إسلام ويب

سلسلة السيرة النبوية خاتمة السيرةللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعث النبي صلى الله عليه وسلم في أمة متفرقة فجمع شملها، وأنار ظلمتها، وأقام معوجها، وعاش حاكماً وقائداً بين أصحابه كواحد منهم، لم يفضل نفسه عليهم بطعام ولا شراب ولا بسكن ولا بمال، وتحمل من الأذى والجوع والحصار أكثر منهم، وكان في ذلك يبني دولته رويداً رويداً على أسس عقدية متينة، ولم يأبه بكل من حاربه من قريب وبعيد، وجعل من دولته مثلاً يحتذي به كل من أراد أن يشيد دولة وينشئ مجتمعاً؛ لذا كان حقاً علينا اتباعه وطاعته وحبه والسير على منواله والدعوة إلى دينه.
    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

    فمع المحاضرة الثامنة عشرة من محاضرات السيرة النبوية، وهي -في الحقيقة- المحاضرة الأخيرة من هذه المجموعة: مجموعة الفتح والتمكين، وإنه لمن الصعب على النفس أن نتحدث عن خاتمة للسيرة، فإن أنفسنا قد تعلقت تعلقاً كبيراً بالحديث عن رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ فحديثنا عنه كان أسعد حديث، وتدبرنا لسيرته كان أجمل تدبر، واستفادتنا منها كانت أقصى استفادة، لكن لا بد من تعليق ختامي على هذه السيرة العظيمة، وعزاؤنا أن هذا لن يكون -إن شاء الله- آخر حديثنا عن حبيبنا صلى الله عليه وسلم، بل ستتوالى بعد ذلك دراسات ودراسات تتناول جوانب شتى من حياته صلى الله عليه وسلم.

    إن سيرته كانت مثالاً يحتذى به في كل شيء، كانت مثالاً للفرد والجماعة، مثالاً واضح المعالم للمجتمعات الصغيرة والكبيرة لبناء الأمم، فقد استطاع صلى الله عليه وسلم بالمنهج الرباني الذي أوحي إليه أن يبني أمة من لا شيء، وأن يجمع العرب والعجم على دين واحد ومبدأ واحد، وأن يقيم حضارة استحال على الزمان أن يجود بمثلها.

    بعث صلى الله عليه وسلم في أمة مفرقة مشتتة، فشا فيها الظلم، وتعددت فيها صور الباطل، وكثرت فيها الآثام والشرور، وتمكن فيها المتكبرون والمتجبرون، فبدأ في أناة عجيبة وصبر رائع يغير الأوضاع، يعدل من المسار، يقوم المعوج، يوضح الطريق، يكمل الأخلاق، ما ترك معروفاً إلا وأمر به، ولا منكراً إلا ونهى عنه، مع العلم أن طريقه لم يكن سهلاً، بل كان مليئاً بالصعاب والأشواك، فقد عارضه الكثيرون، وحاربه القريب والبعيد، حتى حاربته عشيرته وقاومه أهله، ومع هذا ما لانت له قناة، وما فترت له عزيمة صلى الله عليه وسلم.

    مر صلى الله عليه وسلم في بنائه لأمته بمراحل محددة لا بد أن تمر بها كل أمة لكي تبنى، وكان له سنة ثابتة في كل مرحلة.

    مرحلة الإعداد

    المرحلة الأولى التي مر بها صلى الله عليه وسلم أسميها: مرحلة الإعداد، هذه المرحلة بدأت منذ نزول الوحي، واستمرت حوالي خمس عشرة سنة من حياته صلى الله عليه وسلم، وهي فترة بقائه في مكة وسنتين من المدينة المنورة إلى قبيل موقعة بدر.

    في هذه الفترة بدأ صلى الله عليه وسلم بانتقاء الأفراد الصالحين لحمل الأمانة الثقيلة، ونجح صلى الله عليه وسلم في تربيتهم وإعدادهم لهذه المهمة الضخمة، مهمة حمل الدين الإسلامي، ليس فقط إلى أهل مكة أو إلى العرب، بل إلى العالم أجمع.

    كان بناءً صعباً شاقاً، كان بناءً للإنسان من جديد حرص فيه صلى الله عليه وسلم على توجيه نيات وقلوب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم إلى ربهم سبحانه وتعالى الواحد الأحد الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، خلصت قلوبهم لله عز وجل، عظموا قدره، أحبوا جنته، خافوا من ناره؛ فتحركت كل ذرة في كيانهم له سبحانه وتعالى، أصبح منتهى آمالهم أن يعملوا له سبحانه وتعالى، وأن يرضى عنهم، وأن يقبل منهم، وأن يغفر لهم ويرحمهم، فلما أصبحوا على هذه الصورة هانت عليهم كل المصاعب، وهانت عليهم كل المشكلات، صغرت في أعينهم جبابرة الأرض ومن ثم حملوا رسالة الإسلام العظيمة، وقاوموا بإصرار كل من حاول أن يثنيهم عن الوصول بهذه الرسالة إلى آفاق الأرض وإلى كل العالمين.

    واعلموا أنه بدون جيل كجيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يستحيل بناء الأمة الإسلامية.

    هذه كانت أول خطوة: إعداد الطائفة التي تحمل على أكتافها الأمة الإسلامية.

    لم يتركه أهل مكة يفعل هذا دون مقاومة أو صد، بل حاربوه هو وأصحابه صلى الله عليه وسلم بكل طريقة، عذبوهم، قهروهم، بطشوا بهم، وقتلوا منهم حتى اضطروهم إلى الهجرة إلى بلاد الحبشة مرة ثم الثانية، ومع ذلك كان المؤمنون في ازدياد في العدد وازدياد في الإيمان، اضطر المشركون أن يحصروهم في شعب أبي طالب ثلاث سنين كاملة فما ضعفوا وما استكانوا، وخرجوا من الشعب أشد قوة وأعظم بأساً.

    مات نصيره من أعمامه أبو طالب ، وماتت زوجته الوفية خديجة رضي الله عنها؛ فاشتد إيذاء قومه له أكثر من ذي قبل، حتى خرج إلى الطائف يبحث عن النصرة فما وجدها، بل وجد الصد والإعراض والتكذيب والشقاق وسوء الأخلاق، ثم عاد مرة ثانية إلى مكة صلى الله عليه وسلم يكلم كل صغير وكبير في الإسلام، يخاطب كل وافد على مكة في حج أو في غيره ليشرح له رسالة ربه سبحانه وتعالى، فكذبته عامة القبائل ورفضوا دعوته بكل إصرار، حتى شاء الله عز وجل له أن يقابل ستة من الخزرج من أهل يثرب -المدينة المنورة- فآمنوا به وصدقوه وعادوا إلى قومهم بالدين الجديد يدعون إلى الإسلام في المدينة المنورة، فآمن معهم آخرون وجاءوا بعد عام إلى مكة ليبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، ثم عادوا إلى المدينة ومعهم مصعب بن عمير فما تركوا بيتاً ولا شارعاً ولا حديقة ولا مجتمعاً إلا وعرفوه بالدين، فانتشر الإسلام في المدينة انتشاراً باهراًً، وجاء منهم بعد عام آخر ثلاثة وسبعين من الرجال وامرأتان، جاءوا ليبايعوا الرسول عليه الصلاة والسلام بيعة العقبة الثانية ليصبحوا بذلك أنصار الله ورسوله، وما هي إلا أشهر قليلة بعد تلك البيعة حتى ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بكفرها، وهاجر إلى المدينة المؤمنة التي صارت بعد ذلك معقل الإسلام، ونواة الدولة الإسلامية الأولى، وهاجر الصحابة المكيون إلى المدينة مع رسولهم صلى الله عليه وسلم، وعرفوا بعد ذلك بالمهاجرين، واجتمع المهاجرون والأنصار بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم على بناء الدولة الإسلامية كما ينبغي أن تبنى الدول.

    بنى صلى الله عليه وسلم دولته بشمول عجيب، بناها بتوازن لافت للنظر، استكمل كل جوانب دولته السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية وقبل ذلك العقائدية، وصارت دولته مضرباً للمثل لأي دولة في العالم في الرقي والحضارة والسمو والأخلاق، ومع صغر حجم دولته وقلة إمكاناتها المادية لم يتركه أعداؤهم من المشركين من أهل قريش أو من الذين لم يؤمنوا من أهل المدينة، بل تعاونوا مع الأعراب ومع اليهود على حربه والكيد له صلى الله عليه وسلم، لكنه قاومهم بحكمة وحنكة لافتة للنظر، تارة بالمعاهدات، وتارة بالإعراض، وتارة بالسرايا، وظل في كل ذلك محافظاً على نهجه التربوي للمهاجرين والأنصار حتى أذن الله عز وجل للصدام الأول بين الكفر والإيمان، وبين أهل الحق وأهل الباطل، أذن الله عز وجل أن يحدث هذا الصدام فدخل المسلمون بسببه في مرحلة جديدة.

    كانت غزوة بدر الكبرى أو يوم الفرقان، وحدث فيها ما لا يتخيله عامة البشر، فقد انتصرت الفئة القليلة المؤمنة على الكثرة المشركة، وتحقق وعد الله عز وجل، وارتفع شأن المسلمين في الجزيرة العربية، وسمع بهم كل العرب، وخضع مشركو المدينة ودخلوا في الإسلام إما اقتناعاً به وإما نفاقاً له، فظهرت بذلك طائفة المنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وصارت هذه الفئة أخطر الفئات على الأمة الإسلامية مطلقاً؛ لكونهم يدبرون ويكيدون للإسلام، بينما هم في الظاهر عكس ذلك تماماً، وكان لا بد من وسيلة للتفرقة بين المؤمن والمنافق، وبين الصادق والكاذب.

    مرحلة وضوح الرؤية

    بعد غزوة بدر دخل المسلمون في مرحلة جديدة هامة أسميها: مرحلة زمن وضوح الرؤية، وهي عبارة عن سلسلة مضنية من الأزمات والابتلاءات والمعارك، فقد وقعت غزوة بني قينقاع بعد أقل من شهر من غزوة بدر، وحدثت مفاصلة مع اليهود مع شدة احتياج المسلمين في ذلك الوقت لمال وسلاح اليهود، لكن المؤمن الصادق لم يكترث بهذا، بينما ظهر ولاء المنافقين لليهود، ثم كانت مصيبة أحد ومأساة بئر معونة وحادثة ماء الرجيع، فكان لهذه الأزمات المتتالية أبلغ الأثر في تمييز الصف.

    هذه المصائب لم يخترها الرسول عليه الصلاة والسلام، بل هي السنة الإلهية في اختبار المجتمع المسلم، فيثبت الصادقون وينجحون، ويهتز المنافقون ويفشلون، ومع هذه الفترة العصيبة كانت الانتصارات التي تبشر المؤمنين، فقد كان الانتصار المهيب على بني قينقاع وعلى بني النضير وغير ذلك من بعض الانتصارات التي رأيناها في بعض السرايا والغزوات، حتى شاء الله عز وجل أن يحدث التمحيص الكبير والابتلاء العظيم، والتفرقة الواضحة بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الكاذبين، فكان اجتماع المشركين من قريش وغطفان وغيرهما على حرب المسلمين بمساعدة يهود خيبر، وعرف ذلك في السيرة بغزوة الأحزاب أو غزوة الخندق.

    هذه كانت واحدة من أشد الأزمات التي مرت بالأمة الإسلامية إن لم تكن أشدها على الإطلاق، وبفضل الله ثبت المسلمون وصبروا وتحملوا الجوع والخوف والبرد، وكتب الله لهم في النهاية النصر بعد أن كشفت لهم تماماً أوراق المنافقين، وعلا نجم المؤمنين بعد هذه الغزوة، حتى قال صلى الله عليه وسلم بعد رحيل الأحزاب كلمته المشهورة التي تعبر عن دخول مرحلة جديدة، قال: (الآن نغزوهم ولا يغزونا)، نحن نسير إليهم.

    ثم كتب الله عز وجل النصر للمسلمين في غزوة بني قريظة، وهي القبيلة اليهودية الثالثة بالمدينة بعد بني قينقاع وبني النضير، وبذلك أمنت المدينة من شر يهود في الداخل، ولم يبق من اليهود إلا التجمع الكبير خارج المدينة وهو تجمع خيبر، وكان العام السادس الذي تلا غزوة الأحزاب عاماً عسكرياً بحتاً انتشرت فيه سرايا المسلمين هنا وهناك، ودانت لهم السيطرة على بقاع كثيرة في الجزيرة، وانتهى هذا العام بحدث جليل مهيب سماه رب العالمين سبحانه وتعالى فتحاً مبيناً، ألا وهو صلح الحديبية، والذي اعترفت فيه قريش وللمرة الأولى بدولة المسلمين، وازدادت هيبة المسلمين في الجزيرة بشكل واضح، وأعقب ذلك تحركات سياسية وعسكرية ودعوية من المسلمين على أعلى مستوى، وانتقل المسلمون من المحلية إلى العالمية، ومن الجزيرة العربية إلى كافة الممالك والإمبراطوريات المعاصرة في ذلك الوقت.

    وراسل صلى الله عليه وسلم ملوك وأمراء العالم يدعوهم إلى الإسلام، وأعقب ذلك بانتصار جليل على اليهود في خيبر، ثم انتصار أجلّ على الرومان في مؤتة، وأسلم الكثير من عظماء وفرسان العرب حتى توجت الانتصارات الإسلامية بالفتح العظيم في العام الثامن من الهجرة، حيث فتحت مكة أحب بلاد الله عز وجل إلى الله ورسوله، وآمن أهل مكة بعد رحلة طويلة من الصد عن الإيمان.

    وبعدها مباشرة انتصر المسلمون انتصاراً باهراً على قبيلتي هوازن وثقيف في موقعة حنين المشهورة بعد هزة وانكسارة أولى بهجوم ساحق وسيطرة كاملة على مجريات الأمور، وغنم المسلمون في هذه الغزوة ما لا يتخيلونه من الأموال والأنعام، وذاع صيت المسلمين في كل مكان، وجاءت الوفود من كل ناحية إلى المدينة المنورة تبايع على الإسلام، وأشرقت الأرض بنور ربها، وقرت عين الحبيب صلى الله عليه وسلم برؤية الإسلام يدخل كل بيت، وبرؤية الناس يسعدون بإيمانهم وينقذون من النار.

    وتخلل هذا الإقبال على دين الإسلام دعوة جريئة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهاد الرومان في تبوك، وكان التجمع الإسلامي الرائع في ثلاثين ألف مقاتل مؤمن يقطعون الصحراء في ظروف صعبة قاسية دون تردد ولا وجل، فأنزل الله عز وجل عليهم نصره دون قتال، وفرت جحافل الرومان من جيوش الإيمان، وارتفعت راية الإسلام في كل ربوع الجزيرة، بل وفي أطرافها وما حولها.

    ثم ختم رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته بحجة الوداع في العام العاشر من الهجرة بمظاهر إيمانية رائعة حضرها ما يزيد على مائة ألف مؤمن، فكانت هذه الحجة تتويجاً لجهود مضنية، ولتضحيات سخية، واطمأن صلى الله عليه وسلم على اجتماع أمته وعلى فقهها في دينها، وكمل الدين وتمت النعمة بنزول قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] ومن ثم انتهت مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ الرسالة وبناء الأمة، وحان وقت رحيله لينتقل بعد ذلك إلى حياة لا تعب فيها ولا نصب في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

    حياة حافلة يظل البشر إلى يوم القيامة ينهلون من خيرها، ويستفيدون من دروسها، ويتعلمون من مواقفها، ويستمتعون بأحداثها، إنها سيرة خير البشر، وسيد المرسلين، وإمام الدعاة، وخاتم النبيين، حبيب الرحمن، وحامل لواء الحمد يوم القيامة، وأول شافع وأول مشفع صلى الله عليه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088958677

    عدد مرات الحفظ

    780160047