إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ثم أما بعد:
فأهلاً ومرحباً بكم في لقاء جديد نقلب فيه بعض الصفحات في تاريخ أعظم رجال الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، صفحات في تاريخ الصديق أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
والحقيقة أني لا أخفي عليكم أني سعيد سعادة عظيمة جداً، وأنا أعد لهذه الحلقات وهذه المحاضرات أشعر بسعادة حقيقية لمعايشة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وأشعر أن هذه المعايشة انتقلت من طور المعايشة على صفحات الكتب والمراجع إلى طور المعايشة الفعلية، وكأني أسير معه في شوارع مكة والمدينة، وكأني أصلي بجواره في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأني أسمعه وهو يأمر الأجناد ويسير الجيوش ويعلم الناس، وأتعجب إن كنت أنا أشعر بهذه السعادة بمجرد القراءة عنه، فكيف بمن كانوا يعيشون حقيقة معه رضي الله عنه وأرضاه؟ وإن كان أبو بكر كذلك فكيف بمعلمه ومرشده ومربيه محمد صلى الله عليه وسلم؟
يا إخوة! نحن محتاجون أن نعيش فعلاً مع كل دقيقة وكل لحظة وكل موقف من مواقف هؤلاء الأطهار، فكم سينير الطريق، وكم ستظهر الحقيقة وكم ستطمئن النفس!
في الدرس السابق تحدثنا عن السمات المميزة لشخصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذكرنا أن هناك أموراً أربعة كانت تميز حياته رضي الله عنه، وذكرنا منها أمراً واحداً ولم نكمله بعد.
هذه السمة الأولى هي حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أحبه الصديق رضي الله عنه وأرضاه حباً صادقاً حقيقياً مقدماً على حب النفس والمال والولد والأهل والبلد وغير ذلك من الأمور، وذكرنا في الدرس السابق أن هذا الحب له علامات وله أدلة، وإلا ادعى كل الناس أنهم يحبون محمداً صلى الله عليه وسلم:
الدليل الأول على هذا الحب هو: التصديق بكل ما قاله وأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، التصديق الذي ليس فيه شك ولا تخالطه ريبة. وقد تحدثنا عن هذا الأمر في الدرس السابق.
الدليل الثاني هو: الاتباع الكامل لكل ما أمر به صلى الله عليه وسلم، والعمل الدءوب وفق سنته صلى الله عليه وسلم، فالتصديق دون عمل نوع من العبث. وما أجمل ما قاله الحسن البصري رحمه الله: ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. وهذا من كلام الحسن البصري ، وبعض الناس يظن أنه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بحديث.
إنه كلام جميل جداً، فما وقر في القلب هو التصديق بما أخبر به صلى الله عليه وسلم، والاقتناع الكامل به. (وصدقه العمل) هو الاتباع والاقتداء وفق التصديق الذي وقر في القلب.
وفي هذا الدرس نتحدث عن اتباع الصديق رضي الله عنه وأرضاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف كان هذا الاتباع علامة واضحة على حبه رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].
ويقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].
و أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يحب الله عز وجل حباً لا يوصف، ويحب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم حباً لا يقدر، ويعلم أن الطريق الطبيعية لحب الله هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم الاتباع المطلق، بمعنى: إن علم الحكمة فبها ونعمت، وإن لم يعلمها فالعمل هو العمل بنفس الحماسة وبنفس الطاقة.
وكثير من الناس يعرضون أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم على عقولهم القاصرة، فإن وجدت موافقة من عقولهم فعلوها، وإن لم توافق عقولهم أو أهواءهم تركوها ونبذوها، بل وقد يسخرون منها.
أما أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلم يكن من هذا النوع، أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة، حتى إنك لتشعر أنه لا يفرق بين فرض ونافلة؛ لما كان عنده من التصاق شديد بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتصاق شديد بطريقته ومنهجه في الحياة، فإذا كنت تريد أن تصل إلى ما وصل إليه الصديق أبو بكر وأمثاله رضي الله عنهم أجمعين فاعلم أن قدر السنة عندهم كان عظيماً جداً، وليس المقصود بالسنة النوافل التي كان يؤديها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس المقصود سنة الظهر أو العصر مثلاً، أو صيام النفل أو سنته في لباسه وشكله، فهذا جانب من السنة وجانب هام، لكن مفهوم السنة أوسع من ذلك بكثير.
المقصود من السنة أنها الطريقة، والمنهاج، والسبيل الذي كان يسلكه صلى الله عليه وسلم في حياته كلها، فالسنة هي طريقته صلى الله عليه وسلم في السلم والحرب، وفي الأمن والخوف، وفي الصحة والمرض، وفي السفر والإقامة، وفي السياسة والاقتصاد، وفي الاجتماع والمعاملات، وفي كل وجه من أوجه الحياة.
افتح البخاري مثلاً أو كتاباً من كتب السنة يتحدث عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وانظر معنى السنة فيه، فستجد فصولاً أو أبواباً عن الإيمان والعقيدة، وفصولاً عن العبادة من صلاة وصيام وزكاة وحج، لكن أيضاً تجد إلى جوار هذا سنته صلى الله عليه وسلم في الزواج مثلاً، وسنته في البيوع والمعاملات المالية، وسنته في الزراعة، وفي الميراث، وفي الحدود، وفي الجهاد، وفي القضاء، وفي العلم، وسنته في الإمارة، وفي الطعام والشراب، وفي اللباس، وسنته في الآداب والمعاملات والسلام، وسنته صلى الله عليه وسلم في العلاقة مع الآباء والأبناء والأرحام والأصدقاء وسائر الناس أجمعين.
فالإسلام واسع جداً يا إخوة، الإسلام دين عظيم جداً شامل لكل مناحي الحياة، وهناك ناس عقولهم ضيقة جداً ينظرون إلى الإسلام من خرم الباب، ولا يرون إلا شيئاً واحداً ويغفلون ما حوله، لكن الإسلام دين يشتمل على كل الأمور، بل وأكثر من ذلك.
وقد ابتليت الأمة الآن بمن يقللون من شأن السنة، ويكتفون -كما زعموا- بأوامر القرآن، يعني: هناك طائفة تأخذ جزءاً من السنة وتترك الآخر، لكن هناك طائفة تقلل من شأن السنة بالكلية، ويتركون توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه توجيه رجل من المصلحين أو شيخ من الشيوخ، ونسوا أن له مقاماً لا يصل إليه أحد من البشر مقام النبوة، فهو صلى الله عليه وسلم يتلقى عن رب العزة ويصف ما فيه خير الدنيا وخير الآخرة.
وقد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكارثة، وهي التقليل من شأن السنة، روى أبو داود والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك رجل متكئاً على أريكته - يعني: قاعد ليس مهتماً، وليس مكترثاً - يحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه) يعني: أن هذا الرجل يزعم أنه سيكتفي بكتاب الله وينكر السنة، فهو أصلاً جاهل بكتاب الله عز وجل، ولو كان يعلم كتاب الله لقرأ فيه أوامر لا تحصى ولا تعد باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، كقوله عز وجل: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80].
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي حرم الله) هكذا الفهم الصحيح لدين الإسلام، إنها مشكلة خطيرة جداً يقع فيها كثير من الناس أن ينكر السنة أو لا يعتبر بها إما بجهل أو بغير جهل، والطامة الكبرى أن يكون بقصد.
تعالوا نرى التطبيق العملي لمعنى الاتباع في حياة الصديق : عندما تنظر إلى حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه تجد اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم فاق كل اقتداء، وتشعر به في أقواله وفي أفعاله وفي حركاته وفي سكناته وبهذا الاقتداء بلغ أعلى المنازل رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا موقف عجيب من مواقف السيرة موقف لـأبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد صلح الحديبية، والموقف في صلح الحديبية كان شديد الصعوبة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان قد رأى أنه يدخل المسجد الحرام ويعتمر، ثم لم يحدث هذا في ذلك العام، ثم بعد ذلك عقدت معاهدة كانت بنودها في الظاهر مجحفة وظالمة للمسلمين، ثم طبقت المعاهدة على أبي جندل رضي الله عنه ابن سهيل بن عمرو الذي عقد المباحثات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطبقت المعاهدة عليه مباشرة بعد إتمام المعاهدة فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين لما جاءه مسلماً، وكان المشهد مشهداً مؤثراً جداً في منتهى المأساة، كل هذه الأمور وغيرها أثرت كثيراً في نفسية الصحابة فأصابتهم بهم عظيم وغم لا يوصف، وكان من أشدهم هماً وغماً عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فانظر ماذا فعل عمر على عظم قدره وفقهه، وانظر ماذا فعل الصديق رضي الله عنهما.
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والغيظ يملأ قلبه، يقول: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ألست نبي الله حقاً؟ سبحان الله! سؤال شديد. وطبعاً عمر بن الخطاب لا يشك في كونه رسول من عند الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يبدي استعجابه واستغرابه، لماذا هذا التنازل الشديد من صف المسلمين؟ قال: (يا رسول الله! ألست نبي الله حقاً؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: علام نعطي الدنية في ديننا؟) وعمر هنا ليس قليل الإيمان، ولو استمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لكلامه ولرأيه فستكون الحرب، فـعمر يريد ما هو أشق على النفس ولا يسأل التخفيف أو التقاعس، بل على العكس يلمح ويقول: (قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار).
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان من عادته أن يوضح ويبين للصحابة، لكن هنا الرسول صلى الله عليه وسلم يربي الناس على الاستسلام الكامل دون معرفة الأسباب، فما دام الله قد أمر فليس من الضرورة الاطلاع على الحكمة.
قال صلى الله عليه وسلم: (إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه) يفهم أن هذا الأمر وحي من الله عز وجل، أمره الله عز وجل بذلك فأطاعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك زاد عمر وقال: (قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بلى، فأخبرتك أنك تأتيه العام؟) يعني: هل قلت لكم: إنك ستطوفون السنة هذه؟ قال: (قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به) هكذا في يقين: (فإنك آتيه ومطوف به).
والرسول صلى الله عليه وسلم يصابر جداً عمر ؛ لأنه يعلم ما به من الغم، ويعذره، وهذه الدرجة من الإيمان عند عمر هي درجة عالية جداً من درجات الإيمان، أسميها: درجة غليان القلب حمية للدين، وفعلاً قلبه يغلي حمية لهذا الدين حتى وإن ذهبت حياته وذهبت نفسه، لكن تعال على الجانب الآخر وانظر إلى الدرجة الأعلى من الإيمان.
وانظر إلى درجة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، انظر إلى درجة اليقين الكامل فيما قاله صلى الله عليه وسلم والاتباع الكامل لما فعله صلى الله عليه وسلم.
يقول عمر بن الخطاب : (فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر ! أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟) لم يقدر أن مش قادر يستحمل رضي الله عنه وأرضاه، فرد الصديق وقال: (أيها الرجل! إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره) سبحان الله! إنها نفس كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه لرسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله! إنه لعلى الحق).
وهنا يغضب الرجل الرقيق أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه شعر أن في هذه التلميحات إشارة ولو من بعيد إلى شك في وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هنا رفع صوته وتحدث بحمية: (أيها الرجل! إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره) ولم يسكت عمر بعد ذلك، بل قال: (قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، فأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال الصديق : فإنك آتيه ومطوف به).
سبحان الله! إنه يقين ليس فيه قدر أنملة من الشك، فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ؛ مخافة كلامي الذي تكلمت به.
وانظروا إلى موقف آخر من مواقفه رضي الله عنه وأرضاه في إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وسنأتي -إن شاء الله- إلى تفصيل هذا الأمر لما نتحدث عن حروب الردة بالتفصيل، لكن هنا نشير في عجالة إلى أمر من أمور الصديق في هذا البعث.
والحقيقة نحن نسمع بإنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما فلا يعطيه أحدنا قدره، وإنما يتخيل أنه مجرد جيش خرج ولم يلق قتالاً يذكر فأي عظمة في إخراجه؟ لكن بدراسة ملابسات إخراجه تدرك عظمة شخصية الصديق ، وكيف أنه بهذا العمل الذي هو أول أعماله في خلافته قد وضع سياسة حكمه بوضوح والتي تعتمد في المقام الأول على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم دون تردد ولا شك.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعد هذا البعث ليرسله لحرب الروم في شمال الجزيرة العربية، وقد أمر عليه أسامة بن زيد رضي الله عنهما ولم يبلغ الثامنة عشرة من عمره بعد، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت جزيرة العرب جميعاً، وكانت الجزيرة العربية كلها تموج بالردة، ومع هذا أصر أبو بكر الصديق أن ينفذ بعث أسامة بن زيد إلى الروم، مع اعتراض كل الصحابة على ذلك الأمر؛ لأنه ليست لهم طاقة بحرب المرتدين فكيف يرسل جيشاً كاملاً لحرب الروم ويترك المرتدين.
والحق أنه قرار عجيب! وتخيل معي أن البلاد في حرب أهلية عنيفة وبها أكثر من عشر ثورات ضخمة ثم يرسل زعيم البلاد جيشاً لحرب دولة مجاورة كان قد أعده زعيم سابق، لكن أبا بكر الصديق كانت الأمور عنده في ذهنه في منتهى الوضوح، فما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر فلا مجال للمخالفة حتى وإن لم تفهم مقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وإن لم تطلع على الحكمة والغاية، وهذه درجة إيمانية عالية جداً.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم بردة مسيلمة الكذاب في اليمامة في بني حنيفة وردة الأسود العنسي في اليمن، ومع ذلك قرر أن يرسل البعث إلى الشام، إذاً: لابد من الاتباع، فما دام قد أمر صلى الله عليه وسلم فالخير كل الخير فيما أمر، فأصر الصديق على إنفاذ البعث إلى الروم.
وجاءه الصحابة يجادلونه ويحاورونه، والصحابة على قدرهم الجليل لا يصلون إلى فهم الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فماذا قال لهم؟ قال لهم في ثبات عجيب: والله! لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن الطير والسباع من حول المدينة تخطفنا، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذن جيش أسامة .
إنه كلام شديد، ولما رأى الصحابة إصرار أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال بعضهم لـعمر بن الخطاب : قل له: فليؤمر علينا غير أسامة . يعني: أسامة صغير عمره ثماني عشرة سنة، وهذا أمر شديد ومهمة عظيمة، فذكر ذلك له ابن الخطاب رضي الله عنه، فانتفض أبو بكر وأخذ بلحية عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ! أؤمر غير أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ انظر إلى المعنى: الرسول صلى الله عليه وسلم اختار هذا فهذا هو الحق، ولحظات الغضب في حياته رضي الله عنه وأرضاه كانت قليلة جداً، وكانت في غالبها إذا انتهكت حرمة من حرمات الله عز وجل أو عطل أمر من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبالفعل أنفذ جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وكان الخير في إنفاذه، وارتعبت قبائل الشمال وسكنت الروم، وظنوا أن المدينة في غاية القوة، يعني: أنه ليس معقولاً أن يخرج هذا الجيش الضخم الكبير إلى حرب الروم والمدينة ليست فيها حماية، لكن فعلاً المدينة لم يكن فيها حماية كافية، لكن هذا الخير كان من وراء إنفاذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورأى الصحابة بعد ذلك بأعينهم صدق ظن الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لكن الصديق كان يرى الحدث قبل وقوعه؛ لأنه كان يرى بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا أمر آخر في حياة الصديق ، خطاب لطيف أرسله إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه:
والقصة تبدأ من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولى عمرو بن العاص رضي الله عنه مرة على عمان ووعده أخرى بالولاية عليها.. وهكذا، فلما استتب الأمر لـأبي بكر الصديق بعد حروب الردة ولى على عمان مرة أخرى عمرو بن العاص ؛ تنفيذاً لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن هذه يجوز للوالي الجديد أن يراها أو يرى غيرها حسب ما يرى من المصلحة، وهذا ليس أمراً شرعياً حتمياً، لكنه لا يريد أن يخالف ولو بقدر أنملة.
وهذا هو عين المراد، هذا الذي وصل بـالصديق إلى ما وصل، هذا الذي رفع قدره، هذا الذي سلم خطواته، هذا الذي سدد آراءه. ثم إنه قد احتاجه لإمارة جيش من جيوش الشام، وعمرو بن العاص رضي الله عنه كان عنده طاقة حربية هامة جداً، وعبقرية فذة في مجال الحروب، وأبو بكر الصديق يريد أن يأتي به إلى المدينة المنورة حتى يؤمره على جيش من جيوش الشام، لكنه يتحرج من استقدامه من مكان وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل له رسالة لطيفة قال: إني كنت قد رددتك إلى العمل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكه مرة وسماه لك أخرى مبعثك إلى عمان إنجازاً لمواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وليته ثم وليته. يعني: مرة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ومرة بعد حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أحببت أبا عبد الله ! -يتلطف معه في الحديث- أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه. أي: ما هو خير من هذه الإمارة، وهو الجهاد في سبيل الله عز وجل، قال: إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك. يعني: أيضاً ما زال يخيره، مع أن سيدنا أبا بكر هو الخليفة ويستطيع أن يأمر عمرو بن العاص فيأتي دون تردد.
وانظر إلى الرسالة اللطيفة التي رد بها عمرو بن العاص على أبي بكر الصديق ، قال رضي الله عنه وأرضاه: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما أنا إلا سهم في كنانتك فارم به حيثما شئت. وفي هذا اتباع أيضاً من عمرو بن العاص كبير لأوامر الخليفة ولنصائح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونجد أمراً آخر في حياة الصديق يفسر هذا الاتباع، إنه الأمر الغريب في هيبته رضي الله عنه وأرضاه في جمع القرآن، مع أن جمع القرآن هذا أمر عظيم جداً، لكن كانت عنده هيبة شديدة في جمع القرآن. فلما استشهد عدد كبير من حفظة القرآن في موقعة اليمامة وخشي الصحابة على ضياع القرآن ذهبوا إلى أبي بكر الصديق وبالذات عمر بن الخطاب ، ذهبوا يعرضون عليه فكرة جمع القرآن، فكان متحرجاً أشد التحرج من هذا العمل الجليل، وقال: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عن جمعه، لم ينه عن جمع القرآن، لكن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان من عادته أن ينظر قبل الفعل إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أي أمر من الأمور، فما وجده من أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلده واتبعه، فلما نظر ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع القرآن احتار وتهيب ثم اجتمع عليه الصحابة، وبالذات عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقنعوه، فاستصوب جمعه؛ لما فيه من خير.
وهكذا في كل مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه تجد حباً عميقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الحب دفعه إلى اليقين التام بصدق ما قال صلى الله عليه وسلم، ودفعه أيضاً إلى الاقتداء به في كل الأفعال والأقوال.
ونحن أحياناً لما نحب واحداً نفعل كل شيء لإرضائه، وأحياناً يتجاوز بعضنا بعض القيم والأخلاق، لكن الصديق رضي الله عنه ما كان ينسى الأخلاق والقيم التي تعلمها على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ولو كان ذلك لإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد حدثت حادثة غريبة في حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه في أواخر العهد المكي، حيث خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة أبي بكر عائشة حين ذكرتها له خولة بنت حكيم رضي الله عنها وأرضاها، وطبعاً الأصل أن هذا يوم سعيد جداً عند أبي بكر الصديق ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنته، لكن كانت هناك مشكلة، فقد كان المطعم بن عدي خطبها قبل ذلك لابنه، والمطعم بن عدي كافر وابنه كافر ولم يكن محرماً على المسلمين في ذلك الوقت أن يزوجوا بناتهم للمشركين، فقال أبو بكر لزوجه أم رومان : إن المطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه، ووالله! ما أخلف أبو بكر وعداً قط. فلا يريد أن يعطيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قد أعطى وعداً للمطعم بن عدي .
ثم أتى مطعماً وعنده امرأته جالسة معه فسأله: ما تقول في أمر هذه الجارية؟ يعني: في أمر السيدة عائشة ، فأقبل الرجل على امرأته ليسألها: ما تقولين؟ فتركت الرجل وأقبلت على أبي بكر تقول: لعلنا إن أنكحنا هذا الصبي إليك تصبئه وتدخله في دينك الذي أنت عليه؟ فلم يجبها أبو بكر ، وواضح أنها رافضة، وأبو بكر طبعاً سيطير من السعادة، والمطعم بن عدي كذلك سيرفض، لكن مثلما يقولون: الصديق يمشي في القنوات الشرعية، فسأل المطعم بن عدي : ما تقول أنت؟ فكان جوابه: إنها تقول ما تسمع يا أبا بكر ! يعني: هي سمعت هذا الكلام مني من قبل. فتحلل أبو بكر عند ذلك من وعده وقبل خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان علقها على موافقة المطعم بن عدي .
فانظر مع رغبته الأكيدة في مصاهرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه لا يريد أن يخلف وعداً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد علمه ذلك، إنه طراز نادر من الرجال رضي الله عنه وأرضاه.
كانت هذه هي السمة الأولى من سمات الصديق رضي الله عنه وأرضاه، سمة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الحب الذي قاده إلى التصديق وقاده إلى الاقتداء.
السمة الثانية من سمات أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: سمة رقة القلب ولين الجانب وهدوء النفس. وبعض النفسيات تكون في طبيعتها غليظة جافية، والبعض الآخر يكون في قلبه رحمة فطرية غير مصطنعة وغير متكلفة، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان من هذا النوع الأخير.
لقد سمع أبو بكر الصديق وصايا حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم فحفظها وعقلها وعمل بها: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله! إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات صلى الله عليه وسلم، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه).
كانت رقة قلبه رضي الله عنه وأرضاه تنعكس على حياته الشريفة، وتنعكس على علاقاته مع الناس، وتستطيع بعد أن تدرك حقيقة أنه جبل على الرحمة والرقة والهدوء، وأن تفهم كثيراً من أفعاله الخالدة رضي الله عنه وأرضاه.
جاء في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: (لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين). وطبعاً! السيد عائشة لم تولد إلا بعد أن أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، والسيدة أم رومان أمها، قالت: (ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشياً، ولما ابتلي المسلمون -يعني: إيذاء المشركين للمسلمين في فترة مكة- خرج
وبعض الناس يحب أن يعبد الله بالطريقة التي يراها صحيحة، لكن أبا بكر كان يعبد الله بالطريقة التي أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم له، كان من الممكن أن يبقى أبو بكر في مكة ويعبد الله في سرية ويتاجر ويحقق المال ويعطي هذا المال للدعوة، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد له الهجرة؛ لأنه ليست له حماية في مكة، فـأبو بكر الصديق من قبيلة ضعيفة هي قبيلة بني تيم، فترك كل شيء وهاجر، وإلى أين؟ إلى أرض بعيدة مجهولة غير عربية إلى الحبشة، لكن الله سبحانه وتعالى أراد غير ذلك؛ أراد له البقاء في مكة، وأراد له الحماية والجوار فيها فسخر له ابن الدغنة .
قال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، ثم وصف ابن الدغنة أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وصفاً عجيباً جداً فقال: إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار. سبحان الله! هذه نفس الكلمات التي ذكرتها السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه، وفي هذا إشارة لا تخفى على اللبيب لدرجة أن ابن حجر العسقلاني قال: يكفي بها مفخرة لـأبي بكر الصديق ومنقبة له أن يوصف بوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير اتفاق بين ابن الدغنة وبين السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها.
قال ابن الدغنة : فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك. فرجع، وارتحل معه ابن الدغنة ، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق؟ أنا له جار، فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة . وقالوا لـابن الدغنة : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلن به؛ فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
ولماذا النساء والأبناء؟ لأن قلوب النساء والأبناء قلوب رقيقة، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه رجل رقيق يخرج كلامه من قلبه فيصل إلى القلوب الرقيقة المفتحة للمعرفة، لكنهم لا يخشون على الرجال؛ فقلوبهم كانت قاسية عرفت الحق واتبعت غيره، فلبث أبو بكر الصديق يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، يعني: لا يقرأ في الكعبة ولا في مجالس التقاء الناس ولا في الأسواق.
ثم بدا لـأبي بكر أن يبتني مسجداً بفناء داره، يعني ليس قادراً على أن يترك الدعوة، فنفسه تتحرك شوقاً لإسماع غيره كلام الله عز وجل وتتفطر روحه رضي الله عنه وأرضاه على أولئك الذين سيذهبون إلى النار إذا ماتوا على كفرهم، تماماً كرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه ربه بقوله: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3] هكذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه أيضاً.
فابتنى مسجداً بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، وأفزع ذلك أشراف قريش.
فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم إليهم فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه عن ذلك. وهذا شيء طبيعي جداً أن تصل كلمات الله وكلمات رسوله صلى الله عليه وسلم خالصة نقية إلى أسماع الناس، وطبيعي جداً أن يتأثروا بها، وطبيعي جداً أن يؤمنوا بها: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] وطبيعي جداً أيضاً أن يقاتل الكافرون دون ذلك وهم يعلمون صواب الدعوة: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14].
هنا وضع ابن الدغنة في موقف حرج؛ فهو لا يريد أن يخسر كل قريش، كما أنه ليس من أهل مكة الأصليين، ويبدو أن الكفر الشديد والعناد الكبير سيجعل مكة تغير من قوانينها وأصولها فتكسر قواعد الحماية وتعطل قوانين الإجارة.
قالت قريش: سله أن يرد إليك ذمتك؛ فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لـأبي بكر بالاستعلان. فقريش لا تريد أن تخفر ابن الدغنة ، لكنها ستكسره لو أصر ابن الدغنة . قالت عائشة : فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي؛ فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له.
وهنا لم يتردد الصديق رضي الله عنه، فالدعوة عنده مقدمة في حياته على كل شيء حتى على حياته وعلى روحه، فقال أبو بكر في بساطة شديدة: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل. والرؤيا عنده في منتهى الوضوح، وكانت هذه طبيعة عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وكلنا يعلم أنه لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم الوجع في مرض الموت قيل له في الصلاة، فقال: (مروا
هذه النفس الرقيقة والقلب الخاشع والروح الطاهرة النقية والطبيعة الهينة اللينة تفسر لنا كثيراً من مواقف أبي بكر العجيبة رضي الله عنه وأرضاه، أخرج الإمام أحمد رحمه الله بسند حسن عن ربيعة الأسلمي رضي الله عنه قال: جرى بيني وبين أبي بكر كلام. يعني: كلام فيه شيء من الحدة، فقال لي كلمة كرهتها وندم. وهذا الكلام يدور في المدينة، وأبو بكر هو المستشار الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: بلغة العصر: نائب الرئيس مباشرة، وربيعة الأسلمي هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر كلمة كرهها ربيعة ، ويبدو أن الخطأ كان من أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وأدرك ذلك، ويحدث أن يخطئ البشر مهما علا قدرهم وسمت أخلاقهم، لكنه ثاب إلى رشده بسرعة عجيبة وشعر بالندم كما قال ربيعة وهو يصف الموقف: فقال لي كلمة كرهتها وندم، لكن هل وقف الندم عند حد الشعور به والتألم الداخلي فقط؟ أبداً. رقة نفسه خرجت بهذا الندم إلى حيز العمل، وأسرع وهو نائب الرئيس يقول لـربيعة الخادم: يا ربيعة ! رد علي مثلها؛ حتى يكون قصاصاً، يعني: اشتمني يا ربيعة ! كما شتمتك، يا ربيعة ! رد علي مثلها؛ حتى يكون قصاصاً. قال: قلت: لا أفعل. وطبعاً ربيعة عنده أدب عظيم؛ لأنه تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: لا أفعل، فقال أبو بكر : لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: لو ما شتمتني سأشتكيك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول ربيعة : فقلت: ما أنا بفاعل. يعني مستحيل ما أقدر، فانطلق أبو بكر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وانطلقت أتلوه، يعني: فعلاً ذهب يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة : وجاء أناس من أسلم فقالوا لي: رحم الله أبا بكر ، في أي شيء يستعدي عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال لك ما قال؟ وطبعاً من الناس من لا يفهم هذه الأبعاد النبيلة في نفس الصديق رضي الله عنه وأرضاه. فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق ، هذا ثاني اثنين، هذا ذو شيبة في الإسلام. ربيعة الأسلمي رجل واع وفاهم، والإسلام جعل الناس سواسية، لكنه لابد أيضاً أن ينزل الناس منازلهم، وأن يعطي كل ذي قدر قدره.
ثم يقول ربيعة : إياكم! لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه، فيغضب الله عز وجل لغضبهما فيهلك ربيعة .
إنه مجتمع عجيب، وأعجب من هذا المجتمع الإسلام الذي غير في نفسيات القوم في سنوات معدودات حتى أصبحوا هكذا كالملائكة.
قالوا: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا. يعني: اتركوني أنا مع أبي بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانطلق أبو بكر رضي الله عنه وتبعته حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه الحديث كما كان، فرفع إلي رأسه صلى الله عليه وسلم فقال: (يا
قال: (يا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل: غفر الله لك يا
ومثل هذا لو أن واحداً يحافظ على صلاة الفجر كل يوم كل يوم ثم فاتته يوماً فيحزن عليها كثيراً.
هكذا كان الصديق لم يخطئ في حياته في حق الناس ولا في حق الله عز وجل ولا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أخطاء بسيطة فيريد أن ينظف صفحته يوماً بيوم رضي الله عنه وأرضاه.
وكان من رقته وحنانه يشفق على المستضعفين في مكة:
يقول عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: كان أبو بكر يعتق على الإسلام بمكة. بمعنى: أنه إذا أسلم الرجل أو المرأة اشتراه من صاحبه وأعتقه، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال أبوه أبو قحافة -وكان ساعتها كافراً- : أي بني! أراك تعتق أناساً ضعافاً، فلو أنك تعتق رجالاً جلداً يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك، وكان أبو بكر في حاجة لأن قبيلته بني تميم قبيلة ضعيفة. فقال: أي أبت! أنا أريد ما عند الله، فنزلت فيه آية تتلى إلى يوم القيامة، قال الله عز وجل: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7].
ونزلت فيه: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21].
انظروا ربنا سبحانه وتعالى يعده في قرآنه: وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:21] فأي ثمن دفع الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ وأي سلعة اشترى؟ ما أزهد الثمن المدفوع ولو كانت الدنيا بأسرها! وما أعظم السلعة المشتراة الجنة!
وهذا حادث آخر يوضح لين جانب الصديق رضي الله عنه وأرضاه مع من قاتله أكثر من عشرين سنة: روى مسلم عن أبي هبيرة عائذ بن عمرو المزني رضي الله عنه: أنا أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها. وهذا الكلام يدور بعد صلح الحديبية، يعني: قبل فتح مكة، وكان في ذلك الوقت أبو سفيان كافراً، فـسلمان وصهيب وبلال يريدون أن يغيظوا أبا سفيان بهذه الكلمة، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ انظر مع كل هذا القتال الذي دار بينهم سنوات وسنوات وهذا الطرد والتشريد والتعذيب الذي حدث في مكة حتى هاجروا إلى المدينة ومع ذلك هو في لين جانبه وفي رقة قلبه يحاول أن يقرب قلب أبي سفيان إلى الإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم: (يا
قال: (يا
ولما استشاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الأسارى في موقعة بدر ماذا كان يرى في أولئك الذين عذبوهم وأخذوا أموالهم وطردوهم من ديارهم وحرصوا على حربهم وكادوا يقتلونهم في بدر لولا أن من الله على المؤمنين بالنصر؟ ماذا كان رأيه؟ انظر إليه وكأنه لا يتحدث عن الأسارى، بل وكأنه يتحدث عن أصحابه وأحبابه، لقد قال الصديق : (يا رسول الله! هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً).
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكان جوابه مختلفاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ترى يا
يروي عمر بن الخطاب فيقول: (قلت: والله! ما أرى ما رأى
فـعمر بن الخطاب رأيه في هذا مختلف عن رأي أبي بكر الصديق ، ولكن كلاهما حريص على الدين، متين في الإسلام، قريب كل منهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنهما مختلفان في الطبيعة النفسية، فـأبو بكر رقيق الطباع يغلب عليه العفو والصفح، وعمر بن الخطاب شديد في الحق يغلب عليه الانتصار بعد الظلم.
قال عمر : فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء. وفي هذا تقارب شديد في الطباع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وإن كان الصواب في هذا الموقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لا نقوله نحن بل قاله رب العالمين.
وانظر إلى عمر كيف يصف الموقف يقول: (فلما كان من الغد غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم و
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء؛ فقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة، وأشار إلى شجرة قريبة) ولماذا العذاب؟ وكأن بعض الصحابة أرادوا الدنيا بهذا الرأي، فقد أنزل الله في ذلك قوله: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:67-68].
الكتاب الذي سبق هو قوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4] يعني: في الحرب الأسرى إما أن يمن عليهم المسلمون وإما أن يفدوهم، وسبق هذا الكتاب قبل ذلك في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت سورة محمد قد نزلت قبل بدر وفيها هذه الآية، وهذا يعني أن الرأي الذي أخذه بعض الصحابة وإن كانوا يريدون الدنيا كما ذكر الله عز وجل في كتابه إلا أن له أيضاً مرجعية شرعية رفعت عنهم العذاب في هذا الموقف.
يلخص هذا كله رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعليق جامع ذكره بعد قضية أسارى بدر، ويوضح فيه اختلاف العملاقين الكبيرين في الرأي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مثلك يا
إذاً: هذه المواقف وكثير غيرها توضح مدى الطبيعة الرقيقة التي جبل عليها الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهذه النفس الحامية والرقة البالغة التي صبغت حياة الصديق بكاملها، فرضي الله عن الصديق ورضي الله عن أصحابه، وصل اللهم وبارك على الذي علم هؤلاء مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر