إسلام ويب

سلسلة السيرة النبوية قيام الدولة الإسلاميةللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدولة الإسلامية على أسس قوية ترتكز عليها، لمواجهة التحديات القائمة تجاهها، ففي الفترة المكية نجح رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء الأفراد على العقيدة الصحيحة، واتضح ذلك جلياً على الواقع في الفترة المدنية بعد هجرته صلى الله عليه وسلم، إذ فيها كان بناء الدولة الإسلامية الشاملة.
    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.

    اليوم نبدأ الحديث عن العهد المدني في السيرة النبوية، قبل هذا تكلمنا عن العهد المكي، والكثير الكثير من الأحداث الهامة جداً في العهد المكي للأسف أغفلت؛ لكثرة الأحداث وصعوبة الإلمام بكل ما تم في حياته صلى الله عليه وسلم من دروس وعبر وعظات وأحكام وتشريعات، إذا كنا نقول ذلك الكلام عن فترة مكة فالحديث عن فترة المدينة أصعب بشكل لافت للنظر؛ لأن أحداث المدينة المنورة كثيرة جداً ومتشعّبة: غزوات، وسرايا، ومعاهدات، ولقاءات ومعاملات، وحياة زوجية للرسول صلى الله عليه وسلم، وحياة مع الصحابة، وحياة مع المنافقين، وحياة مع أعداء الأمة من اليهود ومن المشركين.. ومن غيرهم، في الحقيقة هناك تنوعات هائلة في السيرة النبوية، ويكاد يكون من المستحيل أن تجمع كل السيرة النبوية في فترة المدينة المنورة في مجموعة واحدة أو مجموعتين أو ثلاث أو أكثر، سنظل نتكلم سنين كثيرة في السيرة النبوية، ومهما تكلم المتكلمون قبل ذلك ستجد جديداً في السيرة النبوية؛ لأن السيرة النبوية كنز لا ينتهي عجائبه، كما تقرأ القرآن الكريم فأنت في كل فترة تأتي بجديد وبإضافة في فقه آية أو في فهم معنى، ويبدع المفسّرون في تفسير بعض الآيات كل سنة، مع أن لنا تقريباً (1400) سنة ونحن نفسر القرآن الكريم، كذلك في السيرة النبوية كلما تقرأ حدثاً قد تطلع منه على جديد، وكتب السيرة التي تُطبع في هذا الوقت بعد (1400) سنة من التدقيق والتحليل والدراسة للسيرة النبوية ما زالت تخرج لنا جديداً.

    إذاً: السيرة النبوية إعجاز وترتيب دقيق جداً من رب العالمين سبحانه وتعالى، وضع الله عز وجل فيها كل المتغيرات والأحداث، التي من الممكن أن تحدث في الأرض وإلى يوم القيامة؛ لكي يقيم حجته على البشر في قوله سبحانه وتعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21] ففي كل مواقف الحياة تستطيع أن تجد سنة حسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ولهذا في مجموعة المدينة هذه لن نستطيع بأي حال من الأحوال أن نتناول جميع الأمور بالترتيب، سنُغفل بعضها، ونحيل هذه الأمور إلى مجموعات أخرى من المحاضرات والدروس.

    على سبيل المثال سنجعل مجموعة نسميها: الرسول صلى الله عليه وسلم وحل مشكلات العالم. نتناول فيها كيف حل الرسول عليه الصلاة والسلام مشكلة البطالة، ومشكلة الأمية، ومشكلة الزواج المتأخر، ومشكلة الفقر، ومشكلة اللاجئين.. مشاكل كثيرة جداً مرت بالأمة الإسلامية، حلها الرسول عليه الصلاة والسلام بطريقة علمية عملية واضحة، نستطيع أن نقلدها بمنتهى السهولة لو درسنا السيرة النبوية.

    وسوف نجعل أيضاً مجموعة من المحاضرات إن شاء الله نسميها: الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطاء المؤمنين. وسنجمع فيها أخطاء المؤمنين التي وقعوا فيها في فترة المدينة أو في فترة مكة، وهذه الأخطاء في الحقيقة تحتاج منا إلى دراسة متأنية وتحليل لكل خطأ كيف حدث؟ وكيف خرج منه المسلمون؟ وفي الحقيقة تأخذ مساحات كبيرة جداً من الوقت في التحليل والدراسة؛ ولهذا سنحاول أن نخرج هذه الأخطاء قدر المستطاع دون الإخلال بترتيب الأحداث وبفقه المعاني في داخل الفترة النبوية في المدينة المنورة، ونجمع كل هذه الأخطاء في مجموعة: الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطاء المؤمنين.

    ومن المجموعات مجموعة: بناء الدولة الشاملة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام البناء الاقتصادي، البناء السياسي، البناء العسكري، البناء القضائي، البناء الرياضي، فالرسول عليه الصلاة والسلام كوَّن دولة شاملة بترتيبات دقيقة جداً وقانون محكم، كل هذا يحتاج إلى تفصيلات لا نستطيع أن نتحدث عنها كلها في هذه المجموعة.

    إجمالاً فترة المدينة المنورة بصفة عامة لها سمات تميزها عن فترة مكة المكرمة، ففترة مكة تستطيع أن تقول: إنها فترة بناء الفرد المسلم الصالح المؤمن بربه، والمؤمن برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، المعتقد بالبعث والحساب يوم القيامة، ودخول الجنة أو النار، كانت بناءً للأواصر القوية بين الجماعة المسلمة الصغيرة جداً، كانت فترة تجنب للاستئصال قدر المستطاع، فمرة عن طريق التخفي، ومرة أخرى عن طريق تجنب الصراع بكل وسيلة ممكنة، ومرة عن طريق الهجرة، فالهجرة إلى الحبشة كانت مرتين، والثالثة كانت للمدينة المنورة.

    أما فترة المدينة المنورة فكانت فترة بناء للأمة الإسلامية بكل ما تعنيه الكلمة، فإذا كنا في فترة مكة نبني أفراداً، ففي فترة المدينة المنورة نبني دولة كاملة قوية بكل ما تحتاجه الدولة من مؤسسات.

    وهذه القضية شاقة عسيرة، لكن بدأها الرسول عليه الصلاة والسلام بصبر، وبدأ معه المؤمنون في هذا البناء الكبير.

    هذه قضية بناء أمة بكل الأصول والتفريعات، فنحن عندما نريد تأسيس شركة كبرى من لا شيء أمر صعب، فكيف ببناء أمة؟!

    إن قصة البناء هذه من معجزات الإسلام؛ لأنه لم تقم أمة في هذا التوقيت بهذا المعدل السريع والبناء القوي والعمق الحضاري المذهل إلا في أمة الإسلام، فبعض الدول قامت بسرعة، لكنها سرعان ما وقعت، ولم تترك خلفها أي تراث حضاري يُذكر، فعندما تريد المقارنة بين قيام أمة الإسلام وبين قيام أمة التتار تجد أن أمة التتار أيضاً قامت بسرعة، وانتشرت انتشاراً هائلاً في الأرض، لكن أين تراث التتار الآن؟ أين الميراث الحضاري لهذه الدولة؟ انتهت بالكامل، بل على العكس دخلت دولة التتار التي كانت تحتل مساحات شاسعة من العالم الإسلامي في الإسلام؛ لأن دين الله عز وجل يختلف كلية عن كل قوانين البشر الوضعية، دين غالب قاهر لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

    لا شك أن بناء هذه الأمة واجه تحديات هائلة، تحديات داخل المدينة المنورة وخارج المدينة المنورة، داخل الجزيرة العربية وخارج الجزيرة العربية، تحديات في كل جوانب الحياة، سلاسل متتالية من الصراع، ومن أزمة إلى أزمة أخرى، ومن مشكلة إلى مشكلة أكبر، ومع ذلك تم بناء الأمة الإسلامية.

    هذه ليست حكمة بشرية فقط من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه أحكم البشر وأعلم الخلق صلى الله عليه وسلم، لكن هذا وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، فهو منهج إلهي صادق بنى الأمة بهذا الإعجاز الواضح وبهذا التوقيت المعجز، ففي غضون عشر سنوات فقط أصبحت دولة المدينة المنورة دولة معترفاً بها في العالم، لها قوة، ولها مكانة، ولها سفراء، ولها مراسلات إلى كل بقاع العالم، ولها لقاءات حربية صارمة وقوية مع قوى العالم في ذلك الوقت.

    تجربة رائعة حقاً تستحق الدراسة، بل تجب دراسة هذه التجربة، هذا هو الدين الإسلامي حقيقة، الدين الإسلامي ليس مجرد صلاة وصوم وقيام ليل وذكر، الدين الإسلامي منظومة متكاملة تحكم حياة الأفراد والمجتمعات، بل وحياة الأرض بصفة عامة، إذ يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] فقد تعلمنا في فترة المدينة المنورة كيف يكون المحيا لله عز وجل في كل جزئية من جزئيات الحياة.

    فترة مكة كان أيضاً يطبق على المسلمين، لكن المسلمين لم تكن عندهم تشريعات ولا دولة، ولم تكن عندهم سياسة واقتصاد وقضاء، هذه الأمور لم تكن واضحة تمام الوضوح؛ لأن المسلمين كانوا عبارة عن جماعة صغيرة جداً مضطهدة ومعذبة ومشردة، لكن الدستور الإسلامي وضح تمام الوضوح في فترة المدينة المنورة.

    ومع كون المحلل للأحداث يجد أن فترة بناء الأمة تبدو في ظاهرها أصعب من فترة مكة التي هي بناء الأفراد، إلا أنني أقول: إن الفترتين كانت على مستوى واحد من الأهمية تقريباً، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون هناك أمة إسلامية قوية بغير تربية مكة، ولن تفهم فترة المدينة مطلقاً بدون الرجوع إلى فترة مكة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088951208

    عدد مرات الحفظ

    780087498