إسلام ويب

سلسلة الصديق الاستخلاف بين التصريح والتلميحللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة فيها الإشارة والتلميح إلى استخلاف الصديق رضي الله عنه، ولم يأت استخلافه صريحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على ذكرك، اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

    وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    أما بعد:

    فمع الدرس العاشر من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه، في الدرس السابق تحدثنا عن المبررات التي من أجلها أجمع الصحابة هذا الإجماع الفريد على اختيار الصديق خليفة للمسلمين، وذكرنا أنه رضي الله عنه كان أفضل الصحابة على الإطلاق بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وبشهادة جميع الصحابة، وذكرنا شروط الخليفة في الإسلام، وكيف أنها تواترت أعظم ما تكون في الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

    وذكرنا كيف فاق غيره في الشجاعة، وكيف فاق غيره في العلم، وكيف فاق غيره في حسن الرأي، وكيف فاق غيره في العدالة .. وهكذا.

    وكان الصديق رضي الله عنه وأرضاه بحق هو الرجل المناسب في المكان المناسب.

    إذاً: كما ذكرنا في الدرس السابق فإن العقل والحكمة والمنطق كل ذلك كان يؤيد اختيار الصديق دون غيره من الصحابة ليكون خليفة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفوق كل ما سبق فإنه كانت هناك رغبة حقيقية من رسول الله صلى الله عليه وسلم في استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

    وظهرت هذه الرغبة في أحاديث كثيرة، وفي مواقف متعددة، من ذلك:

    ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر ، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين باب إلا سد إلا باب أبي بكر)، والصحابة كانت تفتح لهم أبواب إلى المسجد النبوي الشريف، فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر أن تسد جميع الأبواب إلا باب أبي بكر فقط.

    قال العلماء: هذه إشارة إلى الخلافة؛ لأنه يخرج منه إلى الصلاة بالمسلمين كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم يخرج من بيته للصلاة بالمسلمين، وكذلك سيفعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقد ورد لفظ آخر يزيد الأمر وضوحاً وهو: (سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبي بكر)، أخرج هذا اللفظ الترمذي عن عائشة رضي الله عنها والطبراني عن معاوية والبزار عن أنس رضي الله عنهم أجمعين.

    وأخرج البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول: الموت، فقال صلى الله عليه وسلم: إن لم تجديني فأتي أبا بكر).

    قال الشافعي تعليقاً على هذا الحديث: في هذا الحديث الدليل على أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

    وفي حديث آخر أخرجه الحاكم وصححه عن أنس رضي الله عنه قال: (بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سله: إلى من ندفع صدقاتنا بعدك؟ فأتيته فسألته فقال: إلى أبي بكر). هذا الحديث يكاد يكون صريحاً؛ لأن الذي يأخذ الصدقات هو الخليفة.

    وأيضاً أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه -أي: في مرض الموت الأخير- : ادعي لي أبا بكر وأخاك -عبد الرحمن - حتى أكتب كتاباً؛ فإني أخاف أن يتمنى متمن) أي: أخاف أن يطالب بالخلافة أحد من المسلمين، (ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، فهذا فيه تصريح أشد من رسول صلى الله عليه وسلم.

    يقول ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة: هذا قد يعتبر نصاً جلياً في استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

    لكن لماذا لم يكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً؟

    القصة هذه توضحها رواية أخرى جاءت في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، روى أحمد وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر أكتب لـأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه أحد بعدي، ثم قال: دعيه، معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر)، في هذا الحديث السابق فوق أنه يشير إلى خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه بوضوح فهو أيضاً من دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن المسلمين فعلاً لم يختلفوا في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه عندما طرح اسمه للخلافة، بل إن الموافقة عليه من الصحابة كانت بإجماع لم يحدث في مكان على الأرض لا قبل ذلك ولا بعد ذلك، فكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر)، لم تثبت أي حالات اعتراض على خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه غير ما أشاعه المستشرقون وغيرهم، وسنرد عليه لاحقاً إن شاء الله.

    وأخرج مسلم أيضاً عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها سئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلف؟ وفي هذا تصريح أنه لم يستخلف صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو غيره صراحة؛ فهذا الحديث تسأل فيه السيدة عائشة : من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً؟ يعني: كل الذي مضى مع كونه شديد الوضوح في رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل صراحة: الخليفة من بعدي أبو بكر ، ولو قال ذلك لما كان هناك اجتماع أصلاً في سقيفة بني ساعدة.

    فالسيدة عائشة ردت على هذا السؤال وقالت: أبو بكر ، أي: لو كان مستخلفاً لاستخلف أبا بكر ، قيل لها: ثم من بعد أبي بكر ؟ قالت: عمر ، قيل لها: ثم من بعد عمر ؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح ، وأبو عبيدة بن الجراح مات في سنة (18) من الهجرة في ولاية عمر بن الخطاب ، ولذلك لم يكن مرشحاً للخلافة عند استشهاد الفاروق رضي الله عنه وأرضاه في سنة (23) من الهجرة.

    وأخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (كان قتال بين بني عمرو بن عوف -وهم خارج المدينة المنورة- فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذا القتال فأتاهم بعد الظهر؛ ليصلح بينهم، وقال: يا بلال ! إن حضرت الصلاة ولم آت فأمر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت صلاة العصر أقام بلال الصلاة ثم أمر أبا بكر فصلى بالناس).

    والقصة هذه لها تكملة في صحيح البخاري ؛ روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه وأرضاه وهو نفس الراوي الذي روى عنه الإمام أحمد بن حنبل قال: (فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلص -يعني: شق الصفوف- حتى وقف في الصف الأول، فصفق الناس) لأن الناس يريدون أن يلفتوا نظر سيدنا أبي بكر الصديق أن الرسول عليه الصلاة والسلام جاء ووقف في الصف الأول، يقول سهل بن سعد رضي الله عنه وأرضاه: (وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس من التصفيق التفت) يعني: أحس بأن هناك مشكلة، (فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك) وفي رواية: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم دفعه بيده ليتقدم للإمامة، فرفع أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يديه فحمد الله) أي: حمد الله عز وجل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء (ثم استأخر أبو بكر ) يعني: لم يوافق أن يصلي إماماً برسول الله صلى الله عليه وسلم، (ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى، فلما انصرف قال: يا أبا بكر ! ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ فقال أبو بكر : ما كان لـابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهنا رسول الله عليه الصلاة والسلام يكمل التعليم للصحابة فقال صلى الله عليه وسلم: (ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ من رابه شيء في صلاته فليسبح؛ فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء).

    وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بين أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع بها ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم أخذها ابن الخطاب فاستحالت غرباً -أي: عظيمة- فلم أر عبقرياً يفري فريه) أي: سيداً من الناس ينزع نزع عمر بن الخطاب (حتى ضرب الناس بعطن) أي: سقوا إبلهم ثم آووها إلى العطن، وهو الموقع الذي تستريح فيه الإبل.

    وهذا المثال واضح لما جرى لـأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما، وحسن سيرتهما، وظهور آثارهما، وانتفاع الناس بهما، كل ذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم، ومأخوذ من بركته وآثار صحبته صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الأمر، فقام به أكمل قيام، وقرر قواعد الإسلام، ومهد أموره، وأوضح أصوله وفروعه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.

    وأنزل الله عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه سنتين وأشهراً، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (ذنوباً أو ذنوبين)، وحدث في خلافته قتال أهل الردة، وقطع دابرهم واتسعت دولة الإسلام، ثم توفي فخلفه عمر رضي الله عنه وأرضاه فاتسعت دولة الإسلام في زمنه، وتقرر من أحكامه ما لم يقع مثله، فعبر صلى الله عليه وسلم بالقليب عن أمر المسلمين؛ لما فيها من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم، وشبه أميرهم بالمستقي لهم وسقيه هو قيامه بمصالحهم وتدبير أمورهم.

    وهذا فيه دليل من دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففعلاً أبو بكر لم يمكث إلا سنتين وأشهراً قليلة، ومكث عمر بن الخطاب فترة طويلة، ولذلك نزع نزعاً لم ينزع أحد مثله.

    ثم نأتي إلى حديث هام وهو من أهم الأحاديث التي أشارت إلى استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهو الحديث الذي أمر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس، وذلك أيام موته أو أيام مرضه الأخير صلى الله عليه وسلم، فظل أبو بكر يصلي بهم عشرة أيام متصلة والرسول صلى الله عليه وسلم ما زال حياً، ولكن يمنعه المرض من الصلاة بالناس.

    روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة -وكانت صلاة العشاء- فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت السيدة عائشة : إن أبا بكر رجل أسيف) أي: شديد الحزن، وفي رواية: (رجل رقيق إذا قام في مقامك لم يستطع أن يسمع الناس).

    والسيدة حفصة بنت عمر رضي الله عنهما كانت تحضر هذا اللقاء، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر فطلبت السيدة عائشة من السيدة حفصة أن تعيد مرة ثانية، يعني: تقول له: لا داعي أن يصلي بهم أبو بكر ، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر للمرة الثالثة ثم قال: (إنكن صواحب يوسف) يعني: أن السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها تبطن أمراً وتظهر أمراً آخر، كما كانت تفعل امرأة العزيز ، فامرأة العزيز دعت النساء إلى رؤية يوسف عليه الصلاة والسلام بغرض أن يعذرنها في حبها له، لكن الظاهر من الدعوة كان الإكرام والضيافة، وكذلك موقف السيدة عائشة ثم حفصة بأمر عائشة ظاهره أن أبا بكر رجل أسيف، لكن باطنه أن السيدة عائشة لا تريده أن يصلي بالناس؛ لكي لا يتشاءم الناس به إذا وقف مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    لكن مع كل هذا أصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فخرج أبو بكر فصلى بالناس، ثم تكمل السيدة عائشة -كما جاء في البخاري - فتقول: (فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة فخرج يهادى بين رجلين) وهذان الرجلان كما جاء في رواية أخرى هما: العباس وعلي رضي الله عنهما، تقول السيدة عائشة : (كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع فأراد أبو بكر أن يتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك، ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه) يعني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام جلس إلى جنب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفي رواية: (جلس إلى يساره) واليسار هو مقام الإمام.

    قيل للأعمش -وهو أحد رواة الحديث- : (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأبو بكر يصلي بصلاته والناس يصلون بصلاة أبي بكر ؟ فقال برأسه: نعم) يعني: في هذه الصلاة بدأ أبو بكر إماماً للناس ثم لحق به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبح هو الإمام إلى آخر الصلاة.

    فالسيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها كانت لا تريد أبا بكر أن يصلي بالناس خشية أن يتشاءم به الناس، كما جاء في كلامها هي في البخاري أيضاً حيث قالت: ( لقد راجعته -أي: راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- في أمر إمامة أبي بكر وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبداً )، ولعل السيدة عائشة أيضاً أرادت من هذا التردد أشياء أخرى في غاية الأهمية، منها على سبيل المثال:

    أن تنفي عن نفسها تهمة التآمر على توصيل الصلاة ومن ثم الخلافة إلى أبيها، وقد حدث بعد ذلك فعلاً أن طعن الطاعنون فيها رغم هذا التردد.

    ومنها: أن تشهد حفصة بنت عمر رضي الله عنهما على هذا الأمر؛ لأن عمر بلا جدال هو المرشح الثاني للخلافة، وقد يختاره الناس رغم فضل أبي بكر عليه؛ وذلك لقوة عمر وحسن إدارته وسطوته على الكفار والمنافقين، فالسيدة عائشة بذلك الأمر أشهدت أولى الناس بالشهادة؛ حتى يعلم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    كما أنها بذلك أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن متردداً في أمر إمامة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وأنه كان حاضر الذهن تماماً عندما عهد له بذلك، وأبى أن يقوم غيره في هذا المقام، وسواء كانت السيدة عائشة تقصد هذه الأمور أو لا تقصدها فإنه من فضل الله على هذه الأمة أن تحققت هذه الأمور بالفعل، وظهر واضحاً لعموم المسلمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد للصلاة إلا أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

    هذا الموقف من أقوى الأدلة على رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه، واستنبط منه ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لما قال: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فرضيناه لدنيانا، كما روى ذلك الحاكم في مستدركه، أي: رضيه للصلاة فرضيناه للخلافة.

    وأيضاً استنبط عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في خلافة الصديق وذلك يوم السقيفة يوم قال للأنصار: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة؟ قالوا: بلى، قال: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم من قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا أحد، معاذ الله أن نتقدم على أبي بكر رضي الله عنه! روى ذلك النسائي والحاكم .

    وأبو بكر الصديق ظل يصلي بالناس طوال فترة مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم للصلاة مرة أخرى، فقد أقعده المرض عن ذلك.

    وهناك موقف رواه أبو داود بسند صحيح عن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه وأرضاه، وبهذا الموقف يتضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مصراً على ألا يشارك أبا بكر أحد من المسلمين في الإمامة؛ كي لا يختلط الأمر على المسلمين بعد ذلك، يقول عبد الله بن زمعة رضي الله عنه: (لما استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: اشتد به المرض- وأنا عنده في نفر من المسلمين دعاه بلال إلى الصلاة، فلم يستطع، فقال: مروا من يصلي بالناس) وهنا الرسول عليه الصلاة والسلام لم يصرح باسم أبي بكر أو بغير أبي بكر ، يقول عبد الله بن زمعة رضي الله عنه: (فخرجت فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائباً، فقلت: يا عمر ! قم فصل بالناس) وهذا اجتهاد من عبد الله بن زمعة رضي الله عنه وأرضاه، وواضح أيضاً أن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه وغيره من الصحابة كانوا يعلمون أن الذي يجب أن يصلي بهم هو أبو بكر ، لكنه لم يكن موجوداً، فليكن عمر بن الخطاب ، يقول عبد الله بن زمعة رضي الله عنه: (فتقدم عمر فكبر فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته وكان عمر رجلاً مجهراً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين أبو بكر ؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون، فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس) .

    وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله زيادة على هذه القصة: (أنه جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه إلى عبد الله بن زمعة رضي الله عنه بعد الصلاة لما سمع غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ويحك! ما صنعت بي يا ابن زمعة ؟! والله! ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس، فقال عبد الله بن زمعة رضي الله عنه: والله! ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة).

    واضح أن هذا الغضب من رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد أنه كان يريد أبا بكر لذاته وإلا فالصلاة صحيحة وعمر من أفاضل الرجال، بل هو أفضلهم بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ولكن في هذا المقام أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يلتبس الأمر أبداً على المسلمين بعد وفاته فلا يختلفون على الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088967907

    عدد مرات الحفظ

    780217587