إسلام ويب

العقيدة الواسطية [18]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإيمان بالقدر وما يتضمنه من المراتب وغيرها من جملة أركان الإيمان التي لا يتم الإيمان بدونها, وقد نطقت به آيات من الكثرة بمكان, وأبانته أحاديث كثيرة رواها عدة من الصحابة الكرام, منهم أبو هريرة وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وعمران بن حصين وغيرهم رضي الله تعالى عنهم, وصنف فيه الأئمة والعلماء, وإنما ضل فيه الجبرية والقدرية لانحرافهم عن دلائل النصوص والتسليم لها.
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

    أما بعد:

    فالإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان يزول الإيمان بزواله.

    وقد دل على الإيمان به الكتاب والسنة.

    فأما الكتاب فقول الله عز وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49].

    وأما من السنة فالأحاديث كثيرة، ومن أجمعها حديث جبريل الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإيمان فقال: (فالإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره).

    كتب مصنفة في موضوع القدر

    وقد ترجم البخاري في صحيحه كتاب القدر، وكذلك في صحيح مسلم ، وعند أصحاب السنن.

    وقد أفرد أهل العلم لموضوع القدر مصنفات مستقلة. ومن أقدم هذه المصنفات -المطبوعة الآن- كتاب القدر والأحاديث الواردة فيه، لـعبد الله بن وهب القرشي تلميذ الإمام مالك المشهور المتوفى سنة (197).

    ويروى أن للإمام مالك رحمه الله تعالى كتاباً في القدر، ذكر ذلك القاضي عياض وذكره الذهبي رحمه الله تعالى. ويذكر بعض الباحثين: أن أغلب كتاب ابن وهب في القدر من رواية مالك . ولعله هو كتاب القدر وزاد عليه عبد الله بن وهب روايات أخرى.

    وممن ألف في القدر مفرداً من السلف أبو بكر الفريابي رحمه الله المتوفى سنة (301هـ)، وكتابه اسمه القدر وهو مطبوع.

    وألف أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رسائل متعددة في القدر منها رسالة: أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، وهي مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى. وأيضاً طبعت ضمن جامع الرسائل والمسائل التي طبعها الشيخ محمد رشيد رضا في مطبعة المنار.

    ومن كتبه أيضاً: كتاب الاحتجاج بالقدر على المعاصي. وهو كتاب أيضاً مطبوع ضمن مجموعة الرسائل والمسائل.

    ومن كتبه أيضاً: قصيدة له تائية يرد فيها على أحد أهل الذمة الذين احتجوا بالقدر على كفرهم، فرد عليه بقصيدة تائية شرحها الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتاب مستقل وهو مطبوع أيضاً.

    وأيضاً ممن أفرد موضوع القدر ابن القيم رحمه الله في كتاب سماه: شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل.

    وهناك كتب متعددة طبعت مؤخراً في القضاء والقدر. من أشهر هذه الكتب كتاب: القضاء والقدر للدكتور فاروق الدسوقي في ثلاثة مجلدات. وكتاب: القضاء والقدر للدكتور عبد الرحمن المحمود. والأخير من أفضل الكتب المؤلفة في هذا الموضوع.

    حقيقة العبد بين كونه مسيرًا ومخيرًا

    والحقيقة أن موضوع القدر موضوع يهم الجميع ويفكر فيه كل الناس. وهو موضوع حساس اختلف فيه المسلمون قديماً وما زال الخلاف مستمراً فيه إلى اليوم.

    وقد طرح كثير من الناس سؤالاً وهو: هل المسلم مسير أم مخير؟ يعني: هل هو مسير بقضاء سابق يدفعه إلى العمل ولا يستطيع أن يتحرك برغبته، أم هو مخير ينتقي من الأعمال ما شاء ويترك ما شاء؟

    وقد تخبط في الإجابة على هذا السؤال كثير من الباحثين. فبعضهم أجاب بأنه: مسير مطلقاً، وأراد بذلك تعظيم الله عز وجل، وإثبات أن الله عز وجل هو الخالق وحده لا شريك له. وبعضهم أجاب بالعكس وقال: إنه مخير مطلقاً. ودافعوا عما سموه بحرية الإرادة الإنسانية، وصنفوا المؤلفات فيها. وحاولوا أن يدفعوا فكرة أن هناك قدر سابق قدره الله سبحانه وتعالى على العباد.

    والحق الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإنسان مسير في أشياء ومخير في أشياء. فمن تسيير الله له أن خلقه في هذا الوقت مثلاً. فأنت مثلاً خلقك الله عز وجل في القرن الخامس عشر الهجري ولم يخلقك مثلاً في زمن إبراهيم أو نوح أو موسى أو عيسى أو محمد صلى الله عليه وسلم. فتحديد الوقت الذي خلقت فيه لم تخير فيه، وإنما أنت مسير فيه بتقدير الله عز وجل لك. ولهذا نفذ تقدير الله عز وجل فيك في هذا، وخلقت في هذا القرن.

    وكذلك طولك وقصرك ولونك وأمك وأبوك ونحو ذلك أنت مسير فيها ولست مخيراً. فالإنسان لا يختار شكله ولا لونه ولا طوله قبل أن يولد، وإنما ولد على هذه الهيئة التي خلقه الله عز وجل عليها، ولم يكن له في ذلك تدبير ولا تخيير.

    وهو مخير من جهة أخرى، فهو مخير في الأعمال والأقوال والإرادات التي يقوم بها. فهو مخير في فعل الصالحات أو المعاصي، وفي قول الحق أو الباطل، وفي الكفر أو الإيمان.

    والحقيقة هي: أن هذا الموضوع ليس هو مدار النقاش. فليس خلاف الفرق وخلاف الناس في أن الإنسان مسير في طوله وقصره، فهذا الأمر يعرفونه بالضرورة.

    والإنسان كما هو معلوم له فعل اضطراري وفعل اختياري.

    فأما الفعل الاضطراري فهو الذي يحدث فيه من غير إرادته، كالطول والقصر واللون والشكل والوقت الذي ولد فيه وأبيه وأمه وأخوته ونحو ذلك، كسقوط الإنسان عندما يسقط من مكان مرتفع فإنه لا يستطيع أن يرد نفسه مرة أخرى فكل هذه تسمى أفعالاً اضطرارية.

    وأما الأفعال الاختيارية فهي التي خير فيها الإنسان، فقد خلق الله عز وجل له إرادة وقدرة ينتج عنها العمل الذي يعمله.

    حقيقة القضاء والقدر والفرق بينهما

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وتؤمن الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره].

    والقدر في اللغة هو: التقدير. والقضاء: الحكم. فالقضاء والقدر معناه: الحكم والتقدير. والفرق بينهما -كما يقول بعض الشراح- هو: أن القضاء يكون بعد وجود الإنسان، والقدر قبل وجوده. فما قدره الله عز وجل حسب علمه سبحانه وتعالى وقبل وجود الإنسان يسمى قدراً، وأما تنفيذ هذا القدر ووقوعه في حياة الإنسان بعد وجوده أو في حياة المخلوقات عموماً بعد وجودها فيسمى القضاء. فإذا اجتمعا كان لكل منهما معنى مستقل عن الآخر، وإذا افترقا كان كل منهما يدل على الآخر فالقضاء مفرداً يشمل القدر، والقدر مفرداً يشمل القضاء.

    الشر في المقدورات وحكمته وحكم إضافته إلى الله تعالى

    فإن قيل: هل في القدر شر؟ قلنا: الشر المثبت في قضايا القدر هو في المقدورات والمخلوقات التي خلقها الله سبحانه وتعالى. فالله عز وجل له خلق وله مخلوق. فالشر ليس في خلق الله الذي هو صفة من صفاته، وإنما هو في مخلوقاته عز وجل، وهو باعتبار ما يقع على الإنسان من آلام والمتاعب، وهو من جهة أخرى خير، فالآلام والكفر وخلق إبليس وقتل المقتولين وظلم الظالمين كل ذلك من القدر الذي قدره الله عز وجل؛ لابتلاء الناس في الأرض.

    الشر لا يجوز لنا أن نضيفه إلى الله؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض دعائه قال: (والشر ليس إليك).

    وطريق الجمع بين كون الشر ليس إلى الله عز وجل وبين وجوده في الواقع -مع أن هذا الوجود من خلق الله عز وجل- هو أن نقول: إن الشر ليس صفة لله وإنما أثر الصفة، وهو المخلوق الذي خلقه الله عز وجل. ولوجود هذا الشر حكمة ربانية وهي الابتلاء والامتحان والاختبار.

    منشأ ضلال الجبرية والقدرية في خلق الشرور

    وهذه هي القضية التي جهلتها بعض الفرق، فالبعض عندما أزعجتهم وضاقت صدورهم بسبب وجود الكفر والمعاصي والآفات والأمور غير المرغوبة قالوا: كيف يخلقها الله عز وجل؟! وإذا خلقها وهو مقر لها فمعنى هذا: أن فعلها ليس فيه شيء.

    وقال آخرون: إن هذه الأمور ليست من خلق الله حتى يخرجوا من القضية؛ لأنهم لم يفهموا الحكمة من وجودها، قال غلاة الجبرية -وهم ابن عربي الطائي الصوفي المشهور ومن سار معه على عقيدته-: إن هذه المخلوقات هي من أفعال الله والله مقر لها. فلو أن الإنسان فعل الكفر أو المعاصي فليس عليه شيء؛ لأنها من مخلوقات الله، فنسبوها لله واحتجوا بالقدر، وجاءت هذه الطائفة الأخرى تعظم الله عز وجل فنفت القدر وقالت: هذه ليست من مخلوقات الله أبداً، وإنما من مخلوقات العباد، فأشركت في الربوبية؛ لأنه ليس هناك خالق إلا الله عز وجل.

    والحقيقة هي: أن هذه من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، والله خلقها ونهى عنها.

    فإن قيل: كيف يخلقها وينهى عنها؟ قلنا: خلقها للحكمة وهي الابتلاء؛ ليبتلي بها العباد. فقد خلقها الله عز وجل ونهى العباد عنها، فمن ترك نهي الله عز وجل وفعل هذه المحرمات فإنه يعاقب؛ لمخالفته لنهي الله سبحانه وتعالى، وخلق الطاعات وأمر بها، فمن ترك ما أمر الله عز وجل به عوقب.

    فالحكمة من وجود هذه الأشياء المتضادة في الكون هو الابتلاء. وهذه قضية واضحة في القرآن الكريم، فإن الله عز وجل يعلل لخلق الإنسان بالابتلاء، كما قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]. وقال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].

    فكل هذه المخلوقات خلقها الله عز وجل للابتلاء والاختبار، فالعبد ليس مهملاً في هذه الدنيا وإنما مختبر. وقد جاءت أحاديث كثيرة جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم تقرر أن هذه الدار دار ابتلاء، وأن الآخرة دار جزاء، ولأجل هذا لو أطاع الإنسان الله عز وجل في الآخرة فلا تنفعه الطاعة؛ لأن دار الابتلاء انتهت بالموت أو بالقيامة الكبرى التي تزيل معالم الدنيا بأكملها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088972527

    عدد مرات الحفظ

    780270889