إسلام ويب

سلسلة الصديق شروط الاستخلافللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لاختيار الخليفة شروط لا بد من توافرها فيه، وهي شروط مهمة، وقد توافرت كلها في الصديق الأكبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة والنجاة من النار.

    اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين.

    اللهم إنا نسألك من كل خير خزائنه بيدك، ونعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك، وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    أما بعد:

    فمع الدرس التاسع من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقد تكلمنا في الدرس السابق عن اختيار الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ ليكون خليفة للمسلمين، وذكرنا في الدرس السابق ما تم من بيعة الصحابة جميعاً بغير استثناء، فبايع المهاجرون وبايع الأنصار وبايع أيضاً علي بن أبي طالب في اليوم الثاني، وبايع الزبير بن العوام أيضاً في اليوم الثاني، وبايع سعد بن عبادة بعد عدة أيام، وهكذا أجمع المسلمون إجماعاً لا شبيه له في تاريخ أمة من الأمم على رجل واحد، أجمعوا على الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

    وذكرنا في الدرس السابق أنه مما يرفع قدر الصديق إلى أعلى الدرجات أنه كان يقارن بمجموعة من العمالقة الأفذاذ يقارن بجيل السابقين، ومع ذلك فمن الواضح أن الصحابة جميعاً كانوا مهيئين نفسياً لقبول أبي بكر زعيماً عليهم، واضح أنه حتى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كان الصديق بارزاً في المكانة وسابقاً في الفضل، وكان الناس جميعاً يضعونه في مكان مختلف عن بقية الصحابة، ولذلك سهل عليهم ترشيحه وانتخابه ومبايعته بهذه الصورة غير المتكررة.

    وتعالوا بنا نرى تعليقات الصحابة على هذه الشخصية الفريدة في التاريخ الإسلامي.

    وتعالوا بنا أيضاً نرى تعليقات الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل.

    وبعد أن نرى هذه التعليقات سنعرف أنه كان طبيعياً جداً أن يجتمع الصحابة على اختيار الصديق رضي الله عنه وأرضاه هذا الاجتماع الفريد.

    روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين).

    وفي رواية الطبراني زاد: (فيعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره).

    وروى البخاري عن عبيد الله بن عمر قال: كنا لا نعدل بـأبي بكر أحداً، ثم عمر ثم عثمان ، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نفاضل بينهم.

    وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن متوافرون -يعني: ونحن كثرة- نقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت).

    وأخرج الإمام أحمد رحمه الله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ( خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ).

    والذهبي رحمه الله يعلق على هذا الحديث فيقول: هذا متواتر عن علي رضي الله عنه، فلعن الله الرافضة ما أجهلهم، والرافضة هم طائفة من الشيعة رفضت خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

    وأخرج الترمذي والحاكم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلمة ( أحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ليست استنتاجاً من سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه بل الرسول صلى الله عليه وسلم صرح بها من قبل، فقد روى البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه قال: (قلت: يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة ، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر ، قلت: ثم من؟ فعد رجالاً).

    وروى الطبراني عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: من فضل على أبي بكر وعمر أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أزرى على المهاجرين والأنصار، أي: انتقص من المهاجرين والأنصار.

    وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، فقال: أنت مع من أحببت، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت، قال أنس : فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر ، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم).

    فهل ترون إحساس أنس رضي الله عنه وأرضاه بـالصديق وبـعمر رضي الله عنهما؟ هذا كان إحساس كل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

    وأخرج الترمذي والحاكم وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم فدخل المسجد وأبو بكر وعمر أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وهو آخذ بأيديهما وقال: هكذا نبعث يوم القيامة)، وأخرج نفس الحديث الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه.

    وأخرج الترمذي والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر).

    وأخرج الترمذي والحاكم وصححه عن عبد الله بن حنطب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبا بكر وعمر فقال: هذان السمع والبصر)، وهذا الحديث رواه الطبراني من روايات كثيرة، رواه من حديث ابن عمر وحديث ابن عمرو ورواه عن ابن عباس وعن جابر وعن غيرهم.

    وأخرج الترمذي وقال: حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـأبي بكر : (أنت صاحبي على الحوض -أي: على الكوثر- وصاحبي في الغار)، وطبعاً الصحبة في الغار فضيلة ولا شك للصديق رضي الله عنه وأرضاه.

    وهذه مجموعة من الأحاديث التي تثبت فضل الصديق رضي الله عنه وأرضاه على باقي الصحابة، وليست كل ما ورد في حق الصديق رضي الله عنه، فقد أعرضت عن مجموعة ضخمة من الأحاديث إما لتكرارها وإما لضعف في السند، هذه الكثرة في الأدلة جعلت علماء أهل السنة يتفقون على أفضلية الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ويتفقون على تقديمه على كل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

    وهذه الدرجة العالية من الفضل ومن الإيمان جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئن إلى إيمان الصديق وإلى تصديق الصديق حتى في غيابه، يعني: إذا كان الصديق ليس موجوداً فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يعرف ماذا يختار، وهذه درجة عالية جداً في الفضل، بمعنى: أنه إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً عجيباً غريباً قد يشك فيه بعض الناس فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئن ويضمن أن يصدقه الصديق حتى قبل أن يعرف موقف الصديق .

    وتعالوا بنا نرى الحديث الذي رواه البخاري ومسلم رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ثم أقبل على الناس فقال: بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت -أي: البقرة-: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث، فقال الناس: سبحان الله! بقرة تتكلم؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فإني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر ، وما هما ثم) يعني: لم يكونا موجودين في هذا اللقاء الذي يتحدث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يكمل صلى الله عليه وسلم ويقول: (وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة فطلبه) يعني: أن الذئب خطف شاة وهرب، فالرجل طلب الذئب حتى يأخذ شاته، قال: (حتى استنقذها منه) يعني: استطاع أن يأخذها منه، قال: (فقال له الذئب: هذه استنقذتها مني فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري؟) يعني: تكلم الذئب (فقال الناس: سبحان الله! ذئب يتكلم؟! قال صلى الله عليه وسلم: فإني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر ، يقول أبو هريرة : وما هما ثم).

    وهنا ملحوظة: في معظم الأحاديث التي يأتي فيها أبو بكر وعمر أو كل الأحاديث التي يأتي فيها أبو بكر وعمر يقدم أبا بكر على عمر رضي الله عنهما وأرضاهما، فمعنى ذلك: أن سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه مقدم دائماً على عمر رضي الله عنه.

    إذاً: ليس من عجب أن يختار المؤمنون أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه للخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأحاديث السابقة وغيرها تشير إلى أن الصحابة جميعاً كانوا يعتبرونه أفضلهم وأقربهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلاهم منزلة في الدنيا وفي الآخرة، هذا كله سهل عليهم اختياره خليفة للمسلمين، بل هذا الأمر في التقديم على غيره من الصحابة لم يكن خافياً حتى على المشركين، فقد كان المشركون يعلمون أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر الصحابة قرباً له.

    ونحن رأينا في الهجرة لما اكتشف المشركون خروج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته وبعدما كانوا يحاصرون بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول شيء فعلوه ذهبوا إلى بيت الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فهم يعلمون أنه الصاحب الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولابد أن الصديق يعرف مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق ظنهم فلم يجدوه هناك، فضرب أبو جهل السيدة أسماء رضي الله عنها وأرضاه على وجهها حتى أطار قرطها.

    وقد ذكرنا القصة قبل، والشاهد منها: أن المشركين كانوا يعلمون أن أبا بكر الصديق هو الرجل الثاني في دولة الإسلام.

    وفي يوم أحد لما هزم المسلمون وانسحبوا إلى الجبل جاء أبو سفيان ليتأكد من موت زعماء المسلمين، والزعيم الأول هو بلا شك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سفيان : أفيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ فلم يجيبوه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمرهم ألا يجيبوه، فلم يجبه الصحابة، فماذا قال أبو سفيان ؟ لقد قال مباشرة: أفيكم ابن أبي قحافة ؟ فلم يجيبوه أيضاً.

    إذاً: أبو سفيان كان يعلم أن القائد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فلما لم يجيبوه قال: أفيكم عمر ؟ سبحان الله! أترون الترتيب؟ فلم يجيبوه أيضاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم منعهم من الإجابة.

    هؤلاء هم الزعماء الثلاثة بالترتيب في نظر أبي سفيان المشرك آنذاك، عندها قال أبو سفيان : أما هؤلاء فقد كفيتموهم، يعني: أن هؤلاء الثلاثة ماتوا؛ لأنهم لا يردون، هنا لم يملك عمر رضي الله عنه وأرضاه نفسه فقال: يا عدو الله! إن الذي ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله ما يسوءك، ثم كان بينهما حوار طويل ليس المجال الآن لشرحه.

    الشاهد من هذه الأمور: أن الناس أجمعين مؤمنهم وكافرهم كانوا يرون أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو الرجل الثاني في هذه الدولة، وهو الرجل المتوقع أن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غاب أو مات.

    وبفضل الله عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الآن يؤمنون بصحة خلافة الصديق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤمنون أيضاً بفضله ومكانته، لكننا ندلل على هذا الأمر لأن هناك طائفة من المستشرقين وطائفة من الشيعة وطائفة من العلمانيين يطعنون في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ويطعنون في سرعة اختياره في سقيفة بني ساعدة؛ ذلك أنهم لا يقدرون للصديق قدره، ولا يعرفون مكانته، أو قل: إنهم يعرفون وينكرون؛ لأهداف خبيثة في نفوسهم، وللأسف الشديد هذا التيار الرامي إلى الطعن في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه وإلى الطعن في نزاهة الصحابة الذين اختاروه هو تيار متصاعد في البلاد الإسلامية في ظل العلمانية المتصاعدة فيها، وفي ظل سيطرة كثير من العلمانيين على كراسي التعليم والتربية في كثير من جامعات ومدارس المسلمين.

    وأيضاً في ظل الهجمة الصليبية واليهودية الشرسة على دين الإسلام وعلى المسلمين، فالطعن في خلافة الصديق يدرس في كثير من الجامعات المتخصصة وفي أقسام التاريخ وأقسام السياسة في بلاد المسلمين، فلابد للمسلمين من وقفة، ولابد لعلماء المسلمين من انتباه، ولابد للآباء والمربين أن يتعلموا فضل الصديق وفضل الصحابة، ويعلموه أولادهم وتلامذتهم، فوالله! إن الدفاع عن الصديق والصحابة دفاع عن الدين في عمقه فعلاً، وليست القضية طعناً في فرد من الأفراد، بل هو طعن في أساس الدين، وعلى المسلمين أن يحذروا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088959964

    عدد مرات الحفظ

    780168831