بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس الثامن من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين.
وضح لنا في الدرس السابق أن الدولة الإسلامية في العام السابع من الهجرة كانت تسير من ارتفاع إلى ارتفاع، ومن مجد إلى مجد، فمن فتح خيبر إلى انتصارات متتالية على غطفان، إلى عمرة القضاء بكل أبعادها السياسية والدعوية، إلى إسلام أبطال مكة الثلاثة: خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم أجمعين.
هكذا كانت الدولة الإسلامية، وكان الوضع يسير في تقدم ملموس واضح لكل الناس، لكن هذا النمو المتزايد لفت أنظار الكثيرين ممن لم تكن لهم علاقة مباشرة بالدولة الإسلامية، فأحسوا بخطر قيام هذه الدولة الفتية في المدينة المنورة، ومن ثم بدءوا في التحرش بالدولة الإسلامية، وتفاقم الأمر حتى وصل إلى إراقة دماء مسلمة.
هذه المشاكل في مجموعها كانت تأتي من شمال الجزيرة العربية، وشمال الجزيرة العربية كان موطناً لعدة قبائل كبرى من قبائل العرب، ومن أشهر هذه القبائل: لخم، وجذام، وبلقين، وبهراء، وبلى، وغسان، وقضاعة، وغيرها من القبائل، وكان الكثير من هذه القبائل يدين بالنصرانية، ويوالي الدولة الرومانية القريبة من هذه الأماكن، فالدولة الرومانية كانت تحتل بلاد الشام، ولها هيمنة على هذه المنطقة بكاملها، وزعماء هذه القبائل على عظمها كانوا عبارة عن مجرد عمال لـهرقل على بلادهم، كعادة الدولة الصغرى في التعامل مع الدولة العالمية العملاقة.
ولما بدأت الدولة الإسلامية في الظهور، وبخاصة بعد غزوة الأحزاب، بدأت هذه المنطقة الشمالية في التحرش بالدولة الإسلامية.
عندما نقوم بمراجعة سريعة لتاريخ هذه المنطقة، نجد أن الأمور تتصاعد وتنذر بصدام كبير بين قبائل المنطقة الشمالية من الجزيرة العربية وبين الرسول عليه الصلاة والسلام في خلال السنتين السابقتين سنة ست وسبع من الهجرة، وقد ذكرنا أنه في شهر جمادى الآخرة سنة ست اعترضت قبيلة جذام دحية الكلبي رضي الله عنه وأرضاه، وأنهم سلبوه كل ما كان معه من هدايا موجهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا سبباً في إرسال سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه إلى منطقة حسمى، وتكلمنا عليها من قبل، وكانت سرية ضخمة عددها خمسمائة رجل، وهذه السرية هزت هذه المناطق وحققت نجاحاً كبيراً للمسلمين.
وأيضاً مر بنا رد هرقل لفكرة الإسلام مع إيمانه الجازم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنه ضن بملكه وآثر أن يكون ملكاً على أن يكون مؤمناً.
وأيضاً مر بنا موقف الحارث بن أبي شمر زعيم دمشق، وعزم هذا الرجل على تجهيز الجيوش لغزو المدينة لولا أن هرقل منعه كما ذكرنا.
كانت هناك حوادث كثيرة تنبئ عن قرب الصدام بين المسلمين وبين هذه المنطقة الشمالية.
أيضاً كانت هناك أحداث جديدة، فقد قامت قبيلة قضاعة في ربيع الأول سنة ثمان باغتيال مجموعة من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وعددهم خمسة عشر رجلاً، وكان على رأسهم كعب بن عمير الأنصاري أو عمرو بن كعب الغفاري رضي الله عنهم أجمعين.
اعترضت قبيلة قضاعة طريقهم وقامت بقتلهم جميعاً إلا رجلاً واحداً فقط، وهذه السرية التي خرجت للدعوة إلى الله عز وجل تعرف بسرية ذات أطلاح، وقد ذكرنا أن قبيلة قضاعة لم يكن لها علاقة سابقة بالمسلمين فاعتدت على مجموعة من رعايا الدولة الإسلامية.
ثم تفاقم الأمر جداً عندما أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام رسالة إلى عظيم بصرى بالأردن يدعوه فيها إلى الإسلام، وحامل الرسالة كان الحارث بن عمير رضي الله عنه، وهو في الطريق اعترض طريقه شرحبيل بن عمرو الغساني ، وهو عامل هرقل على منطقة البلقاء أيضاً في الأردن، وقيد الحارث بن عمير ثم ضرب عنقه.
وقتل الرسل جريمة شنيعة؛ لأن الأعراف كانت تقضي بعدم قتل الرسل، وكان هذا تجاوزاً خطيراً جداً من هذه القبائل، وكما ذكرنا أن معظم هذه القبائل كان يدين بالنصرانية ويتبع الدولة الرومانية.
بعد هذا الحدث زاد الأمر سوءاً، وبدأت الدولة الرومانية ونصارى الشام يتعقبون كل من أسلم ويقتلونه، حتى وصل الأمر إلى قتل والي معان في الأردن؛ لأنه كان قد أسلم، فقتلوه لإسلامه.
إزاء هذه الأوضاع المتردية كان لا بد للدولة الإسلامية من وقفة جادة للدفاع عن هيبة الدولة الإسلامية والثأر لكرامتها.
وقفة لتأمين حركة الدعاة المسلمين لهذه المناطق الشمالية من الجزيرة.
ووقفة لتأمين خط سير التجار المسلمين من وإلى الشام، فالموضوع خطير فعلاً.
ولو قامت هذه القبائل العربية أو الدولة الرومانية على مخارج ومداخل الجزيرة العربية الشمالية فسيضيقون على المدينة المنورة، ولا ننسى أن قريشاً في جنوب المدينة.
إذاً: عندنا الآن في الشمال مشكلتان كبيرتان: مشكلة الدولة الرومانية، والقبائل العربية المتحالفة معها التي معظمها قبائل نصرانية مثل: لخم، وجذام، وغسان، وغيرها من القبائل، وهذه مشكلة ضخمة كبيرة.
ومشكلة قبائل قضاعة الذين اعتدوا على خمسة عشر صحابياً رضي الله عنهم وأرضاهم وقتلوهم، وهذه القبائل أيضاً قبائل كبرى، ولكنها منفصلة عن القبائل المتحالفة مع الدولة الرومانية.
فهاتان المشكلتان لا بد من وقفة جادة معهما.
فالرسول عليه الصلاة والسلام آثر أن يبدأ بواحدة تلو الأخرى، فبدأ صلى الله عليه وسلم بمواجهة القبائل العربية المتنصرة الموجودة في الشمال؛ لأن هذه المناطق خطيرة جداً، ولأن أعداد هذه القبائل كبير، ولأن مساندة الدولة الرومانية لهم متوقعة؛ فهم حلفاؤهم، لذلك حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على تكوين جيش قوي جداً يستطيع أن يقوم بالمهمة على الوجه الأمثل.
أولاً: كون أكبر جيش إسلامي خرج من المدينة حتى تلك اللحظة، وعدد هذا الجيش ثلاثة آلاف مقاتل، فهو أكبر رقم يحارب في التاريخ الإسلامي إلى تلك اللحظة.
ثانياً: ولى على الجيش زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، وزيد بن حارثة كان قد قضى فترة تدريبية هامة جداً في السنة السادسة من الهجرة، فقد قاد خمس سرايا متتالية، وكان زيد بن حارثة قد جاء إلى هذه المنطقة قبل ذلك، جاء إلى شمال الجزيرة العربية في سرية حسمى سنة ست، وكانت من السرايا الضخمة الكبيرة، فهو أعلم بهذه المنطقة من غيره من الصحابة.
ثالثاً: لم يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الغزوة أميراً واحداً، بل عين ثلاثة من الأمراء، إن قتل واحد تولى الآخر، فقال: (إن قتل
رابعاً: أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع الجيش البطل الإسلامي الفذ خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولم يكن مر على إسلام خالد إلا ثلاثة أشهر فقط، ولعل حداثة إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه هي التي منعت الرسول عليه الصلاة والسلام من تولية خالد على ذلك الجيش؛ لأنه لا يعرف جنود المسلمين ولا يعرف طاقاتهم، كما أنه لم يختبر بعد مع الصف المؤمن، فهذه أول مهمة يختبر فيها خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه بعد أن أسلم.
ومهمة قيادة ثلاثة آلاف مسلم مهمة كبيرة، تحتاج إلى رجل له تاريخ مأمون مع المسلمين، وعمر خالد في الإسلام ثلاثة أشهر فقط، وعمره في الجاهلية أكثر من عشرين سنة، فلا بد من اختبار.
تجهز الجيش الإسلامي بهذه الصورة القوية، ومع أن المهمة صعبة والطريق طويلة جداً، أكثر من ألف كيلو من المدينة المنورة، والطريق في صحراء قاحلة، والخروج كان في حر شديد؛ لأن خروج المسلمين كان في جمادى الأولى سنة ثمان وهذا يوافق أغسطس سنة (629)م، يعني: في شدة الحر.
مع كل هذه المصاعب إلا أن معنويات الجيش الإسلامي كانت مرتفعة جداً، وخاصة أن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج بنفسه لتوديع الجيش، واستمر يمشي معهم حتى بلغ ثنية الوداع.
الأمر الأول: دعوة هذه القبائل إلى الإسلام كما ذكرنا أكثر من مرة، إسلامهم أحب إلينا من أموالهم، أحب إلينا من غنائمهم، فكان دائماً يقدم الدعوة صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: قتال شرحبيل بن عمرو الغساني ومن عاونه؛ لأنهم قتلوا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير رضي الله عنه، ومع أن القتال كان لرد الهيبة والاعتبار، وانتقاماً لكرامة الدولة الإسلامية، وثأراً للحارث بن عمير رضي الله عنه، وتأديباً لـشرحبيل بن عمرو وقومه، مع كل هذا إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام حرص على ألا تخرج الحرب الإسلامية عن ضوابطها الشرعية، وحرص أن يلتزم المسلمون تماماً بأخلاقهم حتى في أشد حروبهم.
هذه صورة رائعة حضارية من أرقى الصور في التاريخ، قال لهم صلى الله عليه وسلم عند خروجهم من المدينة كما روى أبو داود عن أنس رضي الله عنه، قال لهم: (انطلقوا باسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولا صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
وفي رواية مسلم زاد: (ولا تمثلوا) أي: بالجثث بعد القتل.
هذه هي الحرب في الإسلام، صورة راقية جداً تحتاج إلى تفصيل، لكن لا يتسع المجال لهذا الآن، لكن كل هذه النصائح وجهت لجيش خرج للانتقام لكرامة الأمة الإسلامية.
المهم في هذا المقام أن نذكر: أن هذا الجيش الإسلامي لم يكن خارجاً لحرب الدولة الرومانية؛ لأن إسلام الدولة الرومانية كان متوقعاً، أو على الأقل أن تبقى على الحياد؛ وذلك للاستقبال الطيب والحسن الذي قابل به هرقل دحية الكلبي رضي الله عنه، وللقناعة التي أظهرها هرقل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان من المتوقع أن تتغير قلوبهم للإسلام، وخاصة أنهم أهل كتاب، ومن النصارى، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث هذا الجيش لحرب شرحبيل بن عمرو الغساني الذي قتل رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجيش الإسلامي الذي خرج باتجاه شمال الجزيرة العربية يعتبر من الجيوش الكبيرة في عرف ذلك الزمن، وخاصة أن القبائل العربية لم يكن من عادتها أن تتوحد في حروبها، وليس من المتوقع أن يلقى هذا الجيش الإسلامي جيوشاً أكبر منه بكثير، وهذه الخلفية لا بد أن نضعها في أذهاننا قبل أن نحلل موقعة مؤتة، حتى نعلم أن هذا الجيش لم يلق به إلى التهلكة أبداً، إنما كان بحسابات ذلك العصر من الجيوش القوية الضخمة.
وأيضاً من الخلفيات المهمة جداً لهذا الجيش: أنه كان جيشاً أخروياً بمعنى الكلمة، يعني: أن هذا الجيش بكامله كان من المؤمنين الصادقين الراغبين حقيقة في الموت في سبيل الله، المشتاقين حقيقة للشهادة في سبيل الله، الطامعين في الجنة، الخائفين من النار، كان جيشاً رائعاً بمعنى الكلمة.
عبر عن ذلك أحد أفراد هذا الجيش عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، لما خرج الجيش من المدينة المنورة بكى هذا القائد الجليل رضي الله عنه بكاءً شديداً، فظن الناس أنه خائف من الموت، فقالوا له: ما يبكيك يا ابن رواحة ؟ فقال: والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار. يعني: أنا لست خائفاً من الموت، ولا خائفاً من البعد عنكم، لكن أنا خائف أن يكون مصيري النار، يقول: ولكني سمعت سمع الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ قول الله عز وجل: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، يقول عبد الله بن رواحة : فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود. هذا يعبر عن مدى خشية وتقوى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، مع جهاده وبذله بداية من بيعة العقبة الثانية، فقد كان من الخزرج في بيعة العقبة الثانية، ومروراً بكل المشاهد مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فكان من أهل بدر، ومن الثابتين في أحد، ومن أهل الأحزاب، ومن أهل بيعة الرضوان، وهو من الذين عاشوا حياتهم يجاهدون بالسنان واللسان، فسيفه مرفوع في كل المعارك، ولسانه ينزل بالقوارع الشعرية على رءوس أعداء الإسلام، ورأينا قبل هذا أنه كان يقول الشعر بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام في عمرة القضاء في داخل الحرم، فتاريخه طويل جداً، وتاريخه مجيد فعلاً، ومع ذلك يخشى أن يسقط في النار إذا مر على الصراط.
فسماعه لهذه الآية العظيمة دفعه إلى أن يقول هذه الكلمة الإيمانية العظيمة: لست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود.
فالناس الباقون في المدينة قالوا له ولجميع الجيش: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين غانمين. فهل هذه الأمنية كانت عند عبد الله بن رواحة رضي الله عنه أن يرده الله عز وجل إلى المدينة غانماً؟ أبداً لم تكن هذه أمنيته، إنما كان يريد أن يلقى الشهادة في سبيل الله عز وجل، لقد خرج عبد الله بن رواحة ليموت ولم يخرج ليعود، فرد عليهم عبد الله بن رواحة بشعر، هذا الشعر يعبر عن مشاعره ومشاعر الجيش الإسلامي الخارج إلى مؤتة، قال:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع تقذف الزبدا
يعني: أسأل الله عز وجل مغفرة منه وضربة سيف شديدة جداً تخرج الدماء حتى تتفجر من جسدي، هذه أمنيته، أمنيته أن يضرب بالسيف حتى يموت.
أو طعنة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
عندما مررت على قبر عبد الله بن رواحة ذكرني أحد أصحابي هناك أن أقول: أرشدك الله من غاز وقد رشدا.
صدق رضي الله عنه، فهذا الجيش كان يطلب الموت، ونحن تعلمنا أن الجيش الذي يطلب الموت توهب له الحياة، هذه قاعدة حقيقية، وهذه سنة ثابتة، وهي كلمة عميقة جداً قالها الصديق رضي الله عنه وأرضاه وكلنا نحفظها: احرص على الموت توهب لك الحياة.
فهذا الجيش كان حريصاً على الموت وسنرى كيف ستوهب له الحياة.
وتجمع الرومان بهذه الأعداد الهائلة أمر عجيب حقاً، ليس العجيب في أن الرومان كثرة، نحن تعودنا على هذه الأرقام في حروب الرومان، لكن العجب أن يجمع الرومان هذا العدد المهول لحرب ثلاثة آلاف مقاتل فقط.
ومن الممكن أنهم لم يدركوا عدد المسلمين فأعدوا عدداً يكافئ أي إعداد للمسلمين.
أو أنهم أدركوا فعلاً عدد المسلمين وأرادوا استئصال المسلمين تماماً؛ حتى لا تقوم لهم قائمة، لا مجرد هزيمة، بل استئصال.
أو لكون هرقل يدرك أنه يحارب نبياً فأراد أن يعد قوة خارقة لعله يهزم هذا الجيش المؤمن.
المهم أن الدولة الرومانية جهزت مائة ألف واستعانت بمائة ألف من العرب النصارى؛ لتحارب ثلاثة آلاف مقاتل مسلم، وإذا كان هذا التجمع غريباً من الرومان فهو كذلك أيضاً غريب من العرب؛ لأن العرب لم يكن من عادتهم التجمع والاتحاد، بل كان يحارب بعضهم بعضاً، لم تجمعهم قضية مطلقة من قبل ومع ذلك جمعوا مائة ألف في موقعة واحدة.
هذا الموقف له تفسير واحد، وهذا التفسير هو إشارة هرقل لهم بالنهوض معهم؛ لأن الكثير من القبائل والدول العربية لا تتحرك عند داعي القتال إلا إذا أخذت إذناً من القائد الأعظم للدولة الأولى في العالم، عندها يهب الجميع لتنفيذ الأمر كأنهم إلى نصب يوفضون.
لقد تجمع في أرض معان مائتا ألف مقاتل غالبهم من النصارى سواء من الرومان أو من العرب ينتظرون قدوم الجيش الإسلامي من المدينة المنورة، وإزاء هذا الوضع الخطير عقد المسلمون مجلساً استشارياً، مثل عادتهم دائماً، وبدءوا في تبادل الرأي، وخرجوا بثلاثة آراء:
الرأي الأول: أن يرسل المسلمون رسالة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة يخبرونه بأن الأعداد ضخمة وهائلة، إما أن يمدهم بمدد، وإما أن يأمرهم بقتال، أو يأمرهم بانسحاب، لكن هذا الرأي لم يكن واقعياً؛ لأن المسافة بين معان وبين المدينة لا تقطع إلا في أسبوعين على الأقل ذهاباً فقط، معنى هذا: أن الجيش سينتظر شهراً كاملاً قبل أخذ القرار، وهذا مستحيل، وإن قبل المسلمون بذلك لم تقبل قوات التحالف الرومانية العربية.
الرأي الثاني: أن زيد بن حارثة رضي الله عنه قائد الجيوش ينسحب بالجيش ولا يدخل في أي قتال، وقال أصحاب هذا الرأي لـزيد بن حارثة : قد وطئت البلاد وأخفت أهلها فانصرف، فإنه لا يعدل العافية شيء. فأصحاب هذا الفريق يرون أن هذه الحرب مهلكة ولا داعي لدخولها.
الرأي الثالث: الدخول في المعركة دون تردد، ومواجهة هذه الأعداد المهولة في الحرب الفاصلة. وكان صاحب هذا الرأي عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، فقد قام وقال في منتهى الوضوح: يا قوم! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة. يعني: ما تخافون منه الموت وهو الذي نريده، وهو الذي خرجنا من أجله.
قال: إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة.
كان كلامه في منتهى الوضوح، فقد لخص في كلمته القصيرة جداً أساسيات الجهاد في سبيل الله، فالجيش المسلم المؤمن جيش يطلب الشهادة ويحرص عليها، والنصر لا يأتي بعدد ولا عدة، إنما يأتي من عند الله عز وجل، وليس معنى هذا أن يترك المسلمون الإعداد، لا، ولكن يجب أن يفعلوا ما عليهم والله عز وجل بعد ذلك ينصرهم، وفعلاً قام المسلمون وأعدوا ما عليهم في حدود الطاقة، أعدوا جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهذا شيء كبير جداً بالنسبة لهم.
ونستنبط من كلام عبد الله بن رواحة أن العدة الرئيسة للمسلمين في القتال هي دين الإسلام، قال: وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به.
وأيضاً نأخذ من كلامه أن المعركة عند المسلمين لا تخلو من أمرين: إما نصر وإما شهادة، أما الرضا بالهزيمة فليس اقتراحاً مطروحاً عند المسلمين، بل هو مرفوض.
ولما قال عبد الله بن رواحة هذه الكلمات قال الناس جميعاً: صدق -والله- ابن رواحة . يعني: اجتمعوا جميعاً على قرار القتال، ولنا مع هذا القرار وقفة.
لا شك أن إقدام الصحابة رضي الله عنهم على هذا الأمر بهذه الصورة الجماعية لهو خير دليل على أنهم طلاب آخرة وليسوا طلاب دنيا، وأن الصدق والإخلاص والتجرد يملأ قلوبهم جميعاً، وأن شجاعتهم بالغة، وأن قوتهم النفسية والقتالية فوق حدود التصور، لا شك في كل ذلك، لكننا نريد أن نفهم قرار الحرب هذا في ضوء القياسات المادية التي رآها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، هل كان قرار الحرب هذا قراراً صائباً؟ الإجابة بسرعة قبل أن يذهب الذهن هنا أو هناك: نعم، كان صائباً ولا شك في ذلك، بدليل أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يعلق أي تعليق سلبي على هذا الأمر، ولم يعنف الصحابة لا من قريب ولا من بعيد على أمر هذا القتال، ولا ذكر أنه كان الأولى ألا يقاتلوا، والرسول عليه الصلاة والسلام لا يسكت على منكر، فسكوته صلى الله عليه وسلم إقرار، وإقراره سنة، يعني: لو تعرض المسلمون للضرر بكل تفصيلاته فإن قرار الحرب آنذاك سيكون قراراً صائباً، لكن كيف الجمع بين هذا القرار وبين عدم جواز إلقاء الجيش الإسلامي في تهلكة، هذا القرار الذي أشار به عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه لم يلق أي معارضة من الجيش، مع وجود طاقات عسكرية هائلة في هذا الجيش، وعلى رأسهم البطل الإسلامي الفذ خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، ونحن عرفناه عبقرياً وعرفناه واقعياً لا يرى بأساً في الانسحاب إذا رأى أن الحرب مهلكة، وهذا الجيش الإسلامي الكبير ليس ملكاً لأفراد بعينهم، إنما هو ملك الدولة الإسلامية، ليس ملكاً لأفراد يضحون به إن شاءوا ذلك، وحب الشهادة أمر عظيم جداً، لكن إن غلب على ظن القادة أن الجيش سيهلك بكامله يصبح الإقدام مفسدة، إذ كيف يضحي القادة بثلاثة آلاف مقاتل هم كل عماد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت.
تفسير هذا الكلام عندي بثلاث احتمالات:
الاحتمال الأول: أن المسلمين لم يحصروا أعداد المقاتلين الرومان والعرب حصراً دقيقاً، وإنما قدروهم مثلاً بخمسة أو عشرة أضعافهم أو أكثر من ذلك بقليل أو أقل من ذلك، فوجدوا أن القتال مع صعوبته ممكن مع هذه الأعداد، وكل معارك المسلمين السابقة كانت بأعداد أقل بكثير من أعداد المشركين، يقول الله عز وجل في كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249].
وذكر سبحانه وتعالى أيضاً في سورة الأنفال: أن الجيش المؤمن قادر على مواجهة عشرة أضعافه إن كان قوي الإيمان حقاً، قال سبحانه وتعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال:65].
نعم نزل التخفيف بعد ذلك وجعل المسلم باثنين من الكفار، لكن من الممكن أن يصل المسلم الواحد إلى عشرة من الكفار، بل قد يزيد على ذلك ويصبح الرجل بألف من الكفار، كما قال الصديق رضي الله عنه في حق القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه، وفي حق عياض بن غنم رضي الله عنه، وكما قال عمر بن الخطاب في حق عبادة بن الصامت والزبير بن العوام ومسلمة بن مخلد والمقداد بن عمرو قال: إن الواحد منهم بألف.
وهذا الجيش الإسلامي في مؤتة من المؤمنين الصادقين، والواحد فيهم يوزن بعشرات بل مئات من الكافرين، من أجل ذلك كان قرار الحرب مقبولاً عند المسلمين، وخاصة أنه من المحتمل أنهم قدروا أعداد النصارى بعشرين أو ثلاثين ألفاً فقط، وليس أكثر من ذلك، وهذا أمر محتمل؛ لأن تقدير هذه الأرقام المهولة قد يكون مستحيلاً في هذه الظروف، وخاصة أنهم في أرض مجهولة للمسلمين لا يعرفون خباياها ولا كمائنها ولا طرقها ولا غير ذلك.
إذاً: هذا احتمال، هو أنهم قدروا أعداد الرومان والعرب بأقل من عددها الحقيقي.
الاحتمال الثاني: قد تكون هناك مبالغة في أعداد الرومان والعرب، وإنما هم أقل مما ذكر من الأرقام المهولة التي ذكرت في الكتب، يعني: لم يصلوا مائتي ألف، لكن لا شك أنهم كانوا أضعاف أضعاف المسلمين.
الاحتمال الثالث وهو مهم جداً: هو أن قادة المسلمين وجدوا أن الانسحاب لن ينجيهم من جيوش التحالف الرومانية العربية، وأنه إن بدأ الجيش الإسلامي في الفرار فقد يحاصر من كل الجهات، وفي هذه الحالة ستكون المعركة عبارة عن مجزرة حقيقية للجيش الإسلامي بكامله، فكان الأفضل الثبات والمقاومة؛ لأن هذا سيعطي دفعة نفسية إيجابية للجيش المسلم في أن يهاجم ويخطط لهزيمة الآخرين بدلاً من أن يفكر في الهرب والدفاع فقط، والعكس سيكون بالنسبة لقوات التحالف الرومانية العربية، فهذه القوات قد تهتز من رؤية أناس يطلبون الموت.
وقد يكون الانسحاب في معركة من هذا القبيل نجاة للطرف المسلم، ويؤيد هذا الكلام أن الانسحاب مشروع، ذكره سبحانه وتعالى في كتابه بوضوح كما في سورة الأنفال، قال الله: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16].
في هذه الآية حدد ربنا سبحانه وتعالى سببين للانسحاب لا يأثم المسلم فيهما:
الأول: أن ينسحب بخطة حربية ليعاود الحرب من جديد.
الثاني: أن تعود فرقة من الجيش إلى جيشها؛ لكي تستعد بصورة أكبر للقتال، ثم تعاود القتال من جديد، وفئة المسلمين في هذه المعركة كانت في المدينة المنورة، فانسحاب الجيش الإسلامي سواء إلى الأردن أو إلى الجزيرة العربية، أو حتى عودته إلى المدينة المنورة ليس فيه خطأ شرعي، ولذلك كان أخذ الصحابة بهذا الرأي أمراً ممكناً إن وجدوا أنه يفيد المسلمين.
وعلى العكس؛ ليس من المقبول شرعاً أن يدخل المسلمون في معركة وهم يعلمون أنهم جميعاً سيستشهدون ويفنى الجيش الإسلامي بكامله، لأن هذا يعد تهوراً وليس إقداماً، ومن هنا نقول: إن الجيش الإسلامي وجد أنه لا أمل في الانسحاب ولا نجاة في الفرار، وأنه يجب عليهم أن يواجهوا هذا الظرف برجولة؛ لكي يخرجوا منه على الأقل بأقل خسائر ممكنة، ومن ثم كان قرار الحرب وعدم الانسحاب.
كذلك نضيف أن سمعة الدولة الإسلامية كانت ولا شك ستتأثر سلباً إذا انسحب الجيش الإسلامي من المعركة، بعد أن قطع كل هذا الطريق الطويل مسافة (1000) كيلو، ومن ثم كان قرار الحرب حافظاً لكرامة الدولة الإسلامية.
إذاً: أخذ المسلمون قرار الحرب بشورى أو قل بإجماع، وانطلقوا ليختاروا مكاناً مناسباً للقتال قبل أن يختار الرومان، وبالفعل وصل المسلمون إلى منطقة مؤتة فقرروا إقامة المعسكر هناك والاستعداد للقتال، ومنطقة مؤتة في الأردن جنوب محافظة الكرك الآن، وأنا زرت أرض مؤتة من أجل أن أرى المكان الذي تمت فيه المعجزة الإسلامية: معركة مؤتة.
أولاً: كونه سهلاً منبسطاً يحرم الفريقين من المناورة ومن وضع الكمائن. يعني: لو أتيح للرومان فعل الكمائن والمناورات لكان هذا الفعل مصيبة بالنسبة للجيش الإسلامي.
ثانياً: أنه عبارة عن أرض صحراوية، والعرب قد اعتادوا على القتال في الأرض الصحراوية، بخلاف الجيوش الرومانية التي اعتادت على القتال في الأراضي الخضراء في الشام وفي تركيا وفي الأراضي الكثيرة الأشجار.
ثالثاً: السهل مفتوح من جنوبه على الصحراء الواسعة، فالرومان لا تجرؤ على التوغل في هذه الصحراء، وبهذا يقدر الجيش الإسلامي أن ينسحب إذا أراد الانسحاب.
رابعاً: في جنوب السهل خلف الجيش الإسلامي بعض التلال، فمن الممكن أن تستغل هذه التلال في إخفاء الجيش الإسلامي وراءها إذا أراد الانسحاب ليلاً.
خامساً: هذا السهل ليست به أي عوائق طبيعية كما ذكرت، ليس هناك أي نوع من الحماية للجندي إلا أن يحتمي وراء سيفه ودرعه، ومن ثم في هذا المكان المفتوح سيظهر أثر الشجاعة والإقدام والتجرد، وهذا الجانب بلا شك يتفوق فيه الجانب الإسلامي تماماً.
الجنود في الجيش الإسلامي يقاتلون على قضية هامة، وعندهم هدف سام جداً، فهم يبحثون عن الموت في سبيل الله، بينما يفتقد جيش الرومان هذا الهدف، فجنود الرومان كالقطيع من الحيوانات لا يدري لماذا يقاتل، ولا يدري ماذا يجني من وراء القتال، وإنما إذا جاء الأمر من القيادة العليا بالقتال فليس عليهم إلا التنفيذ، وإن كان هناك نصر فالذي سيحتفل بالنصر والذي سيسعد به هم القادة والقيصر، وإن كان هناك هزيمة فالجنود هم الذين سيدفعون الثمن من أرواحهم وأبدانهم.
هذا كان شأن الجيوش الرومانية وهو شأن كل الجيوش العلمانية في العالم اليوم.
أما العرب النصارى المشاركون في المعركة فلم يشاركوا فيها إلا طاعة لـهرقل لا حباً في القتال، ولا يرغبون في ثواب ولا جنة، منتهى أحلامهم أن يرضى عنهم هرقل ، وشتان بين من يبحث عن رضا هرقل وبين من يبحث عن رضا رب العالمين سبحانه وتعالى، بين من يقاتل ليعيش، وبين من يقاتل ليموت.
إن اختيار الأرض المنبسطة بهذه الصورة ستجعل اليد العليا للشجاع على الجبان، وللمقدم على المدبر، وهذا كله في صالح المسلمين، واقتربت ساعة الصفر.
وحمل الراية زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، وأعطى إشارة البدء لأصحابه واندفع كالسهم رضي الله عنه وأرضاه صوب الجيوش الرومانية، ولم يشهد المسلمون قتالاً مثله قبل ذلك، وارتفع الغبار في أرض المعركة في ثوان معدودات، ولم يعد أحد يسمع إلا أصوات السيوف أو صرخات الألم، لا يتخلل ذلك من الأصوات إلا صيحات تكبير المسلمين، أو بعض الأبيات الشعرية الحماسية التي تدفع المسلمين دفعاً إلى بذل الروح والدماء في سبيل إعلاء كلمة المسلمين، وسالت الدماء غزيرة في أرض مؤتة، وتناثرت الأشلاء في كل مكان، ورأى الجميع الموت مراراً ومراراً، كانت فعلاً ملحمة بكل المقاييس، وسقط أول شهداء المسلمين البطل الإسلامي العظيم والقائد المجاهد زيد بن حارثة رضي الله عنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سقط مقبلاً غير مدبر بعد رحلة جهاد طويلة جداً، بدأت مع أول أيام نزول الوحي، فهو من أوائل من أسلم على وجه الأرض، وصحب الرسول عليه الصلاة والسلام في كل المواطن، وكان هو الوحيد الذي ذهب معه إلى الطائف، والله كأني أراه وهو يدافع بكل ما أوتي من قوة عن حبيبه صلى الله عليه وسلم، حتى شج رأسه وسالت دماؤه غزيرة رضي الله عنه وأرضاه، هجرة وجهاد ودعوة وعبادة وقيادة وتجرد.
رأيناه في العام السادس من الهجرة يقود السرايا تلو السرايا في جرأة عجيبة وثبات ناجح، وكأنه يعد لهذا اليوم العظيم، يوم أن يلقى ربه شهيداً مقبلاً غير مدبر، فهذه أسعد لحظة مرت عليه منذ خلق.
وحمل الراية بطل جديد، إنه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وهذا البطل الشاب المجاهد كان عمره أربعين سنة، وكان قد قضى معظم هذه السنوات في الإسلام، أسلم في أوائل أيام الدعوة، وقضى ما يقرب من خمس عشرة سنة في بلاد الحبشة مهاجراً بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ورجع من الحبشة إلى المدينة المنورة في محرم سنة سبع، وعند وصوله وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم توجه إلى خيبر فخرج من فوره إلى خيبر ليجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنها رغبة حقيقية صادقة في البذل والتضحية.
لقد حمل الراية بعد سقوط أخيه في الإسلام زيد بن حارثة ، وقاتل رضي الله عنه قتالاً لم ير مثله، وأكثر الطعن في الرومان، ثم تكالبوا عليه، وكان يحمل راية المسلمين كما ذكرنا، فقطعوا يمينه رضي الله عنه وأرضاه فحمل الراية بشماله لكي لا تسقط، فقطعوا شماله رضي الله عنه، فاحتضنها بعضديه قبل أن يسقط شهيداً رضي الله عنه وأرضاه، ليأخذ الراية من بعده بطل ثالث ألا وهو عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه.
يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كما جاء في البخاري: وقفت على جعفر يومئذ وهو قتيل فعددت به خمسين ما بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره، أي: ليس منها شيء في ظهره. فهو لم يفر ولو للحظة واحدة رضي الله عنه وأرضاه، بل من أرض المعركة إلى الجنة مباشرة، لا يسير فيها بل يطير.
روى الحاكم والطبراني بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت
وروى البخاري أيضاً: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا حيا ابن جعفر رضي الله عنه قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين. رضي الله عنه وأرضاه، فربنا سبحانه وتعالى أبدل جعفر بن أبي طالب جناحاً بدلاً من يديه اللتين قطعتا في سبيل الله عز وجل.
إنها حياة جهادية طويلة جداً والمكافأة الجنة.
ثم حمل الراية عبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه المجاهد الشاب الذي شارك في كل الغزوات السابقة، وجاهد -كما ذكرنا- بسيفه وبلسانه، وهو الذي كان يحمس المسلمين لأخذ قرار الحرب، وهو الذي كان يتمنى ألا يعود إلى المدينة، بل يقتل شهيداً في أرض الشام، حمل الراية وقاتل قتالاً عظيماً مجيداً حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه.
ما تردد أبداً كما أشيع عنه رضي الله عنه، وكيف يتردد من يدفع الناس دفعاً للقتال، كيف يتردد من يحمس الناس على طلب الشهادة؟ كيف يتردد من يثق به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجعله على قيادة هذا الجيش الكبير؟ كيف يتردد من شهد له صلى الله عليه وسلم أنه شهيد، ومن دعا له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بالثبات؟ وهذا التردد الذي أشيع عنه لم يتفق عليه عامة أهل السير، لم ينقله الكثير من كتاب السيرة، لم ينقله موسى بن عقبة في مغازيه، ولم ينقله المقريزي في (إمتاع الأسماع)، ولم ينقله ابن سعد في (الطبقات)، وإنما ذكره فقط ابن إسحاق رحمه الله في سيرته، وفي هذه الرواية تناقض شديد جداً، تناقض بين أول الرواية وآخر الرواية، في أولها جهاد وتحفيز على الشهادة وفي آخرها تردد، هذا لا يستقيم.
أما ما ورد في ابن إسحاق أيضاً من أن هناك ازوراراً في سرير عبد الله بن رواحة في الجنة فهو منقطع السند، وضعفه البيهقي وضعفه ابن كثير وعارضه بحديث أنس بن مالك الذي في البخاري وفيه: أن عبد الله بن رواحة قتل شهيداً. ولم يشر إلى ذلك أبداً، ومن أشاع أن عبد الله بن رواحة قد تردد فبسبب ما نسب إليه من شعر في هذا الموقف قد يوحي أنه متردد، لكن هذا الشعر إن صح نسبه وروايته على اختلاف بين العلماء في الصحة فهذا لا يحمل أبداً على معنى عدم الإقدام، وإنما يحمل على تحميس النفس على شيء خطير، وعلى بذل الروح والتضحية بالنفس، فهو أمر ليس بسيطاً يسيراً عابراً في حياة الإنسان؛ فتحمل آلام الضرب بالسيف والطعن بالرمح ليس شيئاً سهلاً، إذا قال الإنسان لنفسه بعض الكلمات التي تصبره على تحمل الآلام وتشجعه على فراق الأحبة وتدفعه إلى الموت لا إلى الحياة ليس في ذلك شيء، بل هو أمر محمود ومطلوب.
ومما قيل من شعره يومئذ:
يا نفس إن لم تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت إن تفعلي فعلهما هديت
يعني: ما رغبت فيه من الشهادة فها هو قد جاد، وإن تفعلي كما فعل زيد وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما هديت، وبالفعل كان قتاله شديداً وجهاده عظيماً، وطعن في صدره رضي الله عنه وأرضاه، وتلقى الدماء بيديه ودلك بها وجهه رضي الله عنه وأرضاه، وأصيب شهيداً كما في مسند أحمد وسنن النسائي والبيهقي عن أبي قتادة رضي الله عنه وأرضاه بسند صحيح.
هذه روايات صحيحة في حق هذا البطل الذي شوهت صورته بهذا الأمر، وهذا لا يستقيم في حقه أبداً، وهو الذي دفع المسلمين هذا الدفع في هذه المعركة الهائلة.
سقط القادة الثلاثة شهداء؛ ليثبتوا لنا وللجميع أن القيادة مسئولية، وأن الإمارة تكليف وليست تشريفاً أبداً، وأن القدوة هي أبلغ وسائل التربية، وكان ثباتهم سبباً في ثبات الجيش الإسلامي، وجهادهم دفع الجيش الإسلامي لبذل كل طاقة، لا يفر الجنود إلا بفرار القادة، ولا تسقط الراية إلا بهوانها على حاملها، لكن بمؤتة ما سقطت راية المسلمين أبداً ولا في لحظة من لحظات القتال.
بعد استشهاد البطل العظيم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه حمل الراية الصحابي الجليل ثابت بن أقرم البدري فهو ممن شهد بدراً، فقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت. أنت تحمل الراية، فقال: ما أنا بفاعل. يعني: هناك من هو أحسن مني في هذا المجال، ثم تقدم إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه القائد المعجزة فدفع له الراية وقال له: أنت أعلم بالقتال مني، فقال خالد في تواضع وما زال عمره في الإسلام ثلاثة شهور: أنت أحق بها مني، أنت شهدت بدراً، فنادى ثابت المسلمين للاجتماع على خالد ، فاجتمع الناس على خالد وأعطوه الراية.
وحمل الراية خالد وجاهد جهاداً يكفر به عن العشرين سنة الماضية، فهذا أول مواقفه في سبيل الله، ولا بد أن يري الله عز وجل منه بأساً وقوة وجلداً وإقداماً رضي الله عنه، قاتل خالد بن الوليد كما لم يقاتل من قبل، حتى يقول كما في صحيح البخاري : لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية. يعني: سيف يمني عريض، تسعة أسياف كاملة تكسرت في يديه وهو يحارب الرومان، تخيل كم من البشر قتل بهذه الأسياف، ومع ذلك استمر في قتاله، كلما انكسر سيف أخذ غيره وقاتل، إنها معركة ضارية، وثبت رضي الله عنه ثباتاً عجيباً وثبت المسلمون بثبات خالد رضي الله عنه وأرضاه.
واستمر القتال يوماً كاملاً، وما تراجع المسلمون لحظة، وإنما وقفوا كالسد المنيع أمام طوفان قوات التحالف الرومانية العربية، واستمر هذا الحال حتى جاء المساء.
تصور من الصباح إلى المساء في معركة واحدة ثلاثة آلاف أمام مائتي ألف، هذا شيء مهول، لم يكن من عادة الجيوش في ذلك الوقت أن تقاتل ليلاً؛ لأنه قد يأتي الشخص فيقتل أصحابه.
فتحاجز الفريقان واستراح الرومان ليلتهم هذه، أما المسلمون فكانوا في حركة دائمة.
أولاً: جعل الخيل أثناء الليل تجري في أرض المعركة، لتثير الغبار الكثير، فيخيل للرومان أن هناك مدداً قد جاء للمسلمين في الليل.
ثانياً: غير من ترتيب الجيش، فجعل الميمنة ميسرة والميسرة ميمنة، وجعل المقدمة مؤخرة والمؤخرة مقدمة، فلما رأى الرومان هذه الأمور في الصباح، رأوا الرايات والوجوه والهيئة قد تغيرت أيقنوا أن هناك مدداً قد جاء للمسلمين فهبطت معنوياتهم تماماً.
ثالثاً: جعل في آخر الجيش على بعد كثير من الجيش على أحد التلال مجموعة من الجنود المسلمين منتشرين على مساحة عريضة، ليس لهم دور إلا إثارة الغبار لإشعار الرومان بالمدد المستمر الذي يأتي المسلمين.
رابعاً: بدأ خالد بن الوليد في اليوم الثاني من المعركة يتراجع تدريجياً بجيشه إلى عمق الصحراء، فظن الرومان أن خالد بن الوليد يسحبهم ويستدرجهم إلى كمين في الصحراء، فترددوا في متابعته، ووقفوا على أرض مؤتة يشاهدون انسحاب خالد دون أن يجرءوا على مهاجمته أو على متابعته.
وبالفعل نجح مراد خالد بن الوليد وسحب الجيش بكامله إلى عمق الصحراء، ثم بدأ الجيش في رحلة العودة إلى المدينة المنورة سالماً.
تباينت آراء المحللين القدامى والمحدثين حول هذه المعركة، تباينت تبايناً عظيماً فعلاً، فمنهم من رأى أن المعركة كانت انتصاراً للمسلمين، وممن يرى هذا الرأي موسى بن عقبة والزهري والواقدي ، ورجح ذلك البيهقي وابن كثير فهؤلاء جميعاً رأوا أن المسلمين انتصروا انتصاراً جليلاً في موقعة مؤتة.
ومن العلماء من عدها هزيمة منكرة للمسلمين كما أشار إلى ذلك ابن سعد في طبقاته.
ومنهم من قال: إن كل فئة قد انحازت عن الأخرى، يعني: هناك تعادل بين الكفتين، مال إلى هذا ابن إسحاق في سيرته، وابن القيم في زاد المعاد.
والحقيقة أني أميل وبشدة مع الرأي الأول القائل بأن هذا كان انتصاراً حقيقياً للمسلمين، وعندي على هذا الكلام أدلة كثيرة:
أولاً: ما جاء في البخاري عن أنس رضي الله عنه يحكي عن معجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخبر أصحابه عن نبأ أهل مؤتة قبل أن يعودوا إلى المدينة المنورة، قال صلى الله عليه وسلم: (أخذ الراية
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليه)، وكلمة: (حتى فتح الله عليه) هذه لا تحتمل معاني كثيرة، وإنما تحمل معنى النصر والفتح والعلو، فالله عز وجل لا يفتح عليهم بمجرد الانسحاب، لكن الواضح أن المسلمين فتح الله عليهم بالنصر.
ثم قرر خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه أن ينسحب وأن يكتفي بهذا الانتصار دون محاولة متابعة الجيش الروماني؛ لأن خالد بن الوليد كان واقعياً جداً إلى أبعد درجة، فهو علم أنه لا يستطيع أن يتوغل في أرض الروم بهذا الجيش الإسلامي الصغير، فكان هذا فتحاً من الله عز وجل على المسلمين كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يذكر أنهم انسحبوا فقط دون انتصار لقال كلمة تدل على هذا المعنى، كأن يقول: حتى أنجاهم الله، أو نحو ذلك من الكلمات، وهو صلى الله عليه وسلم أبلغ البشر وأوتي جوامع الكلام، ويستطيع أن يصف بكلمة واحدة الحدث تماماً كما تم في أرض مؤتة: (حتى فتح الله عليه).
الدليل الثاني: روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح، وكذلك النسائي والبيهقي عن أبي قتادة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه قبل أن يعود أهل مؤتة إلى المدينة: ألا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؟ إنهم انطلقوا حتى لقوا العدو فأصيب
هذا دعاء من الرسول عليه الصلاة والسلام لسيف الله المسلول خالد وللجيش الإسلامي بالنصر، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم مستجاب، وهذا الحديث من معجزاته، فهو يخبر به عن الغيب، ومحال أن يتحقق خلاف ما ذكره صلى الله عليه وسلم للصحابة، فهو ذكره على سبيل الحجة الدامغة لنبوته صلى الله عليه وسلم والحجة الدائمة لإنبائه بالغيب، فحين يدعو فيه بالنصر فلا بد أن يحصل النصر، وهذا صريح في هذه الرواية وهي صحيحة.
الدليل الثالث: كم عدد شهداء المسلمين في هذه الموقعة الطاحنة؟ رقم لا يتصوره أحد مطلقاً، إنهم اثنا عشر شهيداً فقط، منهم الأمراء الثلاثة، وفي حرب مع مائتي ألف ولم يقتل ويستشهد سوى اثني عشر رجلاً، دليل دامغ على انتصار المسلمين؛ لأن الجيش المهزوم مستحيل أن يقتل منه غير اثني عشر رجلاً فقط، بينما خسر الرومان أضعاف ذلك، ويكفي مَنْ قتلهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه بتسعة سيوف، فإذا كان شهداء المسلمين أقل من قتلى الرومان فهذه من أبلغ علامات النصر.
الدليل الرابع: غنم المسلمون غنائم عدة من مؤتة، ولا يغنم إلا الجيش المنتصر، بل إنهم غنموا ممتلكات بعض كبار القادة الرومانيين، فبعض المسلمين قتلوا بعض قادة الرومان وأخذوا أسلابهم، روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه وأبو داود وأحمد عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، وانظر إلى كلام عوف بن مالك الذي يقول: إن أحد المسلمين قتل رومياً يحمل سلاحاً مذهباً، ويركب فرساً عليه سرج مذهب. فهذه غنيمة عظيمة، ولا يحمل الذهب في المعارك إلا القادة الكبار وليس عامة الجند.
الدليل الخامس: لم نسمع بعد هذه الغزوة عن شماتة شعرية من شعراء قريش أو من عرب الشمال، فهؤلاء لا يتركون مثل هذه الأحداث أبداً تمر دون قصائد شعرية، لو هزم المسلمون لما تركهم أعداؤهم بأشعارهم أبداً، لكن ما سمعنا هذا الكلام، بل العكس، سمعنا فخراً من المسلمين على لسان كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه وحسان بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه في موقعة مؤتة، وهذا لا يأتي إلا بالنصر.
الدليل السادس: تركت هذه الموقعة أثراً إيجابياً هائلاً على عرب الجزيرة، وخاصة أهل المناطق الشمالية، ورأينا بعد هذه الموقعة وفود القبائل التي طالما عاندت الإسلام والمسلمين تأتي مذعنة إلى المدينة المنورة لتعلن إسلامها بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو كانت هناك هزيمة لما فعلوا ذلك، ولو كانت تعادلاً لانتظروا رد فعل الرومان، ولكن مسارعة هؤلاء تنبئ عن شعورهم بالرهبة والجلال من هذه الدولة التي وقف جيشها هذه الوقفة أمام جحافل الروم والعرب المتنصرة، ولو كانت الغلبة للرومان وللقبائل المتحالفة معها في هذه الموقعة، لكان التسابق لطلب ود الرومان وغسان هو الغالب، ولكن ذلك لم يحدث.
لقد حدث أمر غريب جداً بعد مؤتة، وهو من القبائل التي أتت المدينة قبائل غطفان، وفي الدرس السابق تكلمنا عن غطفان وحرب غطفان للمسلمين، وبعد هذا كله أتت غطفان إلى المدينة لتبايع على الإسلام، وكذلك أتت بنو سليم وأشجع وذبيان وفزارة وغيرها، كل هؤلاء أتوا يبايعون على الإسلام، واشتركوا بعد ذلك في فتح مكة، وغير ممكن بعد الهزيمة أن يحصل هذا الشيء.
أما ما قيل في استقبال الجيش بكلمة: (يا فرار، أفررتم في سبيل الله؟) فهذه الرواية سندها ضعيف، وحتى لو صحت فإن الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه في هذه الرواية يدافع عن الصحابة ويقول: (ليسوا بالفرار، بل هم الكرار إن شاء الله) هذا إن صحت الرواية.
وفي رواية ثانية أيضاً فيها ضعف أن مجموعة صغيرة من المسلمين فرت إلى المدينة المنورة، وحتى هذه الرواية فيها أن الرسول عليه الصلاة والسلام عذر هذه الطائفة وقال: (أنا فئة لهم) يعني: هؤلاء انحازوا إلى فئة شرعية في المدينة المنورة، فهذا أمر ليس فيه خطأ شرعي إن صحت الرواية أيضاً.
إذاً: كانت موقعة مؤتة انتصاراً بكل المقاييس، كانت انتصاراً للإنسان على نفسه، يرغم نفسه على خوض غمار المصاعب والمشاق، بل والموت دون تردد، كانت انتصاراً على الدولة الرومانية في أول لقاء بينها وبين المسلمين، وستكون بداية سلسلة من الحروب، كانت فيها اليد العليا للمسلمين، كانت انتصاراً على القبائل العربية الشمالية التي سارعت بعد عام من هذه الأحداث بالدخول في دين الإسلام، بعد أن رأت قوة وبأس الإسلام، كما رأت قبل ذلك حكمة وأخلاق الإسلام، وأيقنت تماماً أن هذا الدين من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
وكانت انتصاراً على كل عدو للدولة الإسلامية، حتى قريش لما رأت هذه الأحداث حارت: ماذا فعل المسلمون مع الدولة الأولى في العالم؟ فكان ذلك سبباً في هزيمة نفسية قاسية لأهل مكة، مهدت تماماً لما سيأتي بعد ذلك من فتح مكة وفتح البلاد المحيطة بها.
هذه هي موقعة مؤتة، وهؤلاء هم الأمراء الشهداء الثلاثة، وهذا هو خالد بن الوليد سيف الله المسلول على أعداء المسلمين، الإضافة الرائعة في الدولة الإسلامية خلال الثلاثة الأشهر السابقة، وهذا هو الجيش الإسلامي الذي يكتب له النصر، وهذا هو الدليل العملي الواقعي أن الله عز وجل ينصر من نصره، ويكون مع من جاهد في سبيله، ويدافع عن الذين آمنوا، ويمحق الذين كفروا.
نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يرفع رايات المؤمنين، وأن يربط على قلوب الموحدين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
جزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر