إسلام ويب

الفرق والمذاهب المعاصرة [2]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد كان للفتنة التي أوقد نارها عبد الله بن سبأ اليهودي على الخليفة عثمان رضي الله تعالى عنه أثرها البالغ في حياة المسلمين, حيث نشأ عنها الفرقة بين المسلمين التي قادها رءوس الجهل, وجانبها الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم, وكان من نتائجها الابتداعية بدعة الخوارج الذين خرجوا عن أهل السنة في حقيقة الإيمان فكفروا مرتكب الكبيرة من المسلمين لجهلهم وقلة علمهم, وخرجوا على أمير المؤمنين علي فقاتلهم وحاز شرف قتلهم, وما زالت لهم بقية فكر في عصرنا متمثلة في الإباضية وجماعة الهجرة والتكفير.
    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    تحدثنا في الدرس الماضي عن أنواع الخلاف، وأحكام كل نوع.

    وبينا في الدرس الماضي: أن الخلاف ينقسم إلى قسمين:

    خلاف غير مذموم يعذر صاحبه، وخلاف مذموم لا يعذر صاحبه.

    وقلنا: أن النوع الأول: الذي هو الخلاف غير المذموم الذي يعذر صاحبه، هو الخلاف في مسائل الاجتهاد التي يسوغ فيها الاجتهاد من المجتهد بعد بذل غاية الوسع والطاقة في التوصل إلى الحق، فهذا الاجتهاد حتى لو خالف صاحبه الحق فإنه يكون معذوراً، بل يكون له أجر من الله عز وجل لاجتهاده في طلب الحق.

    وذكرنا الأدلة على ذلك، وقلنا: أن المعني بالحديث في هذه الدروس هو القسم الثاني: وهو الخلاف والتفرق المذموم الذي لا يعذر صاحبه، وبينا أن هذا الخلاف هو الذي نشأت عنه الفرق الضالة المنحرفة، وتحدثنا عن حديث الافتراق، وبينا الناجين من الافتراق وهم أهل السنة والجماعة.

    وسيكون حديثنا إن شاء الله في هذا اللقاء بإذنه تعالى، عن نشأة الفرق الضالة، وعن أول فرقة من الفرق التي شقت صفوف المسلمين، وهي الخوارج.

    قلنا سبق أن: أنه مع وجود بعض مظاهر الابتداع التي واجهها النبي صلى الله عليه وسلم في زمنه كالرهبنة وكالخوض في القدر بغير الوجه الشرعي لم تظهر فرق يكون لها مقالة، وتجتمع عليها، وتتميز عن جماعة المسلمين، وكذلك في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكذلك في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكذلك الحال في صدر خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ وقد وقعت هذه الظاهرة وهي وجود مقالات يجتمع عليها أصحابها ويكونون فرقة يشقون بها صفوف جماعة المسلمين، عندما وقعت الفتنة، وأعني: الفتنة التي وقعت وراح ضحيتها خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقضية الفتنة وما فيها من أحداث قضية واسعة وكبيرة، لكن الذي يمكن أن نذكره هنا، هو أن هذه الفتنة هي بسبب تآمر أعداء الإسلام كاليهود والنصارى والمجوس.

    فاليهود كان لهم تأثير كبير من خلال عبد الله بن سبأ الذي سبقت الإشارة إليه، وقلنا: إن عبد الله بن سبأ كان رجلاً من يهود اليمن، أعلن إسلامه، وجاء إلى المدينة، وعندما جاء إلى المدينة مكث فيها قليلاً، ثم انتقل إلى أطراف البلاد الإسلامية: انتقل إلى مصر، وانتقل إلى العراق، وهناك وجد بغيته ووجد بعض الجهال والغوغاء من الناس الذين كان له تأثير كبير فيهم، وأيضاً كان لهم تأثير كبير في حياة الأمة المسلمة.

    شخصية عبد الله بن سبأ

    شخصية عبد الله بن سبأ : أثبتها المؤرخون في كتبهم وهي شخصية ثابتة، حتى إن الشيعة الذين ينسبون إلى عبد الله بن سبأ هم شيعة متقدمون، وقد أثبتوا هذه الشخصية، وشكك فيها بعض الشيعة المتأخرين، وأيضاً شكك فيها الكتاب الذين يعتمدون على كتابات المستشرقين مثل طه حسين وأمثاله، والحقيقة أنها شخصية ثابتة تاريخياً وهي مشهورة تناقلتها كتب الفرق وكتب التاريخ جيلاً بعد جيل، وأصبحت مستفيضة وواضحة، وتأثيرها أيضاً واضح في حياة المسلمين، حيث إنه أثر في هؤلاء الغوغاء الذين قدموا إلى المدينة وكانت لهم مآخذ على عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهذه المآخذ بشكل مفصل لا يمكن أن نعرضها الآن بطولها، لكن يمكن أن تراجع في كتاب منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ فإنه عرض لمآخذهم وانتقاداتهم على خليفة المسلمين، وهي ما بين أمور أصاب فيها الخليفة، وما بين أمور كانت مجال اجتهاد، واجتهد الخليفة فيها فهو إما مصيب له أجران وإما مخطئ له أجر، أو أمور حصل فيها أخطاء من قبله، لكنها تضيع في بحار فضله ومكانته، ولو لم يكن من فضله إلا الصحبة لكان ذلك كافياً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تسبوا أصحابي، فوا الذي نفسي بيده! لو أن أحداً أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، فواحد من الصحابة وواحد من غير الصحابة كلاهما يعملان عملاً واحداً وهو الصدقة، وتتفاوت هذه الأعمال، فعمل الصحابي من حيث الكم قليل وهو المد، ومن حيث الكيف والنوعية أيضاً قليل وهو الطعام؛ وغير الصحابي أنفق مثل أحد وهو جبل كبير، فهو أكبر من المد من حيث الكمية، وهو ذهب فهو أيضاً أقوى من حيث النوعية؛ فإن الذهب أفضل وأغلى من الطعام، ومع هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي فوا الذي نفسي بيده! لو أن أحداً أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مثل مد أحدهم ولا نصيفه) فالمرجح لهذا القليل في الكم والنوع على ذاك الكثير في الكم والنوع الصحبة التي أشار إليها بقوله: (لا تسبوا أصحابي) فالصحبة لها فضل لا يعدلها فضل، ولهذا كان من مفردات عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يسكتون عما شجر بين الصحابة.

    وبعد أن حصلت فتنة قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه فإن هؤلاء الغوغاء الذين جاءوا وقتلوا عثمان في المدينة كانوا هم الذين انقسموا فيما بعد إلى قسمين: قسم منهم صاروا من الخوارج، وقسم منهم صار من الشيعة.

    عدم وجود الصحابة رضوان الله عليهم في الفرق التي ظهرت في الفتنة

    الفرق التي ظهرت في الفتنة لم يكن أحد فيها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو من التابعين الذين عرفوا العلم ودرسوه وتفقهوا في دين الله عز وجل بشكل صحيح، وهذه نتيجة مهمة جداً، وهي أن هذه الفرق التي ظهرت لم يكن ولا يمكن لأحد أن يستطيع أن يثبت أن في الخوارج أحد من الصحابة، مع كثرة الصحابة الذين كانوا في تلك الفترة، ولا يمكن أيضاً لأحد أن يثبت أن مع الشيعة أحد من الصحابة، بل لم يوجد في الخوارج ولا الشيعة أحد من التابعين وكبار تلاميذ الصحابة الذين استفادوا منهم وعرفوا دين الله عز وجل حقيقته.

    أقول: هذه النتيجة مهمة جداً، وسيتبين لنا أهمية هذا عند الحديث عن هذه الفرق وما نسب إلى الصحابة منها.

    عندما قتل خليفة المسلمين بويع علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة، وحصلت الخصومة المشهورة بين علي بن أبي طالب وأهل الشام وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، وهذه الخصومة هي خصومة اجتهادية، وهم -كما قلت- ما بين مصيب وما بين مخطئ وكلاهما مأجور، وما بين من وقع في زلة لكنها بسيطة بالنسبة لبحار فضله ومنزلته، ومن أعظمها الصحبة.

    ولما حصلت الفتنة وحصلت معركة الجمل وجاءت معركة صفين طلب أهل الشام التحاكم إلى الكتاب والسنة؛ فلما طلبوا التحاكم إلى الكتاب والسنة قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنا أولى من يتحاكم إلى الكتاب والسنة، وأيده في بداية الأمر الخوارج الذين أصبحوا خوارج فيما بعد ثم بعد ذلك قالوا: إن هذا من تحكيم الرجال عندما أرسل علي بن أبي طالب بعض الصحابة رضوان الله عليهم للاتفاق مع بعض أهل الشام حول الصلح قالوا: أنت حكمت الرجال في كتاب الله! ولا حكم إلا لله! فإما أن تعود وتتوب إلى الله عز وجل من هذا الذنب الذي هو الكفر عندهم أو خرجنا عليك وقاتلناك، فبين لهم إمام المسلمين -وهو أعلم من كان في تلك الفترة وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه- بين لهم أن التحاكم إلى الكتاب والسنة واجب، وأن التحاكم إلى الكتاب والسنة لا يمكن أن يتم إلا من خلال فهم النصوص الشرعية عن طريق أهل العلم، ومن الطبيعي أن يكون الرجال هم الذين يفهمون وهم الذين يعلمون، وإذا كان الشرع أباح عند حدوث خصومة بين المرأة وزوجها أن يكون هناك حكماً من جهة الزوجة وحكماً من جهة الزوج، فكيف في خصومة تهم المسلمين جميعاً وهي خطيرة في حياة المسلمين؟! لا شك أنها أولى، فلم يفهم الخوارج هذا الكلام وخرجوا عليه في قصة ستأتي بإذن الله تعالى.

    وهنا أحب أن أنبه إلى قضية مهمة وهي أن كثيراً من الكُتَّاب الذين كتبوا عن هذه المرحلة وهذه الفترة هم المستشرقون، وقد كتبوا كتابات سيئة جداً في هذا الموضوع، واعتمد عليهم كثير من الكتاب الذين أرخوا لهذه الفترة، فتجد أن بعض المؤرخين الذين كتبوا عن الفرق يرد نشأة الفرق إلى الخلاف الذي حصل بين الصحابة، وهو خلاف اجتهادي أيضاً بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالخلاف الذي حصل بين الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة وجلسوا تحتها ورشحوا سعد بن عبادة للخلافة، ثم جاء المهاجرون بعد ذلك وأخبرهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الأمر في قريش) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (الأئمة من قريش) فلما عرفوا ذلك تنازلوا مباشرة، ورشح أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأنه كان أفضل الصحابة في تلك الفترة.

    وهذه قضية بسيطة وسهلة، لكن المستشرقين ضخموها تضخيماً كبيراً وتابعهم كثير من الكتاب وقالوا: إن الصحابة رضوان الله عليهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم انقسموا إلى أحزاب، وبعض الكتاب صور أن هذا الخلاف الذي صار بين الصحابة هو مثل الخلاف الذي يتم بين الأحزاب في المجتمع الغربي، فيقولون: انقسموا إلى يمين ويسار ووسط، وصار الأنصار حزباً وعلى رأسهم سعد بن عبادة ، وصار المهاجرون حزباً وعلى رأسهم أبو بكر وعمر ، وهناك حزب صغير وضعيف وهو بنو هاشم انشغلوا بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان حزب المهاجرين قوي فضغط على بقية الأحزاب واستطاع أن ينال السلطة وأن تكون له الولاية، وبقيت تلك الأحزاب الأخرى وهي حزب الأنصار وحزب بني هاشم على شكل أحزاب معارضة لهذا الحزب الذي حكم بالقوة وبالضغط القوي الذي حصل منه، وهكذا يصورون الصحابة وكأن تربية النبي صلى الله عليه وسلم لهم لم تؤثر فيهم.

    ولا شك أن هذا باطل وأنه ظلم عظيم وأنه قذف في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والمشكلة كما قلت هي أن صدور هذا الأمر صدروه من المستشرقين أمر طبيعي؛ فإن المستشرقين كما تعلمون هم أعداء للمسلمين لكن قلدهم بعض الكتاب مثل أحمد أمين في كتابه (فجر الإسلام) فقلدهم في حكاية هذه الأحزاب وصراعات وكأنك تقرأ في صحيفة حول قضية من قضايا المجتمع الغربي والديمقراطية الغربية، وهم بطبيعة الحال يتكلمون عن مجتمعاتهم لكن الخطأ الكبير هو أن يصور جيل الصحابة رضوان الله عليهم كأنهم مثل الأحزاب الديمقراطية التي تتصارع وتتقاتل على السلطة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089012892

    عدد مرات الحفظ

    780578514