إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على ذكرك، اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فمع الدرس العاشر من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه، في الدرس السابق تحدثنا عن المبررات التي من أجلها أجمع الصحابة هذا الإجماع الفريد على اختيار الصديق خليفة للمسلمين، وذكرنا أنه رضي الله عنه كان أفضل الصحابة على الإطلاق بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وبشهادة جميع الصحابة، وذكرنا شروط الخليفة في الإسلام، وكيف أنها تواترت أعظم ما تكون في الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وذكرنا كيف فاق غيره في الشجاعة، وكيف فاق غيره في العلم، وكيف فاق غيره في حسن الرأي، وكيف فاق غيره في العدالة .. وهكذا.
وكان الصديق رضي الله عنه وأرضاه بحق هو الرجل المناسب في المكان المناسب.
إذاً: كما ذكرنا في الدرس السابق فإن العقل والحكمة والمنطق كل ذلك كان يؤيد اختيار الصديق دون غيره من الصحابة ليكون خليفة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفوق كل ما سبق فإنه كانت هناك رغبة حقيقية من رسول الله صلى الله عليه وسلم في استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وظهرت هذه الرغبة في أحاديث كثيرة، وفي مواقف متعددة، من ذلك:
ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أمن الناس علي في صحبته وماله
قال العلماء: هذه إشارة إلى الخلافة؛ لأنه يخرج منه إلى الصلاة بالمسلمين كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم يخرج من بيته للصلاة بالمسلمين، وكذلك سيفعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقد ورد لفظ آخر يزيد الأمر وضوحاً وهو: (سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب
وأخرج البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول: الموت، فقال صلى الله عليه وسلم: إن لم تجديني فأتي
قال الشافعي تعليقاً على هذا الحديث: في هذا الحديث الدليل على أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وفي حديث آخر أخرجه الحاكم وصححه عن أنس رضي الله عنه قال: (بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سله: إلى من ندفع صدقاتنا بعدك؟ فأتيته فسألته فقال: إلى
وأيضاً أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه -أي: في مرض الموت الأخير- : ادعي لي
يقول ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة: هذا قد يعتبر نصاً جلياً في استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
لكن لماذا لم يكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً؟
القصة هذه توضحها رواية أخرى جاءت في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، روى أحمد وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: ادعي لي
وأخرج مسلم أيضاً عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها سئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلف؟ وفي هذا تصريح أنه لم يستخلف صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو غيره صراحة؛ فهذا الحديث تسأل فيه السيدة عائشة : من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً؟ يعني: كل الذي مضى مع كونه شديد الوضوح في رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل صراحة: الخليفة من بعدي أبو بكر ، ولو قال ذلك لما كان هناك اجتماع أصلاً في سقيفة بني ساعدة.
فالسيدة عائشة ردت على هذا السؤال وقالت: أبو بكر ، أي: لو كان مستخلفاً لاستخلف أبا بكر ، قيل لها: ثم من بعد أبي بكر ؟ قالت: عمر ، قيل لها: ثم من بعد عمر ؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح ، وأبو عبيدة بن الجراح مات في سنة (18) من الهجرة في ولاية عمر بن الخطاب ، ولذلك لم يكن مرشحاً للخلافة عند استشهاد الفاروق رضي الله عنه وأرضاه في سنة (23) من الهجرة.
وأخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (كان قتال بين بني عمرو بن عوف -وهم خارج المدينة المنورة- فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذا القتال فأتاهم بعد الظهر؛ ليصلح بينهم، وقال: يا
والقصة هذه لها تكملة في صحيح البخاري ؛ روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه وأرضاه وهو نفس الراوي الذي روى عنه الإمام أحمد بن حنبل قال: (فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلص -يعني: شق الصفوف- حتى وقف في الصف الأول، فصفق الناس) لأن الناس يريدون أن يلفتوا نظر سيدنا أبي بكر الصديق أن الرسول عليه الصلاة والسلام جاء ووقف في الصف الأول، يقول سهل بن سعد رضي الله عنه وأرضاه: (وكان
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بين أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها
وهذا المثال واضح لما جرى لـأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما، وحسن سيرتهما، وظهور آثارهما، وانتفاع الناس بهما، كل ذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم، ومأخوذ من بركته وآثار صحبته صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الأمر، فقام به أكمل قيام، وقرر قواعد الإسلام، ومهد أموره، وأوضح أصوله وفروعه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وأنزل الله عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه سنتين وأشهراً، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (ذنوباً أو ذنوبين)، وحدث في خلافته قتال أهل الردة، وقطع دابرهم واتسعت دولة الإسلام، ثم توفي فخلفه عمر رضي الله عنه وأرضاه فاتسعت دولة الإسلام في زمنه، وتقرر من أحكامه ما لم يقع مثله، فعبر صلى الله عليه وسلم بالقليب عن أمر المسلمين؛ لما فيها من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم، وشبه أميرهم بالمستقي لهم وسقيه هو قيامه بمصالحهم وتدبير أمورهم.
وهذا فيه دليل من دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففعلاً أبو بكر لم يمكث إلا سنتين وأشهراً قليلة، ومكث عمر بن الخطاب فترة طويلة، ولذلك نزع نزعاً لم ينزع أحد مثله.
ثم نأتي إلى حديث هام وهو من أهم الأحاديث التي أشارت إلى استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهو الحديث الذي أمر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس، وذلك أيام موته أو أيام مرضه الأخير صلى الله عليه وسلم، فظل أبو بكر يصلي بهم عشرة أيام متصلة والرسول صلى الله عليه وسلم ما زال حياً، ولكن يمنعه المرض من الصلاة بالناس.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة -وكانت صلاة العشاء- فقال: مروا
والسيدة حفصة بنت عمر رضي الله عنهما كانت تحضر هذا اللقاء، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر فطلبت السيدة عائشة من السيدة حفصة أن تعيد مرة ثانية، يعني: تقول له: لا داعي أن يصلي بهم أبو بكر ، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر للمرة الثالثة ثم قال: (إنكن صواحب يوسف) يعني: أن السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها تبطن أمراً وتظهر أمراً آخر، كما كانت تفعل امرأة العزيز ، فامرأة العزيز دعت النساء إلى رؤية يوسف عليه الصلاة والسلام بغرض أن يعذرنها في حبها له، لكن الظاهر من الدعوة كان الإكرام والضيافة، وكذلك موقف السيدة عائشة ثم حفصة بأمر عائشة ظاهره أن أبا بكر رجل أسيف، لكن باطنه أن السيدة عائشة لا تريده أن يصلي بالناس؛ لكي لا يتشاءم الناس به إذا وقف مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن مع كل هذا أصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (مروا
قيل للأعمش -وهو أحد رواة الحديث- : (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي و
فالسيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها كانت لا تريد أبا بكر أن يصلي بالناس خشية أن يتشاءم به الناس، كما جاء في كلامها هي في البخاري أيضاً حيث قالت: ( لقد راجعته -أي: راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- في أمر إمامة أبي بكر وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبداً )، ولعل السيدة عائشة أيضاً أرادت من هذا التردد أشياء أخرى في غاية الأهمية، منها على سبيل المثال:
أن تنفي عن نفسها تهمة التآمر على توصيل الصلاة ومن ثم الخلافة إلى أبيها، وقد حدث بعد ذلك فعلاً أن طعن الطاعنون فيها رغم هذا التردد.
ومنها: أن تشهد حفصة بنت عمر رضي الله عنهما على هذا الأمر؛ لأن عمر بلا جدال هو المرشح الثاني للخلافة، وقد يختاره الناس رغم فضل أبي بكر عليه؛ وذلك لقوة عمر وحسن إدارته وسطوته على الكفار والمنافقين، فالسيدة عائشة بذلك الأمر أشهدت أولى الناس بالشهادة؛ حتى يعلم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما أنها بذلك أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن متردداً في أمر إمامة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وأنه كان حاضر الذهن تماماً عندما عهد له بذلك، وأبى أن يقوم غيره في هذا المقام، وسواء كانت السيدة عائشة تقصد هذه الأمور أو لا تقصدها فإنه من فضل الله على هذه الأمة أن تحققت هذه الأمور بالفعل، وظهر واضحاً لعموم المسلمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد للصلاة إلا أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الموقف من أقوى الأدلة على رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه، واستنبط منه ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لما قال: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فرضيناه لدنيانا، كما روى ذلك الحاكم في مستدركه، أي: رضيه للصلاة فرضيناه للخلافة.
وأيضاً استنبط عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في خلافة الصديق وذلك يوم السقيفة يوم قال للأنصار: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة؟ قالوا: بلى، قال: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم من قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا أحد، معاذ الله أن نتقدم على أبي بكر رضي الله عنه! روى ذلك النسائي والحاكم .
وأبو بكر الصديق ظل يصلي بالناس طوال فترة مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم للصلاة مرة أخرى، فقد أقعده المرض عن ذلك.
وهناك موقف رواه أبو داود بسند صحيح عن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه وأرضاه، وبهذا الموقف يتضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مصراً على ألا يشارك أبا بكر أحد من المسلمين في الإمامة؛ كي لا يختلط الأمر على المسلمين بعد ذلك، يقول عبد الله بن زمعة رضي الله عنه: (لما استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: اشتد به المرض- وأنا عنده في نفر من المسلمين دعاه
وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله زيادة على هذه القصة: (أنه جاء
واضح أن هذا الغضب من رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد أنه كان يريد أبا بكر لذاته وإلا فالصلاة صحيحة وعمر من أفاضل الرجال، بل هو أفضلهم بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ولكن في هذا المقام أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يلتبس الأمر أبداً على المسلمين بعد وفاته فلا يختلفون على الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
ومن ألطف التعليقات على قضية إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه المسلمين بالصلاة في أثناء مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن عدي رحمه الله عن أبي بكر بن عياش رحمه الله -و أبو بكر بن عياش من العلماء في زمان الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله- قال: قال لي الرشيد : يا أبا بكر بن عياش ! كيف استخلف الناس أبا بكر الصديق ؟ يعني: يظهر أنه كانت هناك بعض الأمور الغامضة في ذهن الرشيد ، فيريد أن يتأكد، فقال: أبو بكر بن عياش رحمه الله: يا أمير المؤمنين! سكت الله وسكت رسوله وسكت المؤمنون، فقال الرشيد : والله! ما زدتني إلا غماً يعني: أنا لم أكن فاهماً ولكنني بعد سؤالك لم أفهم أكثر، فقال أبو بكر بن عياش : يا أمير المؤمنين: (مرض النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أيام فدخل عليه
وأيضاً من التعليقات اللطيفة ما علق به أبو الحسن الأشعري رحمه الله على مسألة تقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر الصديق في الصلاة حيث قال: وتقديمه له -أي: تقديم الرسول عليه الصلاة والسلام لـأبي بكر - أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام، لماذا الأشعري يقول هذا الكلام؟ لأن الصحابة جميعاً علموا هذا الأمر وقبلوا أبا بكر إماماً لهم، وتواتر ذلك عنهم، ثم قال الأشعري رحمه الله: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم؛ لما ثبت في الحديث المتفق على صحته بين العلماء: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً) أي: إسلاماً. هذا لفظ الإمام مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، وفي رواية أخرى: (أكبرهم سناً) بدلاً من (أقدمهم سلماً).
ويعلق ابن كثير رحمه الله على كلام الأشعري رحمه الله فيقول: مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب، فانظروا كلام العلماء على غيرهم من العلماء، يقول: هذا الكلام من الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب، ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
يعني: اجتمعت فيه قراءة القرآن والعلم بالسنة والقدم في الهجرة والقدم في الإسلام والسن الكبير بين المرشحين للخلافة، فرضي الله عن الصديق ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
وتعالوا بنا نرى أيضاً بعض التعليقات اللطيفة من الصحابة والعلماء على استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه، تعالوا بنا نرى رأي عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن مسعود قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه الترمذي وحسنه وكذلك رواه الإمام أحمد بن حنبل وصححه الألباني عن حذيفة رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي، وأشار إلى
ثم قال: (واهتدوا بهدي
قال ابن مسعود فيما رواه الحاكم وصححه: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن.
يقصد اجتماع المسلمين الصالحين على أمر، فإذا اجتمعوا على أمر ورأوه حسناً فهو عند الله حسن، ويقول سيدنا عبد الله بن مسعود : وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيئ.
ثم يقول عبد الله بن مسعود : وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر .
يعني: أن استخلاف أبي بكر الصديق ليس فقط حسناً عند المسلمين بل هو حسن عند الله عز وجل كذلك.
وأخرج البيهقي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: أجمع الناس على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وذلك أنه اضطر الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا عليهم قائداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجدوا تحت أديم السماء خيراً من أبي بكر ، فولوه رقابهم.
ويقول معاوية بن قرة رحمه الله وهو من التابعين: ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون أن أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يسمونه إلا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يجتمعون على خطأ ولا ضلال.
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: أجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، قالوا له: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! ولم يسم أحد بعده خليفة.
بل إن بعض العلماء استنبطوا من بعض آيات القرآن الكريم أحقية أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه بالخلافة، فقد علق أبو بكر بن عياش رحمه الله على الآية الكريمة: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8] قال أبو بكر بن عياش رحمه الله: من سماه الله صادقاً ليس يكذب، فالمهاجرون سماهم الله عز وجل في كتابه الكريم بالصادقين، والمهاجرون قالوا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو خليفته حقاً، لا يكذبون.
وعلق ابن كثير رحمه الله على هذا الاستنباط فقال: هذا استنباط حسن.
وقال الإمام الرازي رحمه الله في تفسيره للفاتحة: إن قوله عز وجل: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] فيه إشارة إلى اتباع الصديق رضي الله عنه وأرضاه ومن ثم استخلافه. فمن أين أتى بهذا الكلام؟
قال: إن الله يأمرنا أن نطلب الهداية إلى طريق الذين أنعم الله عليهم. فمن هم الذين أنعم الله عليهم؟ فسرها ربنا في سورة النساء فقال: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، هذه هي الأنواع التي أنعم الله عليها والتي أمرنا بطلب الهداية إلى طريقها، ولم يعد هناك أنبياء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلزم أن نكون مع الصديقين.
ويقول الرازي : لا شك أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو رأس الصديقين ورئيسهم، ومن ثم فإننا أمرنا أن نتبعه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى البيهقي عن الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]، قال الحسن البصري : هو والله! أبو بكر وأصحابه، لما ارتدت العرب جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردوهم إلى الإسلام.
وقال قتادة تعليقاً على نفس الآية: كنا نتحدث أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وأصحابه.
فهذه مجموعة من الأحاديث والآيات والآثار، وهناك غيرها من الأحاديث التي أعرضت عنها إما لضيق الوقت أو لتكرار المعنى أو لضعف السند، وكل هذه الأحاديث والآيات تشير إما من قريب أو من بعيد إلى رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
انقسم العلماء في رأيهم حول هذه الآيات وحول هذه الأحاديث إلى فريقين:
وفي الحقيقة الفريقان ليس بينهما خلاف كبير، فالكل يتفق على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرغب في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ولكن الخلاف بينهما في: هل كان ذلك بالنص الجلي الصريح أم بالنص الخفي والإشارة؟
فبعض العلماء مثل ابن حزم الظاهري رحمه الله قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر بالنص الصريح الجلي، واستشهدوا بأحاديث مثل حديث المرأة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لم تجديني فأتي
أما الطائفة الأخرى من العلماء فقالت: إن استخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر الصديق كان بالإشارة والنص الخفي، وليس تصريحاً، وينسب هذا القول إلى الحسن البصري وأحمد بن حنبل وابن تيمية وطائفة كبيرة من أهل الحديث.
وهذا هو الرأي الغالب؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من الممكن أن يصرح فيقول: إذا مت فليكن أبو بكر من بعدي، هكذا بوضوح، فالأمر ليس أمراً ثانوياً في حياة المسلمين حتى يتعمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث بهذا الأسلوب غير المباشر.
إذاً: كانت هناك حكمة نبوية من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصرح بالاستخلاف، وترك الأمر بمجرد الإشارة، وكان هناك رضا من الله عز وجل على هذا التلميح دون التصريح؛ لأن كل أمور الرسول صلى الله عليه وسلم كانت عن طريق الوحي، فكيف بهذا الأمر الخطير؟
يؤكد على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستخلف تصريحاً ما جاء في كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عند وفاته، روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال عمر : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، -يعني: أبا بكر - وإلا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام في رأي سيدنا عمر لم يستخلف.
ويؤكد على هذا أيضاً ما رواه البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها سئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلف؟ وهذا واضح في أنه لم يستخلف، فقالت: أبو بكر .. إلى آخر الحديث.
فإذا كان الحق أنه صلى الله عليه وسلم لم يستخلف تصريحاً فلماذا لم يصرح صلى الله عليه وسلم بالاستخلاف واكتفى بالإشارة فقط؟ ولماذا لم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أمراً مباشراً بتعيين أبي بكر خليفة؟ وما هي الحكمة في ترك المسلمين دون تصريح باسم الخليفة.
وطبعاً الحكمة الإلهية الكاملة وراء هذا الحدث لا يعلمها إلا الله عز وجل، ولكننا نجتهد في فهم هذا الموقف وفق المعطيات التي معنا، والذي يبدو لي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يصرح بذلك حتى يترك المسلمين يدبرون أمرهم في غيابه صلى الله عليه وسلم، فالمسلمون بعد هذه اللحظة التي فارق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياة سيكون عليهم أن يديروا شئونهم بأنفسهم، لا يتلقون وحياً، وليس لهم عصمة.
فماذا يحدث لو اختار لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخليفة الآن بوضوح؟ كانت النتيجة أنه لن يكون هناك الحوار الذي دار وحدث في سقيفة بني ساعدة، طيب ما الفائدة من هذا الحوار؟
لقد تعلم المسلمون في هذا الوقت المبكر وعلموا المسلمين من بعدهم كيف يتم اختيار الخليفة؟ وكيف يكون أسلوب الحوار في مثل هذه المواقف؟ وكيف يمكن قبول وجهات النظر المختلفة؟ وما هي الحدود التي لا ينبغي تجاوزها؟ وهي حدود الشرع، وما الذي يجب أن تكون عليه النفوس حتى يتم اختيار الخليفة بطريقة سليمة؟ وما هي صفات الخليفة المنتخب؟ وما هي مقومات الصديق التي جعلته يتقدم غيره؟
ماذا يحدث لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختار لهم أبا بكر بالتصريح؟ ما الذي كان سيحدث؟ كان أبو بكر الصديق سيتولى أمور المسلمين إلى أجل ثم يموت، فماذا يفعل المسلمون بعد موته؟ يعني: أن المشكلة ستتأخر فقط؟ وكيف يختارون الخليفة الجديد وليس بين أيديهم رسول يختار لهم؟
الصحابة اكتمل نموهم رضوان الله عليهم أجمعين، وحان الآن وقت الفطام عن الوحي وعن العصمة، وآن لهم أن ينطلقوا في الحياة بالكتاب والسنة دون رسول حي بين أظهرهم، فإذا كان سيكتب على المسلمين أن يختاروا في يوم من الأيام خليفة بمفردهم فليكن هذا الجيل الراقي الرائع التقي الورع العاقل الحكيم من الصحابة هو الذي يختار؛ حتى يعطي القدوة والمثل لمن بعده من الناس.
هذا أول أمر يبدو لي في عدم تصريح الرسول عليه الصلاة والسلام في استخلاف أبي بكر .
الأمر الثاني الذي ألاحظه: هو أنه لو فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على المسلمين فرضاً بالتصريح لكان لازماً عليهم أن يقبلوا به حتى وإن لم ترض نفوس بعض المسلمين به، فماذا ستكون النتيجة؟ في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القوم يخضعون لكلامه عند الاختلاف؛ وذلك لمكانته العظيمة صلى الله عليه وسلم في قلوب الناس، ولعلمهم بالوحي الذي ينزل عليه، ولليقين الذي في قلوبهم من أنه معصوم صلى الله عليه وسلم.
أما الآن فإذا تولى أمورهم رجل منهم وليس برسول فمن الطبيعي جداً أن يحدث اختلاف في الرأي لا يفصل بوحي ولا بعصمة، وهنا سيقول الناس عن الخليفة: هو رجل ونحن رجال، وله رأي ولنا آراء، ففرض رجل من المسلمين على المسلمين دون اختيارهم سوف يسبب ضعفاً في مكانته لا محالة، أما الخليفة الذي ينتخب انتخاباً حقيقياً من شعبه وأتباعه فإنه يعطى قوة لا مثيل لها، والجميع يرضى به، والجميع يجتمع لرأيه، بل والجميع سيبحث عن المبررات لأفعاله، وسيفترض فيه حسن النوايا عند اختلاف الآراء والتباس الأمور، بل وقد يفتديه الجميع بأرواحهم، وكيف لا وهم الذين أتوا به حقيقة إلى هذا المكان؟
إذاً: الانتخاب الحقيقي الذي قام به المسلمون لـأبي بكر الصديق أعطى له قوة حقيقية وقدرة واضحة على إدارة أمور البلاد، وأعطى له شرعية ما كانت لتكسر لحدث طارئ أو ظرف عابر مهما تعاظم هذا الحدث ومهما تغير هذا الظرف.
ونحن رأينا هذا الأمر في حياة الصديق أكثر من مرة؛ فكم من الأمور التي فعلها والقرارات التي أخذها كان من الممكن ألا تلقى هوى في قلوب الناس أو اقتناعاً في عقولهم، ولكن لكونهم اختاروه على علم وعلى بصيرة وثقة في إمكانياته وإيماناً بقدراته فإنهم كانوا ينصاعون لرأيه دون ثورة أو ضجر أو تقصير في الاتباع.
الأمر الثالث الهام: هو كون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرض أبا بكر فرضاً على الأمة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يرسي قاعدة الانتخاب بين المسلمين، فإنه لو عين خليفة تصريحاً من ورائه لكانت سنة قد تطبق على عموم الأمة بعد ذلك، ولا يبقى أمام كل جيل إلا أن يقبل باستخلاف الخليفة مهما كان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذا الجيل الذي معه هو خير القرون وأنه ستأتي أجيال كثيرة أقل منه في القدر والكفاءة، فلو جعل الأمر في يد رجل واحد يستخلف رجلاً آخر لدخلت عوامل الهوى وعوامل الجهل وعوامل عدم الدراية في الاختيار، ولدفعت الأمة بكاملها الثمن، فهو صلى الله عليه وسلم بعدم استخلافه قد أرسى سنة أن يجتمع المسلمون ويختارون من بينهم من يصلح لهذا الأمر.
وقد يقول قائل: إن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه قد استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه دون انتخاب؟
فالرد على ذلك: أنه لن يوجد في أجيال المسلمين من هو في قدر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه قد استشار كبار الصحابة في ذلك الأمر، ولم يكن هناك من تقطع إليه الأعناق بعد أبي بكر مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما أنه كانت هناك رغبة واضحة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكون عمر بعد أبي بكر في الخلافة، فما أكثر الأحاديث التي رتبت الخليفتين العظيمين بهذا الترتيب، وليس المجال هنا لذكرها، وإن كنا قد مررنا على كثير منها قبل ذلك، ثم لم تصح خلافة عمر إلا بعد أن بايعه الناس بعد وفاة الصديق ، ولو لم يبايعه الناس لوجب اختيار خليفة آخر يرضى عنه الناس.
ثم مرت الأيام وقربت منية عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه فقرر أن يجعل الأمر بالانتخاب بين المسلمين، وما أراد أن يستخلف، مع علم الجميع أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أفضل الصحابة بعد العملاقين الكبيرين: أبي بكر وعمر ، ومع ورود أحاديث كثيرة ترتب عثمان بعد أبي بكر وعمر مباشرة، ومع كون عثمان يزن أمة المسلمين إذا خلا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر .
مع كل هذا إلا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يرسي قاعدة الانتخاب وكان يعلم أن الأمر سيئول إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه لعظم قدره بين الصحابة.
وبالفعل هذا ما حدث، وعندما مر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه على كل أهل المدينة ليرى من يختارون عثمان أم علي بعد انسحاب بقية الستة المرشحين للخلافة وجد إجماعاً من عامة المسلمين إلا قليل القليل على اختيار عثمان بن عفان رضي الله عنه خليفة للمسلمين.
المهم أن القاعدة أرسيت، وعلمت بذلك طرق اختيار الخليفة في الإسلام، وهي إما عن طريق الانتخاب وهذا أفضل، وإما عن طريق الاستخلاف وهذا جائز، ولكن لا يكتمل إلا بموافقة الناس، ولو استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر تصريحاً لما كانت هناك فرصة أصلاً لفكرة الانتخاب، ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رحمته بالأمة أنه يريد لها ما يصلح شأنها، وبالذات بعد مصيبة وفاته صلى الله عليه وسلم، فهو يعلم أن خير الأمة سيكون في استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم بأمر وسط يمزج فيه بين الاستخلاف وعدم الاستخلاف، ويقدم أمراً يشبه الاقتراح وليس القطع، وبذلك ترسى قاعدة الانتخاب وفي نفس الوقت ينتخب من أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا حكمة متناهية، وصدق الله العظيم إذ يقول: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].
قام الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث خطوات رئيسية لضمان هذا الاستخلاف دون تصريح:
أولاً: قال: (الأئمة من قريش) وبذلك ضيق إلى حد كبير قاعدة الانتخاب وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لو كان الأمر في قريش فهو في أغلب الظن سيئول إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ لمكانته المعروفة في قريش.
ثانياً: أراد التأكيد على استثناء الأنصار؛ لأنه قد يخطر ببالهم -كما ذكرنا من قبل- أنهم أصحاب البلد والذين نصروا الدين وأقاموا الدولة، فيجب في رأيهم أن يكون الخليفة منهم، فأراد أن يؤكد على استثنائهم ولكن بأسلوب حكيم لا يجرح شعورهم ولا يقلل من قيمتهم، فإذا به في حكمة رائعة يوصي الناس بالأنصار، ولو كان الأنصار خلفاء ما احتاجوا وصاية، ولكنه يشير إلى أن الخلافة لن تكون فيهم، فيجب على ولي الأمر أن يستوصي بالأنصار خيراً، وأكثر صلى الله عليه وسلم من مثل هذه الأحاديث وبالذات عندما قربت منيته صلى الله عليه وسلم، وكان حتى في مرض الموت يؤكد على هذه الحقيقة، مثال ذلك:
ما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (مر
فالأنصار قضوا ما عليهم، والذي كان عليهم هو ما كان عليهم في بيعة العقبة الثانية كما يقول ابن حجر في فتح الباري، وهو إيواء رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته، وبقي الذي لهم وهو الجنة، فما هي إلا أيام قليلة في الدنيا ويلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، فعلى من يتولى أمور المسلمين أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم.
وأيضاً في نفس هذا المعنى روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه بملحفة قد عصب بعصابة دسماء) يعني: شد رأسه بعصابة لونها كلون الدسم، أي: الدهن، قال: (حتى جلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: أيها الناس! فإن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام).
انظر إلى روعة التشبيه؛ الأنصار سيقلون جداً حتى يصيروا كنسبة الملح في الطعام، ومع ذلك فإن الملح شيء لا غنى عنه في الطعام، ثم يكمل الرسول عليه الصلاة والسلام الكلام فيقول: (فمن ولي منكم شيئاً يضر فيه قوماً وينفع فيه آخرين فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم).
وهذه إشارة واضحة بأن الذي سيتولى أمور المسلمين ليس من الأنصار، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: فكان آخر مجلس جلسه النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام قال أولاً: (الأئمة من قريش) ثم أكد ثانياً: باستثناء الأنصار بهذا الأسلوب اللطيف غير المباشر، ثم ثالثاً: أشار في أحاديث عديدة إلى رغبته في استخلاف الصديق رضي الله عنهم وأرضاه.
وبذلك مهد الطريق للمسلمين ليختاروا عن طريق الانتخاب أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وهنا وقفة وسؤال: هل كانت كل هذه الإشارات والمواقف والأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط لحفظ حق الصديق رضي الله عنه وأرضاه في الخلافة، أم أن مصلحة المسلمين الفعلية تقتضي في المقام الأول أن يكون الصديق هو الخليفة؟
والإجابة على هذا الأمر هي: أن الأمرين معاً كانا مقصودين:
الأمر الأول: حفظ حق الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ لفضله ومكانته وقدراته وكفاءاته، ولا يجب أن يولى غيره في وجوده.
الأمر الثاني وهو الهام جداً: أن مصلحة المسلمين الفعلية كانت في استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه دون غيره من الناس.
فكان اختيار الصديق خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة بالأمة ومصلحة كبرى لها؛ وذلك لأسباب عديدة أذكر منها ثلاثة:
أولاً: تحتاج الأمة أن تسير في نظام هو أشبه ما يكون بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن التغيير في نمط الحياة في الإدارة والمعاملة قد يؤدي بالأمة إلى هاوية خطيرة، فحتى إن كان الشرع يسمح بآراء متعددة في قضية معينة فإن الانتقال من حياة معينة إلى حياة مختلفة يسبب الاضطراب عند الناس والتخبط وعدم توقع خطوات المستقبل، فـالصديق رضي الله عنه وأرضاه لطول صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولقدم العشرة من أول ما نزلت الرسالة على الرسول صلى الله عليه وسلم ومروراً بفترة مكة والهجرة وكل المشاهد والغزوات في المدينة لكل هذا كان يعرف كل دقائق حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كثير الدخول عليه في بيته.
وبالذات أن ابنته السيدة عائشة رضي الله عنها هي إحدى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حب الرسول صلى الله عليه وسلم سبباً في كثرة اللقاءات بينهما، حتى إنه كثيراً ما كان يذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العشاء ليتبادل معه الرأي والمشورة في أمور كثيرة، هذا الاختلاط الكبير برسول الله صلى الله عليه وسلم أطلع الصديق رضي الله عنه وأرضاه على أمور كثيرة ما اطلع عليها غيره.
ولذلك فقد كان يعلم ما لا يعلمه كثير من الصحابة الأجلاء، وفوق هذا الاطلاع على حياة الرسول عليه الصلاة والسلام فإن الصديق قد تميز برغبة شديدة في اتباع خطوات رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتفاء آثاره قدر الوسع، ونحن تكلمنا في درس كامل عن اتباع الصديق رضي الله عنه وأرضاه لخطوات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الصديق امتلك الرغبة في الاتباع، وامتلك العلم الذي يؤدي هذه الرغبة، ومن ثم كانت حياته رضي الله عنه وأرضاه تطبيقاً كاملاً لما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم، ولاشك أن هذا كان رحمة بالأمة.
الأمر الثاني: كان اختيار الصديق رضي الله عنه وأرضاه خليفة للأمة فيه مصلحة كبيرة أخرى وهي أن الأمة قد خرجت من مصيبة هائلة وكارثة مروعة وهي مصيبة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكارثة انقطاع الوحي، فتحتاج الأمة في هذه المصيبة إلى الرحمة لا الشدة، وإلى الرفق لا العنف، ومن أرحم بالأمة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم من الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟
لا نقول نحن ذلك بل قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، روى الإمام أحمد والترمذي وأبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي
الأمر الثالث: كانت مصلحة المسلمين تقتضي أيضاً أن يتولى أمورها أشد الناس ثباتاً وأرسخهم قدماً فمن المؤكد أن الدولة ستواجه أهوالاً عظاماً وتحديات جسيمة، ومن المؤكد أن كثيراً من التجمعات والأفراد سيطمعون في الأمة الإسلامية بعد وفاة رسولها صلى الله عليه وسلم، فمن يقود السفينة في الأمواج المتلاطمة؟ ومن أشد الصحابة ثباتاً وعزيمة؟ ومن أكثرهم يقيناً في وعد الله بالنصر؟ ومن أعظم الصحابة غيرة على الدين؟ إنه الصديق ولاشك في ذلك.
فقد ظهر ثباته من أول يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظل ثابتاً في كل المواقف والمشاهد والأهوال، وظل ثابتاً في الردة، وظل ثابتاً أمام فارس، وظل ثابتاً أمام الروم، ما لانت له عزيمة وما اهتز له جفن.
روى البيهقي بسند صحيح -كما ذكر ابن كثير رحمه الله- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: والله! الذي لا إله إلا هو لولا أبو بكر استخلف ما عبد الله، ثم قالها الثانية، ثم قالها الثالثة، يعني: كرر نفس الجملة ثلاث مرات، فقيل له: مه يا أبا هريرة ؟! ومه كلمة تقال للزجر عن الشيء، يعني: أكثرت، وكفاك ما قلته، إنه لقول عجيب، فأخذ أبو هريرة يسرد أحداثاً يبرهن بها على صدق مقولته فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه
إذاً: ثبات الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان رحمة من الله بالأمة، فاستمرت دعوة الإسلام، وتوطدت أركان الدولة، واحتفظت أمة الإسلام بمكانتها وهيبتها.
لكل ما سبق نستطيع القول بأن اختيار الصديق رضي الله عنه وأرضاه كخليفة للمسلمين كان اختياراً عادلاً موفقاً صحيحاً بل رحيماً بالأمة؛ كان ذلك لأنه أفضل الصحابة مطلقاً، وكان ذلك لأنه تتوافر فيه شروط الخليفة على أفضل ما يكون، وكان ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان راغباً في استخلافه وإن كان أشار ولم يصرح، وكان ذلك لأن مصلحة الأمة الإسلامية كانت في استخلاف هذا الرجل.
ومع كل هذا الوضوح إلا أن المغرضين لا يرون ذلك، فأكثرت طوائفهم وفرقهم من شيعة وعلمانية واستشراق واستغراب من وضع الشبهات حول هذا الاستخلاف، وأكثروا من الطعن في كل رموز الإسلام في أبي بكر وفي عمر وفي عائشة وفي علي وفي العباس وفي سعد بن عبادة .. وفي غيرهم.
وقد تعرضنا لبعض هذه الشبهات في الدروس السابقة، وسنفرد حديثاً خاصاً عنها في الدرس القادم إن شاء الله رب العالمين.
أسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم أجمعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر