذه زلة، ولا يقال: صاحبها مبتدع؛ لئلا ينفر من السنة، والزلة تقع من المسلم وهي من باب الخطأ.
السؤال: بعض الجماعات المعاصرة الآن يرون أنه لا ينبغي التسمي بأهل السنة والجماعة، وإنما يتسمون بأهل الحديث، قالوا: لأن الأشاعرة يتسمون بذلك؟
الجواب: هذه من الأوصاف المترادفة، فأهل السنة والجماعة أو أهل الحديث أو الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، أو أهل الأثر والاتباع، أو سبيل المؤمنين أو الصراط المستقيم.. ونحو ذلك، هذه أوصاف شرعية معتبرة، ولكن متى يتسمى بها صاحب السنة ومتى لا يتسمى؟ هذا راجع إلى ظروف المسلم أو صاحب السنة في المكان الذي هو فيه، فمثلاً: عندنا في المملكة العربية السعودية وفي عموم جزيرة العرب في اليمن وفي الخليج غالبية الناس على السنة، فلا نحتاج إلى أن نأتي بتمييز آخر، لكن نجد في بلاد أخرى قد تتسمى بعض الفرق بأهل السنة والجماعة وتكون كثيرة، فيقع الخلط واللبس، فلأهل السنة أن يتميزوا بوصف شرعي صحيح دون تعصب، حتى السلفية، يعني: مثلاً قد يكون بعض الفئات يحتاج إلى أن يقول: فلان سلفي ونحن على السلفية، وإن كنت أتحفظ على هذا الإطلاق؛ لأن فيه من التشويش والحرج الشيء الكثير، لكن مع ذلك فقد نعذر بعض الذين يضطرون لاستعمال هذا الوصف إذا كان الوصف الآخر يلتبس، فمتى التبس وصف من الأوصاف الشرعية نلجأ إلى وصف آخر، والله أعلم.
السؤال: هل وقع خلاف بين الصحابة في العقيدة؟
الجواب: لا، الصحابة ما وقع عندهم فرقة ولا ابتداع، لكن قد يقع من بعض أفراد الصحابة بعض الزلات التي تندرج تحت مفردات البدع، لكنها تكون عن تأول واجتهاد خاطئ، وهي بمثابة زلة العالم، لكن القاعدة المجمع عليها أنه لم يكن أحد من الصحابة وقع في الافتراق والأهواء والبدع على الإطلاق، أما الزلة فنعم؛ لأنه لا عصمة لأحد إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يوجد صحابي عنده منهج في الابتداع أبداً، إنما زلة قد تصنف أنها من نوع البدع، بالمثال يتضح المقصود، فهذا ابن عمر رضي الله عنه بالغ في تتبع بعض آثار النبي صلى الله عليه وسلم على وجه لم يرد عن كبار الصحابة الآخرين، فهذه زلة عالم.
السؤال: قلتم: إن الثلاثة والسبعين فرقة لا تخرج من دائرة الإسلام، فكيف توفقون جمعاً بين هذا الحديث وبين حديث: (كلها في النار إلا واحدة)، وهل نحكم على أعيان هذه الفرق والمذاهب بأنهم أهل أهواء؟
الجواب: الحديث نفسه يحكم بأنهم من أهل الملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن اليهود افترقوا على إحدى وسبعين والنصارى على ثنتين وسبعين، وقال: (ستفترق هذه الأمة)، أمة الإجابة.. أمة الإسلام على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وقوله:(في النار) يعني: من أهل الوعيد، كما أن أهل الكبائر في النار، الزاني إذا مات مصراً على كبيرته، وكذا آكل الربا.. كلهم إذا ماتوا ولم يتغمدهم الله برحمته فهم من أهل النار حتى يتطهروا فيها، ثم يخرجون منها؟
فأهل الافتراق من أهل النار، يعني: من أهل الوعيد ومن أهل الكبائر؛ لأن بدعهم كبائر، فالأمر بين بحمد الله، ولذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا مما اتفق عليه سلف الأمة، أنهم اتفقوا على أن الثنتين والسبعين فرقة لا تخرج من الملة، وإذا خرجت فرقة من الملة لم تعد من الثنتين والسبعين بل صارت من أهل الردة، نسأل الله العافية.
السؤال: ما الفرق بين التوحيد والعقيدة، أو ليس العقيدة متضمنة للتوحيد؟
الجواب: التوحيد هو أعظم مباني العقيدة، الذي يقصد به توحيد الله عز وجل وتعظيمه بأسمائه وصفاته وأفعاله، وتوحيده بالعبادة، وهذا المبنى هو تاج العقيدة ورأسها، وهو الإطار الذي تدور عليه العقيدة، فنظراً لأن التوحيد هو أصل العقيدة فأحياناً تسمى العقيدة كلها بالتوحيد ولا مشاحاة في الاصطلاح، لكن مسمى العقيدة أشمل وأوسع.
السؤال: من عادى أهل السنة والجماعة من الروافض والصوفية وغيرهما هل يخرج من الملة؟
الجواب: هذا يتدرج، فالعداوة التي تكون عن هوى وعن جهل وعن.. هذه كبيرة من كبائر الذنوب، أما إذا كانت العداوة عداوة دين فهذا يكون كفراً في العموم، لكن ينبغي أن نحترز في مثل هذه المسائل؛ لأنه كثر الخلط فيها واللبس.
ولو قلنا: إن بغض أهل السنة والجماعة يعتبر بغضاً للحق الذي حملوه فيعتبر كفراً فلا يعني ذلك تكفير المعين، قد يكون جاهلاً وقد يكون متأولاً وقد يكون مكرهاً وقد يكون التبس الأمر عليه، أما إذا كان البغض لأهل الحق ينصرف إلى الحق الذي معهم فهذا كفر.
السؤال: أيضاً يا شيخ يسأل عن حديث: (لا تجتمع هذه الأمة على ضلالة)؟
الجواب: النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه بألفاظ عديدة أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، وهذا هو الحق، وهذا هو الحاصل؛ لأنه إذا اتفقت الفرق على البدع خالفهم أهل السنة في كل شيء، وبقي أهل السنة هم الذين يتوفر فيهم الإجماع، ومع ذلك فإن كثيراً من أمور الدين يتفق فيها أهل البدع مع أهل السنة، فمثلاً: أركان وشعائر الإسلام، الصلاة.. الزكاة.. غالب الفرق يقرون بها، بل أركان الإيمان الستة غالب أهل الأهواء والفرق يقرون بها، فنحن أهل السنة والجماعة نجتمع مع أهل الأهواء والفرق في أصول كثيرة، لكن إذا خالفوا أصول السنة أو خالف بعضهم بقي على الحق طائفة وهم أهل السنة فانعقد الأمر بأنه لا تجتمع الأمة على ضلالة، لأنه لابد أن تبقى الطائفة التي يقول النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم على الحق ظاهرين: (لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم)، فبظهورهم يظهر الحق، وعلى هذا لا ينعقد الإجماع على باطل بحمد الله.
السؤال: ما هو الفرق بين المذاهب والفرق؟
الجواب: في العموم فإن الفرق غالباً ما تطلق على المخالفين في الأصول والمسلمات والعقيدة والثوابت، والمذهب غالباً ما يطلق على الاختلاف في الاجتهاديات التي ليست مذمومة، فلذلك تسمى اجتهادات العلماء في الفقه مذاهب، وتسمى المذاهب الأربعة وتنسب إلى الأئمة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، فهذه تسمى المذاهب الأربعة؛ لأنها مذاهب اجتهادية، لكنها متفقة على أصول الدين، فهي في أصول الدين ليست مذاهب، ولذلك فإن المذاهب الأربعة هي مذاهب في الاجتهاديات، ويجمع الأئمة الأربعة على الأصول والمسلمات، فالمذاهب تكون في الاجتهاديات، ومع ذلك فقد اصطلح المتأخرون على تسمية البدع الناشئة والأفكار الحديثة التي تخالف الإسلام اصطلحوا على تسميتها مذاهب معاصرة، وهذا فيه تجوز، لكن لا مشاحة في الاصطلاح، لكن لا يقصدون بها المذاهب الاجتهادية، بل يقصدون بها المذاهب التي انحرفت عن الحق في الأفكار والمناهج.
السؤال: عندي سؤال في تسمية الكتاب: مجمل أصول أهل السنة والجماعة؟
الجواب: الكتاب الذي ندرسه فعلاً هو مجمل أصول أهل السنة والجماعة؛ لأنه قصد به القواعد والمسائل الإجمالية، وقصد به الضوابط والمنهجيات، ولم يقصد به التفاصيل، حتى في الأدلة ليس فيه أدلة كثيرة، فمن هنا سمي مجملاً؛ لأن العقيدة فيها إجمال وتفصيل، فنستطيع أحياناً أن نقول: العقيدة كلها تندرج تحت شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونستطيع أن نتوسع ونقول: العقيدة هي أركان الإيمان وأركان الإسلام، ونستطيع أن نتوسع ونقول: العقيدة هي كل ثوابت الدين والأحكام القطعية، ونستطيع أن نقول: العقيدة كل الدين حتى ما يسمى بالأحكام، مثلاً: أحاديث السواك داخلة في العقيدة؛ لأنه ما ثبت به الدليل فإنه داخل في العقيدة، فالعقيدة وصف شامل للدين كله، فعلى هذا نقول: إن الأمر يرجع إلى الاصطلاح وإلى المفاهيم الشرعية التي تقتضيها النصوص أو يتفق عليها المتخصصون.
السؤال: ما حكم من قدم العقل على النص؟
الجواب: مسألة تقديم العقل على النص هذه نزعة فلسفية أصلها ناشئة من خصوم الأنبياء حتى قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فتجدهم يعترضون على النبوة وعلى الوحي وعلى مقررات الدين بالعقول، مع أن العقول لها مدارك محددة، وإذا خرجت عن مداركها المحددة وقعت في الزيغ، والعقول إذا أقحمناها في تفاصيل الغيب، وفي دين الله عز وجل، وفي أمره ونهيه وفي عالم الآخرة، فإنها تقع في الخبط والخلط والتخرصات، فمنشأ تقديس العقول وإقحامها في الدين ناتج عن الخراصين الذين قال الله عز وجل فيهم: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ [الذاريات:10-11]، فتقديم العقل على النص ناتج عن الغرور والكبرياء من خصوم الأنبياء.
ثم دخلت هذه النزعة على بعض الفرق الإسلامية بشبهة، حيث زعموا أن العقل مادام خوطب، إذاً: من الذي يقرر؟ والعقل مادام أنه هو الذي عول عليه الشرع في أمور كثيرة، وهو الذي يميز بين الحق والباطل في الجملة، ويميز بين الضار والنافع، إذاً: هو الذي يقرر الدين، وهذا فيه قلب للحقائق، مع أن العقل له احترامه ومكانته، لكن الدين دين الله، والذي يقرره هو الرب عز وجل والمعصوم صلى الله عليه وسلم، فالله هو الذي يقرر الدين ويبقى العقل وظيفته أن يصدق بالحق وأن يؤيده وأن يجتهد فيما كلفه به الشرع، فعلى هذا يستحيل عقلاً أن يقدم العقل على الشرع، ولو كان للعقل لسان لقال لأولئك الذين أقحموه في الدين: قد أحرجتموني أمام ربي عز وجل، كيف توقعوني في أمر الله عز وجل هو الذي تكفل به وهو الحكيم الخبير، وهو العالم وأنا العقل ناقص محدود الطاقة محدود القدرات يعتريني الهوى والضعف والخطأ والنسيان بل والفناء، إذاً: كيف يقال: العقل يقدم على الشرع؟!
السؤال: جميع الفرق تقول: لا إله إلا الله، فلماذا لا نطلق عليها وصف الإسلام أو وصف أهل السنة والجماعة؟
الجواب: أما وصف الإسلام فنعم، وأما وصف أهل السنة والجماعة فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ميز بين أتباع السبل وبين أهل السنة والجماعة، والتمييز ليس دراسة تاريخية أو بتحكم علماء وإن كان العلماء مرجعية، لكن تقسيم المسلمين إلى أهل سنة وغير أهل سنة تقسيم شرعي جاءت به النصوص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الافتراق بأنه سيحدث ونهى عن السبل، وأيضاً أمر باتباع السنة والجماعة، فكان أهل السنة والجماعة هم الذين بقوا على السنة بخلاف أهل الأهواء والافتراق.
فمن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، نشهد له بالإسلام، وإن ارتكب بدعاً وسلك مسلك أهل البدع والافتراق والأهواء، وخرج من السنة فهو متوعد ولم يخرج من الإسلام.
السؤال: القبوريون بغير علم، هل يعدون من أصحاب البدع المكفرة؟
الجواب: القبوريون أصناف، ويقصد بهم الذين يعملون البدع عند القبور، سواء كانت بدعاً كفرية شركية مغلظة أو غير مغلظة، وكثير من القبوريين لا يمارسون الشركيات، فكيف نحكم عليهم، وبعضهم يأتي للتبرك، وبعضهم يأتي ليهدي ثواب الأعمال الصالحة عند القبر للأموات، أو يهدي ثواب قراءة القرآن بزعمه، وهذه أمور بدعية، لكنها لا ليس مخرجة من الملة، فإذاً: الحكم على القبوريين بمجرد أنه يوجد من بعضهم شركيات هذا لا يجوز، فلابد أن نفصل، وكل يحكم عليه بعمله، ومع ذلك يبقى الحكم العام غير الحكم على الأعيان، فمثلاً: الكثير ممن يسافرون إلى بعض البلاد التي تعمل فيها من قبل الجهلة بعض الشركيات. فالزوار الذين يزورون بعض القبور التي يطوف بها الناس، والزائر السائح الجاهل يظن أن هذا الطواف مجرد دوران من أجل التفرج والاستطلاع ولا يدري أنه عبادة فيدور معهم، وذات مرة دخلنا قبراً من باب النصيحة والاستطلاع وكان يطوف حوله الناس، فعكسنا الاتجاه، فقال لنا سادن القبر: اعكس يا حاج.. اعكس يا حاج، فمن جاء لا يدري أن هؤلاء يطوفون طواف عبادة وهو شرك بالقبر، فلا نستطيع أن نحكم عليه، أو مثلاً: إنسان تذكر نعمة من نعم الله عز وجل عليه فسجد شكراً لله عند القبر ونسي أنه عند القبر فهذا محتمل، وعليه فلا نحكم على العباد حتى نتبين أمرهم.
السؤال: هل يعتبر عدم الرجوع إلى العلماء من أسباب الافتراق؟
الجواب: لا شك أن عدم الرجوع إلى العلماء وعدم اعتبارهم مرجعية سبب الافتراق؛ لأن الله عز وجل يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، بل في هذه القضية بالذات لا يختلف عليها الناس، خاصة فيما يروج بين الأمة الآن من أمر مريج في أحوالهم وعلاقاتهم والمصائب التي أصابتهم حينما ألغوا المرجعية أو ضعفت المرجعية للعلماء، خاصة عند بعض الأجيال الناشئة، عندما ضعفت المرجعية وقعوا في هذه الكوارث، وهذا خلاف وصية الله عز وجل، فالله عز وجل في مثل الأحداث التي نعيشها اليوم يقول: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، فالذين يستنبطونه هم العلماء الراسخون.
فلا شك أن من أعظم أسباب الفرقة والشتات هو عدم الخضوع لمرجعية العلماء التي هي وصية الله وهي صمام الأمان بإذن الله، ولأسباب كثيرة ليس هذا هو السبب الوحيد.
السؤال: من هم أهل الوعد؟
الجواب: أهل الوعد هم الذين أخذوا بالوعد ولم يعولوا على الوعيد، وهم المرجئة وغلاة الجهمية وطوائف كثيرة من الأمة، وكذلك بعض الذين عندهم نفاق أو فجور ويقولون: الله غفور رحيم، لا يتقون الله ولا يذكرون أن الله عز وجل شديد العقاب، كالذين يأخذون بنصوص الرحمة ونصوص الوعد، ولا يهتمون بالخشية لله ولا الخوف منه ولا اعتبار الوعيد في المعاصي وغيرها، هؤلاء يعتبرون أهل الوعد.
مداخلة: ما هي نصيحتكم لبعض أهل السنة الذين انشغلوا بإخواننا أهل السنة؟
الشيخ: هذه ظاهرة ليست غريبة، ففي ظل الأخطاء والتجاوزات لا يزال يوجد من أهل السنة الذين هم أهل الحق من يسيء إلى الحق بأسلوبه ومنهجه أو بتعامله مع الآخرين وهذا أمر طبيعي، لكن الأمر غير الطبيعي هو أن يحسب الناس سلوكيات هؤلاء الخاطئة على السنة والجماعة، وهم يعلمون أنه ما من مبدأ في الدنيا ولا منهج ولا ديانة إلا ويوجد من أتباعها من يخطئ، فهل نحسب أخطاء وتجاوزات أتباع الديانات والمذاهب التي تخالف أصولهم ومناهجهم وديانتهم ونحسبها على الديانات أو المبادئ؟ فكذلك في الدين جملة في الإسلام أن تحسب تصرفات بعض المسلمين على الإسلام والمسلمين، هذا خطأ فادح ويخالف بدهيات التعامل بين البشر، وكذلك بوجه أخص، وهو موطن السؤال ما يحدث من بعض المنتسبين للسنة من قسوة وتعجل وهم قلة بحمد الله، وما يحدث من بعضهم من إساءة تعامل مع الآخرين، كل هذه تصرفات يحاسبون عليها ولا تنسب إلى السنة والجماعة، فالسنة والجماعة منهج، ينبغي أن يكون مرتكز التحاكم وهو مرتكز الحكم على أفعالنا وتصرفاتنا.
فيجب أن نتقي الله فيما نعمل وما نقول، سواء منا من يسيء إلى السنة والجماعة أو من يحكم عليه من تصرفات بعض أفرادها، فهذه سنة الله في خلقه، فيجب أن نصبر وأن نتناصح وأن نبين للناس وجه الحق، وأيضاً أن نخطئ المخطئ منا وإن كان من أهل السنة والجماعة فهو إنسان منا.
السؤال: هل الأشاعرة والمعتزلة من أهل السنة، ولماذا أطلق لفظ أهل السنة على الأشاعرة في بداية الأمر؟
الجواب: المعتزلة ليسوا من أهل السنة ولا أرادوا أن يكونوا من أهل السنة أصلاً، وهذا واضح من مقالاتهم ومنهجهم، وأما الأشاعرة فالكلام فيهم يحتاج إلى شيء من التفصيل، لعلي أوجزه بقواعد محدودة.
أولاً: الأشاعرة هم أتباع أبي الحسن الأشعري الذي ظهر مذهبه في القرن الرابع الهجري، وكان مذهبه مذهب أهل السنة والجماعة في الجملة وكثير من التفاصيل، ثم دخلتهم النزعة الكلامية، أي: تقرير الدين بالعقول وبمسائل كلامية، فانحرف المسار الأشعري إلى الكلاميات، ثم إلى التصوف بعد القشيري، فدخلهم علم الكلام والتصوف، فأصبح الأشاعرة أصناف، منهم أهل حديث وعلماء وفقهاء في جملتهم على السنة والجماعة كـالنووي وابن حجر إن صح انتسابه للأشاعرة وغيرهم، وكـالبيهقي والخطابي ، وهؤلاء من أهل السنة والجماعة، وانتسابهم للأشاعرة خطأ يغفر الله لنا ولهم، ومثلهم كثير من علماء الأشاعرة إلى يومنا هذا، ينتسبون إلى الأشاعرة مجرد انتساب، لكنهم على منهج أهل الحديث من أهل السنة والجماعة فهؤلاء من أهل السنة والجماعة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر