والإيمان بأن الأطفال إذا أصابهم شيء في دار الدنيا يألمون، وذلك أن بكر ابن أخت عبد الواحد قال: لا يألمون. وكذب!
واعلم أنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله، ولا يعذّب الله أحداً إلا بقدر ذنوبه، ولو عذّب أهل السماوات وأهل الأرضين برهم وفاجرهم عذّبهم غير ظالم لهم، لا يجوز أن يقال لله عز وجل إنه ظالم، وإنما يظلم من يأخذ ما ليس له، والله جل ثناؤه له الخلق والأمر، والخلق خلقه والدار داره، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يقال لم؟ وكيف؟ لا يدخل أحد بين الله وبين خلقه ].
أما ما يتعلق بالجزاء على الأعمال فإن الله عز وجل لا يُدخل الجنة أحداً إلا برحمته سبحانه، لأن أعمال العباد مهما بلغت من الكمال والوفاء فإنها لا تكافئ نعم الله عز وجل على العبد، ولنأخذ هذا بمثال واضح بيّن تقتضيه الفطرة، وهو أن الأعمال الصالحة بحد ذاتها لم تكن إلا بتوفيق الله، فهذا التوفيق نعمة كبرى لا يكافئها العمل، لأن العبد بنفسه ضعيف فقير إلى الله عز وجل والله هو الغني القوي، والعبد لا يملك لنفسه شيئاً فالله عز وجل هو الذي خلقه، ثم هداه، وبالهداية وفقه للعمل، ثم جعل الله له على عمله ثواباً، وذلك بفضل الله ورحمته.
فمن هنا فإن أعماله لا تكافئ شيئاً من نعم الله عليه.
كما أنه لا يُنسب إلى الله الظلم، وهذا أمر بدهي ولا يحتاج إلى تقرير، ولذلك لا ينبغي لطالب العلم أن يفصّل في هذه الأمور؛ لأن الإجمال فيها هو مقتضى الفطرة، يقال: إن الله عز وجل لا يظلم أحداً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، ويقال: إن الله عز وجل يفعل في خلقه ما يشاء، ويقال: إن الله عز وجل ينعم على الطائعين برحمته.. إلى آخر الأمور الإجمالية؛ لأن التفصيل في هذه الأمور يوقع في الشبهات والشكوك، ثم إنه أيضاً خلاف الأدب مع الله عز وجل، فلا ينبغي أن نبالغ في نفي الظلم عن الله؛ لأن ذلك أمر تقتضيه العقول السليمة والفطر المستقيمة، ولا نبالغ في القول بأن الله عز وجل لو عذّب العباد كلهم لكان له ذلك، لكن نذكرها على سبيل الإجمال من باب الرد على الفرق، ولذلك لم يكن السلف يذكرون هذه الأمور حتى تكلم فيها الناس، فلما تكلم فيها الناس بغير حق وقالوا على الله بغير علم، وعمّت به البلوى وسمعها العامة والخاصة تكلم السلف عنها من باب تقرير الحق ونفي الباطل، والرد على الشبهات.
وهذه قاعدة عظيمة في الدين، وهي أن الشبهة إذا لم تشتهر ولم تنتشر فلا يجوز الكلام فيها إلا في حدود ضيقة جداً، وإذا اشتهرت وانتشرت فلا بد من الكلام فيها، ولذلك نجد أن الله عز وجل في كتابه الكريم ما تكلم في أمر من الأمور التي تتعلق بذاته وأسمائه وصفاته مما يوجب نفي النقص تفصيلاً إلا بما تكلم به أهل الضلال، فالله عز وجل إنما نفى عنه الصاحبة لأن هناك من قال بذلك القول العظيم الشنيع، ونفى عن نفسه الولد لأن هناك من قال بذلك، ونفى عن نفسه النصب واللغو لأن هناك من قال بذلك، لكن لا نجد أن مذهباً من المذاهب ذُكر تفنيده في القرآن وهو ليس له وجود ولا شهرة، فالمذاهب المغمورة ينبغي ألا نفصّل عنها وألا نتكلم عنها.
المهم أن الشيخ في تقرير نفي الظلم عن الله عز وجل ونحو ذلك إنما أراد أن ينفي ما قالته بعض الفرق أو تكلموا فيه بغير حق.
وهذا كلام أشار إليه الشيخ لأنه اشتهر في وقته أو بمناسبة معينة، أو لأنه اطّلع عليه، فإن مفردات أقوال أهل الأهواء لا حصر لها، وأغلبها مما لا يُعقل، فأقول: ربما قصد الشيخ أن هناك قولاً في هذا الأمر، وأن هذا الأمر غريب فأراد الرد عليه؛ لأن أهل الأهواء تكلموا في كل شيء يرد على أذهانهم وخيالاتهم، فهناك من زعم أن الأطفال لا يحسّون بالألم، زعماً منه بأن إحساسهم بالألم ينافي رحمة الله عز وجل، وأنه لو تألّم الأطفال لكان ظلماً من الله لهم، وهذا ضلال لأن الله عز وجل له في خلقه شئون وله في فعله حكم، فحينما يتألم الحيوان أو الإنسان غير المتسبب كالطفل أو الشيخ الكبير أو المريض فذلك راجع لحكمة يعلمها الله عز وجل.
والأطفال أو غيرهم ممن ليسوا مكلفين آلامهم لا بد أن ترجع في المآل إلى مصالح لهم أو لذويهم، ولا تذهب سدى، لأن الله عز وجل ليس بظلام للعبيد.
لكن كيف تكون هذه المصالح؟ ربما يكون الألم للطفل وهو صغير في مصالح يدّخرها الله له بعد كبره أو يوم القيامة، أو مصالح ترجع إلى منفعة لوالديه أو لذويه، والله أعلم بالحال.
فالقصد أن ابن أخت عبد الواحد أو غيره ممن أنكروا ذلك أنكروه زعماً منهم أن هذا ينافي الرحمة.
وقد يقال إن الألم للطفل يجعل الوالدين يهتمان فيكون لهما الأجر في هذا الهم، وهذا جانب، لكن أيضاً ألم الطفل قد لا يظهر، لكن المهم أن ذلك راجع لحكمة علمها الله عز وجل نحن لا نعلمها، وأن ذلك من الله ليس بظلم؛ لأنه إذا استشعرنا كمال الله عز وجل وكمال حكمته وكمال رحمته، نعرف أن ما يوقعه الله عز وجل على غير المكلّفين من الآلام وغيرها راجع لحكمة ومصلحة غائبة لا ندركها، والله أعلم بها.
قوله: (وإنما يظلم من يأخذ ما ليس له)، يعني أن الله عز وجل حينما يفعل في العباد شيئاً بما في ذلك تعذيبهم فإن ذلك له عز وجل، لذلك لا يوصف عمله بالظلم لأنه مالك الملك يفعل في ملكه ما يشاء، إنما يوصف بالظلم من يأخذ ما ليس له، أو يفعل ما ليس له حق أن يفعله، والله عز وجل له أن يفعل في ملكه ما يشاء.
قوله: (وإذا سمعت الرجل يطعن على الآثار)، أقول: هذا يتعلق بمنهج شامل وعام لجميع أهل الأهواء والافتراق، وسمة عامة من سماتهم وأصل من أصولهم وهو الطعن في الآثار، والمقصود بالآثار نصوص القرآن والسنة، وأقوال السلف، فالآثار إذا أُطلقت في مثل هذا المقام فيقصد بها كل ما أُثر من نصوص الوحي، وأحياناً تُطلق ويراد بها السنة وآثار السلف، وأحياناً تُطلق ويُراد بها أقوال السلف فقط حسب السياق، لكن المقصود بالآثار هنا الوحي كله القرآن والسنة وما نُقل عن السلف من أقوال وأفعال ومناهج وتقريرات، فالطعن في الآثار أياً كان يعتبر من أصول أهل الأهواء، والرجل إذا طعن في الآثار فإنه مغموز في دينه، صاحب هوى سواء شعر أو لم يشعر.
النوع الأول: كراهة النصوص، يعني كراهة نص من النصوص أو بعض النصوص.
فهذا نوع من الطعن، فكثير من أهل الأهواء يكرهون إيراد النصوص التي تخالف أهواءهم حتى وإن كانت آيات، فالمعطّل للصفات أو المؤول للصفات لا يطيق سرد الآيات التي تثبت الصفات؛ لأنها تخالف مبدأه وما هو عليه، ولا يطيق الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات صفات الله عز وجل، ولذلك نجد أن الجهمية والمعتزلة وكثيراً من متكلمة الأشاعرة والماتريدية في كتبهم، وفي مقالاتهم، وفي مناظراتهم لا يوردون أحاديث الصفات إلا للطعن فيها، هذه قاعدة لا تتخلف، ومن شاء فليرجع إلى كتبهم، فإنهم يوردون أحاديث الصفات لردها أو لتأويلها والتشكيك فيها، وإذا أوردوها يوردونها مفردة ولا يسردون النصوص، أي أنهم يوردون ما يكفي لرد النص عندهم أو تأويله، وهذا نوع من الطعن في الآثار، بل هو من أعظم الطعن التي طُعنت به السنة؛ لأنه طعن ملبس.
وقد يوردونها ويقولون: الحشوية يقولون كذا، فيوردون الحديث الذي يزعمون أن من قال به فهو حشوي أو مشبّه، وهو من أحاديث الصفات.
وأحياناً يكون طعن الآثار بالرد المباشر كما تفعل الجهمية، أعني جهمية القرن الثاني الهجري، فلما جاء القرن الثالث ورأوا أن العامة وعموم أهل العلم تبصروا في هذا الأمر وأنهم لا يطيقون مذهب الجهمية صاروا يؤولون كما فعل بشر المريسي ، حتى أن شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره يقول: إنه كان يقول: لا داعي إلى أن نرد النصوص بل نوردها على وجه يتلاءم مع الأصول التي نحن عليها، وأورد النصوص في كتبه وأوّلها، أي أنه أوردها على سبيل الرد، لكنه رد غير مباشر، أما الرد المباشر فهو مذهب الجهمية الأوائل.
ولا يزال الرد المباشر للأحاديث هو منهج أهل الأهواء حتى عصرنا هذا، فهناك من يوردون أحاديث لا توافق أهواءهم على سبيل الرد، فمثلاً كثير من العقلانيين الآن يوردون النصوص الواردة في الدجال وأشراط الساعة وأخبار المهدي على سبيل التهكّم والسخرية.
هناك من يورد أحاديث تتعلق بالقضايا الغيبية مثل حديث لطم موسى لملك الموت، أوردها أحدهم على سبيل السخرية والتهكّم، ولم يكلف نفسه التثبت من السند هل هو صحيح أو غير صحيح، فهذا نوع من الطعن في الآثار يُتهم صاحبه على الدين.
كذلك التشكيك والتأويل ولمز الرواة، أو ذكر بعض ألفاظ الحديث على سبيل السخرية والرد، أو دعوى أن هذه النصوص متشابهة، فهذا أيضاً نوع من الطعن في الآثار ؛ لأنه لا يمكن أن يكون ما أخبر الله به وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب متشابهاً على الناس في معانيه، نعم، قد تتشابه كيفياته، أما معانيه فهي حق، فهم يوردون النصوص بدعوى أنها متشابهة.
ومن الطعن في الآثار دعوى عدم حجيتها، مثل قولهم: بأن حديث الآحاد لا يحتج به في العقيدة.
ولنأخذ على سبيل المثال أركان الإسلام، فأركان الإسلام كلها ذكرت في القرآن مجملة والسنة بينتها، فهذا معنى حاجة القرآن إلى السنة، بمعنى أن المسلم لا يمكن أن يتم إيمانه وإسلامه إلا بأن يعمل بالقرآن على مقتضى السنة، وأن يرجع في فهم القرآن والعمل به إلى السنة المبيّنة له من قول أو تقرير أو فعل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
هنا كلام في الحاشية قال: عن الدارمي وابن عبد البر في الجامع قال الفضل بن زياد سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل وسئل عن الحديث الذي روي أن السنة قاضية على الكتاب؟ فقال: ما أجسر على هذا، أن أقول: إن السنة قاضية على الكتاب! إن السنة تفسر الكتاب وتبينه، إلى آخره.
وهذا من باب الأدب، فمن الصعب أن يقال إن السنة قاضية على القرآن، لكن من قالها نعرف أن قصده أنها شارحة له ومبيّنة لا أنها حاكمة عليه حكم الفضل والتقديم، هذا ظاهر والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر