إسلام ويب

سلسلة كن صحابياً الصحابة والجنةللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الجنة هي النعيم الذي لا ينفذ، وهي التي دندن حولها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أجمعون، فاشتاقت نفوسهم إلى هذا النعيم الدائم، وتفاعلوا معها أعظم التفاعل، فضربوا لنا أروع الأمثلة في ذلك، فقدموا أرواحهم وأموالهم رخيصة في سبيل الوصول إلى ذلك.

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان.

    الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فحديثنا في هذه المحاضرة الثامنة من محاضرات: كن صحابياً، عن موضوع في غاية الأهمية في حياة كل مسلم.

    وقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن الصحابة والدنيا، وحديثنا في هذه المحاضرة سيكون عن الصحابة والآخرة، عن الصحابة والجنة.

    في الحقيقة هذه نقطة محورية فعلاً في بناء الفرد المسلم والمجتمع المسلم، والأمة الإسلامية بكاملها.

    فيا ترى كيف فهم الصحابة حقيقة الجنة؟ وكيف كان تعاملهم مع حقيقة الجنة؟

    عندما تدرس حياة الصحابة ستجد أن تفاعل الصحابة مع قضية الجنة مختلف جداً عن تفاعل معظم اللاحقين بعد ذلك، وأنا أعتقد أن هذا الاختلاف كان سبباً رئيساً من الأسباب التي أدت إلى أن جيل الصحابة وصل إلى هذه الدرجة السامية الرفيعة من الأخلاق، ومن الاعتقاد في الله عز وجل، ومن العمل في سبيل الله عز وجل، لذا كانت الجنة نقطة محورية في حياة كل الصحابة، لكن قد تجد أناساً كثيرين الآن من الذين لديهم علم كبير جداً من العلماء الأفاضل، ومن كبار الدعاة عندما يأتي ويتكلم عن الجنة تحس أنه يتكلم على شيء نظري، ولا تشعر في كلماته بالأحاسيس التي كان يشعر بها فالصحابي، فالصحابي حتى وإن كان بسيطاً في علمه، أو قليلاً في معلوماته، لكن عندما يعرف معلومة واحدة عن الجنة فإنها تبقى معه إلى أن يموت، حتى لو كان أعرابياً بسيطاً، وحتى لو كانت لغته ضعيفة مقارنة بكبار الصحابة، لكن كانوا يتأثرون بالجنة تأثراً قوياً جداً، وأنا أشعر أن هذا فارق جوهري؛ لذلك أتمنى أن يركز كل سامع لهذه المحاضرة مع هذه المعاني، وأن يعيش فيها معايشة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

    وأنا أعتقد أنه عندما تصبح الآخرة في أعيننا كما هي في أعين الصحابة ستتغير -ولا شك- مناهجنا في الحياة، وسنفكر بطريقة أخرى، وسنرتب أولوياتنا بطريقة أخرى، وسنسعد بطريقة مختلفة، وعلى أشياء ليست كالأشياء التي نسعد لها الآن، وسنحزن أيضاً بطريقة مختلفة، وعلى أشياء ليست كالتي نحزن عليها الآن.

    فيا تُرى من منا يحزن الحزن الذي يقعده في الفراش عندما تفوته تكبيرة الإحرام مثلاً كما كان يحدث مع بعض الصحابة؟

    ويا تُرى كم فينا من يحزن على فوات قيام الليل؟ أو على فوات صلاة الفجر الذي هو أصلاً فرض من الفروض؟

    وكم واحداً لو فاتته صلاة الفجر واستيقظ وقد طلعت الشمس يبقى حزيناً طوال اليوم؛ لأنه فاتته صلاة مفروضة كان عليه أن يصليها في وقتها؟!

    ويا تُرى كم فينا من يحزن على أن أحد أصحابه بعيد عن الله تعالى، وأن ربنا لم يهده بعد، وهو يحبه حباً شديداً ويراه على ضلالته، ويراه بعيداً عن الطريق، فهل سيحزن عليه حزناً حقيقياً أم أن الأمر لا يهمه؟ مثلما أن الناس يسيرون في الشارع يعبدون الله أو لا يعبدونه لا فرق عندنا!

    ويا تُرى من منا يحزن أن فاتته معركة في سبيل الله، أو جهاد في سبيل الله؟ الناس الذين يأتيهم إعفاء من الجيش هذه الأيام يفرحون بينما الصحابة الذين يفوتهم الجهاد في سبيل الله يحزنون على ذلك.

    وكم واحد منا حزين على فلسطين وعلى العراق وعلى كشمير وعلى الشيشان وعلى الصومال وعلى السودان وعلى غيرها من البلدان؟

    إننا لو فهمنا ما معنى الجنة وما معنى النار مثلما فهم ذلك الصحابة؛ فإن كل شيء في حياتنا سيتغير تغييراً شاملاً، بل وكاملاً لمنظومة الحياة بكاملها.

    وتعالوا لنرى كيف كان تفكير الصحابة في الجنة؟ وكيف كانوا من أهل الجنة وهم ما زالوا على وجه الأرض؟

    اشتياق ربيعة بن كعب الأسلمي للجنة

    فهذا ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه، له موقف يهزني فعلاً من الأعماق، حتى ولو تكررت قراءتي له فإنني سأقف مذهولاً أمام هذا العملاق ربيعة بن كعب رضي الله عنه وأرضاه، مع أن كثيراً منا ربما لا يسمع عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه.

    ربيعة بن كعب هو: خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاب صغير جداً، فعمره دون العشرين، وهو من أهل الصفة، وخبرته في الحياة قصيرة، ليس أبا بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ، ولا أي واحد من الكبار الذين نسمع عنهم، وإنما هو من عوام الصحابة.

    وعلاوة على أنه صغير في السن، فهو من أهل الصفة، يعني: من الناس الفقراء جداً الذين ليس لهم بيوت، وإنما قد اتخذوا المسجد بيتاً، فيصرف عليهم أهل الخير في المدينة المنورة، وأيضاً ليس بمتزوج، بل إنه معدم لا يجد ما يسد رمقه في كل يوم، فلو كان أحدنا مكان ربيعة بن كعب ماذا كان سيتمنى؟

    تخيل كم من الأحلام والآمال والأمنيات التي من الممكن أن تكون عند هذا الإنسان، لكن قبل ذلك اسمع معي هذه القصة التي وردت في صحيح مسلم وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله جميعاً، يقول ربيعة بن كعب رضي الله عنه: (كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع -طوال النهار هو شغال في خدمة النبي عليه الصلاة والسلام- حتى يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة -أي: صلاة العشاء- فأجلس ببابه إذا دخل بيته)، فالرسول بعد صلاة العشاء يذهب إلى بيته؛ لأن الحركة في المدينة المنورة تنتهي بعد العشاء بالنوم، لأجل يبتدئوا يومهم قبل الفجر بقيام الليل، ثم صلاة الفجر ويبتدئ اليوم بصورة طبيعية، ثم قال رضي الله عنه: (لعلها أن تحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة)، وانظر إلى أي درجة وصل التفاني في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    قال ربيعة : فما أزال أسمعه يقول: سبحان الله.. سبحان الله.. سبحان الله وبحمده، وفي رواية: الحمد لله رب العالمين، يعني: طيلة جلوسه وهو في ذكر صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة : حتى أمل؛ فأرجع، أو تغلبني عيني فأرقد، إما أن أمل من طول القيام وأذهب إلى المسجد للنوم، أو أبقى في مكاني وأنام على باب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من طول المقام.

    فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما رأى ربيعة وهو ذاهب وآت في خدمته، قال ربيعة : فقال لي يوماً -لما يرى من خفتي له وخدمتي إياه-: يا ربيعة ! سلني أعطك، أي: اطلب يا ربيعة ! تمن يا ربيعة ! قل ماذا تريد؟

    وتخيل نفسك مكان ربيعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رئيس المدينة المنورة ورئيس الدولة يقول لك: اطلب يا فلان! والذي تريده أنا سأحاول أن أوفره لك، سل يا فلان أعطك.

    ثم انظر إلى فقره وحاجته الشديدة؛ لا يجد ما يأكل أو يشرب أو يلبس أو يتزوج، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول له -وهو رئيس الدولة بالمدينة المنورة-: اطلب يا ربيعة ! ولنتأمل ربيعة بن كعب رضي الله عنه وأرضاه على هذا العرض المغري من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة : فقلت: أنظر في أمري يا رسول الله! ثم أعلمك ذلك، يعني: أعطني فرصة لأفكر، يقول ربيعة : ففكرت في نفسي فعرفت.

    وانتبه هنا وضع في ذهنك الخلفية التي صورتها لك لحالة ربيعة بن كعب الأسلمي من ناحية الإمكانيات المادية، ومن ناحية الوضع الاجتماعي في المدينة المنورة، يقول: ففكرت في نفسي فعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وتذكرون المحاضرة التي سبقت: الصحابة والدنيا، وانظر إلى هذا الشاب الصغير كيف أنه فاهم لحقيقة هذه الدنيا جيداً، يقول: فعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وأن لي فيها رزقاً سيكفيني ويأتيني، أي: إن الله لن يتركني وسيكفيني ويأويني، يقول ربيعة : فقلت: أسال رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي، إذا كانت الدنيا ستأتيني هكذا أو هكذا، والله قد كتب لي فيها شيئاً ما، فلماذا أسأله الدنيا؟ فتأمل ما مقدار ما يفكرون به، يقول: لو أن الله كتب لي رزق فسيأتيني، أو زوجة فستأتيني، أو بيتاً فسيأتيني، إذاً فلماذا لا أسأله عن الحاجات الصعبة على كل مسلم ومسلمة وكل مؤمن ومؤمنة، ألا وهي الجنة.

    قال: أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي؛ فإنه من الله عز وجل بالمنزل الذي هو به، أي: هو رسول الله الذي إذا سأل الله تعالى استجاب له، ثم قال: فجئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعلت يا ربيعة ! أي: هل فكرت في الطلب الذي تريده؟ يقول ربيعة : فقلت: نعم يا رسول الله! فقال: سل يا ربيعة ! فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، فانظر إلى أي حد عرف كيف يستغل الفرصة، ولم يقل: فقط أريد الجنة، أو أريد الفردوس الأعلى في الجنة، لا، وإنما: (أسألك مرافقتك في الجنة)، فانبهر الرسول عليه الصلاة والسلام من هذه الكلمة التي قالها ربيعة الأسلمي ، كلمة تدل على العلم والفقه والتقوى والورع العظيم الذي عنده وهو ما دون العشرين! ثم رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما به من الفقر والحاجة فقال له: أو غير ذلك، أي: ندعو الله أن يدخلك الجنة ويرفع درجتك، وتكون مرافقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، فهل تريد شيئاً آخر؟ فقال ربيعة بمنتهى اليقين: هو ذاك، أي: لا يريد شيئاً غيره، ولا يريد مع الجنة شيئاً آخر، فتعجب النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك وقال له: يا ربيعة ! من أمرك بهذا، من علمك هذا الكلام، هل جلست مع أبي بكر أو مع عمر أو مع طلحة أو الزبير ، فقال: لا والله الذي بعثك بالحق، ما أمرني به أحد، أي: أنا هكذا من نفسي، ولكنك لما قلت: سلني أعطك! وكنت من الله بالمنزل الذي أنت به؛ نظرت في أمري، وعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وأن لي فيها رزقاً سيأتيني، فقلت: أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي، يقول ربيعة : فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً، أي: جلس يفكر كثيراً في المعاني العميقة التي قالها ربيعة رضي الله عنه وأرضاه، ثم قال لي: إني فاعل، فهنيئاً لك يا ربيعة ! فالرسول عليه الصلاة والسلام سيدعو لك أن تكون من مرافقيه في الجنة، لكن لا بد من أن يقدم ربيعة شيئاً، لا بد من عدم الاتكال على هذه الدعوة، وانظر إلى التعليم النبوي ماذا قال عليه الصلاة والسلام: (إني فاعل، فأعني على نفسك بكثرة السجود)، أي: كثرة الصلاة لله عز وجل فرضاً ونفلاً، هكذا أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجتهد ويجد ويتعب إذا أراد أن يدخل الجنة، أو إذا أراد أن يرافق الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة.

    وتعالوا لنقف وقفة على هذه القصة، وتعالوا لنفكر مع بعض، فنقول: هل إذا طلب ربيعة مالاً أو بيتاً أو زوجة أو طعاماً أهذا حرام؟ هل لو سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة والمرافقة في أعلى الدرجات والشفاعة والعتق من النار، ثم سأل إلى جوار ذلك جزءًا من الدنيا الحلال هل هذا خطأ؟ أبداً، فهذا ليس خطأ، لكن ربيعة لا يتكلف في طلبه، يعني: أن ربيعة قد ملأت عليه الجنة حياته بكاملها، فما عاد يفكر إلا فيها.

    وهذا مثلما تقول لشخص: ماذا تطلب؟ يقول: أريد مليون جنيه أو مليون دولار، ثم تقول له: هل تريد شيئاً آخر؟ يقول: نعم، أريد أيضاً خمسة جنيهات! ماذا تفعل لك الخمسة جنيهات بجانب المليون دولار التي أخذتها؟ لا شيء، فـربيعة كانت عنده نفس الفكرة، فلو أنا أخذت الجنة، فهل من فرق إذا أنا سآخذ بيتاً أو زوجة أو سيارة أو جملاً؟ لا، لأن منتهى آمال حياته أنه يدخل الجنة، ولم يعد يفكر في أي شيء آخر، ولا يتكلف في طلبه، فهو مشغول بأمر الجنة فقط.

    وعروض أخرى يعرضا النبي صلى الله عليه وسلم على ربيعة ، ومنها: أن الرسول عليه الصلاة والسلام يعرض عليه عدة مرات ليتزوج وهو لا يريد شيئاً من ذلك، بل كان كل همه أن يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يعيش حياته كلها في خدمة الله عز وجل وفي خدمة رسوله عليه الصلاة والسلام وفي خدمة هذا الدين.

    فمن منا يعرف هذا الصحابي؟ ومن منا يعرف حياته؟ إنه أحد قدوات الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

    اشتياق عمير بن الحمام للجنة

    وموقف آخر لصحابي آخر: عمير بن الحمام رضي الله عنه وأرضاه، وكلنا نعرف ذلك الموقف، وكلنا قد سمعنا به كثيراً، إنه موقف في منتهى الجمال والروعة:

    روى مسلم وأحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال: يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظروا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم بدر وهو يشجع الصحابة على القتال في سبيل الله، قال لهم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)، كلمات قد سمعناها مراراً، وسمعنا أيضاً الآية الكريمة مرات عديدة: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، لكن -سبحان الله!- عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه سمع هذه الكلمات وتدبرها جيداً، وجلس يفكر: جنة عرضها السماوات والأرض!!

    إنه شيء عظيم جداً، وكأنه أول مرة يسمع هذه الآية! فقال: يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض، ما هذه العظمة!؟ رأى السماء والنجوم وتباعدها عن بعضها وعن الأرض، الجنة عرض السماوات والأرض، وكل الذي نراه من السماء هو سماء الدنيا فقط، وهناك أيضاً سبع سماوات أخرى!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال عمير : بخٍ بخٍ! كلمة تقال للتعظيم، يعني: معقول أنها بهذا الحجم، فالرسول خاف ألا يصدق ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على قول بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله! أنا مصدق، لكن رجاء أن أكون من أهلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى الصدق في عمير بن الحمام رضي الله عنه وأرضاه: فإنك من أهلها، وتأمل إلى عمير بن الحمام رضي الله عنه وأرضاه فقد أخذ ما أراد، فهو طوال عمره يعيش لأجل هذا الأمر، لأجل أن يدخل الجنة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول له: فإنك من أهلها، وهل هناك أحد سيدخل الجنة في الدنيا؟! لا، لابد من الموت، فهو عرف أن الفارق بينه وبين الجنة أن يموت، وبينما هو واقف بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أنس بن مالك رضي الله عنه راوي الحديث: فأخرج عمير تمرات من قرنه، أي: من الكيس الذي يوضع على الظهر وفيه الزاد، فكان رضي الله عنه واقفاً طوال اليوم ولا يوجد لديه أكل، فأخذ من كيسه بعض التمر ليأكلها، قال: فجعل يأكل منهن أي: من التمر، ثم إن عمير بن الحمام رضي الله عنه عمل عملاً غريباً جداً، فأخذ التمرات ورمى بهن، ثم قال: (لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة)، أي: هل سأنتظر دقيقة أو دقيقتين أو ثلاث حتى آكل هذه التمرات وبعد ذلك أموت ثم أدخل الجنة؟ لا، فأنا مشتاق جداً إلى الجنة، ولا أستطيع أن أصبر دقيقة واحدة، فهل يا تُرى كان في فعل عمير بن الحمام تكلف.

    لا والله أبداً، فهو الآن يعيش في الجنة فعلاً، والذي يفصل بينه وبين أن يكون في الجنة حقيقة الموت، لأن الإنسان إذا مات انتقل إلى القبر، والقبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار، ومجرد أن يموت فإن كل النعيم الذي سيراه في الجنة سيرى منه في القبر، ثم إلى النعيم الكثير والكبير والذي لا ينقطع بعد قيامه من قبره يوم يقوم الناس لرب العالمين.

    يقول أنس : فرمى عمير بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل، أي: حتى استشهد، ونال الأمنية التي كان يتمناها، وانظر إلى بعض الناس ماذا يتمنون؟! أن الله يكتب لهم عمراً طويلاً، وأنهم يعيشون سنين وسنين، بينما عمير كان يتمنى فعلاً أن يموت، وصدق الله فصدقه الله عز وجل.

    قبول الصحابة لشروط بيعتي العقبة مقابل تبشيرهم بالجنة

    وتعالوا بنا أيضاً لنرى بيعة العقبة الأولى -وقد تكلمنا عليها بالتفصيل في دروس السيرة- يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه كما جاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنا عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء)، وذلك قبل أن يفرض الجهاد، لأن بيعة النساء كانت بيعة بدون جهاد، والجهاد إنما جاء في بيعة العقبة الثانية، وتعالوا لنرى الشروط التي اشترطها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبادة بن الصامت ومن معه من أصحاب بيعة العقبة الأولى، يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه: (بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف).

    فهذه ستة شروط وأمور بايع النبي صلى الله عليه وسلم عليها أصحابه، وهي شروط صعبة جداً، وأريد منكم أن تتخيلوا هؤلاء المبايعين الذين دخلوا في الإسلام الآن، ويملي عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه الشروط والقيود الشديدة، ومن أولها: عدم الإشراك بالله، وعدم السرقة إلى آخر ما أملاه عليهم عليه الصلاة والسلام، لكن ما هو الثمن إن وفَّوا بذلك؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله؛ إن شاء عذبكم، وإن شاء غفر لكم).

    فهل يا ترى تخلف أحد عن البيعة بعد هذه القيود الصعبة؟ لا، فكلهم قد بايعوا، نعم الشروط كانت صعبة لكن الثمن هو الجنة، فهذا هو المفهوم عن الجنة لدى الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

    ولننظر في بيعة العقبة الثانية، فقد كانت أصعب وأصعب، فهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحكي قصة بيعة العقبة الثانية كما جاءت في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فيقول رضي الله عنه وعن أبيه: (قلنا: يا رسول الله! علام نبايعك؟ قال: تبايعوني على..)، وانتبه! فالرسول صلى الله عليه وسلم يصعب عليهم الأمور أكثر وأكثر، أكثر من السنة الماضية، لأن هؤلاء هم الدعامة التي ستقوم عليها الحكومة الإسلامية بعد ذلك، ولا بد أن يكونوا فاهمين جيداً لتبعات الإيمان، ولا بد أن يفهموا بماذا سيضحون وماذا سيكسبون؟

    فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهم الحقيقة بمنتهى الصراحة وبمنتهى الوضوح، قال: (تبايعوني على: السمع والطاعة)، تذكرون محاضرة: الصحابة والعمل، وتذكرون كلمة السمع والطاعة؟ حيث قالوا: (سمعنا وأطعنا)، وليس السمع والطاعة فقط، بل الأمر أصعب من ذلك: (السمع والطاعة في النشاط والكسل)، فالسمع والطاعة في النشاط ممكن، وخاصة عندما يكون الإنسان متحمساً جداً لعمل الخير، فقد تأتيه ساعات هو متحمس فيها للصلاة في المسجد، لكن عندما يكون كسلان أو مرهقاً من العمل أو غيره فإنه يؤدي صلاة الجماعة في المسجد جماعة، وهذا هو السمع والطاعة؛ لأنه أمرك بالصلاة في الجماعة في المسجد؛ فتصلي جماعة في المسجد.

    أيضاً عندك حمية للجهاد في سبيل الله وأنت في منتهى النشاط، وفي أوقات أخرى قد يحصل لك فتور، لكن هذا الفتور ليس مبرراً لعدم الطاعة، وعليه فهذا هو المؤمن الذي يقدر على حمل مسئولية الأمة الإسلامية على كتفيه. وهذا أول الشروط.

    ثانياً: (وعلى النفقة في العسر واليسر)، في اليسر ممكنة، لا، أيضاً في العسر، فإذا كنت فقيراً أو محتاجاً، وعليك كذا وكذا من الأمور، لزمك النفقة في سبيل الله.

    ثالثاً: (وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهو أمر صعب أيضاً على النفس.

    رابعاً: (وعلى أن تقولوا)، وفي رواية: (وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم فيه لومة لائم)، وهذه في منتهى الصعوبة، لأن شدة المواجهة للدعاة في سبيل الله عز وجل معروفة، لكن هذا ليس مبرراً لمنع الدعوة أو لوقفها.

    خامساً: (وعلى أن تنصروني إذا قدمت يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم).

    فهذه هي الشروط الخمسة، وهي شروط في منتهى الصعوبة، ويمكن أن يقال على فكر العامة أو الجهلة: هذه شروط تعجيز، وليس من الممكن لأحد يريد أن يستقطب الناس أن يأتي بهذه الشروط الصعبة، لكن هذه هي حقيقة الإسلام، فالإسلام دين يحتاج إلى تضحية، ويحتاج إلى مجهود، ويحتاج إلى أناس تدفع ولا تأخذ، لأن بعض الناس همها أن تأخذ في الأخير، أي: أنها تريد أي شيء في الدنيا لا في الجنة.

    إذاً ما هو الثمن؟ وما جزاؤنا إذا عملنا كل هذه الشروط الصعبة وصرفنا كل حياتنا لله عز وجل؟

    يقول صلى الله عليه وسلم: (ولكم الجنة)، كلمة واحدة، فقط، فالشروط أكثر من أربعين كلمة، والثمن كلمة واحدة: (الجنة)، ثم اعلموا أننا سوف نكسب لو عرفنا قيمة الجنة، وعرفنا أن ما ندفعه هو القليل، أربعون كلمة أو مائة كلمة أو خمسة آلاف كلمة، أو خمسة آلاف شرط أو خمسة شروط لا فرق في ذلك، لأنه في الأخير عمر واحد وسينقضي بسرعة، والجزاء في الأخير هو الجنة.

    يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (فقمنا نبايعه) أي: أن الصحابة لم يترددوا عن المبايعة بسبب هذه الشروط الصعبة؛ لأنهم يعرفون الجنة، مع أنهم في مرحلة الطفولة في الإسلام، إذ لم يتعد إسلام بعضهم اليوم واليومين، والشهر والشهرين، والسنة والسنتين بالكثير، وأقدم واحد في الأنصار كان عمره في الإسلام سنتان فقط، وهو من الستة الأوائل الذين أسلموا من الخزرج قبل هذه الحادثة بسنتين.

    فتأمل إلى مقدار العمق في الفهم ووضوح الرؤية عند جيل الصحابة، لأنهم عرفوا قيمة الجنة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088966480

    عدد مرات الحفظ

    780209152