أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس السادس عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني: فترة الفتح والتمكين.
في الدرس السابق تكلمنا عن الأزمة الخطيرة التي مر بها المجتمع المسلم في المدينة المنورة في السنة التاسعة من الهجرة، عندما علم صلى الله عليه وسلم بتجمع الرومان في البلقاء في الشام، فقرر الخروج إليهم في ظروف صعبة جداً، من الضائقة الاقتصادية الشديدة، والمسافة البعيدة، والحر الشديد، والعدو الرهيب، في هذه الأزمة الطاحنة برزت بوضوح الطبقات الخمس لأي مجتمع مسلم ممكن في الأرض، وكما ذكرنا في الدرس السابق فهذه الطبقات الخمس موجودة بصفة دائمة في أي دولة إسلامية ممكنة في الأرض، غير أنها تبرز بوضوح عند الأزمات الشديدة كأزمة تبوك مثلاً، هذه الطبقات الخمس: هي طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عموم المؤمنين، وطبقة المتخلفين عن أمر الله بصفة مؤقتة، وطبقة عموم المنافقين، وأخيراً طبقة مردة المنافقين، وأنا أحب أن أؤكد على معنى هام جداً هو أن هذه الطبقات الخمس وإن كانت موجودة دائماً إلا أنها تتفاوت في الحجم بحسب طريقة التربية وقوة التربية، ولأن التربية الإسلامية ما شاء الله كانت على أعلى درجات التربية وأبهى الصور في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لم نجد في طبقة المنافقين بشقيها سواء كان عموم المنافقين أو مردة المنافقين، لم نجد في غزوة تبوك أكثر من ثمانين منافقاً، أو أكثر من ثمانين بقليل، وهذه نتيجة الجهد الطويل والعظيم من المربي الأعظم والرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.
وذكرنا في الدرس السابق أن الجهد العظيم الذي قام به المؤمنون من طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عموم المؤمنين، ساعد على تجهيز الجيش الإسلامي الكبير الذي خرج إلى تبوك في رجب سنة (9) هجرية، وكان عدد الجيش الإسلامي ثلاثين ألف مقاتل، وذكرنا أن نسبة التخلف كانت يسيرة جداً لا تتجاوز واحداً من عشرة آلاف، تصور ثلاثة من أصل ثلاثين ألف مقاتل، وبرغم كل المعوقات التي حاول المنافقون أن يضعوها إلا أن الجيش العملاق خرج بالفعل بفضل الله عز وجل.
ترك الرسول عليه الصلاة والسلام على إمارة المدينة المنورة محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وترك على أهله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبدأ الجيش المناضل في رحلة طويلة جداً شاقة جداً وفي صبر جميل، صبر على الجوع، وصبر على التعب، وصبر على الحر، وكان الزاد قليلاً جداً، حتى إن الرجلين والثلاثة كانوا يقسمون التمرة بينهم، وكان يتعاقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد، وكانوا يدخرون الماء لندرته، حتى كانوا ينحرون الإبل ليشربوا الماء الذي تدخره الإبل بطونها، إنه ابتلاء كبير جداً، ويبتلى المرء على قدر دينه.
وكأن هذا الابتلاء ليس كافياً، فيأتي ابتلاء جديد؛ لاختبار الطاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما وصل المسلمون إلى منطقة الحجر، منطقة الحجر هي الآن موجودة في شمال السعودية، وهي المنطقة التي كانت بها ديار ثمود قوم صالح عليه السلام، وقوم صالح كما تعرفون أهلكوا في هذه المنطقة لما كفروا بربنا سبحانه وتعالى، في هذه المنطقة أبيار للماء، ورأى المسلمون أبيار الماء وأسرعوا إليها قبل استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم، وملئوا الأوعية بالماء وعجنوا العجين بهذا الماء؛ ليصنعوا خبزاً يشبعهم بعد طول جوع، فلما علم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك الأمر أمرهم بأمر شاق جداً على نفوسهم قال لهم: (لا تشربوا من مائها شيئاً، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فأعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئاً)؛ لأن هذا الماء غير مبارك، فهو ماء الذين ظلموا، والأمر مباشر وصريح بعدم الشرب منه، وليس على المسلمين إلا الطاعة.
قد يأتي من يجادل ويقول: إن هذا الماء ليس له علاقة بشاربه فيشرب منه البر والفاجر، ويشرب منه المؤمن والكافر، ونحن في حاجة للماء والطريق صعب.
وقد يأتي مجادل آخر ويقول: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشرب من ماء مكة وغيرها ولا يسأل أهو ماء كفار أم ماء مسلمين؟ كل هذه الحجج والشبهات قد تثار، لكن الغرض كان واضحاً؛ وهو الطاعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليست الأوامر يتضح لنا فيها الحكمة، بل إن بعض الأوامر قد يخفي الله عز وجل حكمتها عنا ليختبر مدى طاعتنا له، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36] ونجح المسلمون الصادقون في الاختبار ولم يشربوا من ماء ثمود مع شدة حاجتهم له، بل أمرهم صلى الله عليه وسلم ألا يدخلوا ديار قوم ثمود، وإن حدث ودخلوها لأي سبب فليدخلوها باكين؛ تأثراً بما حدث لثمود عندما خالفوا أمر الله عز وجل، أما هو صلى الله عليه وسلم فقد قنع رأسه بالثوب وغطاه وأسرع بالمسير، ولم يدخل، وقال لهم: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم؛ لا يصيبكم ما أصابهم)، هذا الكلام ينطبق على كل آثار باقية لقوم أهلكوا قبل ذلك؛ لكفرهم، لا يدخلها المسلمون أبداً إلا للاعتبار، وإذا دخلوها لا يدخلوها في فرح وسرور ولكن في بكاء وتأثر وتذكر وتدبر!
حصلت أحداث كثيرة جداً في الطريق لا يتسع المجال لتفصيلها، حصلت بعض المعجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحصلت مواقف متعددة خبيثة من المنافقين، ومواقف أخرى كثيرة، في النهاية وصل صلى الله عليه وسلم والجيش العملاق إلى أرض تبوك فوجدوا عجباً، لقد تحقق نصر هائل للجيش الإسلامي وللأمة الإسلامية بلا قتال، لقد فرت الجيوش الرومانية العملاقة التي تحكم وتسيطر على نصف مساحة المعمورة تقريباً عندما علمت بقدوم الرسول صلى الله عليه وسلم، كيف فرت جيوش الدولة الأولى في العالم من جيش المسلمين مع وفرة جنودهم وقوة عتادهم وعمق تاريخهم ومهارة تدريبهم؟ كيف؟ المعادلة صعبة جداً، لا تفهم إلا في ضوء الحقيقة القرآنية العظيمة: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا [آل عمران:151] حين علمت الرومان بقدوم (30000) مسلم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تذكرت الأحداث المؤلمة لغزوة مؤتة، وغزوة مؤتة لم يمر عليها أكثر من سنتين، وارتبكت في مؤتة الجيوش الرومانية أمام (3000) مقاتل مسلم فقط، ولم يكن فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام، أما الآن في تبوك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يتوسط جيشه، فقرر الرومان الفرار من هذا الجيش، واعتبروه غنيمة حتى وإن سقطت هيبة الدولة العملاقة، حتى وإن ظهرت الدولة الرومانية العملاقة بصورة مخزية أمام الدولة الإسلامية الناشئة.
والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بهذا النجاح المبهر، بل أصر على البقاء في أرض تبوك، بقي عشرين يوماً أو أقل من عشرين يوماً بقليل؛ بقي هذه الفترة الطويلة ليثبت للجميع أنه ليس خائفاً من الرومان وأعوان الرومان، وأعوان الرومان هم القبائل النصرانية العربية الموجودة في منطقة شمال الجزيرة العربية ومنطقة الشام، مع أنه كان من عادة الجيوش في ذلك الزمن أن يمكثوا في أرض الموقعة ثلاثة أيام فقط؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قعد هذه المدة الطويلة لإثبات القوة وعدم الرهبة من جيوش الرومان، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام توج هذا الانتصار الكبير بإرسال سرية من المسلمين، حوالي (420) فارساً بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه إلى دومة الجندل، على بعد حوالي (300) كيلو أو أكثر من تبوك، أرسل هذه السرية أكيدر بن عبد الملك الكندي ، وكان أكيدر بن عبد الملك زعيماً من زعماء النصارى الذين يحكمون منطقة واسعة في شمال الجزيرة، وكان يساعد الرومان في حربهم ضد المسلمين، وأسر أكيدر بن عبد الملك وأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد حوار دار بينهم أقر أكيدر على الجزية وحقن دمه.
ولم يقف نجاح الحملة العسكرية عند هذا الحد، بل أتى ملوك وأمراء مدن الشام الذين يجاورون الجزيرة العربية، أتوا يصالحون الرسول عليه الصلاة والسلام على الجزية، ومن هؤلاء صاحب أيلة يحنة بن رؤبة ، وكذلك أتاه أهل جرباء وأهل أذرح.. وأكثر من منطقة جاءت لتصالح على الجزية رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فكان نصراً مبيناً وكبيراً، وتم دون أن يرفع سيف، اللهم إلا بعض المناوشات اليسيرة التي تمت عند أسر أكيدر بن عبد الملك .
لقد أظهر الله سبحانه وتعالى لنا طرقاً عديدة لتحقيق النصر للمسلمين، فتارة يجري القتال العنيف الشرس بين المسلمين وأعدائهم كما رأينا في بدر.
وتارة يصبر المسلمون على حصار عدوهم لهم كما في الأحزاب، وانصرف الأحزاب دون نتيجة كما رأينا.
وتارة يحاصر المسلمون أعداءهم فينزل الأعداء على رأي المسلمين دون قتال، كما رأينا في غزوات الرسول عليه الصلاة والسلام مع اليهود في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة.
وتارة ينزل الأعداء على حكم المسلمين بعد قتال كما في خيبر.
وتارة يحاصر المسلمون حصناً ولا يفتح كما رأينا في الطائف، ثم جاء أهل الطائف بعد ذلك مسلمين.
وتارة لا يكون هناك قتال بالمرة كما حدث في تبوك.
خلاصة الأمر ما ذكره سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا [التوبة:52]
ليس المهم الطريقة لكن لا بد أنه يحصل النصر: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:52]ليس المهم كيف يتم النصر، ولكن المهم أن يوجد الجيش الذي يستحق النصر، ثم الله عز وجل ينصر من يشاء كيفما يشاء وفي الوقت الذي يشاء؟
إذاً: كان من نتيجة هذه الغزوة العظيمة غزوة تبوك أن سيطر المسلمون سيطرة كاملة على شمال الجزيرة العربية، وكان من نتيجتها أن سقطت هيبة الرومان وأعوان الرومان، وهذا سيسهل كثيراً بعد ذلك الفتوح الإسلامية في بلاد الشام.
قرر الرسول عليه الصلاة والسلام بعد هذه الغزوة قرر العودة إلى المدينة المنورة، وعاد في شهر رمضان في سنة (9)هـ، وفي أثناء العودة كانت هناك محاولة لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل المنافقين عند منطقة العقبة، ولكن كان بصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وعمار بن ياسر رضي الله عنهما، ودافعا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام دفاعاً شديداً، وهرب المنافقون دون أن يتبين الصحابيان الجليلان ملامح المنافقين؛ وذلك لأن المنافقين كانوا ملثمين، ومع أن الرسول عليه الصلاة والسلام عرف بعد ذلك عن طريق الوحي أسماء المنافقين الذين قاموا بمحاولة القتل، إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يقم عليهم حداً، ولم يأمر قبائلهم بالإتيان بهم، وذلك لأمور:
أولاً: حتى لا يتحدث الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه.
ثانياً: أنه لا يملك بينة على أنهم هم الذين حاولوا قتله. والبينة المقصودة هنا هي البينة الشرعية، وليست البينة عن طريق الوحي، يعني: كدليل محسوس أو قرينة أو شهادة شهود، كل ذلك ليعلمنا ألا نقيم حداً أو حكماً على أحد إلا ببينة، مع أنه متأكد تمام التأكد من أسمائهم عن طريق الوحي، لكن هذا هو العدل، ولا أعتقد أن هناك مستوىً من العدل في أي دولة من دول العالم أرقى من هذا المستوى الذي رأينا في موقف الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم نرى في الأرض زعيماً يعلم علماً يقينياً أن هناك مجموعة دبروا محاولة لاغتياله ثم هو يتجاوز عنهم ولا يؤذيهم بأي صورة من صور الإيذاء؛ لأنه لا يملك أدلة قوية تدينهم أو تثبت الجريمة عليهم.
وصل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بسلام، ولا بد لنا من وقفة، أين القتال الضروس الذي تخيله المسلمون يوم خرجوا؟ أين الفتنة الرهيبة التي توقعها الخارجون في سبيل الله؟ أين الامتحان الدقيق الذي سيختبر فيه الصادق والكاذب والمؤمن والمنافق؟ ألم نقل قبل ذلك: إن تبوك امتحان عسير للمسلمين! وتم الامتحان فعلاً، لكن تم في المدينة المنورة على بعد (700) كيلو متر من المكان المتوقع للامتحان، لم يكن الامتحان في تبوك كما توقع الجميع، لكن الامتحان كان في المدينة المنورة قبل الخروج إلى تبوك، الامتحان كان عبارة عن القدرة على أخذ قرار الجهاد، من تغلب على نفسه وعلى ظروفه وعلى شهواته وعلى المعوقات التي في حياته، وعلى شياطينه وعلى أقوال المرجفين، من تغلب على كل ذلك وأخذ قرار الجهاد نجح يوم أخذ هذا القرار، حتى وإن لم يحدث بعد ذلك جهاد، ومن فشل في الاختبار فهو الذي هزم داخلياً، فلم يستطع أن يأخذ هذا القرار، ولم يستطع أن يخرج من أزمته النفسية، ولم يستطع أن يتجاوز جبنه المقعد، قد تكون نجاتك في قرار تأخذه، فإن أخذته كفاك الله عز وجل ما كنت تتوقع من مصائب وإيذاء وألم، قال تعالى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [الأحزاب:25]،ونسأل الله عز وجل الثبات عند الفتن.
لما وصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، وعرف الناس الآثار الحميدة والنتائج العظيمة لهذه الغزوة المباركة جاء إليه كل من تخلف عن الجهاد بغير عذر ليعتذر منه، وكان المعتذرون فريقين في الأساس :
الفريق الأول: فريق المؤمنين الصادقين الذين تخلفوا عن الجهاد بغير عذر، ووقع التخلف منهم كهفوة عابرة أو خطأ غير متكرر، وهؤلاء هم الثلاثة الذين خلفوا ولم يقبل الرسول عليه الصلاة والسلام اعتذارهم حتى نزل فيهم وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى.
ونزل بعد ذلك الوحي بمقاطعة هؤلاء الثلاثة عقاباً لهم، وتحذيراً لكل المسلمين أن يقعوا في مثل خطئهم وتحدث القرآن الكريم عن هؤلاء الثلاثة، وهم: كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ، وكانت المقاطعة هذه لمدة خمسين ليلة كاملة، ثم تاب الله عز وجل بعد ذلك عليهم وأوقفت المقاطعة.
هذه قصة فيها دروس وعبر كثيرة جداً، وسوف يتم الحديث عنها بالتفصيل بإذن الله في مجموعة الرسول عليه الصلاة والسلام وأخطاء المؤمنين.
الفريق الثاني: كان فريق المنافقين سواء من أهل المدينة أو من الأعراب حول المدينة، وهؤلاء جاءوا يحلفون أنهم كانوا معذورين، ويعدون أنهم سيخرجون بعد ذلك مع المسلمين في أي قتال قادم، وهؤلاء قيل منهم صلى الله عليه وسلم الاعتذار، وأجرى أمورهم على الظاهر، ولم يقم عليهم أي تعزير من أي نوع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرى أنه ليس فيهم أمل، فقلوبهم فاسدة، وأعينهم لا تبصر، لذلك فإن التعزيز لا ولن يأتي بنتيجة معهم، فلا داعي له، وقد يستغرب بعض الناس ويقول: لماذا أقام الرسول عليه الصلاة والسلام التعزيز أو العقاب على المؤمنين الصادقين ولم يقمه على المنافقين؟ نقول: المنافقون لم يعترفوا بالذنب، وقالوا: عندنا أعذار، فقبل منهم ذلك صلى الله عليه وسلم، أما المؤمنون الصادقون فقد اعترفوا بذنبهم، وقالوا: لقد أخطأنا، فكان لا بد من عقاب، والعقاب لم يكن من عند رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن أنزله رب العالمين سبحانه وتعالى.
كانت غزوة تبوك ضربة قاصمة للمنافقين، اضطروا جميعاً إلى كشف أوراقهم، وعلم المسلمون كل من كان منافقاً ويخفي ذلك، بل بعد تبوك تلقى المنافقون ضربتين من نوع آخر، وهاتان الضربتان حجمتا إلى حد كبير من قوة المنافقين داخل المدينة المنورة.
أما الضربة الأولى: فكانت هدم مسجد الضرار، ومسجد الضرار هو الذي بناه المنافقون لتشتيت المسلمين؛ ولبث أفكارهم الهدامة وفتنتهم الخطيرة في المدينة، وقد نزل الوحي يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بهدم هذا البناء الفاسد، مع كونه في الظاهر مسجداً، فأمر صلى الله عليه وسلم فرقة من الصحابة بهدم المسجد وتحريقه، فكانت ضربة مباشرة للمنافقين.
أما الضربة الثانية القاصمة: فكانت موت زعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق، والذي تولى كبر الفتنة بشتى أنواعها من بعد بدر وإلى غزوة تبوك، مات الرجل على نفاقه، ورفض الدعوى الكريمة التي وجهها له صلى الله عليه وسلم ليحسن إسلامه، بعد هذه الرحلة الطويلة من الصد والإعراض عن سبيل الله عز وجل، وأصر عبد الله بن أبي بن سلول على معتقده الفاسد، ومع ذلك عامله صلى الله عليه وسلم بمنتهى الرفق والرحمة؛ وذلك ليتألف قومه، وليخفف عن ابنه الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ، وكان من صالحي الصحابة رضي الله عنه، فاستغفر صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن أبي بن سلول بعد موته، وأعطاه قميصه ليكفن فيه، بل وصلى عليه على الرغم من معارضة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لذلك، وقد نزل القرآن بعد ذلك موافقاً لرأي عمر رضي الله عنه، قال الله عز وجل: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]، وبموت عبد الله بن أبي بن سلول انحسرت حركة النفاق جداً في المدينة المنورة، بل وفي الجزيرة العربية، ولم نسمع لهم صوتاً يذكر في العام العاشر من الهجرة.
بعد غزوة تبوك حصل انتصار كبير للمسلمين، وحصل انحسار كبير لحركة النفاق، ولا شك أن العرب في كل الجزيرة العربية كانوا يراقبون الأحداث، وقد علموا أنه لا طاقة لهم أبداً بحرب المسلمين، فها هي قريش قد سلمت وأسلمت وفتحت أبواب مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هي كذلك هوازن قد دخلت في الإسلام، وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ جيشاً قوامه (30000) مقاتل لمواجهة أعتى قوة في الأرض -وهي الدولة الرومانية- للمرة الثانية في غضون سنة ونصف.
فهذا ما لا يتصوره العرب في أحلامهم فضلاً عن أن يكون واقعاً يرونه رأي العين؛ من أجل هذا بعد عودة الرسول عليه الصلاة والسلام من تبوك أخذت القبائل العربية قراراً شبه جماعي بالقدوم إلى المدينة المنورة للتواصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعض هذه القبائل ليعلن الإسلام مقتنعاً به ومحباً له، وجاء بعضهم مسلماً؛ لكونه يرهب الدولة الإسلامية، أو يرجو ودها، ومنهم من جاء ليتفاوض ويطلب لنفسه شيئاً، ومنهم من جاء ليعقد عهداً ويظل على دينه.
إذاً: جاء الجميع ولم يستطع أحد منهم أن يتجاهل القوة الإسلامية الجديدة، وبدأت الوفود الكثيرة في التوافد على المدينة المنورة في أواخر العام التاسع من الهجرة، وأثناء العام العاشر أيضاً، ولذلك عرف العام التاسع الهجري بعام الوفود؛ لكثرة الوفود التي أتت فيه بعد تبوك.
كان عدد هذه الوفود على الأقل ستين وفداً، ووصل في بعض التقديرات إلى أكثر من مائة وفد، ولن نستطيع أن نقف في هذه المجموعة على تفاصيل مقابلة الرسول عليه الصلاة والسلام لكل وفد من هذه الوفود، مع أنه فيها من الفوائد والعظات ما لا يقدر بثمن، ونحتاج إلى تفريغ جهد خاص ودراسات متأنية؛ لنقف على الدروس العظيمة التي نستخرجها من حوارات الرسول عليه الصلاة والسلام مع هذه الوفود الكثيرة.
لكن في هذه المحاضرة أريد التعليق على ثلاثة وفود في غاية الأهمية:
أول هذه الوفود قدوماً بعد تبوك، وأهم هذه الوفود من ناحية الأثر كان وفد ثقيف، فثقيف كانت لها ذكريات سيئة جداً في نفوس المسلمين؛ أولاً: ردت الرسول عليه الصلاة والسلام في العام العاشر من البعثة، وكان الرد رداً يخلو من كل أدب أو مروءة أو أخلاق، وفعلت معه ما لم تفعله الكثير من قبائل العرب.
ثانياً: أن ثقيفاً اشتركت مع هوازن في حرب المسلمين في غزوة حنين، وبعد هزيمتها رجعت إلى الحصون في الطائف وفشل المسلمون في فتح الحصون، وعادوا دون نتيجة بعد حصار أكثر من شهر.
ثالثاً: قتلت ثقيف زعيمها عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه بعد إسلامه، في قصة طويلة مؤثرة ليس المجال يسمح بتفصيلاتها، لكنها تركت أثراً سلبياً حزيناً في نفوس المسلمين، ومع كل هذه الصدمات إلا أن ثقيفاً أتت بعد تبوك لتعلن إسلامها في المدينة المنورة.
لماذا أسلمت ثقيف؟ لم تفكر ثقيف في الإسلام حتى هذه اللحظة اقتناعاً به أو حباً له، لكن فكرت في أحوالها التي وصلت إليها، فكيف كان وضع ثقيف في السنة التاسعة من الهجرة؟
أولاً: أسلمت معظم القبائل العربية الكبرى ومنها فروع قيس عيلان الكبرى مثل: غطفان وسليم وهوازن، ولم يبق من هوازن إلا فرع ثقيف فقط، ولن يكون لثقيف قدرة على حرب العرب كافة.
ثانياً: أن مالك بن عوف النصري كان يقوم بحصار الطائف هو وقبيلته هوازن بعد أن أسلم وأسلمت القبيلة، فضيق ذلك عليهم بشدة.
ثالثاً: بدأ الوضع الاقتصادي في الطائف في التردي نتيجة هذا الحصار، وفقدت الطائف مكانتها التجارية؛ لأنها أصبحت مكاناً غير آمن، ولا يطمئن إليه عامة تجار العرب.
رابعاً: فقدت ثقيف أحد زعمائها المعدودين وهو عروة بن مسعود الثقفي ، وليس من المستبعد أن تفقد رجالها واحداً تلو الآخر.
هذه الأسباب دفعت ثقيفاً إلى التفكير الجاد في أمر الإسلام، وقررت ثقيف أن ترسل وفداً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام مكوناً من ستة أشخاص، على رأسهم عبد ياليل بن مسعود ؛ لكي يعلنوا إسلامهم وإسلام ثقيف بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب الوفد إلى المدينة المنورة والتقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم.
والأيام دول، فهاهي الأوضاع تتبدل، وهاهم الزعماء الآن يتبادلون الكراسي، قبل اثني عشرة سنة ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يطلب النصرة من ثقيف، وكان عبد ياليل هذا من أشد الناس على الرسول عليه الصلاة والسلام في الطائف، وكان على رأس الطائف، وهاهو الآن يأتي إلى المدينة يطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقبل إسلامه وإسلام ثقيف، فاستقبل الرسول عليه الصلاة والسلام وفد ثقيف استقبالاً طيباً، يليق بنبي كريم، لم يذكرهم أبداً بما فعلوه قبل ذلك معه في زيارتيه للطائف، وضرب لهم خيمة في المسجد؛ لكي يشاهدوا أحوال المسلمين ويسمعوا خطب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتعلموا ما هو الإسلام، فكانوا يجلسون في المسجد بضعة أيام ثم يذهبون إلى رحالهم ما بين حين وآخر، فهم تركوا الرحال خارج المدينة المنورة، وكانوا قد تركوا عند رحالهم أصغرهم سناً، واسمه عثمان بن أبي العاص ، كان عمره أقل من عشرين سنة، وكانوا إذا ذهبوا إليه لفترة القيلولة تركهم عثمان بن أبي العاص وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليتعلم على يديه بإخلاص، وكان إذا وجد الرسول صلى الله عليه وسلم نائماً ذهب إلى الصديق رضي الله عنه فيتعلم منه، حتى أعجب به صلى الله عليه وسلم إعجاباً جماً، ورأى فيه خيراً كثيراً.
بعد عدة أيام استمع وفد ثقيف إلى الإسلام، ورأى أحوال المسلمين، وطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يسلموا، لكن كان عندهم بعض الشروط يريدونها من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه الشروط توضح أنهم لم يريدوا الإسلام حباً فيه، ولكن جاءوا رهباً منه ورغباً في المصالح من ورائه.
قال زعيمهم عبد ياليل بن مسعود : أفريت الزنا، فإنا قوم نغترب ولا بد لنا منه؟ يعني: هم يريدون أن يستحلوا الزنا، مع علمهم أن من تعاليم الإسلام تحريم الزنا، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام هو عليكم حرام؛ فإن الله عز وجل يقول: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32].
يعني: هذا حد من حدود الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أبداً أن يتنازل عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أن إسلام ثقيف إضافة ضخمة جداً للدولة الإسلامية، لكن لا يمكن أبداً أن يفرط الرسول صلى الله عليه وسلم في أي أمر من أوامر الله سبحانه وتعالى.
فقال عبد ياليل : أفريت الربا؛ فإنه أموالنا كلها؟ قال صلى الله عليه وسلم: لكم رءوس أموالكم، فإن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278].
أيضاً رفض تحليل الربا.
فقال زعيمهم: أفريت الخمر؛ فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منه؟ يعني: يريدون أن يحلوا أي شيء من المحرمات التي في الإسلام، فهذا يدل على أنهم لم يسلموا رغباً في الإسلام، لكن ظروف الجزيرة العربية في ذلك الوقت دفعتهم إلى هذا الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: إن الله قد حرمها. وقرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90].
هذه أمور ثلاثة حاولوا أن يحذفوها من الإسلام، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان واضحاً تمام الوضوح، وكان حازماً تمام الحزم، لا مساومة في الدين، ولا التقاء في منتصف الطريق إذا كان الأمر يخص العقيدة والحلال والحرام، ولم يسع إلى تأليف قلوبهم عن طريق حذف أو تبديل في الشريعة.
قام وفد ثقيف للتشاور، سنعمل فقال بعضهم لبعض: ويحكم إنا نخاف -إن خالفناه- يوماً كيوم مكة. يعني: لو رفضوا أن يأخذوا الإسلام كاملاً دون حذف ولا تبديل فقد يغزوهم في يوم من الأيام، ويحدث لهم ما حدث لأهل مكة، فأتوا الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا: نعم لك ما سألت، ثم قالوا: أرأيت الربة..؟ لا زالت هناك محاولات أخرى لحذف بعض الأمور من الدين الإسلامي، قالوا: أريت الربة ماذا نصنع فيها؟ الربة هي اللات وهي الصنم المعبود في الطائف، وكانت من أعظم أصنام العرب، والجميع كان يقسم بها ويهدي إليها ويذبح عندها ويعتقد فيها، فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام إجابة حاسمة لا مجاملة فيها، قال: اهدموها. ففزع أهل ثقيف وقالوا: هيهات لو تعلم الربة أنك تريد هدمها لقتلت أهلنا.
فكان عمر بن الخطاب حاضراً هذه المفاوضات فقال: ويحك يا عبد ياليل إن الربة حجر لا يدري من عبده ممن لا يعبده، فرد عليه عبد ياليل وقال: إنا لم نأتك يا عمر . يعني: ليس هذا من شأنك.
لكن لم يجد أهل ثقيف بداً من هدم اللات، وأصر الرسول عليه الصلاة والسلام على هدمها، لكنهم بدءوا يسامون على توقيت هدم اللات، فطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدع اللات ثلاث سنين قبل أن يهدمها، فأبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سنتين، فأبى، فقالوا: سنة، فأبى، فقالوا: شهراً واحداً، فأبى صلى الله عليه وسلم، فأسقط في أيدهم، وقالوا في يأس: تولى أنت هدمها، أما نحن لا نهدمها أبداً، فقال صلى الله عليه وسلم: فسأبعث إليكم من يكفيكم هدمها.
وقبل أن يقوموا طلبوا طلباً أخير وهو أن يعفيهم صلى الله عليه وسلم من الصلاة يعني: مفهوم الدين عندهم غير واضح، وهذا نتيجة أن الأصنام لا تشرع منهجاً ولا تضع قانوناً، فكان عليهم أن يضعوا قوانينهم بأنفسهم، وهو الشيء الذي يسمونه الآن: القوانين الوضعية، لذلك جاءت أسئلة ثقيف مضحكة طفولية؛ لغياب مفهوم الدين الصحيح من أذهانهم، فهم كانوا يفهمون أن الدين مجرد قرابين وذبح ومجرد عبادة للات دون التدخل في حياتهم، لكن الدين الصحيح حقيقة كما أراده الله عز وجل، هو ما جاء في قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، فكل دقيقة وصغيرة وكبيرة في الحياة يدخل فيها الدين وله فيها رأي، وهو ما لم تفقهه ثقيف في هذه اللحظة.
لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض الإعفاء من الصلاة، وقال لهم: (لا خير في دين لا صلاة فيه)، وبهذا أقر وفد ثقيف بكل ما أمر به صلى الله عليه وسلم، وقرروا العودة إلى الطائف على أن يبعث الرسول عليه الصلاة والسلام من يهدم صنم اللات المشهور.
هذا موقف لا بد أن نعلق عليه لأهميته، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمَّر على هذا الوفد وعلى ثقيف بكاملها عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه مع أنه أصغر القوم؛ وذلك لشدة حرصه على التعلم، وحسن فهمه ودقة نظرته، وكفاءته القيادية.
فالرسول عليه الصلاة والسلام تعامل مع قضية الطائف تماماً كما تعامل مع قضية مكة، ولى شاباً لم يتلوث فكره كثيراً بالأفكار الوثنية القديمة، وعزل عبد ياليل صاحب التاريخ الطويل في الصد عن سبيل الله؛ ولأنه قد وضح من خلال الحوار أنه غير مقتنع تمام الاقتناع بتشريعات الإسلام، ومن ثم قد ينحرف بثقيف عن الفهم الصحيح للإسلام؛ من أجل هذا عزله وولى عثمان بن أبي العاص تماماً كما عزل أبا سفيان وولى عتاب بن أسيد رضي الله عنه الشاب الصغير على إمارة مكة.
وهذا يوضح لنا قيمة الشباب في الإسلام، وإمكانيات الشباب الهائلة التي كان يقدرها صلى الله عليه وسلم.
أيضاً تعامل الرسول عليه الصلاة والسلام مع ثقيف كما تعامل مع شعب مكة فقد عفا عنهم أجمعين برغم التاريخ السيئ الذي مر به المسلمون مع الطائف، ليثبت لنا وللجميع أن منهج العفو هو منهج أصيل في الإسلام، ولم يكن حدثاً عابراً خاصاً بمكة المكرمة.
عاد وفد ثقيف إلى الطائف، وبعد محاورات وجدال مع ثقيف قبلت ثقيف بالإسلام، وبعدها بقليل جاءت السرية الإسلامية المكلفة بهدم صنم اللات، وكان على رأسها ثلاثة من أبطال المسلمين، كل واحد منهم له دلالة خاصة جداً.
البطل الأول: خالد بن الوليد رضي الله عنه، سيف الله المسلول وأعظم القواد للجيش الإسلامي؛ ولأن المهمة شديدة الخطورة تحتاج إلى رجل كفء لا يهاب الموت، ودخول الطائف وهدم صنم اللات أمر غير مأمون مطلقاً؛ لذلك لا بد أن يكون هناك أحد صناديد الإسلام على رأس هذه السرية.
البطل الثاني: المغيرة بن شعبة الثقفي وهو من ثقيف، وأهل الطائف أدرى بشعابها، وسيقف البطن الذي ينتمي إليه المغيرة بن شعبة الثقفي من قبيلة ثقيف، وهو بطن بني معتب سيقف في حراسة المسلمين وهم يهدمون الصنم؛ لكي لا يتهور أحد ويقتل المغيرة بن شعبة ، كما حدث قبل ذلك مع عروة بن مسعود الثقفي، يعني: هناك أخذ بالأسباب لحماية الوفد قدر المستطاع.
البطل الثالث: أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه، وكان قد حسن إسلامه، وأصبح قوة أدبية وسياسية كبيرة جداً في الدولة الإسلامية، وفي هذا إشارة واضحة جداً لكل العرب أن يذهب زعيم الوثنية السابق في الجزيرة العربية أبو سفيان بعد أن أسلم لهدم صنم الطائف، بعد أن هدمت أصنام مكة وغيرها قبل ذلك.
ودخلت السرية الإسلامية الطائف، واجتمع أهل الطائف جميعاً لرؤية ما سيحدث لصنمهم، وهناك أناس كثيرون كانوا يظنون أن الربة (اللات) ستنتقم لنفسها، فهم ما زالوا إلى الآن في شك من الإسلام واعتقاد في اللات، وما هي إلا لحظات حتى سقطت اللات تحت معاول أبطال المسلمين، وتجلت الحقيقة التي غابت عن عيون وأذهان أهل الطائف عشرات بل مئات السنين، وأدركوا أنه قد آن الأوان للانتقال من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان.
إذاً: إسلام الطائف كان جائزة كبيرة جداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صبر سنوات طويلة جداً، وأوذي من الطائف أشد الإيذاء، ومع ذلك ظلت رسالته نقية، والعاقبة للمتقين.
ومرت الأيام والسنوات وذهب الألم وبقي الأجر إن شاء الله، وأثمر جهدُ السنين إسلامَ مدينة عظيمة ثابتة على الإسلام وهي الطائف.
وبعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ارتدت جزيرة العرب إلا ثلاث مدن فقط في الجزيرة العربية، كان منها الطائف، لتحقق الأمنية الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ما أعظمها من أمنية، وما أسعده من نصر تحقق ورآه صلى الله عليه وسلم بعينيه، وما أجملها من نهاية لقصة إسلام مدينة الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: كان هذا هو الوفد الأول الذي جاء إلى المدينة المنورة بعد عودة الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة من تبوك.
الوفد الثاني في غاية الأهمية أيضاً، مع أن الذي جاء فيه رجل واحد فقط، ومع أنه مكون من رجل واحد إلا نفعه كان عظيماً جداً، ويؤكد على هذا المعنى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من هذا الوافد. وهذا الوافد كان وافد بني سعد بن بكر من هوازن، ومعظم قبيلة بني سعد أسلمت بعد موقعة حنين، لكن بقيت منها بعض البطون، كان منها هذا البطن الذي جاء منه هذا الوافد، وهذا الوافد كان أعرابياً فيه شيء من الغلظة والجفاء، إلا أنه كان ذكياً جداً، كان عاقلاً، وكان إيجابياً على مستوى عال من الفهم وحسن التصرف.
وقصة هذا الوافد جاءت في صحيح البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد والحاكم وأبي داود . وحاولت أن أجمع لكم قدر المستطاع تفاصيل القصة من هنا وهناك لتكمل الفائدة: جاء هذا الرجل إلى المدينة المنورة والرسول عليه الصلاة والسلام جالس وسط أصحابه، فقال: أيكم محمد؟ هكذا باسمه، يقول أنس بن مالك : وكان النبي صلى الله عليه وسلم متكأ بين ظهرانيهم.
انظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القائد المهاب والزعيم المنتصر، والذي دانت له كل القبائل، وواجه الرومان، يجلس بين أصحابه في تواضع، بحيث إن الغريب لا يميزه من بين عامة الأصحاب والجنود والأتباع.
لا نرى مثل هذه المواقف إلا في أمة الإسلام.
نحن لا نعرف من هو هذا الرجل، ولا الصحابة أنفسهم يعرفونه، قال الرجل: (يا ابن عبد المطلب! قال صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك، قال الرجل: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك -يعني: لا تغضب مني، فهو يتكلم بحدة وبشدة- فقال صلى الله عليه وسلم في تواضع جم: سل عما بدا لك، قال الرجل: يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال صلى الله عليه وسلم: صدق، قال الرجل: فمن خلق السماء؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله، قال الرجل: فمن خلق الأرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله، قال الرجل: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله، قال الرجل: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم. قال الرجل: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: صدق، قال الرجل: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم. قال الرجل: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا، تؤخذ من أغنيائنا فتقسم في فقرائنا، قال صلى الله عليه وسلم: صدق، قال الرجل: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم. قال الرجل: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: صدقك. قال الرجل: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم. قال الرجل: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، قال صلى الله عليه وسلم: صدق. قال
هذه الفروض إن قام بها الرجل دون نقص فإنها طريق إلى الجنة، أما النوافل فهي ترفع من درجات العبد في الجنة، أو تجبر كسر الفروض المنقوصة، وهذا هو يسر الإسلام، وهذا هو جمال الإسلام.
فذهب ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه إلى قومه بهذه المعلومات التي يعرفها عامة المسلمين رجالاً ونساءً بل وأطفالاً، فماذا فعل؟
لقد عاد ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه وأرضاه مسرعاً إلى قومه، فاجتمع حوله الناس فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى، قالوا: مه يا ضمام ! اتق البرص والجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله عز وجل قد بعث رسولاً وأنزل عليه كتاباً استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، إني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه. فماذا كانت النتيجة؟
يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلماً.
تصوروا بهذه المعلومات اليسيرة القليلة غيّر ضمام من واقع قبيلة بكاملها، وهدى الله عز وجل به أقواماً، فهم جميعاً في ميزان حسناته، والدال على الخير كفاعله.
هذا الذي فعله ضمام يمنع أياً منا من أن يعتذر؛ بأنه غير مؤهل للدعوة، ولا يمتلك العلم الكافي، ولا نقول لك: أفتِ الناس بما لا تعلم، لكن ما تعلمه وتظنه قليلاً هو بالنسبة لغيرك كثير كثير، ولنا في ضمام رضي الله عنه مثل واضح، فقد كان كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أفضل وافد سمعوا به.
إذاً: كان هذا الوفد الثاني الذي أحببنا أن نقف على قصته.
الوفد الثالث: هو وفد نصارى نجران، نجران بلد كبيرة في جنوب الجزيرة العربية، وكان أهل نجران يدينون بالنصرانية، فأرسلوا وفداً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا الوفد كان فيه أربعة عشر وافداً، وتقول بعض الروايات: إن الوفد وصل إلى ستين رجلاً.
وصل هذا الوفد بهيئة منظمة جداً، وفي صورة منمقة وصلت حد المبالغة، فقد لبسوا الثياب الحريرية وتحلوا بالذهب، والرسول عليه الصلاة والسلام يحرم هذه الأمور على الرجال، فكره صلى الله عليه وسلم أن يتكلم معهم وهم بهذه الصورة، وأجلهم يوماً، فجاءوا في اليوم الثاني وهم يلبسون لبس الرهبان، فبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في الحوار معهم، وهذا الوفد لم يكن من نيته ولا من همه أن يسلم أو يفكر في الإسلام، وإنما أتى ليناظر الرسول عليه الصلاة والسلام ويجادله من ناحية، وأتى ليبهره ويبهر المسلمين من ناحية أخرى؛ لهذا فالحوار معهم كان على صورة مختلفة كثيراً عن الحوار مع الوفود الأخرى.
فقد عرض الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم الإسلام، ولكنهم رفضوا وقالوا: كنا مسلمين قبلكم، هذه الكلمة صحيحة لو كانوا متبعين لكتبهم الأصيلة دون تبديل ولا تحريف، وفي هذه الكتب غير المحرفة بشارة برسولنا صلى الله عليه وسلم، وعلامات واضحة لنبوته، وأدلة دامغة على صدقه، لذلك فعلماء اليهودية والنصرانية يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعرفون علاماته، ويوقنون بصدقه وبوجوب اتباعه، من أجل هذا يقول سبحانه وتعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:197]، لكن منعهم الكبر والمصالح والدنيا والهوى والحسد، وأشياء كثيرة جداً منعتهم من الإسلام.
من أجل هذا أنكر الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم كلمة (كنا مسلمين قبلكم)، وذكر لهم أنهم يحرفون دينهم في أمور كثيرة، وهذا التحريف يتنافى مع الإسلام، والإسلام معناه: أن يسلم الإنسان نفسه تماماً لله عز وجل، ويسلم نفسه لتشريعات الله عز وجل وقوانينه، ولا يسلم نفسه لأهوائه الشخصية أو مصالحه الخاصة.
قال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: (يمنعكم من الإسلام ثلاثة: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير، وزعمكم أن لله ولداً)، هذه أمور ثلاثة حرفتموها في الإنجيل، ولن تسلموا فيها لله رب العالمين، ولا يستقيم أن تطلقوا على أنفسكم مسلمين قبل أن تتركوا هذا الاعتقاد الفاسد، وللأسف هذا اعتقاد جازم عند معظم النصارى، وهو يمنعهم من التفكير في الإسلام. وهناك أمر غريب جداً كنت دائماً استقربه ولم أفهمه إلا بعدما قرأت حوار الرسول صلى الله عليه وسلم مع وفد نصارى نجران، وهو أنه عند نزول المسيح عليه السلام قبل يوم القيامة يجعل من مهمته أن يصحح هذه الأمور التي ألصقت بدينه ولم تكن فيه.
انظروا إلى الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد).
وكما ذكرنا أن وفد نجران لم يكن يريد الإسلام، من أجل ذلك كثر الجدال بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، وكثر إلقاء الشبهات والرد عليها، وكان مما قالوه: (ما لك تشتم صاحبنا؟ -يقصدون عيسى عليه السلام- وتقول: إنه عبد لله عز وجل، فقال صلى الله عليه وسلم: أجل إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول).
هذا ليس انتقاصاً أبداً من عيسى عليه السلام، بل العبودية لله تشريف، وهو رسول من أولي العزم من الرسل، وهو كلمة الله ألقاها إلى مريم عليها السلام، والتي نكرمها ونجلها، وننفي عنها أي شبهة سوء، فنقول: إنها مريم العذراء البتول، لكن النصارى يبالغون في تكريم المسيح عليه السلام حتى خرجوا به عن طبيعته إلى طبيعة أخرى، فقالوا: هو الله، وقالوا: هو ابن الله، وقالوا: ثالث ثلاثة، وكلها مبالغات غير مقبولة، إنها عقيدة فاسدة دفعهم إليها الحب والتقديس الزائد عن الحد المطلوب، من أجل هذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام حريصاً عند موته على إبراز هذا المعنى؛ حتى لا يتجاوز المسلمون الحب المفروض له إلى الحب الذي يقود إلى ضلال وكفر، فيخرجون بطبيعة الرسول إلى غيرها، فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام وهو على فراش الموت يقول: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، رواه البخاري ومسلم .
ولكون النصارى في وفد نجران لا يتنازلون عن هذا الاعتقاد الفاسد، فإنهم غضبوا من وصف عيسى عليه السلام بالبشرية والعبودية وقالوا: هل رأيت إنساناً قط من غير أب، فإن كنت صادقاً فأرنا مثله؟
فأنزل الله عز وجل الحجة الدامغة، حيث ضرب لهم مثلاً يوضح حقيقة عيسى عليه السلام، قال الله عز وجل: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [آل عمران:59-60]، النصارى لا ينكرون أن آدم عليه السلام خلق من غير أب ولا أم هذا في كتبهم، فإن كان الله عز وجل قادراً على خلق آدم عليه السلام بدون أب ولا أم أو يعجز سبحانه وتعالى أن يخلق عيسى عليه السلام بأم وبلا أب؟ العقل يقبل ذلك تماماً، لكن الذي لا يقبله العقل أبداً أن يكون الإله بشراً يأكل ويشرب وينام ويصاب بالألم ويجرح، بل وفي عرف النصارى يقتل ويصلب، وإن كنا نحن المسلمين نؤمن أنه لم يقتل ولم يصلب عليه السلام، بل رفعه الله إليه: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157].
ليس من المعقول أبداً أن يكون الإله بهذه الصورة التي يعتريها الضعف في البشر المعتاد، لكن هذا الكلام المقنع لم يقنع النصارى ، أو قل: لم يعجب النصارى.
فلجأ صلى الله عليه وسلم إلى طريقة أخيرة وفريدة؛ لإقامة الحجة على النصارى، طلب منهم أن يقوموا بالمباهلة، يعني: الملاعنة، قال الله عز وجل: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61]، طريقة فريدة فيها ثقة شديدة بالله عز وجل.
يعني: كل طرف يجمع أهله، ويقف مع الطرف الثاني وجهاً لوجه، ويبتهل كل منهما أن ينزل الله عز وجل لعنته على الذي يكذب وينكر الحق، لو كانوا يعتقدون اعتقاداً جازماً أن الحق معهم، أو أن هذا ليس برسول فلا يجب أبداً أن يخافوا من هذه المباهلة أو الملاعنة.
وبالفعل بادر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى هذا الأمر بمنتهى الجدية، وجاء في صباح اليوم التالي ومعه عائلته المكونة من فاطمة رضي الله عنها وأرضاها ابنته، وعلي بن أبي طالب زوجها، والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إذا دعوت فأمنوا، فلما رأى النصارى هذا الموقف خافوا، خافوا من هذه الملاعنة وقالوا: ما باهل قوم نبياً إلا هلكوا. فهذا يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنهم يؤمنون بنبوته وصدقه، ولكنهم يجحدون ذلك لهوىً في نفوسهم واتباعاً لشهواتهم، فقالوا: احكم علينا بما أحببت. فصالحهم صلى الله عليه وسلم على الجزية.
فلما قرروا أن يعودوا إلى بلادهم سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام أن يرسل لهم رجلاً أميناً ليقبض منهم الجزية، فقال صلى الله عليه وسلم: (لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين، فاستشرف أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام لهذه المكانة، فقال صلى الله عليه وسلم: قم يا
إذاً: هذه هي نتيجة المفاوضات والمحاورات مع وفد نصارى نجران، كما رأينا أنهم رأوا الحق واتبعوا غيره، وأبى الوفد أن يسلم من فوره، وتحقق فيهم قول الله عز وجل: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، وهذا يعطي المسلمين ثقة كبيرة جداً، ويؤكد لهم أن الغرب والشرق الذين يحاورونهم يعلمون داخلياً أن الإسلام هو دين الحق، ولكنهم يراوغون ويجادلون، فلا يجب أبداً أن يحبط المسلم من رؤية كثرة المكذبين، فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].
لقد استقبل الرسول عليه الصلاة والسلام وفوداً أخرى كثيرة لا يتسع الوقت والمجال للحديث عنها، منها: وفد عبد القيس، ووفد بني حنيفة، ووفد بني عامر، ووفد طي، ووفد أهل اليمن.. وغيرهم وغيرهم كثير جداً، وفود كثيرة هامة جاءت في العام التاسع والعاشر من الهجرة، وكثير من هذه الوفود أعلنت إسلامها سواء عن اقتناع أو رهباً أو رغباً في الدولة الإسلامية، وظل عدد المسلمين في ارتفاع حتى رأيناه قد وصل في أواخر العام العاشر من الهجرة في حجة الوداع -التي سنتحدث عنها إن شاء الله- إلى مائة ألف أو يزيدون، ووصلت بعض التقديرات إلى (140000) أو أكثر.
في آخر السنة التاسعة من الهجرة أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام وفداً من المسلمين للحج، وأمر على الناس أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، والسبب في أنه صلى الله عليه وسلم لم يذهب بنفسه: أن الحج في تلك السنة كان مفتوحاً للمسلمين والمشركين سوياً، وأُخبر عليه الصلاة والسلام أن المشركين يحضرون ويطوفون بالبيت عراة، فقال صلى الله عليه وسلم: لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك. وخرج وفد الحج إلى مكة المكرمة بقيادة الصديق رضي الله عنه، وبعد خروج الوفد سبحان الله! نزل صدر سورة براءة ببعض التشريعات الهامة جداً في تعامل المسلمين مع المشركين، فيها إعلان مصيري بالنسبة لكل مشرك في الجزيرة العربية؛ من أجل هذا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يحمل هذه الآيات وينطلق بها إلى مكة المكرمة؛ ليقرأها على أسماع المشركين في الجزيرة العربية، يقول سبحانه: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:1-5].
تستمر الآيات على هذا النسق تحمل تشريعات تلو التشريعات في بيان في غاية الأهمية.
وبعد قراءة هذه الآيات كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ينادي في الناس بأمور أربعة:
كان يقول: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك.
هذه الآيات تحتاج إلى تفصيل كبير وتعليقات كثيرة، لكن بإيجاز: هذا إعلان مباشر للمشركين أنه بعد انقضاء الأجل المضروب في الآيات، فإن الحرب معلنة عليهم بوضوح وقوة، وليس أمامهم إلا خيار من اثنين: إما القتال ومواجهة المسلمين، وإما الإسلام.
إذاً: المقصود بهذه الآيات هم مشركو الجزيرة العربية، فقد كانت الحرب بينهم وبين المسلمين معلنة ومستمرة لأكثر من عشرين سنة متصلة، فقد اجتمعوا جميعاً على حرب المسلمين، قال الله عز وجل: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]، وعلة قتال المشركين كافة أنهم يقاتلون المسلمين كافة، ومن هنا فإنه لا يجوز للمسلم أن يقاتل من لم يقاتله إلا بعلة واضحة، كسلب أو نهب أو اغتصاب لحقوق المسلمين، أو بسبب منعهم للمسلمين من نشر دينهم وإيصاله إلى غيرهم، وبدون هذه الأمور يصبح قتال المشركين غير جائز، ومن ثم فقتال مشركي العالم جميعاً ليس منطقياً، وإنما يقاتل المسلمون بعض مشركي العالم الذين قاموا بما ذكرناه من أمور.
وواقع المسلمين بعد نزول هذه الآيات وفي زمن الخلفاء الراشدين بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام يصدق هذا الأمر، فالمسلمون في فتوحاتهم لم يقاتلوا كل المشركين الذين قابلوهم، وإنما كانوا يقاتلون من قاتلهم من جيوش البلاد المفتوحة، وكانوا يتركون بقية المشركين على دينهم إلى أن يختاروا هم بإرادتهم الإسلام إن أرادوا ذلك.
هذا واقع رأيناه بأنفسنا في كل الفتوحات الإسلامية، وما وجدنا رجلاً واحداً -فيما أعلم- قتل فقط لكونه مشركاً، وعلى هذا يحمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، يحمل على قتال مشركي العرب.
ولا تعارض بين هذه الأحكام الخاصة بمشركي العرب والآية الكريمة: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]؛ فقوله: (لا إكراه في الدين) عام في كل البشر إلا هؤلاء المشركين من العرب، ليس لأنهم العرب، ولكن لكونهم محاربين للرسول عليه الصلاة والسلام ولدولته، وهذه الحرب كما ذكرنا معلنة منذ قديم.
والأصل في الأمور أن الحرب ما زالت مستمرة، وقد أعلن المسلمون أنهم سيستمرون في الحرب مع مشركي العرب، ولن يتم إيقاف الحرب حتى يسلم المشركون، فإن أبوا فالأمور على طبيعتها الأولى، أي: استمرار الحرب، وهذا العرض والإعلان من المسلمين عرض كريم لإنقاذ مجموعة من المحاربين للدولة الإسلامية، وهو ليس عرضاً دنيوياً أبداً، بل على العكس سيخسر المسلمون أموال هؤلاء المشركين إن أسلموا؛ لأن هذه الأموال ستصبح غنائم للمسلمين في حالة الحرب، بل قد ينفق المسلمون على من دخل في الإسلام من المشركين تأليفاً لقلوبهم كما حدث قبل ذلك في حنين، وهذا يعتبر تسامحاً عظيماً جداً من دولة قوية لها سطوة على كل أرجاء الجزيرة تقريباً في ذلك الوقت.
الأمر الثاني: أن هذه الآيات من سورة التوبة أظهرت درجة من الرقي الحضاري لا يعرفها أهل الأرض جميعاً، وهي إعلام الآخرين من أعداء الأمة بأن الدولة الإسلامية ستقوم بقتالهم، هكذا لا غدر ولا خيانة ولا أخذ على حين غرة، إنما التنبيه والتحذير وإعطاء الفرصة كاملة للطرف الآخر؛ لكي يستعد، إنها حرب الكريم النبيل، وليست حرب اللئيم الخسيس.
وقد رأينا في الحروب العالمية في القديم والحديث أن هذه الحروب تقوم على الخيانة والغدر ونقض العهود والطعن في الظهر، رأينا غدر إيطاليا مع ليبيا وأثيوبيا، ورأينا غدر الإنجليز في مصر والعراق وفلسطين، ورأينا غدر فرنسا في الجزائر وسوريا، ورأينا غدر الصليبين قبل هذا في الشام، ورأينا غدر التتار، ورأينا غدر الصليبيين في الأندلس، رأينا كثير جداً.
أين كل هذا من حضارة الإسلام؟! هل هناك بلد في العالم تقرر الحرب فتعطي الفريق الآخر مهلة للاستعداد، حتى تكون الفرص متكافئة؟ أي بلد في العالم تريد أن تقطع معاهدة وتقوم بالحرب فلا تفعل ذلك إلا بعد إنذار الفريق الآخر بفترة كافية حتى يتساوى الفريقان في الفرص؟ من يعمل هذا في العالم؟ ليس هذا إلا في تشريع الإسلام، وأنا أتحدى أن يوجد قانون من قوانين الأرض في القديم أو الحديث في الشرق أو الغرب يقترب من عدالة وأمانة وعظمة القانون الإسلامي.
نحن نحتاج إلى دراسة هذه المجموعة من الآيات دراسة وافية في وقت آخر غير هذا الوقت؛ لأن هذه الآيات فيها من الحضارة والرقي والسمو ما لا يحصى.
إذاً: بهذا الإعلان وضحت الرؤية لعموم سكان الجزيرة العربية، سواء من المسلمين أو من المشركين، وبعدها بقليل كما ذكرنا دخلت أمة العرب جميعاً في الإسلام، ومن ثم تهيأت الجزيرة العربية ومكة المكرمة لاستقبال خير البشر صلى الله عليه وسلم في حج العام العاشر من الهجرة، ليحج حجته الوحيدة والمشهورة، والتي عرفت في التاريخ بحجة الوداع، خرج وسط الألوف والألوف من المسلمين دون مشرك واحد لأول مرة في تاريخ مكة منذ مئات السنين، حين ابتليت مكة قبل ذلك بعبادة الأصنام من دون الله عز وجل، ها قد جاء اليوم الذي لا يحج إليها مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.
ونسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر