بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فاليوم نفتح الصفحة الأخيرة من صفحات تاريخ الأندلس: من الفتح إلى السقوط.
بالأمس القريب وقفنا على تداعيات سقوط دولة الموحدين، وهزيمتهم في موقعة العقاب، وسقوط مدن المسلمين الواحدة تلو الأخرى حتى سقطت قرطبة حاضرة الإسلام وعاصمة الخلافة الأموية، وهكذا لم تبق في بلاد الأندلس إلا ولايتان كبيرتان نسبياً: ولاية غرناطة، وهي تقع في الجنوب الشرقي من بلاد الأندلس، وتمثل حوالي (15%) من أرض الأندلس، وولاية إشبيلية في الجنوب الغربي من بلاد الأندلس، وتمثل حوالي (10%) من بلاد الأندلس، وهاتان الولايتان فقط هما اللتان بقيتا من بلاد الأندلس بعد هذا الانهيار المروع في هذه البلاد العظيمة.
وذكرنا أيضاً في الدرس السابق أن المسلمين استمروا في بلاد الأندلس لمدة أكثر من (250) سنة بعد هذا الانهيار الكبير، وهذه علامة استفهام هامة جداً لا بد أن يقف أمامها المسلمون.
ففي سنة (643هـ) سقطت جيان آخر المدن التي تحدثنا عن سقوطها في الدرس السابق، وفي تلك السنة يطلب فرناندو الثالث ملك قشتالة من ابن الأحمر الذي يتزعم مملكة غرناطة في الجنوب الشرقي من البلاد أن يعقد معه معاهدة، يضمن له فيها بعض الحقوق، ويأخذ عليه بعض الواجبات، لكن قبل أن نتحدث عن هذه المعاهدة نذكر من هو ابن الأحمر؟
هو محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر وينتهي نسبه إلى سعد بن عبادة الخزرجي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن شتان بين محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر وبين سعد بن عبادة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسمي ابن الأحمر؛ لأن لون شعره كان أحمر، ولم يكن هذا اسماً له، بل كان لقباً، وكان هذا اللقب له ولأبنائه من بعده حتى نهاية فترة حكمهم لمنطقة غرناطة.
أولاً: أنه يدفع الجزية لملك قشتالة، وهذا يدل على مدى التهاوي في حال الأمة الإسلامية، فقد كانت دولة الموحدين تسيطر على أطراف كثيرة جداً في بلاد الأندلس، وعلى أماكن كثيرة جداً في إفريقيا، لكن ما حدث بعد السقوط هو أن ملك غرناطة يدفع الجزية لملك قشتالة وهي (150) ألف دينار ذهب كل سنة.
ثانياً: أن يحضر بلاطه كأحد ولاته على البلاد.
ثالثاً: أن يحكم غرناطة باسم ملك قشتالة علناً.
رابعاً: أن يسلّمه ما بقي من حصون جيّان وأرجونة وغرب الجزيرة الخضراء حتى طرف الغار، وتقع كلها في غرب غرناطة، وبذلك يسلم ابن الأحمر مواقع بمنتهى الخطورة لـفرناندو الثالث ملك قشتالة تحيط بغرناطة.
خامساً: أن يساعده في حروبه ضد أعدائه إذا احتاج له، فأول حرب يدخل فيها ملك قشتالة بعد هذه المعاهدة هي الحرب ضد إشبيلية، فطلب من ابن الأحمر أن يساعده في فتح إشبيلية فيسمع ويطيع، فجهز ابن الأحمر فرسان المسلمين، وذهبوا في مقدمة جيوش قشتالة ليحاصروا إشبيلية سنة وخمسة شهور، وهذا أمر في منتهى العجب، وهو أن ابن الأحمر وجيش غرناطة وشعبها يحاصرون مدينة إشبيلية المسلمة المجاورة، التي كانت مجرد محافظة أو مدينة مع مدينة غرناطة في دولة واحدة هي دولة الأندلس، لكن انظر إلى الانهيار الكبير جداً في أخلاق القادة والشعوب، شعب تحرك ولم يتأثر لحصار إخوانه المسلمين الموجودين هناك في مدينة إشبيلية.
يستغيث أهل إشبيلية بكل من حولهم، فالمغرب مشغولة بالثورات الداخلية، وبنو مرين يصارعون الموحدين في داخل المغرب، وغرناطة تحاصر إشبيلية، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وفي (27) رمضان في سنة (646هـ) بعد (17) شهر تسقط إشبيلية بأيدي المسلمين ومن عاونهم من النصارى، ويغادر أهل إشبيلية البلاد وعددهم أربعمائة ألف مسلم يهجّرون ويشرّدون من إشبيلية، فتسقط إشبيلية ثاني أكبر مدينة في الأندلس، تلك المدينة ذات التاريخ المجيد والعمران العظيم، أعظم ثغور الجنوب، ومن أقوى حصون الأندلس، لكن واحسرتاه على المسلمين تُفتح حصونهم وتدمّر قوتهم بأيدي المسلمين..
وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونا
وأصبح لا يرى في الركب قوم وقد عاشوا أئمته سنينا
وآلمني وآلم كل حر سؤال الدهر أين المسلمونا؟
المسلمون يحاصرون المسلمين، والمسلمون يقتلون المسلمين، والمسلمون يشردون المسلمين، هذا كان واقع هذه البلاد في سنة (646هـ) تختفي إشبيلية إلى الأبد من على الخارطة الإسلامية، والذي فيها مسجد إشبيلية الكبير، الذي أسسه يعقوب المنصور الموحدي بعد انتصار الأرك الخالد بغنائم الأرك، والذي صار إلى اليوم كنيسة يعلق فيها الصليب ويُعبد فيها المسيح، بعد أن كانت ثغراً من أعظم ثغور الإسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهكذا لم تبق في سنة (646هـ) في بلاد الأندلس بلاد مسلمة إلا غرناطة وما حولها من القرى والمدن، فهي تمثل (15%) من أرض الأندلس، وتضم ثلاث ولايات متحدة سوياً: ولاية غرناطة، وولاية ملقة، وولاية ألمرية، وهي جميعاً تحت حكم ابن الأحمر، وإن كان هناك شيء من الاستقلال في داخل كل ولاية.
الأمر الأول: في الواقع أن غرناطة في ذلك الوقت كان فيها كثافة سكانية عالية جداً، تستعصي على جيوش النصارى أن يدخلوها، فقد كانت تسقط المدينة من بلاد الأندلس على يد النصارى، الذين كانوا ينهجون نهجاً واحداً إما القتل وإما التشريد والطرد من البلاد، فكان كلما طُرد المسلمون من بلادهم اتجهوا إلى الجنوب الشرقي من البلاد، فتجمع كل أهل الأندلس المسلمين في منطقة غرناطة في الجنوب الشرقي من البلاد، فأصبح فيها كثافة ضخمة جداً، لا تستطيع قوات النصارى أن تدخل إلى هذه المناطق الكثيفة.
الأمر الثاني: الحصون المنيعة، فقد كان فيها حصون كثيرة جداً كانت تحيط بمنطقة غرناطة وألمرية وملقة.
الأمر الثالث: أن مدينة غرناطة في الجنوب الشرقي للأندلس كانت تقع على البحر الأبيض المتوسط بالقرب من بلاد المغرب العربي، وقد قامت في بلاد المغرب العربي نواة دولة إسلامية جديدة هي دولة بني مرين، وكانت دولة سنية تقوم على التقوى، وكانت تساعد من حين إلى آخر بلاد غرناطة، ولذلك استطاعت بلاد غرناطة أن تقف على أقدامها ولو قليلاً في مواجهة فرناندو الثالث ومن معه من النصارى في مملكة قشتالة، لذلك وافق فرناندو الثالث على هذه المعاهدة، لكنها كانت معاهدة مخزية جداً؛ لأن ملك غرناطة كان يدفع فيها الجزية، ويحارب مع ملك قشتالة، ويقضي معه العهود ألا يحاربه يوماً من الأيام، ومع كون هذه المعاهدة تقوم على أساس التعاون والتصالح بين الفريقين، إلا أنه بين كل عام وآخر كان فرناندو الثالث وغيره من ملوك النصارى يخونون العهد دائماً مع ابن الأحمر، ويحتلون بعض المدن منه، فيحاول ابن الأحمر أن يرد تلك البلاد فلا يُفلح؛ فيعاهدهم من جديد على أن يترك لهم حصناً أو حصنين أو مدينة أو مدينتين ويتركوه حاكماً على البلاد يحكم باسمهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إذاً: غرناطة لم تؤسس على التقوى، بل أسسها ابن الأحمر على شفا جرف هار معتمداً على صليبي لا عهد له ولا أمانة، قال تعالى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100].
فهذه صفات عظيمة جداً، لا بد أن يقف معها المسلمون كثيراً، والوقت لا يتسع إلى دراسة كل هذه الصفات، ويجب أن يأخذ المسلمون العبرة من هؤلاء الفاتحين المجاهدين العظماء.
فيستعين محمد بن الأحمر الأول ببني مرين، وبالفعل يأتي بنو مرين ويصدون هجوم النصارى، فقد تعودت بلاد الأندلس لأكثر من حوالي مائتي سنة أن تستورد النصر من خارجها، فمرة تستورده من المرابطين، ومرة من الموحدين، ومرة من بني مرين..، وهكذا لا تقوم للمسلمين قائمة في بلاد الأندلس إلا على أكتاف غيرهم من بلاد المغرب العربي وما حولها من البلاد.
إذاً: هذه البلاد التي قامت على أكتاف غيرها لا يستقيم لها الأمر، ولا تستكمل النصر، ولا تستحق الحياة، ولا يستقيم أبداً أن تنفق الأموال الضخمة في غرناطة في بناء قصر الحمراء من أعظم قصور الأندلس، ليكون قصراً لحكم ابن الأحمر وهو محاصر من جيوش النصارى، ولا يستقيم له أبداً أن ينشئ الجنان الكثيرة، والتي هي أكثر من (300) حديقة ضخمة جداً في غرناطة، ويُطلق على كل حديقة جنة من سعة هذه الحديقة وكثرة الثمار والأشجار.. وما إلى ذلك من نعيم الدنيا، ولا يستقيم له أبداً أن ينفق هذا الإنفاق والبلاد محاصرة من جيوش النصارى، وعندما يأتي وقت الجهاد يذهب ويستعين بالمجاهدين من البلاد المجاورة.
لكن على كل حال أتى بنو مرين واستطاعوا أن يردوا الهجوم النصراني، لكن في سنة (671هـ) مات محمد بن الأحمر الأول وقد قارب الثمانين من عمره، واستخلف على الحكم ابنه محمد بن محمد بن يوسف بن الأحمر الملقب بـالفقيه ؛ لأنه كان صاحب علم غزير وفقه عميق، والحمد لله فقد ذهب الرجل الذي عقد معاهدات الخيانة والتسليم، وجاء رجل صاحب علم وفقه ولُقّب بـمحمد الفقيه.
وفي سنة (677هـ) -أي: بعد ثلاث سنوات من تلك الموقعة- ينقض أهل إشبيلية العهد، فيذهب إليهم يعقوب المريني رحمه الله ويصالحونه من جديد على الجزية، بعد أن تُحاصر فترة من الزمان، ثم بعد ذلك يتجه إلى قرطبة ويحاصرها فترضخ له من جديد، فيحرر قرطبة وإشبيلية وجيّان، وهذا كله وعدد جيشه لا يزيد عن خمسة آلاف مقاتل، فهذا الأمر يستحق وقفات طويلة، وهذا الأمر ليس بمستغرب في التاريخ الإسلامي، بل المستغرب أن يُهزم جيش الناصر لدين الله من قبل في موقعة العقاب، وكان عدد المقاتلين خمسمائة ألف مسلم؛ لأنهم اعتمدوا على قوتهم ولم يعتمدوا على الله سبحانه وتعالى، فهذه سنن تتكرر في التاريخ ولنا فيها عبرة.
ينتصر المريني كل هذه الانتصارات، ويجمع غنائم لا حصر لها، ثم في منتهى الورع والزهد يُعطي كل الغنائم لأهل غرناطة ويعود إلى بلاد المغرب ولا يأخذ معه شيئاً، انظروا إلى التاريخ كيف يكرر نفسه، فقد فعل نفس فعل يوسف بن تاشفين رحمه الله بعد موقعة الزلاقة، فهؤلاء هم الرجال المنصورون.
نظر محمد بن الأحمر الفقيه إلى ما فعله حاكم ألمرية من إعطاء ولاية ألمرية لـيعقوب المنصور المريني، فأوجس ابن الأحمر، في نفسه خيفة، ففكر ولسان حاله يقول: إن في التاريخ لعبرة، لقد استعان المعتمد على الله بن عباد ملك الطوائف بـيوسف بن تاشفين فأخذ البلاد وضمها إلى دولة المرابطين، وها هو الآن يعقوب المريني يأخذ مدينة طريف وألمرية إن في التاريخ لعبرة! لا بد أن أقف موقفاً حتى لا تضم بلاد الأندلس إلى دولة بني مرين، فهذا هو الفكر الذي كان عليه هذا الرجل الذي لقّبوه بـالفقيه وما هو بفقيه.
فلم تكن له طاقة لمحاربة يعقوب المنصور المريني ولا لشعبه ولا لجيشه ولا لحصونه، فاستعان بملك قشتالة لطرد يعقوب المنصور المريني من جزيرة طريف، بعد أن انتصر على النصارى في موقعتين شهيرتين في التاريخ: الدونونية وما تلاها في سنة (677هـ) وفتح إشبيلية وقرطبة وجيّان، فأتى ملك قشتالة بجيشه وأساطيله فحاصر طريف من ناحية، وحاصرها من الناحية الأخرى ابن الأحمر الفقيه، فعلم بذلك يعقوب المنصور المريني رحمه الله فعاد من جديد بسرعة إلى جزيرة طريف، وجهز الجيوش والأساطيل وحارب النصارى في موقعة كبيرة في سنة (677هـ) وانتصر عليهم، ففروا إلى الشمال، فوجد ابن الأحمر نفسه في مواجهة يعقوب المنصور المريني ، فأظهر الندم والاعتذار والأسباب غير المقبولة، فعفا عنه يعقوب المنصور المريني رحمه الله وتاب عليه وأعاده إلى حكمه.
ومن جديد يأتي يعقوب المنصور المريني في سنة (684هـ) ليساعد ابن الأحمر في حرب جديدة ضد النصارى، هكذا وهب يعقوب المنصور المريني حياته للجهاد في سبيل الله وللدفاع عن دين الله، وفي هذه الموقعة ينتصر المسلمون على النصارى ويعقدون معهم عهداً، واشترط عليهم شروطاً فلم يطلب منهم مالاً ولا قصوراً ولا جاهاً، لكن طلب منهم أن يأتوا له بكتب المسلمين الموجودة في قرطبة وإشبيلية وطليطلة.. وغيرها من البلاد، وبالفعل أتوا له بكميات ضخمة جداً من كتب المسلمين، وهذا هو الذي حفظ تراث الأندلس إلى الآن، وما زالت في مكتبة فاس في المغرب إلى هذه اللحظة، فهذا يدل على علو المقاصد والهمم عند يعقوب المنصور المريني رحمه الله.
كانت النتيجة أنه بعد ذلك بأعوام قليلة سقط جبل طارق على يد الصليبيين، وعُزلت بالكلية بلاد الأندلس عن بلاد المغرب، وهكذا تُركت غرناطة لمصيرها المحتوم، فبلاد غرناطة وحُكام غرناطة وشعبها اعتمدوا منذ سنوات طويلة على استيراد النصر من بلاد المغرب، أما الآن فقد انقطع النصر الذي يأتي من بلاد المغرب، وخيانات كثيرة جداً مع بلاد المغرب لا تُعطي لهم الأمان في مساعدة هؤلاء، وهكذا تُركوا لحالهم ولشأنهم، وكان هذا في سنة (709هـ) لما سقط جبل طارق في يد الصليبيين.
ففي هذه المدة الطويلة كانت غرناطة على عهد واحد من الخمول والدعة والركون والمعاهدات المخزية مع النصارى، وهنالك أسباب غيّرت الأحوال وجعلت بلاد الأندلس تسقط بالكلية، ويلتفت إليها النصارى بعد أن شُغلوا عنها بحروبهم.
وفي سنة (774هـ)، أي: بعد هذا التقسيم بثلاثة أعوام يحدث حدث خطير جداً في الأندلس، وهو زواج فرناندو الثالث ملك أراغون.. وهو غير فرديناند الثالث ملك قشتالة أيام محمد بن الأحمر الأول ، فيتزوج من إيزابيلا وريثة عرش قشتالة، وبعد هذا الزواج اصطلحت الدولتان: دولة أراجوان مع دولة قشتالة، وبعد خمس سنوات من زواجهما توحدت المملكتان في مملكة واحدة هي مملكة إسبانيا، وكان ذلك في سنة (879هـ) وكانت هذه بداية النهاية لغرناطة، وأقسم الملكان فرديناند الثالث وإيزابيلا على ألا يعقدا عُرساً إلا في قصر الحمراء، قصر الرئاسة الموجود في غرناطة، فهذا يدل على قوة العزم الذي جهّزوه لبلاد المسلمين، أما بلاد غرناطة في ذلك الوقت في سنة (879هـ) فقد كانت منقسمة إلى شطرين أو قسمين: قسم مع الزغل وقسم مع الغالب بالله ، أما حال الشعب فقد عم فيهم الترف والدعة والخمول والغناء والخمور في ذلك الوقت، فماذا ننتظر بعد تلك الأمور؟
والذي حصل في بلاد غرناطة أن الغالب بالله حتى يضمن ولاية العهد لـيحيى ابنه من ثريا الجارية النصرانية قام بحبس ابنه الآخر أبي عبد الله محمد الصغير وحبس عائشة في قصر كبير، وقيّد حركتهما تماماً، وكثير من الشعب يأبون أن يقوم بالحكم رجل أمه جارية نصرانية، فقد كانوا مؤيدين لـأبي عبد الله محمد الصغير أن يكون وريثاً لعرش أبيه بعد عمر طويل، فاستطاع الشعب تخليص الأم والابن من السجن، وقام أبو عبد الله محمد الصغير بثورة على أبيه، وتولى الحكم في بلاد غرناطة، وطرد أباه من بلاد غرناطة إلى الجنوب، فذهب الأب إلى أخيه الزغل في ملقة، وهكذا قُسِّمت البلد من جديد إلى قسمين، وكما يقولون: هم يضحّك وهم يبكّي، فانقسمت غرناطة إلى قسمين: قسم عليه الصغير في غرناطة، وقسم عليه الزغل وتحت حمايته أخوه الغالب بالله ، فاستغل ملك إسبانيا فرديناند الثالث الموقف، وبدأ يهاجم حصون غرناطة؛ لأن هناك خلافاً وانشقاقاً داخل البلد، وبدأ يحاربه الصغير ، وكانت هناك معاهدات بين الغالب بالله وبين ملك إسبانيا، لكن الصغير كان مخالفاً لنهج الغالب بالله، فقامت بينه وبين ملك إسبانيا حرب، فأُسر من قبل ملك إسبانيا، فاستطاع الزغل أن يضم غرناطة إلى أملاكه، فأصبحت غرناطة مملكة واحدة من جديد تحت إمارة الزغل والغالب بالله أبي محمد الصغير ، وبعد سنة مات الغالب بالله همّاً وكمداً من الذي حدث في البلاد، لكن هذا ما جنته عليه نفسه.
وعرض الزغل على ملك إسبانيا أن يسترد الصغير بأموال كثيرة لكن ملك إسبانيا رفض، فهو يفكّر في لعبة خطيرة جداً، فقد تعاقد مع الصغير وكان عمره (25) سنة، على أن يمكّن له في حكم بلاد غرناطة، بشرط أن يطرد منها الزغل بالكلية، وذلك بأن يشعل ثورة في شمال غرناطة، وملك إسبانيا يحاصر بجيشه ملقة من الجنوب، فبذلك تصبح غرناطة بين فكي كماشة، فإذا أتى الزغل إلى الجنوب لمحاربة ملك إسبانيا في ملقة فإن الصغير يدخل غرناطة ويسيطر عليها، فإذا تمكن النصارى من الاستيلاء على ملقة فإنها ستصير ملكاً لـمحمد الصغير ويصبح حاكماً على غرناطة باسم ملك إسبانيا، فوافق الصغير وسار بجيشه إلى شمال غرناطة، واتجه ملك إسبانيا فرديناند الثالث بجيوشه إلى ملقة، وتوجه الزغل سريعاً إلى ملقة لحرب النصارى هناك، لكنه لم يستطع مقاومتهم واستطاع النصارى أن يأخذوا ملقة منه، فعاد مسرعاً إلى غرناطة فوجدها في يد الصغير، فانطلق إلى شرق غرناطة إلى واد يسمى: وادي آش، واستقل بها وأخذها وأقام فيها جزءاً من مملكته، فصارت غرناطة كل وقت تتقلص وتتقسم نصفين، فهناك جزء في الشرق اسمه وادي آش على رأسه الزغل ، وجزء الذي هو غرناطة على رأسه الصغير، وجزء الذي هو ملقة أخذه ملك إسبانيا، ومن المفروض أنه يرجعه للصغير فقد طلب من ملك إسبانيا أن يعيد له ملقة كما اتفقا، فقال له ملك إسبانيا: إن أنا سحبت جيوشي من هذه البلاد أتى الزغل وأخذها، فأنا سوف أُبقي جيوشي لحمايتك ثم أخذ ملقة، ثم مرت شهور واسترق أهل ملقة جميعاً، ولم يرع المعاهدة التي تمت بينه وبين الصغير، لكن هذا ديدنهم وهذه هي طبيعتهم، قال تعالى: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:10]، فـالصغير معه ولاية غرناطة، وملقة في يد ملك إسبانيا، ثم انطلق ملك إسبانيا من ملقة إلى ألمرية وهي على ساحل البحر المتوسط واحتلها في سنة (895هـ)، ومنها توجه إلى وادي آش الذي هو بيد الزغل فأخذه منه، فهرب الزغل إلى تونس وترك البلاد بما فيها من المسلمين، وهكذا يفعل ملوك ذلك الزمان، وهكذا حوصرت مدينة غرناطة وقرى غرناطة ومزارع غرناطة بجيوش الصليبيين من كل مكان، أحاطوها من الشرق ومن الغرب ومن الشمال ومن الجنوب، هكذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة منكم من قلوب أعدائكم، وليلقين في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
هكذا تداعت ملوك النصارى حول مملكة غرناطة الصغيرة والضعيفة جداً في ذلك الوقت، وحاصروها وأحرقوا القرى والمزارع حول حصونها، وطلبوا من الصغير أن يسلم مفاتيح المدينة، وكان ذلك في سنة (895هـ) قبل السقوط بعامين، فشعر الصغير أن ما حدث كان خلافاً لما يتوقعه، فالذي كان يتوقعه ويعتقده أن بينه وبين ملك إسبانيا ولاء وتحالفات وعهود، لكن الذي حدث هو أنهم ما أبقوه على كرسيه كما وعدوه، فهم يطالبونه أن ينطلق ويترك بلاد غرناطة ليتولى أمرها النصارى في ذلك الوقت، ففكر الصغير فيجد أنه لا حل له إلا أن يحاربهم، ولو أنه سمع لهم وأطاع ترك البلاد وترك الحكم لهم، وهذا ما لا يريده فبعد تفكير طويل وجدال مع وزرائه اقتنع بأنه يجب أن يدافع عن البلد، لكن طبيعة الصغير ومن معه من جيشه ومن وزرائه الحاكمة لا يستطيعون أبداً أن يحاربوا أو يدافعوا.
الشرط الثاني: أن يحكّم هيئة معينة تضمن تطبيق هذه المعاهدة، وهو البابا في إيطاليا، فوقع البابا على هذه المعاهدة، فسلم الصغير مفاتيح غرناطة، وأوقف حركة الجهاد في البلد في مقابل أن يعطوه الأمان، بعد أن وقع له بابا روما وأقسم على تلك العهود فردنياند وإيزابيلا .
ففهم موسى بن أبي غسان رحمه الله هذا الأمر ووقف في قصر الحمراء، وقال: إن النصارى لا عهد لهم، ثم خطب خطبة مهيبة قال فيها: لا تخدعوا أنفسكم ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم، إن الموت أقل ما نخشى، فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجور الفاحش والتعصب الوحشي، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنفاق والمحارق، هذا ما سوف نعاني من مصائب بدلاً من الموت الشريف، أما أنا فوالله لن أرى كل هذا الذل، وسأموت الموت الشريف، وغادر المجلس وذهب إلى بيته ولبس سلاحه وركب جواده وانطلق يقابل سرية من سرايا النصارى، وكان عددهم خمسة عشر رجلاً فقتل معظمهم ثم قتل في سبيل الله، وهذا ما نسميه اليوم بالعملية الاستشهادية، وكان مقتل موسى بن أبي غسان وتسليم الصغير مفاتيح غرناطة إيذاناً بانتهاء عصر الدولة الإسلامية في مملكة غرناطة خاصة والأندلس عامة، فأعطى الصغير الموافقة للملكين فرناندو الثالث وإيزابيلا بدخول غرناطة، وأرسل لهم بعض الهدايا، ودخل الملكان القصر الكبير قصر الحمراء ومعهما الرهبان، وكان أول ما فعل أن علّق صليباً فضياً كبيراً فوق برج القصر الأعلى، وأُعلن من فوق البرج أن غرناطة أصبحت ملكاً لملكي الكاثوليكيين، وأن حكم المسلمين قد انتهى من بلاد الأندلس، وخرج أبو عبد الله محمد الصغير من القصر الملكي، وسار بعيداً في اتجاه المغرب ووصل إلى ربوة عالية تطل على قصر الحمراء يتطلع إلى القصر والمهد القديم، فلم يستطع أن يتمالك نفسه فانفجر بالبكاء حتى بللت دموعه لحيته، فقالت أمه عائشة الحرة: أجل، فلتبك كالنساء ملكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال.
وهذا التل الذي وقف عليه أبو عبد الله محمد الصغير ما زال موجوداً في إسبانيا، وما زال الناس يذهبون إليه يتفرجون على هذا الملك الذي أسسه الأجداد، ويُعرف هذا التل في إسبانيا بزفرة العربي الأخيرة، وكان بكاء أبي عبد الله محمد الصغير لما ترك ملكه في (2) ربيع الأول سنة (897هـ) الموافق (2) يناير سنة (1492م)، ثم هاجر أبو عبد الله محمد الصغير إلى بلاد المغرب، وهناك اعتقله ملك المغرب بتهمة الخيانة لبلاد المسلمين ووضعه في سجنه، وكما يقول المؤرخون: إن أولاد محمد الصغير صاروا بعد سنوات يشحذون في شوارع المغرب، وهذا من نتائج الذل وترك الجهاد، فلقد اندثرت حضارة الدنيا والدين ما عرفت أوروبا مثلها من قبل، وارتفع علم النصرانية فوق سطح الإسلام المغلوب، وطويت صفحة خالدة، وليت شعري أين موسى بن نصير ؟ وأين طارق بن زياد ؟ وأين يوسف بن تاشفين ؟ وأين عبد الرحمن الناصر ؟ وعبد الرحمن الداخل ؟ وأين أبو بكر بن عمر اللمتوني ؟ وأين يعقوب المنصور الموحدي ثم المريني؟ أين هؤلاء..؟
لا حول ولا قوة إلا بالله.
هل استمر النصارى على عهودهم مع المسلمين بعد أن ترك البلاد أبو عبد الله محمد الصغير البلاد؟
لا والله ما فعلوا، هكذا ديدنهم، كما قال تعالى عنهم: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:8]، فقد تنكروا لكلامهم وأغفلوا شروطهم السبعين، وأهانوا المسلمين بشدة، وصادروا أموالهم، ثم في سنة (1501م) بعد تسع سنوات من سقوط غرناطة أصدر الملكان فرديناند الثالث وإيزابيلا أمراً خلاصته: إن الله قد اختارهما لتخليص الأندلس من الكفرة، يقصدان بذلك المسلمين، ولذلك يحظر وجود المسلمين في بلاد الأندلس، ويُعاقب من يخالف ذلك بالموت، فهجر المسلمون بلاد الأندلس بالكلية إلى المغرب وإلى الجزائر وإلى تونس.. وغيرها من بلاد المسلمين، وتنصر آخرون كي يعيشوا في بلاد الأندلس في ظل حكم النصارى الأسبان، أما الأسبان فلم يتركوهم حتى دون إهانة، بل سموهم بالمورسكيين احتقاراً وتصغيراً لهم، والمورسكي تصغير للنصراني، أي: ليس نصرانياً من الدرجة الأولى، وقام رئيس الأساقفة الأسباني بحرق ثمانين ألف كتاب إسلامي في يوم واحد من مكتبة قرطبة وإشبيلية وغرناطة.
وقد شاهد كل هذه الآلات جنود نابليون لما فتحوا إسبانيا بعد ذلك، حتى صور ذلك جنود فرنسا في كتاباتهم وقالوا: إن الجنود الفرنسيين كانوا يصابون بالغثيان والقيء والإغماء، من تخيل أن هذه الآلات كان يُعذّب بها بشر! نعم يا إخوة كان يُعذب بها مسلمون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
سقطت بلاد الأندلس سقوطاً ليس بالمفاجئ، فقد استمرت أكثر من (200) سنة، وصبرت البلاد كثيراً بمساندة بني مرين وبخلاف النصارى، لكن الذي حدث في النهاية هو ما كان متوقعاً، لا بد أن ننظر ما الذي حصل في بلاد الأندلس حتى أدى إلى هذا الانهيار؟ ولو تكرر في أي وقت من الأوقات أو في أي بلد من البلاد ستكون العاقبة هي نفس العاقبة.
عندما نحلل عوامل انحدار الأمم وضياع الأمم وسقوطها نجد أموراً متشابهة جداً في كل فترات الضعف في تاريخ الأندلس، ونجد أن هذه الأمور قد زادت بشدة في فترة غرناطة؛ ولذلك كان السقوط كاملاً وحاسماً، وهذه الأمور ما يلي:
الأمر الأول: هو الإغراق بالترف، والركون الشديد إلى الدنيا وإلى الملذات والشهوات والخنوع والدعة والميوعة، فقد ترتبط دائماً فترات الهبوط بكثرة الأموال والانغماس في الملذات وميوعة شديدة جداً في شباب الأمة، وانحطاط كبير جداً في الأهداف، قال سبحانه وتعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ [الأنبياء:11-13]، ارجعوا إلى قصر الحمراء، وسلموا غرناطة للنصارى، وتذوقوا الذل كما لم تعملوا للعزة وللكرامة.
انظر إلى الرجل الذي كان يرثي سقوط غرناطة، والشعر هو الإعلام الذي يحفز الناس على أفكار معينة، يقول هذا الشاعر:
غرناطة يا أجمل المدن
لن تسري بعد اليوم نغمات العود الناعمة
في شوارعك المقمرة
ولن تُسمع ألحان العشاق تحت قصورك العالية
وستسقط دقات الصنوج المرحة
التي كانت تتناغم فوق تلالك الخصبة
وستقف الرقصات الجميلة تحت عرائشك الوريفة
وا حسرتاه! لن يستمع عربي بعد اليوم إلى البلابل
تصدح في مروجك الفسيحة
ولن يستروح أريج الريحان وأزهار البرتقال في ربوعك المؤنسة
لأن نور الحمراء أُطفئ إلى الأبد..
تخيل بعد هذا السقوط الشنيع لبلاد غرناطة يقف رجل ويرثي غرناطة بهذه الكلمات، وهذا ما يهمه في تلك البلاد، لا يهمه الثغور التي خرجت منها الجيوش تجاهد في سبيل الله، ولا يهمه المكتبات، ولا يهمه المساجد التي حوّلت إلى كنائس، ولا يهمه المسلمون الذين قُتلوا بأيدي الصليبيين، وهذا من انحطاط أهداف الشباب، حتى أصبح حلم الشاب في حياته أن يكلم فتاة من الفتيات، أو يخرج معها أو يبادلها حباً غير مشروع لا يرضاه لأخته ولا لابنته، ويصور الشعراء هذا الحب على أنه أسمى درجات الحب، فيضحي الرجل من أجله، ويسمو عنده فوق كل حب، فوق حب الله، وحب رسوله، وحب الدين، وحب الجهاد، وحب الوالدين، وحب الوطن، وحب الفضيلة، بل وقد يضحي بحياته انتحاراً إذا فارق محبوبته! أي انحدار هذا؟ وأي انحطاط هذا؟ وأي سفاهة؟ وأي تفاهة؟ قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]، تذكروا ما فعله زرياب وأمثال زرياب في تاريخ الأندلس، وكيف قادوا الشباب إلى الميوعة التي أسقطت بلاد الأندلس إلى الأبد؟
الأمر الثاني: ترك الجهاد في سبيل الله، وهو أمر ملازم لمن أُغرق في الترف، الجهاد سنة ماضية إلى يوم القيامة؛ شرعها الله ليعيش المسلمون في عزة، ويموتون في عزة ثم يدخلون بعد ذلك الجنة ويخلدون فيها، أين أولئك الذين كانوا يجاهدون في حياتهم مرة أو مرتين كل سنة بصفة مستمرة ودائمة؟ أين يوسف بن تاشفين وأبو بكر بن عمر اللمتوني والحاجب المنصور الموحدي وعبد الرحمن الناصر ؟ أما ملوك غرناطة ومن كان على شاكلتهم فقد تركوا الجهاد في سبيل الله، قال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:38-39].
والبعض يظن أن الملتزمين بالمنهج الإسلامي عليهم فقط أن يضحوا بأرواحهم، ويعيشوا حياة الضنك والتعب والألم في الدنيا ليصلوا إلى الآخرة، وهذا الأمر على عكس ذلك التصور تماماً، فلو عاش المسلمون الملتزمون بمنهج الإسلام في الجهاد عاشوا في عزة وفي مجد وفي سلطان في الدنيا، وملكوا الدنيا، ثم لهم في الآخرة الجنة خالدين فيها بإذن الله.
الأمر الثالث: الإسراف في المعاصي، فجيش المسلمين لا يُنصر بالقوة ولا بالعدد ولا بالسلاح وإنما يُنصر بالتقوى، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: إنكم لا تنصرون على عدوكم بقوتكم ولا عدتكم، ولكن تنصرون عليهم بطاعتكم لربكم ومعصيتهم له، فإن تساويتم في المعصية كانت لهم الغلبة عليكم بقوة العدة والعتاد. وهكذا فإن المسلمين إذا ابتعدوا عن دين ربهم، وعن نهج رسولهم صلى الله عليه وسلم كُتبت عليهم الذلة، وأي ابتعاد بهذه المعاصي المتتابعة المتتالية في تلك الفئة من المسلمين التي عاشت في آخر عهود الأندلس عهد غرناطة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يُهلكنه) والمحقرات هي الذنوب التي يستحقرها العبد من بساطتها، فما بالكم بمن يترك الصلاة، ويتعامل بالربا، ويشرب الخمر، ويزني، ويرتشي، ويسب ويلعن، ويأكل الحرام؟ وأي نصر يتوقع لمثل هذا؟
الأمر الرابع: الفرقة والتشرذم الشديد بين بلاد الأندلس، وموالاة النصارى واليهود والمشركين، قال ربنا في كتابه الكريم: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
وقال تعالى: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:10].
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [المائدة:51].. والآيات في ذلك أكثر من أن تحصى.
الأمر الخامس: توسيد الأمر لغير أهله.
الأمر السادس: الجهل بالدين، فقد أحدث العلم في عصر العلماء قوة للدولة الإسلامية، مثل: عهد عبد الله بن ياسين والحكم بن عبد الرحمن الناصر ، بخلاف الجهل فقد أحدث ضعفاً للدولة الإسلامية، كما حدث في آخر عهد المرابطين، وفي آخر عهد دولة الموحدين، من انتشار الجهل بين الناس واقتناعهم بآراء وأفكار غريبة عجيبة، وجهلهم أن الشورى أصل من الأصول التي يجب أن يُحكم به المسلمون، وتعصبهم لآرائهم، وقبول الناس بذلك، كما فعل محمد بن الأحمر الأول من غزوه إشبيلية، وتبعه الناس في ذلك يظنون أنهم على حق وأنهم على فضيلة! فأي جهل هذا بالدين؟!
فهذه بعض العوامل التي أدت إلى سقوط الأندلس، وإلى انحدار المستوى في فترات الأندلس المختلفة، لكني على ثقة بأن هناك عوامل كثيرة أخرى لا بد أن يقف المسلمون وقفات كثيرة يبحثون وينقّبون عنها في ذلك التاريخ الطويل.
وهناك درس آخر هام جداً من دروس تاريخ الأندلس، وهو أنه لا يغيب الأمل أبداً في النصر، فإن الله يقيض لهذه الأمة دائماً من ينصرها ومن يجدد لها دينها، كما حدث من قيام دولة عبد الرحمن الداخل في الأندلس، وكما حدث في آخر عهد الإمارة الأموية من قيام عبد الرحمن الناصر ، وهكذا في كل عهد تجد من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، كما حصل من يوسف بن تاشفين ويعقوب المنصور الموحدي ويعقوب المنصور المريني .
الجواب: حدث قبل سقوط الأندلس التام بأربعين سنة شيء غريب جداً وهو فتح القسطنطينية في سنة (857هـ)، فما غربت شمس الإسلام على أوروبا من ناحية المغرب إلا وتُشرق عليها من ناحية المشرق، فقد استبدل الله هؤلاء الذين باعوا وخانوا من ملوك غرناطة بالأندلس بغيرهم من العثمانيين المجاهدين الفاتحين الأبرار، الذين فتحوا القسطنطينية وما بعدها، وبدأ الإسلام ينتشر في شرق أوروبا انتشاراً أسرع من انتشاره في بلاد الأندلس وفرنسا، فهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى تبعث الأمل في نفوس المسلمين في كل وقت، فأمة الإسلام أمة لا تموت.
الجواب: المعروف أن بلاد الأندلس سابقاً وإسبانيا والبرتغال حالياً من أقل بلاد العالم تعداداً للمسلمين، حيث أن عدد المسلمين في إسبانيا بعد أن حكمت بالإسلام ثمانية قرون مائة ألف فقط، يعني أقل من المسلمين في مدينة من مدن أمريكا، فإن مدينة دالاس فيها مائة ألف مسلم، وهذا أمر في منتهى الغرابة!
فالإسلام انتهى بالكلية من بلاد الأندلس كأفراد وكشعوب، ولن ينتهي من بلاد المسلمين الأخرى التي استعمرت استعماراً صليبياً، وقد طال في بعض الفترات، فمثلاً: احتلت الجزائر لمدة (130) سنة، ومصر (70) سنة، وكذلك احتل غيرها من البلاد، وفلسطين ما يقارب (200) سنة على يد الصليبيين، ومع ذلك لم يتغير المسلمون في البلاد، فقد ظلوا مسلمين وإلى الآن.
وللمزيد من الإجابة عن هذا السؤال: أن الاستعمار الأسباني في بلاد الأندلس كان استعماراً استيطانياً إحلالياً، لا يدخلون بلداً إلا قتلوا من فيه من المسلمين جميعاً، فهي حروب إبادة رهيبة، أو يطردونهم إلى خارج البلد ويأتون بالنصارى من أماكن مختلفة إلى بلاد الأندلس، وبذلك لم يبق في بلاد الأندلس مسلمون، وهؤلاء الذين حكموا البلاد وعاشوا فيها بعد ذلك كانوا نصارى أبناء نصارى، وهذا على عكس الاحتلال في البلاد الإسلامية الأخرى كمصر والجزائر وليبيا وسوريا.. وغيرها، فإن الاحتلال فيها كان بالجيوش لا بالشعوب، واحتلال الجيوش مصيره إلى الخروج، وهذا يذكرنا بشيء في غاية الأهمية، وهو أن الاحتلال الاستيطاني الذي حدث في الأندلس لم يتكرر في بلاد العالم إلا في مكان واحد يخص المسلمين وهو فلسطين، ففلسطين والله ما هي إلا أندلس جديدة، وما يفعله اليهود الآن من تهجير اليهود إلى أرض فلسطين وإبادة الشعب الفلسطيني أو طردهم وتشريدهم، وإصرارهم على عدم عودة اللاجئين، والإكثار من المستعمرات ما هو إلا خطوة من خطوات إحلال الشعب اليهودي مكان الفلسطيني، حتى يضمن البقاء بعد ذلك لفترات متلاحقة وطويلة، والشعب الفلسطيني المشرد مصيره إلى النسيان، وسينساه العالم، بل وقد ينسى الفلسطينيون المشردون القضية، كما نسيها أهل الأندلس الذين هاجروا إلى بلاد المغرب وتونس والجزائر بعد عام أو عامين أو عشرة أعوام أو مائة عام، فقد مر على سقوط الأندلس (500) عام، فمن يفكر في تحريرها؟ فهكذا يريد اليهود بتهجير اليهود إلى بلاد فلسطين لإحلال الشعب اليهودي مكان الشعب الفلسطيني، فقضية فلسطين شديدة الشبه بالأندلس، ولا بد أن يعتبر المسلمون.
الجواب: تمت المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين في مدريد سنة (1992م) إحياء لذكرى سقوط الأندلس الذي قد مر على سقوطها (500) عام، وإذا بشوارع مدريد تكتظ بالاحتفالات والمهرجانات لهزيمة المسلمين وانتصار الصليبيين في هذه الموقعة القديمة منذ (500) عام، وكأنهم يقولون لهم: ها هو التاريخ يتكرر، وها هي أحداث الأندلس تتكرر من جديد في فلسطين، وها هي الانتفاضة التي تحدث في فلسطين تُقتل كما قُتلت انتفاضة موسى بن أبي غسان في غرناطة، فلا داعي للحروب، ولا داعي للجدال والمحاورات الكثيرة؛ فإن مصيركم هو مصير الأندلس من قبل.
نحن لا نذكر تاريخ الأندلس لنبكي على اللبن المسكوب، ولنعيش في صفحات الماضي كما يقولون، بل نذكره لنأخذ منه العبرة، قال تعالى: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176].
وقال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111] الذي يجب أن يشغلنا الآن هو أن نقف وقفة مع تاريخ الأندلس؛ لنفهم منه أحداث فلسطين والشيشان وكسوفا والبوسنة والهرسك وكشمير .. وغيرها من البلاد.
الجواب: هذا السؤال يا إخوة في غاية الأهمية، وإجابته موجودة في كل صفحة من صفحات تاريخ الأندلس، وفي كل صفحة من صفحات التاريخ الإسلامي، وسنسرد إن شاء الله مجموعات خاصة للحديث عن دور المسلمين تجاه قضية فلسطين، لكن يجب على عموم المسلمين أن يرجعوا ويبحثوا ويتدبروا أمرهم، ويكونوا كالمؤمن الذي لا يُلدغ من جحر مرتين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر