إسلام ويب

سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الأولىللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عادة ما تتطلب الدعوات وهي تعيش على المحك بين حياتها وموتها إلى قرار صعب يقلب الموازين لصالحها، ومن هذا الباب اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه قرار الهجرة إلى الحبشة، ذلك البلد البعيد الذي يحكمه ملك عادل، أمر بالهجرة أشراف أصحابه؛ لضمان سلامتهم، وحسن استقبالهم، ومن أجل إنصات الناس هناك في الحبشة لدعوتهم.
    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فمع الدرس الثامن من دروس السيرة النبوية المطهرة.

    تحدثنا عن أساليب الكفار في صد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين عن طريق الدعوة والإسلام، وعن ثبات المؤمنين وصبرهم على التعذيب الشديد الذي حدث في أرض مكة في بيت الله الحرام، حيث تفرغ الكفار لحرب المؤمنين، وبدا واضحاً أن النية هي الاستئصال للطائفة الوحيدة التي تعبد الله حق العبادة على الأرض.

    مسئولية ضخمة تقع على عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتْباعه: أن يصلوا بهذا الدين إلى أهل الأرض جميعاً، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لكم خاصة وللناس عامة)، وقد اشتد التعذيب بالمؤمنين في مكة، وكاد المسلمون أن يستأصلوا بالكلية، حينها يظهر حل عملي لإنقاذ الدعوة من الهلاك، وهو نوع من الأخذ بالأسباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخطط تخطيطاً بشرياً لإنقاذ الدعوة ولإنقاذ المؤمنين.

    كان من الممكن أن ينقذ الله عز وجل حبيبه ومن معه من المؤمنين بكلمة (كن) فيكون، أو ينقذهم بمعجزة خارقة للعادة، ولكن ليست هذه سنة الله عز وجل في التغيير، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نأخذ بالأسباب الواقعية التي كانت في يده كبشر، وهي في أيدينا الآن كبشر، ففكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسيلة جديدة لمجابهة طغاة مكة، ولم يكن في مقدور المؤمنين آنذاك أن يقاتلوا المشركين، فقد نهاهم الله عز وجل عن ذلك بقوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:106].

    الهجرة إلى الحبشة للمحافظة على الدعوة

    كانت الوسيلة الجديدة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هي الهجرة من أرض مكة إلى أرض أخرى جديدة ليس فيها تعذيب أو إيذاء أو استئصال للدعوة.

    هذه خطوة تكتيكية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبقتها إشارات جاءت في كتاب الله عز وجل، فقد أنزل الله عز وجل سورة الزمر، وكان فيها: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].

    إذاً: أرض الله واسعة، وأعظم قطعة في الأرض هي القطعة التي يعبد فيها الله عز وجل، لا تفضل قطعة أخرى بأنهار أو أشجار أو أموال أو أهل وعشيرة، إنما الأرض الصالحة الطيبة هي الأرض التي يعبد فيها الله عز وجل، لذلك فكر المسلمون في ترك أشرف بقعة على الأرض مكة البيت الحرام إلى غيرها؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعبدوا الله عز وجل كما يريدون في مكة، فليكن غيرها، المهم أن نعبد الله عز وجل دون أن نفتن في ديننا.

    والهجرة وترك الديار والعشيرة ليس أمراً سهلاً، فالقرار صعب، ويحتاج إلى نفوس خاصة، ولابد أن نأخذ في الاعتبار أنهم لا يهاجرون من بلد إلى بلد لتحسين مستوى المعيشة، أو لجمع أموال ليست في بلادهم، أو لتحصيل علم ليس في مدينتهم، أو للحياة في مكان جميل، لا، بل هم يتركون بلادهم وقد استقرت أوضاعهم فيها لولا قضية الدعوة، سيتركونها إلى بلد آخر قد يكون فقيراً بعيداً حاراً أو بارداً مجهولاً، كل هذا لا لشيء إلا لعبادة الله عز وجل.

    تخيل بمقياس الحاضر رجلاً يعيش في استقرار في بلد محبوب إلى قلبه، وأوضاعه مستقرة، ثم هو يقرر الهجرة إلى بلد آخر؛ لكي يعبد الله عز وجل بعد أن ضيق عليه في بلده.

    لو كان سيهاجر إلى بلد أعظم رفاهية وأكثر أموالاً، لكن هذا أسهل، لكن أن يهاجر إلى بلد لا تهفو النفوس إليه عادة، فهو يحتاج إلى جهاد عظيم للنفس؛ ولذلك عظم الله أجر الهجرة عندما تكون في سبيله، فقال تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج:58-59].

    لم يهاجر المؤمنون سعياً وراء الرزق، ولكن في ظاهر الأمر أنهم سيفتقدون الرزق؛ لأنهم سيتركون أعمالهم ويهاجرون إلى بلد قد لا يتوافر فيه عمل مناسب، فوعدهم الله عز وجل بالرزق الحسن في الجنة، فإنه على أسوأ الفروض في حسابات البشر سيقتل المهاجرون أو يموتون، فالله عز وجل يعد -ووعده الحق- أنهم لو قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً، بالإضافة إلى أنه قد علم المؤمن أن رزقه في الدنيا لن ينقص، وسيأتيه رغماً عن أنفه في بلده أو خارج بلده، في ظروف أو في ظروف أخرى وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22].

    إذاً: نقف وقفة نحلل فيها، ونحاول الإجابة على سؤال هام: هل قرر المسلمون الهجرة للحفاظ على الدعوة أم الدعاة؟

    قد تكون الفروق بين الإجابتين طفيفة، لكن عند التدقيق في الأمر نجد أن الفرق كبير جداً، هل يضحى بالدعوة من أجل الحفاظ على الدعاة، أم يضحى بالدعاة من أجل الحفاظ على الدعوة؟

    واقع الأمر أن أهم شيء في حياة المؤمن هو الدين، والمقصد الأول من المقاصد التي جاء الشرع لحمايتها هو الدين، ومن أجله يضحى بكل شيء.

    إذاً: يبذل المؤمنون أرواحهم للدفاع عن الدين، لكن لا يبذل المؤمنون دينهم للحفاظ على أرواحهم، بل يحض الله عز وجل المؤمنين على بذل أرواحهم حفاظاً على دينهم إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111].

    إذاً: السبب الأول في الهجرة التي قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو حماية الدعوة، بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يجعل للدعوة محضناً آخر غير مكة، بحيث إذا استؤصل الدعاة في مكة تبقى طائفة أخرى في مكان آخر لاستمرار الدعوة.

    إذاً: لم يكن السبب الأول في الهجرة هو الحفاظ على أرواح الدعاة، وإن كان هذا أمراً هاماً، ويؤيد هذا الرأي أن الرسول عليه الصلاة والسلام قرر أن يهاجر الصحابة رضوان الله عليهم للحفاظ على الدعوة لا على الدعاة، والذين طلب منهم أن يهاجروا كانوا من القرشيين، ولم تطلب الهجرة من الذين كانوا عبيداً، إنما هاجر القوم الذين يتمتعون بعصبية وقبلية، هاجر الأشراف أصحاب المنعة، ولم يهاجر الموالي والمستضعفون، ولو كان الهدف الأول هو حماية الأرواح لكان الأولى أن يهاجر هؤلاء الضعفاء.

    سبب هجرة أشراف مكة من الصحابة إلى الحبشة

    نقول: لماذا هاجر الأشراف دون البسطاء؟

    أولاً: هذا أدعى لحماية المهاجرين، فأمر الهجرة أمر خطير، قد تطارد مكة فوج المهاجرين، بل بالتأكيد ستطاردهم، وفي لحظات الغضب والغيظ قد يتهور أهل مكة ويقتلون المهاجرين المطاردين، وبالذات لو كانوا من العبيد، أما إذا كانوا من الأشراف فإن عملية الهجرة ستصبح أقل خطورة، حيث إنه لو تم الإمساك بهم فسيحملونهم إلى مكة، ولن يفكروا في قتلهم لقوة قبائلهم.

    ثانياً: أن الأشراف أقدر على التأثير في أهل البلد الذي سيهاجرون إليه؛ لأن من طبائع البشر أنه إذا تكلم الشريف سمعوا له وأنصتوا، وإذا تكلم الضعيف لم ينتبه له، والغرض هو إيصال كلمات الدعوة إلى آذان البلد المضيف، وعرض الأمر بأفضل الصور، وسيستقبل المهاجرون في هذه الحالة على أنهم وفد سياسي محترم معارض لسياسة مكة، بدلاً من أن يستقبلوا كمجموعة من العبيد الآبقين من أسيادهم.

    ثالثاً: هجرة الأشراف ستؤدي إلى هزة اجتماعية خطيرة في مكة، ستفيق أهل مكة على خطورة أفعالهم، فهؤلاء المؤمنون المطاردون هم من خيرة أهل البلد، ومن أكثر الناس سعياً لإصلاحها، ومن أعرق البيوت، ومن أشرف الناس، وها هم يغادرون البلد؛ لأنهم لم يجدوا فيها أماناً، ما أبشع فعل أهل الباطل، وما أشنع جريمتهم، أهؤلاء هم الذين يطردون؟ أهؤلاء هم الذين يفتنون في دينهم؟ فهجرة الأشراف ستكون صدمة لأهل مكة قد ينتبهون على أثرها إلى خطئهم الفادح في حق المهاجرين وفي حق بلدهم، أما إذا هاجر المستضعفون فلا ضير، أليسوا عبيداً تركوا البلد؟ فلنأت بعبيد آخرين، هكذا سيفكر الطغاة، إذ ليس هناك اعتبار للآدمية أو الإنسانية.

    إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدفع المشركين دفعاً إلى تحريك عواطفهم وقلوبهم؛ لإدراك مدى الجريمة التي يفعلونها مع المؤمنين في صدهم عن دين الله عز وجل، لهذه الأسباب هاجر الأشراف ولم يهاجر الضعفاء.

    إذاً: الملاحظة الأولى: هي هجرة الأشراف، والتي تشير إلى أن الهدف الأول من الهجرة لم يكن حماية الأرواح ولكن حماية الدعوة والدين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088964742

    عدد مرات الحفظ

    780198971