إسلام ويب

العقيدة الواسطية [19]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحتل مسائل الإيمان مكانة عظيمة بين أبواب العقيدة, لما وقع فيه من الخلاف بين أهل السنة ومن ناوأهم من الفرق الضالة, ومن جملة مسائله حقيقته عند أهل السنة في كونه قولا وعملا, يشمل تصديق القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح, وقد ضل فيه الخوارج غلوًا, والمرجئة تفريطًا, فنشأ عن ضلالهم آثار خطيرة في حياة المسلمين تجاه التعامل مع المنكرات والمعاصي الصادرة من أهل القبلة.

    أهمية باب الإيمان بين أبواب العقيدة

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه وسنتهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

    أما بعد:

    فيعتبر موضوع الإيمان من أهم موضوعات العقيدة، بل من أعظم الموضوعات الأساسية في حياة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو كذلك من المسائل التي وقع فيها الاختلاف والتفرق في حياة الأمة، وترتب عليه الكثير من المشكلات والاختلافات والتفرق.

    وقد ألف السلف الصالح رضوان الله عليهم تصانيف مفردة في الإيمان، وممن ألف في ذلك: أبو عبيد القاسم بن سلام، وابن أبي شيبة، وأبو يعلى الحنبلي، والعدني، وللإمام أحمد رحمه الله كتاباً اسمه (الإيمان) ما يزال مخطوطاً، وهو في (200) ورقة تقريباً، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله له كتاب الإيمان الكبير، والإيمان الأوسط.

    وموضوعات الإيمان موضوعات حساسة وخطيرة؛ لأنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بقضايا التكفير، ولهذا كانت مسألة الإيمان أول مسألة وقع فيها الخلاف في حياة المسلمين، ووقع بينهم التفرق بعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد خرجت الخوارج وكفرت المسلمين بالذنوب، ثم ظهرت المرجئة -كرد فعل للخوارج- فأخرجت العمل من حقيقة الإيمان، وأهل السنة وسط بين هؤلاء جميعاً.

    والطريقة التي سنتبعها في بيان هذا الباب هي: أننا سنتحدث أولاً: عن عقيدة أهل السنة في الإيمان مفصلة، ثم نتحدث عن عقائد الفرق الضالة، ثم نبين الآثار المترتبة على هذا الاختلاف والتفرق.

    حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة

    وقد اتفقت كلمة أهل السنة والجماعة على أن الإيمان قول وعمل.

    وقد حكى الإجماع على ذلك عدد من الأئمة، منهم: الإمام الشافعي والبغوي وأبو عمر بن عبد البر والإمام أحمد ، وغيرهم من الأئمة المتقدمين رحمهم الله تعالى.

    يقول البخاري رحمه الله تعالى: حدثت عن ألف عالم في الأمصار كلهم يقول: الإيمان قول وعمل، وسماهم.

    وعامة كتب أهل السنة في العقيدة يعقد فيها باب خاص بالإيمان، مثل: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي ، والشريعة للآجري ، والإبانة لـابن بطة ، وغيرها من كتب العقيدة الكبيرة، وكذلك في كتب السنة مثل صحيح البخاري ؛ فإنه أفرد الإيمان بباب مستقل، وكذلك مسلم وأصحاب السنن لهم كتب في الإيمان ضمن كتابهم الصحيح أو السنن.

    معنى قول السلف: (الإيمان قول وعمل)

    ومعنى قول السلف: الإيمان قول وعمل، يعني: أن الإيمان مشتمل على هذه الحقيقة المركبة من القول والعمل، والقول يراد به: قول اللسان وقول القلب.

    فأما قول القلب: فهو تصديقه بما أخبر الله به، وبما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وأما قول اللسان: فهو يشمل قول لا إله إلا الله، والذكر، وقراءة القرآن، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، إلى آخر تلك العبادات المتعلقة باللسان.

    وأما العمل: فإنه يشمل عمل القلب، وعمل الجوارح:

    فأما عمل القلب فهو خشية الله، محبة الله، الخوف من الله، التوكل على الله، الإنابة، التوحيد، الإخلاص، المراقبة، اليقين، القبول، الرضا، وهكذا سائر الأعمال القلبية التي تكون في القلب، فهذه تسمى: أعمال القلب.

    وأما عمل الجوارح فهو يشمل الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وهكذا سائر الأعمال التي تكون بالبدن.

    إذاً: هذه هي حقيقة الإيمان، مركبة من القول والعمل، والقول يشمل قول القلب وقول اللسان، والعمل يشمل عمل القلب وعمل اللسان.

    وإذا أردنا أن نقسم حقيقة الإيمان على الجوارح نجد أنها اشتملت على ثلاثة جوارح:

    على جارحة اللسان: قول اللسان.

    وعلى جارحة القلب: قول القلب وعمل القلب.

    وعلى بقية الجوارح عموماً.

    ولهذا عبر بعض السلف الصالح رضوان الله عليهم عن حقيقة الإيمان وعن تعريف الإيمان بأنه: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان.

    وعبر بعضهم فقال: هو قول وعمل ونية.

    وقال بعضهم: هو قول وعمل ونية واتباع للسنة.

    والحقيقة أن هذه العبارات ليست مختلفة اختلاف تضاد، وإنما هو اختلاف تنوع، وهو مثل إخبار الصادقين عن حادثة معينة رأوها جميعاً، هذا يعبر بتعبير، وذاك يعتبر بتعبير آخر، والثالث يعبر بتعبير ثالث، لكنها جميعاً تتفق في المعنى.

    إذاً: الإيمان حقيقة مركبة تشمل الدين كله، وتشمل الإسلام كله، وتشمل العبودية لله كلها، فلا يخرج من الدين شيء ليس من الإيمان، فكل ما شرعه الله سبحانه وتعالى مما يتعلق بالعبادات القولية أو القلبية أو التي تتعلق بالجوارح من الإيمان، ولهذا لما أراد السلف أن يعبروا عن الدين كله عبروا بأنشطة الإنسان، وهي متكونة من القول والعمل، فقالوا: قول وعمل.

    وأصح وأدق تعريف من تعاريف السلف هو قولهم: الإيمان قول وعمل، وتفصيله على النحو السابق.

    وقد يقول قائل: لماذا قالوا: قول وعمل ونية؟ ولماذا قالوا: قول وعمل ونية واتباع للسنة؟

    نقول: الذين قالوا: إن الإيمان هو قول وعمل ونية؛ خشوا ألا يفهم من قولهم: (عمل) عمل القلب، ومن قولهم: (قول) قول القلب؛ لأن الذهن قد ينصرف عند سماع (قول) إلى اللسان، وعندما يقال (عمل) ينصرف لعمل الجوارح، فأرادوا التأكيد على عمل القلب، فقالوا: ونية، هذا من جهة.

    ومن جهة ثانية؛ فإن الأعمال إذا كانت على غير السنة فإنها لا تكون من الإيمان، أرأيتم البدع التي يبتدعها الناس هل هي من الإيمان؟ لا، ليست من الإيمان، مثل: الطواف حول القبور، والذبح لها، والذكر الجماعي، والاحتفالات البدعية، والأعياد المبتدعة ونحو ذلك، كل هذه الأعمال ليست من الإيمان في شيء، وليست من حقيقة الإيمان.

    أدلة شمول الإيمان لقول القلب

    أولاً: قول القلب -الذي هو تصديقه-: الدليل عليه هو قول الله عز وجل: وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] ففي هذه الآية تحديد لمحل الإيمان.

    ويقول الله عز وجل: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:7] فدل على أن هناك ارتباطاً بين الإيمان وبين القلب، فقوله: وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ يعني: زين الإيمان في قلوبكم.

    وقال: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ [المجادلة:22].

    وقال عن المكره الذي ينطق بكلمة الكفر: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].

    ولو رجعنا إلى مادة (قلب) في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن لوجدنا أن كثيراً من الأعمال علقت بالقلب، مثل: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] ونحو ذلك من الأعمال المتعلقة بالقلب، مما يدل على كثرة الأعمال القلبية التي فرضها الله عز وجل على العباد، هذا ما يتعلق بقول القلب.

    إذاً: من سقط عنده هذا الركن من أركان الإيمان هل يكون مسلماً؟

    لا يكون مسلماً أبداً بإجماع المسلمين؛ لأن ضد قول القلب: التكذيب، ولا يكون مكذباً إلا المنافق، حتى المرجئة الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق القلبي فقط، قالوا: من ترك قول القلب -وهو التصديق القلبي- فهو كافر، وكذلك الخوارج، وكذلك أهل السنة قالوا: بأن من ترك قول القلب فهو منافق كافر خارج عن الإسلام.

    أدلة شمول الإيمان لقول اللسان

    ثانياً: قول اللسان: والدليل على أن قول اللسان من الإيمان: قول الله عز وجل: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا [البقرة:137]، ما هو الذي آمنتم به؟ القول، فالله عز وجل أمرهم أن يقولوا: (آمنا)، ولو قالوا: (آمنا) فإن النتيجة هي: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا [البقرة:137]، وهذا دليل على أن القول من الإيمان.

    ومما يدل على ذلك أيضاً: قول الله عز وجل: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر:84-85]، وما هو الإيمان الذي آمنوا به؟ قولهم: آمنا، فقال: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ، فسمى قولهم: آمَنَّا بِاللَّهِ: إيماناً.

    ومما يدل على ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين: (الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها قول لا إله إلا الله -هذا هو محل الشاهد- وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).

    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا) أمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم بمقاتلة الناس: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) والشهادة: تتضمن الإخبار، والإخبار لا يكون إلا باللسان.

    ومما يدل على أن قول اللسان من الإيمان: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة) رواه ابن مندة .

    وأيضاً في الحديث الآخر: (من قال: لا إله إلا الله مستيقناً بها غير شاك دخل الجنة).

    وفي الحديث الآخر بدل (مستيقناً) قال: (صدقاً)، وهذا يدل على أن قول لا إله إلا الله من الإيمان.

    إذاً: لو أن إنساناً ترك قول اللسان هل يكون كافراً؟

    نقول: قول اللسان منه ما يكون تركه لا شيء فيه، مثل: أذكار النوم والاستيقاظ منه، هذه ليست واجبة، فلو تركها فلا شيء عليه، ومن القول ما يكون تركه إثماً، لكنه لا يصل إلى الكفر، مثل: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو مستطيع له، ومن القول: ما يكون تركه كفراً مخرجاً عن الإسلام، وهو الشهادتان؛ فمن لم ينطق بهما لا يكون مسلماً، والدليل على ذلك: الأحاديث السابقة، ومنها قوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، وهذا يدل على أن الشهادة باللسان ركن أساسي في الإيمان، يزول الإيمان بزواله.

    والدليل الثاني: ما رواه البخاري عن المسيب بن حزن -وهو أبو سعيد بن المسيب -: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى عمه أبي طالب فقال له: (يا عم! قل: لا إله إلا الله. كلمة أحاج لك بها عند الله)، فمات ولم يقلها، فأصبح مخلداً في النار، مع أنه مصدق بقلبه أن دين محمد من خير أديان البرية ديناً، كما قال ذلك في قصيدته.

    فلابد إذاً: من النطق بلا إله إلا الله محمد رسول الله، حتى يكون مسلماً.

    وهل النطق يكفي؟

    نقول: لا، لابد أن تضاف إليه الأركان الأخرى، هذا أولاً.

    ثانياً: لابد أن يكون هذا النطق لإنشاء الالتزام بالدين، ومعنى إنشاء الالتزام بالدين: أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهو مصدق بدين الإسلام، ويريد أن يعمل به، لكن لنفترض أنه قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، قولاً مجرداً بلا عمل أو اعتقاد، هل ينفعه ذلك؟ لا، لابد أن يقولها وهو يريد الالتزام بدين الله سبحانه وتعالى.

    أدلة شمول الإيمان لعمل القلب

    ثالثاً: عمل القلب، وعمل القلب يدخل فيه التوكل على الله عز وجل، فالله عز وجل يقول: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، فجعل التوكل شرطاً في الإيمان، وهكذا أنواع متعددة من أعمال القلب هي شرط في الإيمان، ولهذا ورد في حديث الشفاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان) ومعنى: (في قلبه مثقال ذرة من إيمان) يعني: عمل القلب، فإذا زال عمل القلب هل يكفر الإنسان؟

    نقول: إذا زال جزء منه؛ فإنه بحسب ما زال منه، فقد يزول جزء بسيط فلا يكفر، لكن إذا زال كل عمل القلب فإنه يكفر؛ لأنه لا يتصور أن يوجد مسلم لا يحب الله، ولا يخاف من الله، ولا يتوكل على الله، ولا يرجو الله، ولا ينيب إلى الله، وهكذا سائر أعمال القلب الكثيرة إذا زالت منه كلها فهو كافر بالله رب العالمين، ولهذا كان أقل أهل الجنة، وهم آخر من يخرج من النار -وهم الجهنميون- صفتهم: (من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان) ويعرفون بمواطن السجود، وهذا يدل على أن الصلاة ركن أساسي من أركان الإيمان.

    أدلة شمول الإيمان لعمل الجوارح

    رابعاً: عمل الجوارح: والدليل على أن عمل الجوارح من الإيمان: قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143].

    وورد في حديث الشعب أنه قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق -وهذا عمل- والحياء شعبة من الإيمان)، والله عز وجل يقول: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأنهم صلوا في البداية إلى بيت المقدس، ثم حولت القبلة، وتحدث بعض الناس عن أن الصلوات التي صلوها لبيت المقدس باطلة، فأنزل الله عز وجل قوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] فسمى الصلاة: إيماناً، والصلاة عمل من أعمال الجوارح.

    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان) رواه مسلم .

    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن).

    وهذا يدل على أن ترك الزنا من الإيمان، والترك من العمل، كما قال الله عز وجل: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79]، فعبر عن ترك التناهي بالفعل، قال: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ يعني: يتركون التناهي، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ يعني: لبئس ما كانوا يفعلونه من ترك التناهي، فسمى ترك التناهي فعلاً، فترك الزنا فعل وعمل أدخل في الإيمان، قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) إذاً: من ترك الزنا صار مؤمناً، وهكذا أحاديث كثيرة تدل على أن من ترك الكبائر فهو مؤمن.

    وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له).

    وقوله: (من غشنا فليس منا).

    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حسن العهد من الإيمان) كما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الإيمان.

    إذاً: الإيمان حقيقة مركبة من القول والعمل، والقول: يشتمل على قول القلب وهو: تصديقه، وقول اللسان: وهو النطق بالشهادتين، وما يتبع ذلك من قراءة القرآن والذكر ونحو ذلك، والعمل يشتمل على عمل القلب، وهو خشية الله، والتوكل على الله، ومحبة الله، والرجاء لله عز وجل ونحو ذلك، وأيضاً: عمل الجوارح، مثل: الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة.

    حكم ترك شيء من الإيمان

    فإن قيل: هل من ترك شيئاً من الإيمان، ولو جزءاً بسيطاً يكفر؟

    فالجواب: لا يكفر إذا ترك جزءاً بسيطاً، وذلك بحسب المتروك.

    والمتروك ثلاثة أنواع:

    النوع الأول: مندوب ومستحب لا إثم في تركه.

    والنوع الثاني: واجب يأثم صاحبه، لكنه غير خارج من الإسلام.

    النوع الثالث: ترك يخرج الإنسان من الإسلام، ويكون صاحبه كافراً.

    إذاً: المتروكات من الإيمان ثلاثة أنواع:

    الأول: ترك لا يعاقب الإنسان عليه، وهو ترك المستحب المندوب.

    والثاني: هو ترك الواجب وهذا يعاقب عليه، لكنه لا يخرج من الإسلام.

    والثالث: ترك يخرج من الإسلام، ويكون صاحبه كافراً.

    ترك المندوب مثل: السنن الرواتب والتسبيح، وذكر الله عز وجل في كل مكان، فهذه من النوافل، ولو أن الإنسان تركها لا يعتبر آثماً.

    وترك الواجب مثل: ترك بر الوالدين، والجهاد في سبيل الله، والصيام، على قول من لم يكفر تارك الصيام.

    وأما الترك المخرج من الإسلام فهو أنواع:

    النوع الأول: من ترك الإيمان كله، يعني: من ترك التصديق، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح، فهذا كافر لاشك في كفره.

    والثاني: من ترك تصديق القلب، وهذا كافر بإجماع الطوائف؛ حتى عند المرجئة.

    الثالث: من ترك الشهادتين من قول اللسان، فهذا أيضاً كافر خارج عن الإسلام كما دلت عليه الأحاديث السابقة.

    الرابع: من ترك عمل القلب بالكلية، فهذا كافر؛ حتى لو كان مصدقاً، يعني: من ترك عمل القلب لوحده حتى لو كان مصدقاً، وحتى لو كان يقول: لا إله إلا الله بلسانه، وحتى لو كان يصلي ويصوم، ما دام أنه ترك عمل القلب بالكلية، فإنه يكون كافراً.

    الخامس: من ترك عمل الجوارح بالكلية، لا يصلي، ولا يصوم، ولا يحج، ولا يزكي، ولا يعمل من أعمال الإسلام الظاهرة شيئاً، فهذا لاشك أنه كافر بإجماع السلف الصالح رضوان الله عليهم.

    التلازم المتين بين عمل القلب وعمل الجوارح

    هناك تلازم قوي بين عمل القلب وعمل الجوارح، فعمل القلب هو: أصل الإيمان في القلب، وإذا وجد عمل القلب فلابد أن يوجد عمل الجوارح مباشرةً، والاتصال بينهما اتصال ثابت شرعاً وواقعاً.

    أما من الناحية الشرعية: فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) فبين أن العلاقة بين القلب والجوارح علاقة تامة.

    بمعنى: أنه إذا لم يوجد شيء من عمل القلب، فلا يمكن أن يوجد شيء من عمل الجوارح، وإذا وجد شيء من عمل القلب، فإنه يوجد على قدره شيء من عمل الجوارح، فمن وجد في قلبه شيء من محبة الله، وشيء من الخوف من الله عز وجل، وشيء من التوكل على الله عز وجل؛ فإنه سيوجد مقابله عمل من الجوارح، فلا يتصور أبداً أن يكون عمل القلب موجوداً، وليس هناك عمل للجوارح بالمرة، ولا يتصور أيضاً وجود عمل الجوارح بدون عمل القلب بالمرة إلا في حالة المنافق، ففي الحالة العادية لا يمكن أن يوجد أحدهما دون الآخر.

    فإذا تصورنا إنساناً عنده عمل من أعمال القلب فإننا نقول: في الحالة الطبيعية لابد أن يوجد عمل الجوارح مباشرةً، ولا يمكن أن يوجد إيمان وتقوى لله عز وجل وقدرة على العمل ثم لا يحصل العمل؛ لأن العمل يتكون من الإرادة التامة، والقدرة الكاملة، فينتج العمل مباشرة، يعني: ما دامت المحبة موجودة لله، والخوف كذلك فلابد أن يحصل شيء من العمل، ولا يمكن أن يفقد العمل بالكلية.

    وكذلك في الحالة الطبيعية إذا كان يعمل في الظاهر، فهذا مباشرةً يدل على وجود إيمان في الباطن، ويمكن أن يوجد لدى إنسان عمل في الظاهر، وليس عنده عمل في الباطن مثل: المنافق، ويمكن للإنسان أن يكون عنده عمل في الباطن، وليس عنده عمل في الظاهر في حالة المكره، وإن كان الإكراه لا يمكن أن يتصور أن يحيط بالإنسان من كل وجه؛ لأنه يمكن أن يسبح الله من غير تنبه المكرهين له، ويمكن أن يذكر الله من غير أن ينتبه المكرهين له.

    الشاهد هو: أن العلاقة علاقة تامة، ومطردة وقوية، وبهذه الطريقة تعلمون أن قضية الإيمان قضية حية في واقع المسلمين، وليست قضية نظريات مجردة يعتقدها الإنسان في قلبه ثم لا يعمل بها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089011871

    عدد مرات الحفظ

    780571072