إسلام ويب

العقيدة الواسطية [6]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما يجب على المسلم أن يعلمه من أمر دينه أنه يجب عليه التصديق بما دلت عليه أخبار الصفات دون أن يتوقف ذلك على الثبوت العقلي, ومن جملة ذلك أخبار صفتي السمع والبصر, حيث توافرت طرائق الأدلة السمعية والعقلية على ثبوتهما لله تعالى, ومن جملة ما يجب التصديق به من صفات الله تعالى صفة الإرادة, سواء أكانت كونية قدرية, أم كانت شرعية, فكل ذلك مما ثبت صفة لله تعالى في محكم كتابه وخير نبيه صلى الله عليه وسلم.
    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

    أما بعد:

    فقد انتهينا في الدرس الماضي من الحديث عن صفة الحكمة لله سبحانه وتعالى، وسنتحدث إن شاء الله في هذا الدرس عن صفتي السمع والبصر، وصفتي الإرادة والمشيئة.

    وقد تحدثنا عن أدلة إثبات صفة السمع والبصر، وقلنا: إن الأدلة على إثبات السمع والبصر أدلة عقلية وشرعية، وعندما نقول: إن الاستدلال يكون بالأدلة العقلية والأدلة الشرعية لا يعني أن الإيمان بأن الله عز وجل سميع وبصير يتوقف على الاستدلال بالعقل، وإنما نذكر الاستدلال بالعقل على هاتين الصفتين لعدة أمور:

    منها: أن هاتين الصفتين من الوضوح والجلاء والبيان بحيث إن العقل دل عليهما، وأرشد القرآن إليهما.

    ومنها: أن فيه الرد على الذين أولوا صفة السمع والبصر بالعلم أو بالإدراك.

    وجوب الإيمان والتصديق بأخبار الصفات دون توقف على قيام الدليل العقلي على الصفة

    أحب أن أنقل كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من كتابه العظيم: شرح العقيدة الأصفهانية، وهو كتاب شرح فيه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاباً من كتب الأشاعرة، وقد تستغربون كيف يشرح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاباً من كتب الأشاعرة، لكن أقول: إن الشروح تنقسم إلى قسمين:

    شروح يقصد منها توضيح مسائل الكتاب، والاستدلال له، وبيان المسائل التي تنطوي تحته.

    وهناك نوع من الشروح وهو: الشروح النقدية، وهو أن يأخذ كتاباً من كتب أهل البدع فيشرحها لينقد ما فيها من الأخطاء والبدع، ولهذا شرح أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاباً آخر من كتب أهل البدع، وهو: المحصل للرازي، وهو محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، وهذا الكتاب غير موجود الآن، لكنه شرحه شرحاً نقدياً، ومن الشروح النقدية مثلاً في أصول الفقه: أن أبا الوليد الباجي رحمه الله شرح كتاب الرازي المحصول فانتقده تقريباً في كل شيء، حتى في عنوان الكتاب، فمن المفروض أن يقول: المحصول إلى...؛ لأنه يحتاج إلى تعدية بحرف الجر.

    فكتاب العقيدة الأصفهانية هو للشيخ شمس الدين محمد بن الأصفهاني ، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا الكتاب وهو في الديار المصرية في سنة سبعمائة واثنتي عشرة وهذا الكلام هو فيما يتعلق بالاستدلال العقلي.

    يقول رحمه الله تعالى: [ومما يوضح ذلك: أن وجوب تصديق كل مسلم بما أخبر الله به ورسوله من صفاته ليس موقوفاً على أن يقوم عليه دليل عقلي على تلك الصفة بعينها، فإنه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخبرنا بشيء من صفات الله تعالى وجب علينا التصديق به، وإن لم نعلم ثبوته بعقولنا، ومن لم يقر بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قال الله عنهم: قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124].

    ومن سلك هذا السبيل فهو في الحقيقة ليس مؤمناً بالرسول، ولا متلقياً عنه الأخبار بشأن الربوبية، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك، أو لم يخبر به، فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يتأوله أو يفوضه، وما لم يخبر إن علمه بعقله آمن به، وإلا فلا فرق عند من سلك هذا السبيل بين وجود الرسول وإخباره، وبين عدم الرسول وعدم إخباره، وكان ما يذكره من القرآن والحديث والإجماع في هذا الباب عديم الأثر عنده، وهذا قد صرح به أئمة هذا الطريق، يعني بهم: المشتغلين بعلم الكلام ونحوه].

    الطرائق السمعية والعقلية في إثبات صفتي السمع والبصر

    وفي هذا الكتاب أيضاً اهتم اهتماماً كبيراً بالاستدلال على بعض الصفات بالعقل، ومن ذلك السمع والبصر، فمثلاً يقول: في صفحة (73): [إثبات كونه سميعاً بصيراً، وأنه ليس هو مجرد العلم بالمسموعات والمرئيات هو قول أهل الإثبات قاطبة]، ثم تحدث عن المثبتين للسمع والبصر، ثم قال: [وللناس في إثبات كونه سميعاً بصيراً، طرق:

    أحدها: السمع، كما ذكره -يعني: المصنف- وهو ما في الكتاب والسنة من وصفه بأنه سميع بصير، ولا يجوز أن يراد بذلك مجرد العلم بما يسمع ويرى؛ لأن الله فرق بين العلم وبين السمع والبصر، وفرق بين السمع والبصر، وهو لا يفرق بين علم وعلم إلا لتنوع المعلومات]، وهذا من الاستدلال القوي على إبطال من أول السمع والبصر بأنه العلم، وذكر الدليل على ذلك، وهو قول الله عز وجل: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200] ففرق بين السميع والعليم، وهكذا كل آية ورد فيها سميع عليم.

    يقول: [وفرق بين السمع والبصر أيضاً عندما قال: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58] ].

    ثم ذكر الطريق الثانية فقال: [لو لم يتصف بالسمع والبصر لاتصف بضد ذلك، وهو: العمى والصمم، كما قالوا مثل ذلك في الكلام] يعني: أنه لو لم يكن متكلماً لكان أصم [لأن المصحح بكون الشيء سميعاً بصيراً متكلماً هو: الحياة، فإذا انتفت الحياة امتنع اتصاف المتصف بذلك، فالجمادات لا توصف بذلك لانتفاء الحياة فيها، وإذا كان المصحح هو الحياة كان الحي قابلاً لذلك، فإن لم يتصف به لزم اتصافه بأضداده]، وقد سبقت الإشارة إلى هذه الطريقة، وقلنا: إن هذه طريقة قرآنية صحيحة أشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التدمرية عند القاعدة السابعة.

    ثم استطرد في الرد على الفلاسفة استطراداً طويلاً، ثم قال: [الطريق الثالث لأهل النظر في إثبات السمع والبصر: أن السمع والبصر من صفات الكمال، فإن الحي السميع البصير أكمل من حي ليس بسميع ولا بصير، كما أن الموجود الحي أكمل من موجود ليس بحي، والموجود العالم أكمل من موجود ليس بعالم، وهذا معلوم بضرورة العقل، وإذا كانت صفة كمال فلو لم يتصف الرب بها لكان ناقصاً، والله منزه عن كل نقص، وكل كمال محض لا نقص فيه فهو جائز عليه، وما كان جائزاً عليه من صفات الكمال فهو ثابت له، فإنه لو لم يتصف به لكان ثبوته له موقوفاً على غير نفسه، فيكون مفتقراً إلى غيره...] إلى آخر كلامه رحمه الله.

    ثم ذكر الطريق الرابع في إثبات السمع والبصر والكلام فقال: [إن نفي هذه الصفات نقائص مطلقاً]، يعني: الطريقة الثالثة: الاستدلال بالكمال، [نقائص مطلقاً سواء نفيت عن حي أو جماد، ومتى انتفت عنه هذه الصفات لا يجوز أن يحدث عنه شيء، ولا يخلقه، ولا يجيب سائلاً، ولا يعفوا ولا يعبد ولا يدعى]، ثم استدل على ذلك وبين أنها طريقة قرآنية بقول الله تعالى: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42].

    [فدل هذا على أن الذي لا يسمع ولا يبصر أنه لا يغني شيئاً، وأنه لا يستحق العبادة، والله عز وجل مستحق للعبادة، وهو الخالق سبحانه وتعالى، فلزم من ذلك: أنه سميع بصير، وهذا استدلال عقلي قرآني]، يعني: القرآن أرشد إلى الاستدلالات العقلية الصحيحة التي ليس فيها مدخل من مداخل الباطل، وليس فيها شيء من اللوازم الباطلة التي تؤثر على عقيدة الإنسان، وهو كلام نفيس في هذه المسالة.

    آيتان في إثبات صفتي السمع والبصر

    ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في إثبات صفتي السمع والبصر آيتين وجه الاستدلال منهما على صفة السمع والبصر واحد، فأما الآيتان فهما: قول الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58].

    وجه الاستدلال منهما: أن اسم الله عز وجل السميع واسمه البصير يتضمن كل منهما صفة، فاسمه السميع يتضمن صفة السمع، واسمه البصير يتضمن صفة البصر، والدليل على أن الأسماء تتضمن الصفات هو: قول الله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، ووجه الاستدلال من هذه الآية على أن أسماء الله عز وجل تتضمن صفات هو لفظ الحسنى، فالحسنى على وزن فعلى، وهي تدل على أن أسماء الله عز وجل في غاية الحسن والجمال والكمال، فلو كانت لا تتضمن صفات لكانت ليست ببالغة الغاية في الحسن؛ لأن الأعلام المحضة التي لا معاني لها ليست من الحسن في شيء، فلما كانت أسماء الله عز وجل حسنى عرفنا من هذا أنها تتضمن معاني عظيمة جداً.

    ويلاحظ: أن الاستدلال بالآية الأولى والاستدلال بالآية الثانية وجههما واحد، وهو: الاستدلال بالأسماء على الصفات.

    معاني اسم الله السميع

    اسم السميع له أربعة معان:

    الأول: المجيب: يقول الله عز وجل: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم:39].

    المعنى الثاني: أنه سامع الأصوات: فهو سبحانه وتعالى يسمع الأصوات القليلة والكثيرة، الخفية والمعلنة، كما قال الله عز وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1]... إلى آخر الآية.

    وسبق أن قوله: وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:134]، جاء في كتاب التوحيد من صحيح البخاري أن هذه الآية نزلت في قصة خولة بنت ثعلبة عندما جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها الذي ظاهر منها، وكانت عائشة في نفس الدار، وهي لا تسمع شكوى خولة للرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك سمعها الله عز وجل من فوق سبع سموات.

    المعنى الثالث: أنه يراد به النصرة والتأييد، ويدل على ذلك قول الله عز وجل: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46].

    والمعنى الرابع: أنه يراد به التهديد والوعيد، يقول الله عز وجل: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80].. أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [الزخرف:80].

    جاءت هنا هذه الصفة في مساق التهديد والوعيد، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به) رواه البخاري ومسلم .

    معناه: ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به.

    فمعنى الإذن هنا: الاستماع.

    طرائق نصوص الوحي في إثبات صفة البصر

    جاء إثبات صفة البصر بأكثر من طريق: الطريق الأول: إثبات صفة البصر مباشرةً كما هو في الآتين معنا.

    والثاني: إثبات الرؤية لله عز وجل، كما قال الله عز وجل: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46].

    وكقوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14].

    وكقوله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105].

    فالرؤية هنا بمعنى: البصر.

    وكذلك حديث جبريل الطويل عندما ذكر أركان الإيمان وأركان الإسلام وجاء إلى الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك).

    وكذلك ثبت أن الله عز وجل ينظر، يدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).

    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم).

    فقوله: (لا ينظر إليهم) صفة منفية تدل على كمال الضد، وهو النظر في حال الرضا، وهذا استدلال بالمفهوم، هذا نوع من الاستدلال، ومعلوم أن الاستدلال تارة يكون بالمنطوق، يعني: بظاهر اللفظ، مثل: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم:39]، فمنطوق الآية: أن الله عز وجل يسمع دعاء الداعي، ويجيب دعاءهم.

    وهناك نوع آخر من الاستدلال وهو الاستدلال بالمفهوم، والاستدلال بالمفهوم في باب العقائد استدلال صحيح، وقد عمل به الأئمة، فـالشافعي رحمه الله استدل على إثبات رؤية الله عز وجل بالمفهوم عندما نفى الله عز وجل عن الكفار الرؤية في سورة المطففين، دل هذا بالمفهوم على أنهم يرونه، قال الله: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].

    استدل الشافعي رحمه الله بهذه الآية على أنهم لما حجبوا في حال الوعيد والكراهة لهم، دل ذلك على أنهم يرونه في حال الرضا عنهم ومحبته لهم.

    ما تختص به صفتا السمع والبصر من كونهما من الصفات الذاتية أو الصفات الفعلية

    من المسائل المتعلقة بصفة السمع والبصر: مسألة: هل صفة السمع والبصر صفة ذاتية أم فعلية؟ سبق أن أشرنا إلى أن صفة السمع والبصر منها ما هو ذاتي، ومنها ما هو فعلي، فصفة السمع متعلقة بالمسموعات، فإذا وجدت المسموعات؛ فإن الله عز جل يسمعها، وإذا وجدت المبصرات؛ فإن الله عز وجل يبصرها ويراها وينظر إليها، وهي بهذا الاعتبار صفة ذاتية غير متعلقة بالمشيئة، لكن في السمع سمع الإجابة مثلاً، أو سمع الوعيد والتهديد، هذه من الصفات الفعلية وليست من الصفات الذاتية.

    أقوال أهل البدع في صفتي السمع والبصر

    أهل البدع ينقسمون إلى قسمين في صفتي السمع والبصر:

    أما المعتزلة فإن عامتهم لا يثبتون صفة السمع والبصر بناءً على أصلهم في التوحيد؛ فإنهم يعتقدون أن التوحيد يلزم منه نفي الصفات، ويوجد من المعتزلة من يثبت صفة الإدراك، وبعضهم: يثبت صفة السمع والبصر، لكن يقول: له سمع وبصر هي ذاته، فهو في الحقيقة ينفيها.

    أما الأشاعرة فإنهم يتظاهرون بإثبات صفة السمع والبصر، وهم يثبتون سبع صفات، ويسمونها صفات المعاني، ومن هذه الصفات: السمع والبصر، ولكنهم يفسرونها بغير معناها الصحيح، فبعضهم يقول: إن السمع البصر هما: العلم، أو الإدراك، ولهذا التزم بعضهم بأن الله عز وجل يرى المسموعات ويسمع المبصرات؛ لأنها بمعنى واحد عنده كالعلم، وهذا باطل، وسبق في كلام شيخ الإسلام رحمه الله في شرح العقيدة الأصفهانية: أن العلم غير السمع، ولهذا فرق الله عز وجل بينهما عندما قال: سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181]، فلو كان معناهما واحداً لما فرق بينهما سبحانه وتعالى، هذا من جهة.

    ومن جهة أخرى: فإنه قد سبق أن أشرنا إلى أن العليم قد يعلم وهو لا يرى، وقد يعلم وهو لا يسمع، فلا يلزم من العلم وجود السمع والبصر، وهذا يدل على أن العلم صفة، وأن السمع والبصر صفتان تختلف عن العلم.

    استعمالات النظر في القرآن

    النظر له استعمالات متعددة، فمنها: أنه قد يتعدى بنفسه، فإذا تعدى بنفسه فمعناه: التوقف والانتظار، كقوله: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، وليس المقصود من هذا: انظرونا بأبصاركم، وإنما المقصود: انتظرونا، وتوقفوا لنا، وهذا يقوله المنافقون للمؤمنين يوم القيامة.

    فإذا عدي بـ(في) كان معناه: التفكر والاعتبار، كقوله: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185]، يعني: يعتبروا ويتفكروا.

    ومنها: أن يعدى بـ(إلى)، فإذا عدي بإلى فمعناه: نظر العين، كقوله تعالى: انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [الأنعام:99]، انظروا يعني: بالعين.

    وتلاحظون أن الآيات أو الأحاديث التي ورد فيها إثبات النظر معداة (بإلى)، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم -ثم قال: ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فهذا النظر بمعنى الإبصار.

    أقوال أهل البدع في تعلق الصفات بالمخلوقات

    أهل البدع عندما يأتون إلى تعلق الصفات بالمخلوقات، يقولون: إرادة الله عز وجل واحدة وقديمة لا تتعدد، وتعلقها بالمخلوقات هو من جهة تنوع المخلوقات فقط، ويسمونه: تعلقاً اعتبارياً، يقولون: تعلق اعتباري إضافي، ولا يعتقدون أنه وجودي ثبوتي.

    وكذلك في السمع والبصر؛ فعندما يدعو داع من الذين يدعون الله عز وجل يسمعه، وقد كان قبل أن يسمعه سميعاً، فلما دعاه سمعه سبحانه وتعالى, وهم يقولون: إن هذا يلزم منه حدوث السمع، فإذا كانوا يقصدون: أنه يحدث لله سمع، ولم يكن من قبل سميعاً فهذا باطل لا يريده أهل السنة، وإن كانوا يقصدون أنه يسمع دعاء الداعي عندما يدعوه في ذلك الوقت، فهذا حق تثبته الأدلة وهم ينفونه، فيقولون: إن المبصرات والمسموعات الموجودة تتنوع، وقد رآها الله عز وجل من قبل برؤية واحدة، وبسمع واحد، وهم يعتبرون السمع والبصر مثل العلم، كأنه علمها بعلم واحد، وأنه لا يتجدد لله عز وجل سمع أو بصر، ويسمون هذا: حدوثاً.

    وهذه الألفاظ لا ينبغي للمسلم أن يستعملها؛ لأنها ألفاظ اصطلاحية؛ كما أنه لا ينبغي للإنسان أن ينفيها نفياً مطلقاً، يعني: أن لفظ الحدوث والحيز والجهة، ونحو ذلك من الألفاظ التي يستعملها أهل الكلام ألفاظ مبتدعة مخترعة تتضمن معاني صحيحة وباطلة، فلا يصح للإنسان أن ينفيها؛ لأنه قد ينفي معها شيئاً من الحق، ولا يصح أن يثبتها؛ لأنه قد يثبت معها شيئاً من الباطل.

    والصحيح: أن يستفصل عن مراد القائل بها، فإذا قال: إن هذا يلزم منه الحدوث، نقول: بين لنا معنى الحدوث؟ وماذا تقصد بالحدوث؟

    فإن كنت تقصد أنه إذا وجد الأمر المبصر، أو المسموع، والله عز وجل سمعه وأبصره، فهذا يحدث لله صفةً لم تكن موجودةً من قبل، بمعنى: أن الله لم يكن سميعاً ولا بصيراً حتى وجدت المسموعات والمبصرات، فهذا باطل لا نقره، فالله عز وجل سميع بصير سبحانه وتعالى، وعندما يحدث المخلوق يراه ويسمعه سبحانه وتعالى.

    وإن كنت تعني بالحدوث أنه عندما يوجد المخلوق يسمعه الله ويراه، وقد حدث قريباً، ثم إذا حدث مخلوق آخر سمعه الله أو رآه، فهذا معنى حق لا ننكره، فالله عز وجل يسمع ويرى الأشياء حتى مع تأخرها وحدوثها، فهو سبحانه وتعالى يراها ويسمعها.

    وهكذا كلمة الجهة؛ فإن أهل البدع ينفون صفة العلو لله عز وجل، ويقولون: إن هذا يلزم منه أن نثبت الجهة، فنقول: ما معنى كلمة الجهة عندكم؟ إن كنتم تقصدون أن الله في العلو؛ فنحن نثبت أن الله عز وجل في العلو سبحانه وتعالى، حتى لو سميتموها أنتم جهة فلا تعكر على إثباتها تسميتكم لها بالجهة، وأما إن كنتم تقصدون أنه في جهة محددة محصورة، فهذا معنى باطل لا نقره.

    ولهذا في بعض الأحيان قد يأتي بعض هؤلاء المبتدعة فيطرحون على بعض أهل السنة مصطلحات، وقد يتفاعل معها بعض أهل السنة فينفيها مطلقاً، فإذا نفاها مطلقاً نفى شيئاً من الحق، أو قد يثبتها فإذا أثبتها أثبت شيئاً من الباطل.

    والصحيح هو: أن نقف عند المصطلحات الشرعية، فالعلو يسمى: علواً، والسمع يسمى: سمعاً، والبصر يسمى: بصراً؛ فإذا جاءتنا ألفاظ من هؤلاء نستفصل عن معناها، فنثبت المعنى الحق، وننفي المعنى الباطل. هذه هي القاعدة في الألفاظ التي ترد من عند هؤلاء.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088977549

    عدد مرات الحفظ

    780302692