إسلام ويب

سلسلة الأندلس سقوط الأندلسللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تولى بنو الأحمر حكم مملكة غرناطة، وكان أول حكامهم هو محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر الذي عقد معاهدة مع ملك قشتالة فرناندو الثالث وقدم له فيها بعض التنازلات التي تدل على ضعف المسلمين في تلك الحقبة التاريخية، وقد كانت هنالك بعض الأسباب التي أدت إلى عدم غزو ملك قشتالة لغرناطة، وقد استعان محمد بن يوسف الأحمر بيعقوب المنصور المريني الذي استطاع هزيمة النصارى في معركة الدونونية، ثم حصلت بعد ذلك خلافات ونزاعات وأطماع أدت إلى سقوط غرناطة واحتلالها.
    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فاليوم نفتح الصفحة الأخيرة من صفحات تاريخ الأندلس: من الفتح إلى السقوط.

    بالأمس القريب وقفنا على تداعيات سقوط دولة الموحدين، وهزيمتهم في موقعة العقاب، وسقوط مدن المسلمين الواحدة تلو الأخرى حتى سقطت قرطبة حاضرة الإسلام وعاصمة الخلافة الأموية، وهكذا لم تبق في بلاد الأندلس إلا ولايتان كبيرتان نسبياً: ولاية غرناطة، وهي تقع في الجنوب الشرقي من بلاد الأندلس، وتمثل حوالي (15%) من أرض الأندلس، وولاية إشبيلية في الجنوب الغربي من بلاد الأندلس، وتمثل حوالي (10%) من بلاد الأندلس، وهاتان الولايتان فقط هما اللتان بقيتا من بلاد الأندلس بعد هذا الانهيار المروع في هذه البلاد العظيمة.

    وذكرنا أيضاً في الدرس السابق أن المسلمين استمروا في بلاد الأندلس لمدة أكثر من (250) سنة بعد هذا الانهيار الكبير، وهذه علامة استفهام هامة جداً لا بد أن يقف أمامها المسلمون.

    ففي سنة (643هـ) سقطت جيان آخر المدن التي تحدثنا عن سقوطها في الدرس السابق، وفي تلك السنة يطلب فرناندو الثالث ملك قشتالة من ابن الأحمر الذي يتزعم مملكة غرناطة في الجنوب الشرقي من البلاد أن يعقد معه معاهدة، يضمن له فيها بعض الحقوق، ويأخذ عليه بعض الواجبات، لكن قبل أن نتحدث عن هذه المعاهدة نذكر من هو ابن الأحمر؟

    هو محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر وينتهي نسبه إلى سعد بن عبادة الخزرجي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن شتان بين محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر وبين سعد بن عبادة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وسمي ابن الأحمر؛ لأن لون شعره كان أحمر، ولم يكن هذا اسماً له، بل كان لقباً، وكان هذا اللقب له ولأبنائه من بعده حتى نهاية فترة حكمهم لمنطقة غرناطة.

    المعاهدة التي تمت بين محمد بن يوسف بن الأحمر وملك قشتالة

    عقد محمد بن يوسف بن الأحمر أو محمد الأول عقد معاهدة مع ملك قشتالة كان فيها:

    أولاً: أنه يدفع الجزية لملك قشتالة، وهذا يدل على مدى التهاوي في حال الأمة الإسلامية، فقد كانت دولة الموحدين تسيطر على أطراف كثيرة جداً في بلاد الأندلس، وعلى أماكن كثيرة جداً في إفريقيا، لكن ما حدث بعد السقوط هو أن ملك غرناطة يدفع الجزية لملك قشتالة وهي (150) ألف دينار ذهب كل سنة.

    ثانياً: أن يحضر بلاطه كأحد ولاته على البلاد.

    ثالثاً: أن يحكم غرناطة باسم ملك قشتالة علناً.

    رابعاً: أن يسلّمه ما بقي من حصون جيّان وأرجونة وغرب الجزيرة الخضراء حتى طرف الغار، وتقع كلها في غرب غرناطة، وبذلك يسلم ابن الأحمر مواقع بمنتهى الخطورة لـفرناندو الثالث ملك قشتالة تحيط بغرناطة.

    خامساً: أن يساعده في حروبه ضد أعدائه إذا احتاج له، فأول حرب يدخل فيها ملك قشتالة بعد هذه المعاهدة هي الحرب ضد إشبيلية، فطلب من ابن الأحمر أن يساعده في فتح إشبيلية فيسمع ويطيع، فجهز ابن الأحمر فرسان المسلمين، وذهبوا في مقدمة جيوش قشتالة ليحاصروا إشبيلية سنة وخمسة شهور، وهذا أمر في منتهى العجب، وهو أن ابن الأحمر وجيش غرناطة وشعبها يحاصرون مدينة إشبيلية المسلمة المجاورة، التي كانت مجرد محافظة أو مدينة مع مدينة غرناطة في دولة واحدة هي دولة الأندلس، لكن انظر إلى الانهيار الكبير جداً في أخلاق القادة والشعوب، شعب تحرك ولم يتأثر لحصار إخوانه المسلمين الموجودين هناك في مدينة إشبيلية.

    يستغيث أهل إشبيلية بكل من حولهم، فالمغرب مشغولة بالثورات الداخلية، وبنو مرين يصارعون الموحدين في داخل المغرب، وغرناطة تحاصر إشبيلية، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وفي (27) رمضان في سنة (646هـ) بعد (17) شهر تسقط إشبيلية بأيدي المسلمين ومن عاونهم من النصارى، ويغادر أهل إشبيلية البلاد وعددهم أربعمائة ألف مسلم يهجّرون ويشرّدون من إشبيلية، فتسقط إشبيلية ثاني أكبر مدينة في الأندلس، تلك المدينة ذات التاريخ المجيد والعمران العظيم، أعظم ثغور الجنوب، ومن أقوى حصون الأندلس، لكن واحسرتاه على المسلمين تُفتح حصونهم وتدمّر قوتهم بأيدي المسلمين..

    وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونا

    وأصبح لا يرى في الركب قوم وقد عاشوا أئمته سنينا

    وآلمني وآلم كل حر سؤال الدهر أين المسلمونا؟

    المسلمون يحاصرون المسلمين، والمسلمون يقتلون المسلمين، والمسلمون يشردون المسلمين، هذا كان واقع هذه البلاد في سنة (646هـ) تختفي إشبيلية إلى الأبد من على الخارطة الإسلامية، والذي فيها مسجد إشبيلية الكبير، الذي أسسه يعقوب المنصور الموحدي بعد انتصار الأرك الخالد بغنائم الأرك، والذي صار إلى اليوم كنيسة يعلق فيها الصليب ويُعبد فيها المسيح، بعد أن كانت ثغراً من أعظم ثغور الإسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    وهكذا لم تبق في سنة (646هـ) في بلاد الأندلس بلاد مسلمة إلا غرناطة وما حولها من القرى والمدن، فهي تمثل (15%) من أرض الأندلس، وتضم ثلاث ولايات متحدة سوياً: ولاية غرناطة، وولاية ملقة، وولاية ألمرية، وهي جميعاً تحت حكم ابن الأحمر، وإن كان هناك شيء من الاستقلال في داخل كل ولاية.

    السبب في عدم غزو ملك قشتالة لغرناطة

    السبب في عقد فرناندو الثالث معاهدة مع ابن الأحمر أمير غرناطة، ولم يحتلها كما احتل المدن الأخرى هو ما يلي:

    الأمر الأول: في الواقع أن غرناطة في ذلك الوقت كان فيها كثافة سكانية عالية جداً، تستعصي على جيوش النصارى أن يدخلوها، فقد كانت تسقط المدينة من بلاد الأندلس على يد النصارى، الذين كانوا ينهجون نهجاً واحداً إما القتل وإما التشريد والطرد من البلاد، فكان كلما طُرد المسلمون من بلادهم اتجهوا إلى الجنوب الشرقي من البلاد، فتجمع كل أهل الأندلس المسلمين في منطقة غرناطة في الجنوب الشرقي من البلاد، فأصبح فيها كثافة ضخمة جداً، لا تستطيع قوات النصارى أن تدخل إلى هذه المناطق الكثيفة.

    الأمر الثاني: الحصون المنيعة، فقد كان فيها حصون كثيرة جداً كانت تحيط بمنطقة غرناطة وألمرية وملقة.

    الأمر الثالث: أن مدينة غرناطة في الجنوب الشرقي للأندلس كانت تقع على البحر الأبيض المتوسط بالقرب من بلاد المغرب العربي، وقد قامت في بلاد المغرب العربي نواة دولة إسلامية جديدة هي دولة بني مرين، وكانت دولة سنية تقوم على التقوى، وكانت تساعد من حين إلى آخر بلاد غرناطة، ولذلك استطاعت بلاد غرناطة أن تقف على أقدامها ولو قليلاً في مواجهة فرناندو الثالث ومن معه من النصارى في مملكة قشتالة، لذلك وافق فرناندو الثالث على هذه المعاهدة، لكنها كانت معاهدة مخزية جداً؛ لأن ملك غرناطة كان يدفع فيها الجزية، ويحارب مع ملك قشتالة، ويقضي معه العهود ألا يحاربه يوماً من الأيام، ومع كون هذه المعاهدة تقوم على أساس التعاون والتصالح بين الفريقين، إلا أنه بين كل عام وآخر كان فرناندو الثالث وغيره من ملوك النصارى يخونون العهد دائماً مع ابن الأحمر، ويحتلون بعض المدن منه، فيحاول ابن الأحمر أن يرد تلك البلاد فلا يُفلح؛ فيعاهدهم من جديد على أن يترك لهم حصناً أو حصنين أو مدينة أو مدينتين ويتركوه حاكماً على البلاد يحكم باسمهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    إذاً: غرناطة لم تؤسس على التقوى، بل أسسها ابن الأحمر على شفا جرف هار معتمداً على صليبي لا عهد له ولا أمانة، قال تعالى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100].

    أسباب استعانة ابن الأحمر أمير غرناطة بالمنصور المريني على ملك قشتالة

    قضى ابن الأحمر معاهدات مع ملك قشتالة من سنة (643هـ - 671هـ)، لكن في سنة (671هـ) بدأ ملك قشتالة ألفونسو العاشر بالمخالفة الصريحة للمعاهدة، فبدأ في تجهيز جيوش كبيرة ينوي بها دخول غرناطة لإنهاء الوجود الإسلامي تماماً في بلاد الأندلس، فوجد ابن الأحمر نفسه في مأزق؛ لأنه عاهد من لا عهد له، فنظر إلى بني مرين الدولة التي قامت على أنقاض دولة الموحدين، وقد سقطت دولة الموحدين سقوطاً كاملاً في سنة (668هـ)، وقام بحكم المرينيين رجل اسمه يعقوب المنصور المريني ، واسمه نفس اسم الرجل الآخر الذي تحدثنا عنه في دولة الموحدين وهو يعقوب المنصور الموحدي لذلك نضيف كلمة المريني لتفريقه عن ذلك الرجل السابق، وكلاهما على شاكلة واحدة، وكلاهما من عظماء المسلمين، ومن أكابر القواد في تاريخ المسلمين، وقد وصف المؤرخون يعقوب المنصور المريني بقولهم: كان صوّاماً قوّاماً، دائم الذكر كثير الفكر، لا يزال في أكثر نهاره ذاكراً، وفي أكثر ليله قائماً يصلي، مكرماً للصلحاء، كثير الرأفة والحنين على المساكين، متواضعاً في ذات الله تعالى لأهل الدين، متوقفاً في سفك الدماء، كريماً جواداً، وكان مظفراً منصور الراية، ميمون النقيبة، لم تُهزم له راية قط، ولم يُكسر له جيش، ولم يغز عدواً إلا قهره، ولا لقي جيشاً إلا هزمه ودمّره، ولا قصد بلداً إلا فتحه، كان رحمه الله خطيباً مفوهاً يؤثر في نفوس جنوده، شجاعاً مقداماً يبدأ الحرب بنفسه.

    فهذه صفات عظيمة جداً، لا بد أن يقف معها المسلمون كثيراً، والوقت لا يتسع إلى دراسة كل هذه الصفات، ويجب أن يأخذ المسلمون العبرة من هؤلاء الفاتحين المجاهدين العظماء.

    فيستعين محمد بن الأحمر الأول ببني مرين، وبالفعل يأتي بنو مرين ويصدون هجوم النصارى، فقد تعودت بلاد الأندلس لأكثر من حوالي مائتي سنة أن تستورد النصر من خارجها، فمرة تستورده من المرابطين، ومرة من الموحدين، ومرة من بني مرين..، وهكذا لا تقوم للمسلمين قائمة في بلاد الأندلس إلا على أكتاف غيرهم من بلاد المغرب العربي وما حولها من البلاد.

    إذاً: هذه البلاد التي قامت على أكتاف غيرها لا يستقيم لها الأمر، ولا تستكمل النصر، ولا تستحق الحياة، ولا يستقيم أبداً أن تنفق الأموال الضخمة في غرناطة في بناء قصر الحمراء من أعظم قصور الأندلس، ليكون قصراً لحكم ابن الأحمر وهو محاصر من جيوش النصارى، ولا يستقيم له أبداً أن ينشئ الجنان الكثيرة، والتي هي أكثر من (300) حديقة ضخمة جداً في غرناطة، ويُطلق على كل حديقة جنة من سعة هذه الحديقة وكثرة الثمار والأشجار.. وما إلى ذلك من نعيم الدنيا، ولا يستقيم له أبداً أن ينفق هذا الإنفاق والبلاد محاصرة من جيوش النصارى، وعندما يأتي وقت الجهاد يذهب ويستعين بالمجاهدين من البلاد المجاورة.

    لكن على كل حال أتى بنو مرين واستطاعوا أن يردوا الهجوم النصراني، لكن في سنة (671هـ) مات محمد بن الأحمر الأول وقد قارب الثمانين من عمره، واستخلف على الحكم ابنه محمد بن محمد بن يوسف بن الأحمر الملقب بـالفقيه ؛ لأنه كان صاحب علم غزير وفقه عميق، والحمد لله فقد ذهب الرجل الذي عقد معاهدات الخيانة والتسليم، وجاء رجل صاحب علم وفقه ولُقّب بـمحمد الفقيه.

    تولية محمد بن محمد بن الأحمر على غرناطة بعد وفاة أبيه واستعانته ببني مرين على النصارى في معركة الدونونية وغيرها

    معظم أمراء بني الأحمر كان اسمهم محمداً، فـمحمد الملقّب بـالفقيه لما تولى الأمور ونظر في أمر البلاد، وجد أن قوة المسلمين في بلاد الأندلس لا تستطيع أن تبقى في مواجهة قوة النصارى، فإن ألفونسو العاشر لما مات محمد بن الأحمر الأول ظن أن البلاد قد تهاوت فأسرع بالمخالفة من جديد وبالهجوم على أطراف غرناطة، فاستعان محمد بن الأحمر الثاني الملقّب بـالفقيه بـيعقوب المنصور المريني رحمه الله في سنة (673هـ)، فجهز المنصور جيشاً قوامه خمسة آلاف مقاتل، وكان هو قائد الجيش، ووصل مع جيشه إلى بلاد الأندلس وانضم إليه خمسة آلاف مقاتل من غرناطة، فالتقى المسلمون مع الصليبيين، خارج غرناطة بالقرب من قرطبة، وعدد المسلمين عشرة آلاف مقاتل، بينما عدد النصارى تسعون ألفاً من الصليبيين على رأسهم رجل من أكبر قواد مملكة قشتالة يُدعى دون ننيو ديلارا، والموقعة التي دارت بين المسلمين والصليبيين في ذلك المكان عُرفت بموقعة الدونونية نسبة إلى دون ننيو ديلارا الذي كان يقود قوات قشتالة في تلك الموقعة، تمت هذه الموقعة في سنة (674هـ)، وقاد جيوش المسلمين المنصور المريني رحمه الله، وأخذ يحفّز الناس على القتال، وكان مما قاله في خطبته الشهيرة: ألا وإن الجنة قد فتحت لكم أبوابها، وزينت سورها وأترابها، فبادروا إليها وجدوا في طلابها، وابذلوا النفوس في أفنانها، ألا وإن الجنة تحت ظلال السيوف، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] فاغتنموا هذه التجارة الرابحة، وسارعوا إلى الجنة بالأعمال الصالحة، فمن مات منكم مات شهيداً، ومن عاش رجع إلى أهله سالماً غانماً مأجوراً حميداً، فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، فعانق الناس بعضهم بعضاً للوداع وبكوا جميعاً، وسبحان الله! وإذا بهذا العدد القليل وبهذه القيادة وبهؤلاء الرجال الذين أتوا من بلاد المغرب حقق المسلمون انتصاراً باهراً عظيماً، وقُتل من النصارى ستة آلاف وأُسر ثمانية آلاف، وقُتل دون ننيو قائد قشتالة في تلك الموقعة، وغنم المسلمون غنائم هائلة لا تحصى، فما انتصر المسلمون منذ موقعة الأرك في سنة (591هـ) إلا في موقعة الدونونية سنة (674هـ)، ثم انقسم جيش المسلمين بعد تلك الموقعة إلى نصفين: نصف توجه إلى جيّان وعلى رأسه ابن الأحمر ففتح جيان وانتصر عليهم، ونصف اتجه إلى إشبيلية وعلى رأسه المنصور فإذا به يحاصر إشبيلية ويصالح أهلها على الجزية، سبحان الله! رجل يحاصر إشبيلية بخمسة آلاف فقط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نُصرت بالرعب مسيرة شهر) وهذا يدل على صلاح الرجال والجيوش.

    وفي سنة (677هـ) -أي: بعد ثلاث سنوات من تلك الموقعة- ينقض أهل إشبيلية العهد، فيذهب إليهم يعقوب المريني رحمه الله ويصالحونه من جديد على الجزية، بعد أن تُحاصر فترة من الزمان، ثم بعد ذلك يتجه إلى قرطبة ويحاصرها فترضخ له من جديد، فيحرر قرطبة وإشبيلية وجيّان، وهذا كله وعدد جيشه لا يزيد عن خمسة آلاف مقاتل، فهذا الأمر يستحق وقفات طويلة، وهذا الأمر ليس بمستغرب في التاريخ الإسلامي، بل المستغرب أن يُهزم جيش الناصر لدين الله من قبل في موقعة العقاب، وكان عدد المقاتلين خمسمائة ألف مسلم؛ لأنهم اعتمدوا على قوتهم ولم يعتمدوا على الله سبحانه وتعالى، فهذه سنن تتكرر في التاريخ ولنا فيها عبرة.

    ينتصر المريني كل هذه الانتصارات، ويجمع غنائم لا حصر لها، ثم في منتهى الورع والزهد يُعطي كل الغنائم لأهل غرناطة ويعود إلى بلاد المغرب ولا يأخذ معه شيئاً، انظروا إلى التاريخ كيف يكرر نفسه، فقد فعل نفس فعل يوسف بن تاشفين رحمه الله بعد موقعة الزلاقة، فهؤلاء هم الرجال المنصورون.

    موقف محمد بن الأحمر الفقيه من المنصور المريني حينما صار حاكماً على ألمرية

    مات حاكم ولاية ألمرية وتولى من بعده على حكم ألمرية ابنه وقد كان شاباً، ولما رأى أفعال يعقوب المنصور المريني وانتصاراته المتعددة أُعجب به إعجاباً كبيراً، فعرض عليه أن يحكم ألمرية، فوافق يعقوب المنصور المريني على ذلك فخلّف فيها رحمه الله قوة بسيطة من المسلمين تبلغ من العدد (3000) رجل واستجلب (3000) رجل آخرين من بلاد المغرب، ووضعهم في جزيرة طريف حتى يكونوا مدداً قريباً لبلاد الأندلس إذا احتاجوا إليها في حربهم ضد النصارى، ثم عاد إلى بلاد المغرب.

    نظر محمد بن الأحمر الفقيه إلى ما فعله حاكم ألمرية من إعطاء ولاية ألمرية لـيعقوب المنصور المريني، فأوجس ابن الأحمر، في نفسه خيفة، ففكر ولسان حاله يقول: إن في التاريخ لعبرة، لقد استعان المعتمد على الله بن عباد ملك الطوائف بـيوسف بن تاشفين فأخذ البلاد وضمها إلى دولة المرابطين، وها هو الآن يعقوب المريني يأخذ مدينة طريف وألمرية إن في التاريخ لعبرة! لا بد أن أقف موقفاً حتى لا تضم بلاد الأندلس إلى دولة بني مرين، فهذا هو الفكر الذي كان عليه هذا الرجل الذي لقّبوه بـالفقيه وما هو بفقيه.

    فلم تكن له طاقة لمحاربة يعقوب المنصور المريني ولا لشعبه ولا لجيشه ولا لحصونه، فاستعان بملك قشتالة لطرد يعقوب المنصور المريني من جزيرة طريف، بعد أن انتصر على النصارى في موقعتين شهيرتين في التاريخ: الدونونية وما تلاها في سنة (677هـ) وفتح إشبيلية وقرطبة وجيّان، فأتى ملك قشتالة بجيشه وأساطيله فحاصر طريف من ناحية، وحاصرها من الناحية الأخرى ابن الأحمر الفقيه، فعلم بذلك يعقوب المنصور المريني رحمه الله فعاد من جديد بسرعة إلى جزيرة طريف، وجهز الجيوش والأساطيل وحارب النصارى في موقعة كبيرة في سنة (677هـ) وانتصر عليهم، ففروا إلى الشمال، فوجد ابن الأحمر نفسه في مواجهة يعقوب المنصور المريني ، فأظهر الندم والاعتذار والأسباب غير المقبولة، فعفا عنه يعقوب المنصور المريني رحمه الله وتاب عليه وأعاده إلى حكمه.

    ومن جديد يأتي يعقوب المنصور المريني في سنة (684هـ) ليساعد ابن الأحمر في حرب جديدة ضد النصارى، هكذا وهب يعقوب المنصور المريني حياته للجهاد في سبيل الله وللدفاع عن دين الله، وفي هذه الموقعة ينتصر المسلمون على النصارى ويعقدون معهم عهداً، واشترط عليهم شروطاً فلم يطلب منهم مالاً ولا قصوراً ولا جاهاً، لكن طلب منهم أن يأتوا له بكتب المسلمين الموجودة في قرطبة وإشبيلية وطليطلة.. وغيرها من البلاد، وبالفعل أتوا له بكميات ضخمة جداً من كتب المسلمين، وهذا هو الذي حفظ تراث الأندلس إلى الآن، وما زالت في مكتبة فاس في المغرب إلى هذه اللحظة، فهذا يدل على علو المقاصد والهمم عند يعقوب المنصور المريني رحمه الله.

    موقف ابن الأحمر الفقيه مع يوسف بن المنصور المريني بعد توليه حكم بني مرين

    في سنة (685هـ) بعد هذه الموقعة يموت الحاكم العظيم المنصور رحمه الله ويخلفه يوسف بن المنصور على إمارة بني مرين، ويذهب ابن الأحمر الفقيه بسرعة إلى ابن المنصور يعرض عليه ما شاء من أرض الأندلس، ويعرض عليه الولاء والطاعة، ويقدم له ما يريد، فطلب يوسف بن المنصور رحمه الله أن يأخذ الجزيرة الخضراء وطريف حتى تكون قاعدة له في حرب النصارى، وهدأت الأمور نسبياً هناك في غرناطة، لكن لما أخذ يوسف بن المنصور الجزيرة الخضراء وطريف حرك هذا الأمر الوساوس من جديد في قلب ابن الأحمر الملقّب بـالفقيه ، فذهب مرة أخرى إلى النصارى، واستعان بهم من جديد على حرب يوسف بن المنصور لرد طريف من بني مرين، فأتى بالفعل جيش النصارى، وحاصر طريف، لكن في هذه المرة استطاع الجيش النصراني أن يسقط طريف، وكان الاتفاق بين النصارى وبين الفقيه ابن الأحمر أنهم إذا أخذوا جزيرة طريف من بني مرين أن يعطوها إلى ابن الأحمر ، لكن بعد أن أخذها النصارى لم يعيدوها له، وهكذا خانوا العهد معه وحدثت الجريمة الكبرى والخيانة العظمى وسقطت طريف، التي كانت تطل على مضيق جبل طارق، وبذلك انقطعت بلاد المغرب عن بلاد الأندلس لوجود قوة كبيرة للنصارى تقع في طريف على الطريق بين بلاد الأندلس وبلاد المغرب، فانقطع المدد من بلاد المغرب إلى بلاد الأندلس.

    تولية محمد الثالث الأحمر الملقب بالأعمش لبلاد غرناطة بعد وفاة والده

    في سنة (701هـ) يموت ابن الأحمر الفقيه ويتولى من بعده محمد الثالث الذي كان يلقّب بـالأعمش ، وقد كان رجلاً ضعيفاً جداً، وتولى الأمور في عهده الوزير أبو عبد الله بن الحكيم وما هو بحكيم، فقد سيطر على الأمور تماماً في بلاد غرناطة، وكان على شاكلة من سبقه في مراسلة ملك قشتالة والتحالف معه، ثم لم يكتف بذلك، لكنه زاد على السابقين له في هذه المحالفة بأن فعل أفعالاً عجيبة، فجهّز جيشاً وذهب به إلى دولة بني مرين واحتل منها سبتة حتى يقوي شأنه في مضيق جبل طارق، بل وفعل ما هو أشد من ذلك، فراسل رجلاً من بني مرين ليقوم بانقلاب ضد يوسف بن المنصور وأمده بسلاح، فوافق الرجل على ذلك، فهو يريد أن يُزعزع الحكم في بني مرين ويعتمد تماماً على ملك قشتالة في الحكم، وهذا غباء منقطع النظير، وأمر لا يقره عقل ولا دين، لكن هذا ما حدث.

    كانت النتيجة أنه بعد ذلك بأعوام قليلة سقط جبل طارق على يد الصليبيين، وعُزلت بالكلية بلاد الأندلس عن بلاد المغرب، وهكذا تُركت غرناطة لمصيرها المحتوم، فبلاد غرناطة وحُكام غرناطة وشعبها اعتمدوا منذ سنوات طويلة على استيراد النصر من بلاد المغرب، أما الآن فقد انقطع النصر الذي يأتي من بلاد المغرب، وخيانات كثيرة جداً مع بلاد المغرب لا تُعطي لهم الأمان في مساعدة هؤلاء، وهكذا تُركوا لحالهم ولشأنهم، وكان هذا في سنة (709هـ) لما سقط جبل طارق في يد الصليبيين.

    موقف ملوك بني الأحمر مع ملوك قشتالة ما بين سنة 709هـ إلى سنة 897هـ

    ما بين سنة (709هـ - 897هـ) أي: قرابة المائتي سنة والحال في بلاد غرناطة معاهدات متتالية من أبناء الأحمر ملوك غرناطة مع ملك قشتالة، وتسليم جزية وخزي وعار سنوات طويلة لكن لم تسقط، والذي حفظ هذه البلاد من السقوط لمدة مائتي سنة من غير وجود مدد من بلاد المغرب، أنه كان خلاف كبير جداً يدور بين مملكتي قشتالة وأراجون المملكتين النصرانيتين في شمال غرناطة، فقد كانتا تتصارعان سوياً، والمعروف أن كل مملكة منهما صارت مملكة ضخمة كبيرة على أنقاض الدولة الإسلامية في بلاد الأندلس، وأصبحت قوة غرناطة قوة هزيلة جداً لا ينظرون إليها، فقد انشغلوا بأنفسهم وتركوا المسلمين.

    ففي هذه المدة الطويلة كانت غرناطة على عهد واحد من الخمول والدعة والركون والمعاهدات المخزية مع النصارى، وهنالك أسباب غيّرت الأحوال وجعلت بلاد الأندلس تسقط بالكلية، ويلتفت إليها النصارى بعد أن شُغلوا عنها بحروبهم.

    الخلافات بين الغالب بالله الأحمر وأخيه الزغل وأثرها في سقوط الأندلس

    في سنة (871هـ) أي: قبل السقوط بحوالي (26) سنة، كان يحكم غرناطة في ذلك الوقت رجل اسمه محمد بن سعد بن إسماعيل بن الأحمر الملقّب بـالغالب بالله ، وكان له أحد الإخوة اسمه أيضاً محمد ويُعرف بـأبي عبد الله محمد الملقّب بـالزغل ، أي: الشجاع، ولكن الأخوين اختلفا على الحكم، وتصارعا في مملكة غرناطة الهزيلة الضعيفة المحاطة في الشمال بمملكتي قشتالة وأراجون، فاستعان أبو عبد الله محمد الزغل بملك قشتالة لأجل أن يحارب أخاه الغالب بالله ، وبالفعل تمت الاستعانة ودارت موقعة بين الأخوين، ثم اصطلحا على تقسيم غرناطة، فصار الجزء الشمالي منها والذي هو ولاية غرناطة الرئيسية تحت حكم الغالب بالله ، والجزء الجنوبي والذي هو ولاية ملقة تحت حكم الزغل وهكذا انقسمت غرناطة إلى قسمين.

    وفي سنة (774هـ)، أي: بعد هذا التقسيم بثلاثة أعوام يحدث حدث خطير جداً في الأندلس، وهو زواج فرناندو الثالث ملك أراغون.. وهو غير فرديناند الثالث ملك قشتالة أيام محمد بن الأحمر الأول ، فيتزوج من إيزابيلا وريثة عرش قشتالة، وبعد هذا الزواج اصطلحت الدولتان: دولة أراجوان مع دولة قشتالة، وبعد خمس سنوات من زواجهما توحدت المملكتان في مملكة واحدة هي مملكة إسبانيا، وكان ذلك في سنة (879هـ) وكانت هذه بداية النهاية لغرناطة، وأقسم الملكان فرديناند الثالث وإيزابيلا على ألا يعقدا عُرساً إلا في قصر الحمراء، قصر الرئاسة الموجود في غرناطة، فهذا يدل على قوة العزم الذي جهّزوه لبلاد المسلمين، أما بلاد غرناطة في ذلك الوقت في سنة (879هـ) فقد كانت منقسمة إلى شطرين أو قسمين: قسم مع الزغل وقسم مع الغالب بالله ، أما حال الشعب فقد عم فيهم الترف والدعة والخمول والغناء والخمور في ذلك الوقت، فماذا ننتظر بعد تلك الأمور؟

    ظهور الخلاف بين أبي عبد الله الصغير وأبيه الغالب بالله وعمه الزغل وأثر ذلك في سقوط الأندلس

    كان الغالب بالله حاكم غرناطة متزوجاً من امرأة اسمها عائشة عُرفت في التاريخ بـعائشة الحرة وكانت له جارية نصرانية اسمها الثريا، ففتن بها جداً وغرق في عشقها، وأنجبت له ولداً اسمه يحيى، وأثّرت عليه حتى جعلت يحيى هو وريث عرش غرناطة، والمؤهل للحكم رسمياً هو ابن عائشة الحرة الذي هو محمد أبو عبد الله ، الملقب بـالصغير تفريقاً بينه وبين عمه أبو عبد الله محمد الذي هو الزغل ، فقد كان أصغر من عمه في سنه وفي مقامه.

    والذي حصل في بلاد غرناطة أن الغالب بالله حتى يضمن ولاية العهد لـيحيى ابنه من ثريا الجارية النصرانية قام بحبس ابنه الآخر أبي عبد الله محمد الصغير وحبس عائشة في قصر كبير، وقيّد حركتهما تماماً، وكثير من الشعب يأبون أن يقوم بالحكم رجل أمه جارية نصرانية، فقد كانوا مؤيدين لـأبي عبد الله محمد الصغير أن يكون وريثاً لعرش أبيه بعد عمر طويل، فاستطاع الشعب تخليص الأم والابن من السجن، وقام أبو عبد الله محمد الصغير بثورة على أبيه، وتولى الحكم في بلاد غرناطة، وطرد أباه من بلاد غرناطة إلى الجنوب، فذهب الأب إلى أخيه الزغل في ملقة، وهكذا قُسِّمت البلد من جديد إلى قسمين، وكما يقولون: هم يضحّك وهم يبكّي، فانقسمت غرناطة إلى قسمين: قسم عليه الصغير في غرناطة، وقسم عليه الزغل وتحت حمايته أخوه الغالب بالله ، فاستغل ملك إسبانيا فرديناند الثالث الموقف، وبدأ يهاجم حصون غرناطة؛ لأن هناك خلافاً وانشقاقاً داخل البلد، وبدأ يحاربه الصغير ، وكانت هناك معاهدات بين الغالب بالله وبين ملك إسبانيا، لكن الصغير كان مخالفاً لنهج الغالب بالله، فقامت بينه وبين ملك إسبانيا حرب، فأُسر من قبل ملك إسبانيا، فاستطاع الزغل أن يضم غرناطة إلى أملاكه، فأصبحت غرناطة مملكة واحدة من جديد تحت إمارة الزغل والغالب بالله أبي محمد الصغير ، وبعد سنة مات الغالب بالله همّاً وكمداً من الذي حدث في البلاد، لكن هذا ما جنته عليه نفسه.

    وعرض الزغل على ملك إسبانيا أن يسترد الصغير بأموال كثيرة لكن ملك إسبانيا رفض، فهو يفكّر في لعبة خطيرة جداً، فقد تعاقد مع الصغير وكان عمره (25) سنة، على أن يمكّن له في حكم بلاد غرناطة، بشرط أن يطرد منها الزغل بالكلية، وذلك بأن يشعل ثورة في شمال غرناطة، وملك إسبانيا يحاصر بجيشه ملقة من الجنوب، فبذلك تصبح غرناطة بين فكي كماشة، فإذا أتى الزغل إلى الجنوب لمحاربة ملك إسبانيا في ملقة فإن الصغير يدخل غرناطة ويسيطر عليها، فإذا تمكن النصارى من الاستيلاء على ملقة فإنها ستصير ملكاً لـمحمد الصغير ويصبح حاكماً على غرناطة باسم ملك إسبانيا، فوافق الصغير وسار بجيشه إلى شمال غرناطة، واتجه ملك إسبانيا فرديناند الثالث بجيوشه إلى ملقة، وتوجه الزغل سريعاً إلى ملقة لحرب النصارى هناك، لكنه لم يستطع مقاومتهم واستطاع النصارى أن يأخذوا ملقة منه، فعاد مسرعاً إلى غرناطة فوجدها في يد الصغير، فانطلق إلى شرق غرناطة إلى واد يسمى: وادي آش، واستقل بها وأخذها وأقام فيها جزءاً من مملكته، فصارت غرناطة كل وقت تتقلص وتتقسم نصفين، فهناك جزء في الشرق اسمه وادي آش على رأسه الزغل ، وجزء الذي هو غرناطة على رأسه الصغير، وجزء الذي هو ملقة أخذه ملك إسبانيا، ومن المفروض أنه يرجعه للصغير فقد طلب من ملك إسبانيا أن يعيد له ملقة كما اتفقا، فقال له ملك إسبانيا: إن أنا سحبت جيوشي من هذه البلاد أتى الزغل وأخذها، فأنا سوف أُبقي جيوشي لحمايتك ثم أخذ ملقة، ثم مرت شهور واسترق أهل ملقة جميعاً، ولم يرع المعاهدة التي تمت بينه وبين الصغير، لكن هذا ديدنهم وهذه هي طبيعتهم، قال تعالى: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:10]، فـالصغير معه ولاية غرناطة، وملقة في يد ملك إسبانيا، ثم انطلق ملك إسبانيا من ملقة إلى ألمرية وهي على ساحل البحر المتوسط واحتلها في سنة (895هـ)، ومنها توجه إلى وادي آش الذي هو بيد الزغل فأخذه منه، فهرب الزغل إلى تونس وترك البلاد بما فيها من المسلمين، وهكذا يفعل ملوك ذلك الزمان، وهكذا حوصرت مدينة غرناطة وقرى غرناطة ومزارع غرناطة بجيوش الصليبيين من كل مكان، أحاطوها من الشرق ومن الغرب ومن الشمال ومن الجنوب، هكذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة منكم من قلوب أعدائكم، وليلقين في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).

    هكذا تداعت ملوك النصارى حول مملكة غرناطة الصغيرة والضعيفة جداً في ذلك الوقت، وحاصروها وأحرقوا القرى والمزارع حول حصونها، وطلبوا من الصغير أن يسلم مفاتيح المدينة، وكان ذلك في سنة (895هـ) قبل السقوط بعامين، فشعر الصغير أن ما حدث كان خلافاً لما يتوقعه، فالذي كان يتوقعه ويعتقده أن بينه وبين ملك إسبانيا ولاء وتحالفات وعهود، لكن الذي حدث هو أنهم ما أبقوه على كرسيه كما وعدوه، فهم يطالبونه أن ينطلق ويترك بلاد غرناطة ليتولى أمرها النصارى في ذلك الوقت، ففكر الصغير فيجد أنه لا حل له إلا أن يحاربهم، ولو أنه سمع لهم وأطاع ترك البلاد وترك الحكم لهم، وهذا ما لا يريده فبعد تفكير طويل وجدال مع وزرائه اقتنع بأنه يجب أن يدافع عن البلد، لكن طبيعة الصغير ومن معه من جيشه ومن وزرائه الحاكمة لا يستطيعون أبداً أن يحاربوا أو يدافعوا.

    انتفاضة موسى بن أبي غسان ضد الصليبيين في الأندلس وتسليم أبي عبد الله الصغير غرناطة للنصارى

    قامت في بلاد غرناطة في ذلك الوقت انتفاضة إسلامية قوية جداً بقيادة موسى بن أبي غسان وحرك الجهاد في قلوب الناس، وبدأ يحمّسهم على الموت في سبيل الله، وعلى الدفاع، فتحرك الشعب ليدافع عن غرناطة، وضلوا في دفاعهم طيلة سبعة أشهر كاملة، والمسلمون يدافعون عن حصون غرناطة ضد الهجمات الصليبية الشرسة، والصغير ينظر إلى تلك الأمور ويتفرج عليها وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً، ويتمنى أن يجد حلاً أو مخرجاً فلا يجد، لكن بعد سبعة أشهر من هذه الأمور يحدث أمر جديد، وهو أن يُرسل فرديناند الثالث وإيزابيلا رسالة إلى الصغير يطلبان منه فيها أن يسلم غرناطة، على أن يعطوه شروطاً كثيرة جداً تضمن له ولقومه ولجيشه الأمان، فقد أعطوه في تلك الرسالة أكثر من سبعين شرطاً يضمن له البقاء، فتترك المساجد ولا تدخل الديار، ويطلق الأسرى، وتؤمّن الأعراض والأموال، ويوضع الصغير كأحد الوزراء المعاونين لملك إسبانيا، لكن موسى بن أبي غسان الذي قاد الانتفاضة هناك في بلاد غرناطة في ذلك الوقت فهم مغزى الرسالة، من أنها محاولة من النصارى لوقف الانتفاضة ووقف الدفاع عن البلاد، ووقف الحمية للجهاد، ووقف حمية الناس للموت في سبيل الله، لكن الصغير وجدها حلاً مناسباً للخروج من المأزق، فهو لا يريد أن يجاهد ولا يريد أن يحارب، بل يريد أن يبقى حياً ولو في ذل، فوافق الصغير على المعاهدة، ولكنه اشترط لنفسه شرطين، لأجل أن يؤمن نفسه من خيانة النصارى، الشرط الأول: أن يقسم على هذه العهود فرديناند وإيزابيلا فأقسما على هذا الأمر.

    الشرط الثاني: أن يحكّم هيئة معينة تضمن تطبيق هذه المعاهدة، وهو البابا في إيطاليا، فوقع البابا على هذه المعاهدة، فسلم الصغير مفاتيح غرناطة، وأوقف حركة الجهاد في البلد في مقابل أن يعطوه الأمان، بعد أن وقع له بابا روما وأقسم على تلك العهود فردنياند وإيزابيلا .

    ففهم موسى بن أبي غسان رحمه الله هذا الأمر ووقف في قصر الحمراء، وقال: إن النصارى لا عهد لهم، ثم خطب خطبة مهيبة قال فيها: لا تخدعوا أنفسكم ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم، إن الموت أقل ما نخشى، فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجور الفاحش والتعصب الوحشي، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنفاق والمحارق، هذا ما سوف نعاني من مصائب بدلاً من الموت الشريف، أما أنا فوالله لن أرى كل هذا الذل، وسأموت الموت الشريف، وغادر المجلس وذهب إلى بيته ولبس سلاحه وركب جواده وانطلق يقابل سرية من سرايا النصارى، وكان عددهم خمسة عشر رجلاً فقتل معظمهم ثم قتل في سبيل الله، وهذا ما نسميه اليوم بالعملية الاستشهادية، وكان مقتل موسى بن أبي غسان وتسليم الصغير مفاتيح غرناطة إيذاناً بانتهاء عصر الدولة الإسلامية في مملكة غرناطة خاصة والأندلس عامة، فأعطى الصغير الموافقة للملكين فرناندو الثالث وإيزابيلا بدخول غرناطة، وأرسل لهم بعض الهدايا، ودخل الملكان القصر الكبير قصر الحمراء ومعهما الرهبان، وكان أول ما فعل أن علّق صليباً فضياً كبيراً فوق برج القصر الأعلى، وأُعلن من فوق البرج أن غرناطة أصبحت ملكاً لملكي الكاثوليكيين، وأن حكم المسلمين قد انتهى من بلاد الأندلس، وخرج أبو عبد الله محمد الصغير من القصر الملكي، وسار بعيداً في اتجاه المغرب ووصل إلى ربوة عالية تطل على قصر الحمراء يتطلع إلى القصر والمهد القديم، فلم يستطع أن يتمالك نفسه فانفجر بالبكاء حتى بللت دموعه لحيته، فقالت أمه عائشة الحرة: أجل، فلتبك كالنساء ملكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال.

    وهذا التل الذي وقف عليه أبو عبد الله محمد الصغير ما زال موجوداً في إسبانيا، وما زال الناس يذهبون إليه يتفرجون على هذا الملك الذي أسسه الأجداد، ويُعرف هذا التل في إسبانيا بزفرة العربي الأخيرة، وكان بكاء أبي عبد الله محمد الصغير لما ترك ملكه في (2) ربيع الأول سنة (897هـ) الموافق (2) يناير سنة (1492م)، ثم هاجر أبو عبد الله محمد الصغير إلى بلاد المغرب، وهناك اعتقله ملك المغرب بتهمة الخيانة لبلاد المسلمين ووضعه في سجنه، وكما يقول المؤرخون: إن أولاد محمد الصغير صاروا بعد سنوات يشحذون في شوارع المغرب، وهذا من نتائج الذل وترك الجهاد، فلقد اندثرت حضارة الدنيا والدين ما عرفت أوروبا مثلها من قبل، وارتفع علم النصرانية فوق سطح الإسلام المغلوب، وطويت صفحة خالدة، وليت شعري أين موسى بن نصير ؟ وأين طارق بن زياد ؟ وأين يوسف بن تاشفين ؟ وأين عبد الرحمن الناصر ؟ وعبد الرحمن الداخل ؟ وأين أبو بكر بن عمر اللمتوني ؟ وأين يعقوب المنصور الموحدي ثم المريني؟ أين هؤلاء..؟

    لا حول ولا قوة إلا بالله.

    هل استمر النصارى على عهودهم مع المسلمين بعد أن ترك البلاد أبو عبد الله محمد الصغير البلاد؟

    لا والله ما فعلوا، هكذا ديدنهم، كما قال تعالى عنهم: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:8]، فقد تنكروا لكلامهم وأغفلوا شروطهم السبعين، وأهانوا المسلمين بشدة، وصادروا أموالهم، ثم في سنة (1501م) بعد تسع سنوات من سقوط غرناطة أصدر الملكان فرديناند الثالث وإيزابيلا أمراً خلاصته: إن الله قد اختارهما لتخليص الأندلس من الكفرة، يقصدان بذلك المسلمين، ولذلك يحظر وجود المسلمين في بلاد الأندلس، ويُعاقب من يخالف ذلك بالموت، فهجر المسلمون بلاد الأندلس بالكلية إلى المغرب وإلى الجزائر وإلى تونس.. وغيرها من بلاد المسلمين، وتنصر آخرون كي يعيشوا في بلاد الأندلس في ظل حكم النصارى الأسبان، أما الأسبان فلم يتركوهم حتى دون إهانة، بل سموهم بالمورسكيين احتقاراً وتصغيراً لهم، والمورسكي تصغير للنصراني، أي: ليس نصرانياً من الدرجة الأولى، وقام رئيس الأساقفة الأسباني بحرق ثمانين ألف كتاب إسلامي في يوم واحد من مكتبة قرطبة وإشبيلية وغرناطة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089196229

    عدد مرات الحفظ

    782685817