بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذه هي المحاضرة الثالثة من محاضرات قصة التتار: من البداية إلى عين جالوت.
تحدثنا في الدرس السابق عن الاجتياح التتري الرهيب الذي عانى منه المسلمون في سنة (617هـ)، ورأينا المجازر الشنيعة في سمرقند، ومرو، ونيسابور.. وغيرها، ثم تحدثنا عن الانتصار المرحلي الذي حققه جلال الدين بن محمد بن خوارزم على التتار في غزنة؛ وذلك بعد أن وحد بعض جيوش الدولة الخوارزمية، ووقفنا على الانتصار الثاني لـجلال الدين على التتار في كابل، والذي كان من نتيجته أن حرر المسلمون عشرات الآلاف من أسرى المسلمين وقتلوا عدداً كبيراً من التتار.
ثم تمكن المسلمون من شيء يعتبره كثير من الناس نعمة، ولكنه كثيراً ما يكون نقمة، هذا الشيء هو غنائم الدنيا، وكم أهلكت الدنيا من مسلمين!
روى البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم).
وقد كانت قلوب المسلمين في هذه الحقبة من الزمان مريضة بمرض الدنيا العضال، إلا من رحم الله عز وجل، وكانت حروبهم حروباً مادية قومية، وحروب مصالح وأهواء، ولم تكن حروباً في سبيل الله عز وجل، بل كانت لحب البقاء، والرغبة في الملك، والخوف من الأسر والقتل، وكان لهم انتصاران على التتار، ولكن ظهرت خبايا نفوسهم عند كثرة الأموال والغنائم، ووقع المسلمون في الفتنة، واختلفوا على تقسيم الغنيمة، فقام سيف الدين بغراق أمير الترك وملك خان أمير مدينة هراة يطلبان نصيبهما من الغنائم، وحدث الاختلاف وارتفعت الأصوات، ثم ارتفعت السيوف؛ ليتقاتل المسلمون على تقسيم الغنيمة، وجيوش التتار مازالت تملأ معظم مدن المسلمين، وسقط من المسلمين قتلى على أيدي المسلمين، وكان ممن سقط أخ لـسيف الدين بغراق ، فغضب غضباً شديداً، وانسحب من جيش جلال الدين ومعه (30000) مقاتل، فحدث ارتباك كبير جداً في جيش المسلمين، وحاول جلال الدين حل المشكلة، فأسرع إلى سيف الدين بغراق محاولاً إقناعه بالعودة إلى صف المسلمين، فالمسلمون في حاجة إلى كل جندي، وإلى كل طاقة، وفوق هذا فإن الانسحاب سيؤثر على معنويات بقية الجيش؛ لأن الفرقة التركية التي انسحبت هي أقوى فرقة في الجيش، ولكن سيف الدين بغراق أصر على الانسحاب وانسحب بالفعل، فانكسر جيش المسلمين انكساراً هائلاً مادياً ومعنوياً، ولم يفلح المسلمون -ولا حول ولا قوة إلا بالله- في استثمار النصر الغالي الذي حققوه في غزنة وفي كابل.
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)، فلم يدرك المسلمون في هذه الآونة حقيقة الدنيا، وأنها دار استخلاف واختبار وامتحان، وليست دار قرار وبقاء وخلود.
وفي اليوم الرابع انفصل الجيشان لكثرة القتل، وبدأ كل طرف يعيد حساباته، وبينما هما في هذه الهدنة المؤقتة جاءت السفن إلى نهر السند، فاتخذ جلال الدين قراره السريع بالهروب كما اتخذه أبوه من قبل، فركب السفينة مع خاصته ومقربيه وعبروا نهر السند إلى بلاد الهند، وتركوا التتار على الناحية الغربية لنهر السند مع بلاد المسلمين ومدنهم وقراهم، ومع المدنيين دون حماية عسكرية، وجيوش التتار لا تفرق بين مدني وعسكري، هذا بالإضافة إلى الحقد الشديد في قلب جنكيز خان نتيجة الهزيمتين السابقتين.
والذي يجدر ذكره أن من جملة من أمسك بهم جنكيز خان من أهل المدن أطفال جلال الدين بن خوارزم ، فأمر جنكيز خان بذبحهم جميعاً، وهكذا ذاق جلال الدين من نفس المرارة التي ذاقها الملايين من شعبه.
روى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كن كما شئت، كما تدين تدان). والحديث مرسل.
وحقق جنكيز خان بذلك حلماً غالياً جداً، لم يكن يتوقع أن يحققه بهذه السهولة، وهذا الحلم هو احتلال أفغانستان، فاحتلال أفغانستان كان حلماً لـجنكيز خان ولغيره من الغزاة، فاحتلالها خطوة مؤثرة جداً في طريق سقوط الأمة الإسلامية، وسقوطها نذير خطر شديد للأمة بأسرها، لعدة أسباب، منها:
أولاً: طبيعتها الجبلية التي تجعل غزوها شبه مستحيل، وهي بذلك تمثل حاجزاً طبيعياً قوياً في وجه الغزاة، وتخفف الوطء على البلاد المجاورة لها، فإن سقطت كان سقوط البلاد المجاورة لها مثل: باكستان وإيران ثم العراق سهلاً جداً.
ثانياً: موقعها الإستراتيجي الهام، فهي تقع في موقع متوسط في آسيا، والذي يسيطر عليها يستطيع النظر من زاوية درجتها (360) درجة على المنطقة بأسرها، فيستطيع مراقبة باكستان وإيران وروسيا والهند، ويكون قريباً نسبياً من الصين، فالسيطرة على كامل آسيا بعد احتلال أفغانستان أمر ممكن.
ثالثاً: الطبيعة الجبلية لأفغانستان أكسبت شعبها صلابة وقوة لا تتوافر في غيرها من البلاد، فإن سقطوا فسيكون سقوط غيرهم سهلاً بلا شك.
رابعاً: يتمتع سكانها بنزعة إسلامية عالية جداً، وبروح جهادية بارزة مميزة، وليس من السهل أن يقبلوا الاحتلال، وقد ظهر ذلك واضحاً في انتصارين متتالين على التتار، فكل الجيوش الإسلامية قبل ذلك فشلت في حربها مع التتار، وأول مرة غلب التتار فيها كانت في أفغانستان، فقد غلبوا مرتين، فلو سقط الأفغان فسيعد ذلك نجاحاً هائلاً للقوى المعادية للمسلمين.
خامساً: أن الأثر المعنوي السلبي على الأمة الإسلامية سيكون رهيباً، والأثر المعنوي الإيجابي على التتار سيكون كبيراً جداً كذلك، والأثر السلبي على المسلمين والإيجابي على التتار سيكون مؤثراً جداً في الأحداث.
وأنى لأمة محبطة أن تفكر في القيام؟! وأنى لجيش كجيش التتار حقق نصراً صعباً أن يفرط في الانتصارات السهلة؟! هذا عادة لا يكون، فأفغانستان كانت محطة خطيرة جداً، ومؤثرة تأثيراً سلبياً كبيراً جداً على أمة الإسلام بصفة عامة، وليس على أهل أفغانستان فقط.
وبذلك يكون التتار الذين وصلوا من الصين قد دخلوا كازاخستان، ثم أوزباكستان، ثم تركمانستان، ثم أفغانستان، ثم إيران، ثم أذربيجان، ثم أرمينيا، ثم جورجيا، في سنة (617هـ)، وهذا الكلام مثبت في كل كتب التاريخ، ففي سنة واحدة اجتاحوا هذا الجانب الشرقي الضخم المهول من العالم الإسلامي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فحاصر التتار مراغة ونصبوا حولها المجانيق، وبدأ التتار القتال بواسطة الأسرى المسلمين، فالأسرى المسلمون الذين مع التتار، هم الذين بدءوا يفتحون مراغة، ويقتلون إخوانهم المسلمين فيها طمعاً في قليل من الحياة، أي حياة كانت، ولو انقلب هؤلاء الأسرى على التتار حمية لإخوانهم في مراغة، لكان هناك فرصة لنجاة بعض المسلمين على الأقل، ولكن ضاعت المفاهيم، وعميت الأبصار، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
دخل التتار مدينة مراغة المسلمة في (4) صفر (618هـ) ووضعوا السيف في أهلها، فقتل منهم كما يقول ابن الأثير ما يخرج عن الحد والإحصاء، ونهبوا كل ما صلح لهم واستطاعوا حمله، والذي لم يستطيعوا حمله جمعوه وأحرقوه، وكانوا يأتون بالحرير الثمين كأمثال التلال فيحرقونه بالنار.
يقول ابن الأثير رحمه الله: إن المرأة من التتار كانت تدخل الدار فتقتل جماعة من أهلها رجالاً ونساء وأطفالاً، ما يتحرك لها أحد.
وذكر أيضاً: أنه سمع بنفسه من بعض أهل مراغة أن رجلاً من التتر دخل درباً فيه (100) رجل مسلم، فما زال يقتلهم واحداً واحداً حتى أفناهم جميعاً، ولم يمد إليه رجل واحد يده بسوء، فقد وضعت الذلة على الناس، فكانوا لا يدفعون عن أنفسهم قليلاً ولا كثيراً، ونعوذ بالله من الخذلان.
ثم حصل شيء غريب جداً، فقد شعر التتار أن هذا الانسحاب خدعة، وأن هذه الفرقة ما هي إلا مقدمة للجيش الإسلامي الكبير؛ لأنه من غير المعقول أن جيش الخلافة العباسية المرهوبة لا يزيد عن (800) جندي فقط، ولذلك قرر التتار تجنب المعركة، وانسحبوا بجيوشهم.
فالرعب كان يملأ قلوب التتار من إمكانيات الخلافة العباسية، فالخلافة العباسية كانت ملء سمع وبصر الدنيا، وكانت تزهو على غيرها من الأمم بتاريخ طويل جداً وأمجاد عظيمة، ولا شك أن دولة لقيطة مثل: دولة التتار، ليس لها على وجه الأرض إلا بضع سنوات، ستحسب ألف حساب لدولة هائلة يمتد تاريخها إلى أكثر من (500) سنة.
لذلك كان التتار يقدرون إمكانيات العراق بأكثر من حقيقتها، ومن ثم آثروا ألا يدخلوا مع الخلافة في صدام مباشر، واستبدلوا ذلك بما يعرف بحرب الاستنزاف، وقرروا عمل ضربات خاطفة موجعة للعراق، وحصار طويل مستمر ليضعفوه، وأحلاف واتفاقيات مع الدول والإمارات المجاورة؛ لتسهيل الحرب ضده في الوقت المناسب، ومن أجل ذلك انسحب التتار ليطول بذلك عمر العراق عدة سنوات أخرى.
فتحركت الحمية في قلوب أهل تبريز نتيجة تحميس شمس الدين لهم، فقاموا مع قائدهم البار يحصنون بلدهم، ويصلحون الأسوار، ويوسعون في الخنادق، ويجهزون السلاح، ويضعون المتاريس، ويرتبون الصفوف، وتجهز القوم للجهاد في سبيل الله، فلما سمع التتار بأمر المدينة وحالة العصيان المدني فيها والنفير العام، والتجهز للقتال في سبيل الله، أخذوا قراراً عجيباً، وهو عدم دخول تبريز، وعدم قتال قوم رفعوا راية الجهاد في سبيل الله، فقد ألقى الله عز وجل الرعب في قلوب التتار على كثرتهم من أهل تبريز على قلتهم.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم نصر بالرعب مسيرة شهر، وكذلك ينصر بالرعب كل من سار على طريقه صلى الله عليه وسلم، فالجهاد فعل فعله المتوقع، وعلى الرغم من أن القوم لم يجاهدوا ولم يصلوا إلى مرحلة الجهاد، إلا أنهم لما عقدوا النية الصادقة، وأعدوا الإعداد المستطاع، تحقق الوعد الرباني الذي لا يخلف، وهو وقوع الرهبة في قلوب الأعداء عند إعداد المسلمين، وهذا درس لا ينسى، واسمعوا إلى قول الله عز وجل: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ [الأنفال:60]، أي: على قدر الاستطاعة، وكم هي تبريز مقارنة إلى جيوش التتار، أو مقارنة بالمدن والدول الإسلامية التي سقطت؟ قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [الأنفال:60].
فكانت هذه صورة مشرقة في وسط هذا الركام المظلم، ورحم الله شمس الدين الطغرائي الذي جدد الدين في هذه المدينة المسلمة تبريز.
ونفس هذا الحدث تكرر مع مدينة كنجة، فقد أعلنت الجهاد في سبيل الله وأعدت العدة، فلم يدخل تتري واحد إلى مدينة كنجة، وهذا الكلام ليس من قبيل المصادفة، فالبلاد التي رفعت راية الجهاد وأعدت له العدة لم يجرؤ التتار على غزوها. وهذه سنة من سنن الله عز وجل.
ولو أن كل مدن المسلمين فعلت ذلك لما استطاع التتار ولا غيرهم أن يطئوا بأقدامهم النجسة أرض المسلمين.
فحافظ المسلمون على هذه البلاد سنوات وسنوات، لا بكثرة الأعداد والاتفاقيات والمعاهدات والسلام وغيرها، ولكن بجهاد صادق، ودماء زكية، وقلوب طاهرة مخلصة. أما الذين يخالفون من العباد، فالله عز وجل لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
ثم ترك التتار هذه المنطقة وجاوزوها إلى روسيا، فدخلوها، وكان يعيش فيها النصارى في ذلك الوقت، ثم استمر التتار في صعودهم حتى وصلوا إلى حوض نهر الفولجا في روسيا، فقاتلوا أهل هذه البلاد من النصارى وأثخنوا فيهم القتل، وارتكبوا معهم من الجرائم ما ارتكبوه مع المسلمين، وظلوا بقية سنة (618هـ) داخل الأراضي الروسية، وهي أرض واسعة جداً، وسيطروا في هذه السنة على الجنوب الغربي من روسيا.
وفي سنة (619هـ) حافظ التتار على أملاكهم، ووطدوا ملكهم في هذه المناطق، والدول التي سقطت تحت سيطرة التتار هي: كازاخستان، وقرغيزستان، وطاجاكستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وباكستان، باستثناء المناطق الجنوبية منها المعروفة باسم إقليم كرمان لم يصل إليه التتار، وأفغانستان بكاملها، ومعظم إيران ما عدا الجزء الغربي منها الذي كان تحت سيطرة طائفة الإسماعيلية، وأذربيجان، وأرمينيا النصرانية، وجورجيا النصرانية، والجنوب الغربي لروسيا النصرانية.
والتتار خلال سنتين وبضعة أشهر احتلوا هذه المساحة من العالم.
وفي سنة (620هـ) بسط جنكيز خان سطوته على الدولة الخوارزمية وما حولها، واستمرت الحملات التترية على روسيا، وانشغل التتار في حرب روسيا في هذه السنة.
الحدث الأول: توغل التتار في بلاد روسيا، وحققوا انتصارات عديدة جداً، وفي نهاية المطاف وقفوا أمام طائفة البلغار، وهي بلغاريا، وكانت في روسيا في ذلك الوقت، وحدثت بينهم موقعة عظيمة هزم فيها التتار هزيمة منكرة مرة، وقتل منهم خلق كثير، حتى إنهم فقدوا السيطرة على معظم المناطق الغربية التي كانوا محتلين لها، ففقدوا السيطرة على روسيا وجورجيا وأرمينيا والشيشان وداغستان وأذربيجان وشمال إيران، وكان كل هذا الأمر نتيجة هزيمة واحدة في روسيا.
وكانت فرصة من السماء للمسلمين لكي يعيدوا ترتيب أوراقهم وصفوفهم، ويعدوا العدة ليقابلوا التتار بعد أن أصابهم الارتباك بعد هذه الهزيمة الكبيرة، في هذا الوقت جمع أحد أمراء المسلمين في هذه المنطقة عدته وهجم على قبائل الكرج النصرانية في جورجيا.
وهذا حدث عجيب يحتاج إلى الوقفة، صحيح أن بين الكرج والمسلمين حروباً مستمرة، إلا أنهم الآن في شبه هدنة غير رسمية، وليس من الحكمة أبداً فتح جبهات جديدة على المسلمين في وجود عدوهم الأكبر التتار، وبالذات أن الكرج أيضاً يكرهون التتار، ويعانون منهم كما يعاني المسلمون، وقد أصيبوا كما أصيب المسلمون، فكان على المسلمين أن يتحلوا بحكمة سياسية وفقه سياسي ويتحالفوا بحذر مع الكرج ضد التتار، أو على الأقل أن يحيدوا صفهم، ولا يدخلوا في حرب معهم يستنزفون فيها قوة المسلمين وقوة الكرج، في وجود القوة التترية الضخمة المهولة إلى جوارهم، فما فعلوه كان حولاً سياسياً ومرضاً مضحكاً، فقد افتقد المسلمون في هذه الآونة الرؤية الصحيحة والحكمة العسكرية والهدف الواحد، فلم يكونوا متحدي الصفوف، وأعمالهم ليست متوازنة أو منضبطة، وكل أمورهم غير مدروسة.
فدارت الحرب بين المسلمين والكرج، وقتل من الفريقين أعدد كبيرة، وفقدوا الثقة في إمكانية التحالف ضد التتار، ولم يستغل المسلمون موازين القوى في هذا الوقت لصالحهم، وكان هذا من أهم أسباب ضعفهم، ثم هدأت الحرب، وأقيم صلح جديد بين الكرج والمسلمين، بعد أن قتل عدد كبير من الفريقين.
في ذلك التوقيت حدث شيء عجيب، فقد كان المتوقع من الناصر لدين الله الخليفة العباسي -وقد كان خليفة وهمياً، وليس له قيمة في ذلك الوقت- أن يساعد غياث الدين بن محمد بن خوارزم؛ لأنه الحائل بينه وبين التتار، وكان الأجدر به مساعدته إن لم يكن بدافع الدين والأخوة والنصرة للمسلمين، فعلى الأقل بسبب الأبعاد الإستراتيجية الهامة، حيث كان غياث الدين حائط صد بالنسبة للخلافة العباسية أمام التتار، لكن الخليفة العباسي لم يدرك هذه الأبعاد، فقد كان يعاني من مرض الحول السياسي، وكان كما وصفه المؤرخون رجلاً ظالماً مستبداً، فرض المكوس والضرائب على كل شعبه، وفي كل أزمة اقتصادية تحدث يفرض ضريبة جديدة على قوت الشعب، وكان مهتماً جداً بالحفلات والملذات والصيد واللعب، وعم الفساد في زمانه، وارتفعت الأسعار، وقلّت المؤن والمواد، وكان يفتقر إلى النظرة العميقة والفهم الثاقب للأحداث، فلم يكن على مستوى الأحداث الضخمة التي تحدث على أرض الواقع في ذلك الوقت.
فلم ينس الخلافات القديمة مع الدولة الخوارزمية، فأراد تفكيك الدولة التي بدأت تنمو من جديد إلى جواره بقيادة غياث الدين بن خوارزم .
فراسل إيغان طائسي -وكان خال غياث الدين ، وكان رجلاً كبيراً صاحب رأي في الحرب وأميراً في جيش غياث الدين - ووعده بأن يساعده إذا انقلب على غياث الدين وعظم له الاستيلاء على الملك، وأمده بالجنود وبالسلاح وبالأفكار، ولم يهم الخليفة مطلقاً الفتنة التي ستدور في أرض إيران إلى جواره تماماً، فأعجبت الفكرة إيغان طائسي فجمع الناس، وبدأ يقوم بالعصيان ضد ابن أخته غياث الدين بن خوارزم، وحدث ما لم يتوقع، والتقى إيغان طائسي مع ابن أخته غياث الدين في موقعة فاصلة للسيطرة على إيران، وفي ظل هذه الظروف دارت موقعة كبيرة جداً، والتقى الفريقان المسلمان، ودارت المجزرة بينهما، وسقطت أعداد غفيرة من المسلمين قتلى بسيوف المسلمين، ثم انهزم إيغان طائسي وهرب هو ومن معه بعد أن قتل عدد كبير من جيشه.
وإنه لحري بنا أن نقف ونفكر في أفعال الناصر لدين الله ، ونتساءل: أخلق الله عز وجل بشراً بهذه الصورة؟
ونقول: نعم، فقد وجد الكثير بهذه الصورة، ولا يزالون موجودين، وسيظلون إلى يوم القيامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإن كنا نعجب من هذه الصراعات الداخلية في ذلك الزمن الذي يشهد أزمة حقيقية تمر بها الأمة الإسلامية، فإننا الآن نشاهد نفس الصراعات والخلافات بين المسلمين، مع كل الأزمات الطاحنة التي تمر بها أمتنا الآن، ومع ذلك فالقليل جداً من المسلمين من يهتم بهذه الصراعات ويلحظها، وإلا فكم من المسلمين يتابعون الخلافات بين مصر والسودان على حلايب، أو بين ليبيا وتشاد على إقليم أوزا، أو بين المغرب والجزائر على الصحراء الغربية، أو بين السنغال وموريتانيا على نهر السنغال، أو بين السعودية واليمن على إقليم عسير، أو بين الإمارات وإيران على جزيرة أبي موسى، أو بين سوريا وتركيا على لواء الإسكندرونة.. وغيرها من الاختلافات هنا وهناك؟
وكلنا رأينا مدى خسارة المسلمين نتيجة حرب العراق وإيران، ثم حرب العراق والكويت، وكل هذه الخلافات تحدث والأمة منكوبة بأزمات طاحنة في معظم مناطقها تقريباً!
وافتح أي جريدة بصورة عشوائية في أي يوم لتقرأ عن الكوارث في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير والسودان والجزائر ونيجريا والصومال.. وغيرها.
وكما يقرأ منا الكثير هذه الأخبار بدم بارد وبلا اكتراث أو ألم، كذلك كان المسلمون أيام التتار يتلقون أخبار الصراعات الداخلية بدم بارد وبلا اكتراث أو ألم، وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد، وهذه كارثة مروعة، فإذا كان المسلم لا يعيش إلا لنفسه فقط، ولا يهتم إلا بحياته وحياة أسرته القريبة فقط، ولا يتألم لحال مسلم سفك دمه، أو هدمت داره، أو جرفت أرضه، أو اغتصبت زوجته، فهذه كارثة بكل المقاييس: مقاييس الإسلام، والأخوة، والإنسانية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهي فعلاً غريبة ومأساوية إلى أقصى درجة ممكنة، فمملكة الكرج النصرانية بعد أن أتمت صلحها مع المسلمين بعد المعركة التي ذكرناها سابقاً، وصل إلى قمة الحكم فيها امرأة، ولم تكن متزوجة، فطلب منها الوزراء والأمراء أن تتزوج رجلاً يدير عنها البلاد، فوافقت، وأرادت أن تتزوج من بيت ملك وشرف، فلم تلق بيتاً في الكرج بهذه الصفة، فسمع بذلك أحد ملوك المسلمين واسمه مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان ، وكان من ملوك السلاجقة، ويحكم منطقة الأناضول -تركيا الآن-، وكان له ابن كبير، فأرسل إلى ملكة الكرج يخطبها لابنه، فرفضت الملكة وقالت: إنها لن تتزوج من رجل مسلم، ولن يملك الكرج رجل مسلم، فقال الملك مغيث الدين بن قلج أرسلان : إن ابنه سيتنصر ويتزوجها، فوافقت على ذلك، وتنصر الولد بالفعل، وتزوج من ملكة الكرج، وانتقل إلى مملكتهم ليكون حاكماً عليهم، وبقي على نصرانيته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد وصل المسلمون في هذه الآونة إلى درجة من التردي يستحيل معها النصر، إذ كيف تأتي فكرة التنصر في ذهن الملك وابنه أصلاً ولو كان سيحكم الأرض كلها بعد هذا التنصر؟! وكيف يأتي ذلك من ملك عظيم يحكم الأناضول؟! ولو أتى ذلك الكلام من ضعيف مستعبد، لقلنا: لعله استكره على ذلك، أما أن يأتي ذلك العرض من الملوك ويطلبونه هم، فهذا مما لا يتخيله العقل، ولا أدري من الذي أطلق على هذا الملك لقب مغيث الدين ! فأي دين هذا الذي يغيثه؟! أيغيث الدين النصراني أو الدين الإسلامي؟ فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].
ثم إن هذا الولد الذي تزوج ملكة الكرج مات على نصرانيته محبوساً في مملكة الكرج، فقد عاش عدة أشهر في الملك، ثم إن الكرج غضبوا عليه وحبسوه، وبقي نصرانياً ومات على نصرانيته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا ليس من قبيل المصادفة، فقد قال الله عز وجل: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]. فهذه حقائق ثابتة في كتاب الله عز وجل، بل إن الله عز وجل ذكر الجراد بالذات كوسيلة من وسائل إثبات قدرته على من لم يتبع نهجه سبحانه وتعالى، فقال: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ [الأعراف:133]. وهذا يذكرنا بطوفان خوارزم، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ [الأعراف:133] وهو جند من جنود الله عز وجل، وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الأعراف:133].
وكلنا رأينا الجراد الذي هجم على العالم الإسلامي منذ أيام أو أسابيع، وهذا ليس صدفة أبداً، ولكنه لفت نظر للمسلمين، وتذكير لهم بالتاريخ، ودعوة لهم للعودة إلى الله عز وجل، وإلا فرحلة الجراد القادمة لن تكون رحلة عابرة، بل ستكون إقامة واستيطاناً، فنعوذ بالله من غضبه، ونسأله عز وجل أن يبصرنا بسننه، وأن يرزقنا التقوى والإخلاص والعمل.
وإذا مر على المسلمين زمان غلت فيه الأسعار، وقلت الغلات، وتزعزع الاقتصاد، وأصبحت الحياة شديدة، فليراجعوا أنفسهم، وليقفوا معها وقفة محاسبة، وليعرضوها على كتاب الله عز وجل، فإن كانوا صادقين فسيعرفون مرضهم، وسيجدون علاجه في كتاب الله عز وجل، كما قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38].
ووجد جلال الدين نفسه قريباً من الخلافة العباسية في العراق، وتذكر الخلافات القديمة بينه وبين الخلافة العباسية، فقرر غزو الخلافة العباسية.
فقد كان الزعماء في ذلك الوقت مصابون بالحول السياسي، فحاصر البصرة لمدة شهرين ولم يستطع فتحها، فتركها واتجه إلى الشمال، وقرب من بغداد وحاصرها، فخاف الناصر لدين الله الخليفة العباسي على نفسه وعلى مدينته، فحصن المدينة وجهز الجيوش، ولكنه لم يكن صاحب حرب ولا يستطيع الحرب، ففعل فعلاً شنيعاً بشعاً مقززاً لا يتخيل، يقول ابن الأثير تعليقاً على هذا الفعل: فعل الذنب الذي يتصاغر إلى جواره كل الذنوب، فقد أرسل إلى التتار يستعين بهم على حرب جلال الدين ، وهو يعلم تاريخهم وحروبهم مع المسلمين. ولو كان الظلم كل الظلم مع جلال الدين والحق كل الحق مع الخليفة أفيأتي بالتتار لنجدته؟!
أما علم أن التتار إذا قضوا على جلال الدين فإن الخطوة التالية مباشرة هي القضاء على الخلافة العباسية؟!
فقد أراد خليفة المسلمين أن يطيل فترة ملكه أعواماً قليلة، وأن يموت عبداً للتتار بدلاً أن يكون عبداً لـجلال الدين ؟!
وأنا لا أدافع عن جلال الدين ، بل ألومه أشد اللوم على تفريق طاقة المسلمين وجعل بأسهم بينهم، وإنني أشبه جلال الدين بـصدام حسين ، فالدنيا كانت مشتعلة في كل مكان بسبب التتار، وهو يريد محاربة الخلافة العباسية، وصدام حسين كانت الدنيا كانت مشتعلة في أفغانستان وفلسطين والشيشان وكشمير، وهو ذاهب لمحاربة الكويت. ومع أن جلال الدين كان معتدياً إلا أن الحل لم يكن بأن نأتي بقوة كافرة مهولة مروعة لنزرعها في داخل بلاد المسلمين، لكي تحل لهم مشاكلهم، وتعالج أمراضهم.
فكان الخليفة العباسي كالمستجير من الرمضاء بالنار، وكمن دخل عليه لص في بيته فاستجار بأكبر زعماء العصابات في المنطقة، فإنه سيخرج اللص الصغير ويحتل البيت، بل ويحتل العمارة كلها، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
لكن التتار في ذلك الوقت كانوا مشغولين عن حرب جلال الدين ، فلم يأتوا ليساعدوه، ولم يستطع جلال الدين أن يدخل بغداد، فتركها وانتقل إلى غيرها من البلاد.
وكانت حروب جلال الدين ومن معه من الجنود الخوارزمية حروباً شرسة مفسدة، مع أن كل البلاد المغنومة بلاد إسلامية، فكان يفعل بهم الأفاعيل من قتل وسبي ونهب وتخريب، وكأنه تعلم من التتار قسوة القلب، فبدلاً من أن يرحم الناس الذين تعذبوا على أيدي التتار سنوات، بدأ هو كذلك يشترك في التعذيب، حتى بلغ سلطانه من جنوب فارس إلى الشمال الغربي لبحر قزوين من إيران، وهي وإن كانت منطقة كبيرة إلا أنها كلها كانت مليئة بالقلاقل والاضطرابات والارتباكات، بالإضافة إلى العداءات الكثيرة التي أورثها جلال الدين في قلوب كل سكان المنطقة، وسياسة العداءات والمكائد والاضطرابات ورثها جلال الدين بن خوارزم عن أبيه محمد بن خوارزم ، ولم تأت هذه السياسة إلا بالويلات الشديدة على الأمة، وليت المسلمين يفقهون.
حتى قال ابن الأثير : لو قال قائل: إنه لم يل الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقاً، فقد رفع الضرائب الباهظة، وأعاد للناس حقوقهم، وأخرج المظلومين من السجون، وتصدق على الفقراء، حتى قيل في حقه: إنه كان غريباً تماماً على هذا الزمان الفاسد.
ثم قال ابن الأثير فيه كلمة في منتهى العجب، فقال: إني أخاف أن تقصر مدة خلافته؛ لأن زماننا وأهله لا يستحقون خلافته، فقد كان المجتمع فاسدًا إلى هذا الحد.
وصدق ظن ابن الأثير ، فقد مات الظاهر بأمر الله بعد تسعة أشهر، ومع ذلك فكما يذكر الرواة: رخصت الأسعار جداً في فترة حكمه, فتحسن الاقتصاد في العراق في تسعة شهور، وهي إشارات لا تخفى على عاقل، فالحمد لله الذي وضع في الأرض سنناً لا تتبدل ولا تتغير.
ثم تولى الحكم بعد الظاهر بأمر الله المستنصر بالله.
وإني لا أجد أبداً تفسيراً منطقياً لهذا التردي في الأخلاق والفهم والسياسة والحكمة، وفي كل شيء، ولولا أن هذا مسجل في أكثر من مرجع لما قبله عقل أبداً، ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله.
ولكن اللوم كل اللوم على الذي أوصل المسلمين إلى هذه الحالة من الضعف، التي مكنت هذا الفاسد من أن يفعل في بلاد المسلمين ما يشاء.
وبموت جنكيز خان هدأت الأمور نسبياً في هذه المنطقة، واحتفظ التتار بما ملكوه من بلاد المسلمين إلى وسط إيران تقريباً، وكان جلال الدين يبسط سيطرته على المناطق الغربية من إيران ومن بحر قزوين، ووقف القتال، وكأن كل فريق قد رضي بما يملك، وكأن التتار في دولتهم وجلال الدين في دولته.
وكان المسلمون خلال هذه الفترة على ما عهدوه من الخلاف والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، ولم يستغلوا مصيبة التتار في زعيمهم الكبير جنكيز خان لجمع صفوفهم وتحرير بلادهم، ولكن شغلوا بأنفسهم، وبمحاربة بعضهم لبعض.
وهذه الحالة لم تكن فقط في أرض العراق وغرب إيران فقط، ولا بين جلال الدين والخليفة العباسي فقط، بل كانت عامة في عموم العالم الإسلامي، فكل المنطقة كان تموج بالاضطربات والفتن، وكانت الحروب مستمرة بين أمراء المسلمين في الشام ومصر، ولم تتحد كلمتهم أبداً، مع أن معظم الحكام في هذه المنطقة كانوا من الأيوبيين، وبينهم صلة رحم قوية، وكانت تقوم الحرب أحياناً بين الإخوة الأشقاء.
نعوذ بالله من الضعف بعد القوة، ومن الذلة بعد العزة، ومن الخذلان بعد النصر.
وعند رؤية هذه الأحداث في كل بلاد المسلمين نعلم سبب تمكن التتار من هذه البلاد مع ضخامتها وأعدادها وثرواتها، فهذه سنة ثابتة في الكون، ومن كانت هذه حالته فلابد أن يسلط عليه طواغيت الأرض، فالله عز وجل لا ينصر إلا من نصره، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160]، لا أحد.
نظم أوكيتاي أمور دولته في الأربع السنوات الماضية في منطقة منغوليا والصين، وبدأ يفكر من جديد في اجتياح العالم الإسلامي، بل وفكر في استكمال الحروب في داخل روسيا، والخروج منها على أوروبا.
أولاً: شدة حصانة بغداد، فقد كانت من أحصن مدن العالم في ذلك الوقت، وعمرها (500) سنة تقريباً، وكان سكانها ثلاثة ملايين أو أكثر.
ثانياً: لم يرد استثارة المسلمين في العراق والشام ومصر لسقوط الخلافة العباسية، فالخلافة العباسية كانت تمثل رمزاً هاماً للمسلمين على ضعفها.
ثالثاً: كان يريد جعل الخلافة العباسية آخر خطوات الاحتلال، فكان يريد أخذ كل البلاد المحيطة بها، ثم بعد ذلك يفتح العراق كلها، وهذا هو عين الذكاء.
لما وصل جلال الدين إلى شمال العراق وحيداً شريداً طريداً، أخذ ينتقل بمفرده بين القرى فاراً من التتار، واختفى ذكره من البلاد شهوراً متصلة، ولا أحد يعرف هل مات أم لا؟ حتى وصل إلى إحدى القرى فاستقبله فلاحاً من الأكراد، وسأله: من أنت؟ فقد استغرب من شكل جلال الدين ؛ لأنه كان متحلياً بكمية كبيرة جداً من الذهب والجواهر، فقد أخذ كل كنوزه معه وهرب، فقال له: أنا ملك الخوارزمية، فقد أراد أن يبث الرعب في قلبه حتى يطلب الأمان عنده، فعندما سمع الفلاح هذه الكلمة قال له: تفضل، وأدخله بيته وأطعمه وسقاه حتى نام، وكان هذا الفلاح قد قتل أخوه على يد جلال الدين بن خوارزم ، فلما نام جلال الدين قام إليه الفلاح وقتله بالفأس، ثم أخذ رأسه وسلمه إلى زعيم شمال العراق الأشرف العادل ؛ لأنه كان بينه وبين جلال الدين حروباً طويلة قبل ذلك، وانتهت قصة جلال الدين بن محمد بن خوارزم هذه النهاية المأساوية.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول فيما روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]).
وبفرار جلال الدين بن خوارزم سقط كل إقليم فارس في يد التتار، ما عدا الشريط الغربي فقط، وهو شريط ضيق جداً كانت تسيطر عليه الإسماعيلية الشيعية.
ثم قرر أن يوقف الحروب؛ لكي يرسخ أقدام التتار في هذه المناطق الواسعة، فأوقف الحروب 5 سنوات كاملة، من عام (629هـ) إلى عام (634هـ)، وأثناء هذه السنوات الخمس لم تخرج عليه ثورة مسلمة واحدة، ولم يتحرك له جيش مسلم من أي بلد، مع أن جيوش المسلمين كانت تملأ المناطق المجاورة لفارس وأذربيجان في كل مكان، في العراق والموصل ومصر والحجاز والشام.. وغيرها، ولكن الكل كان يشعر أن هذا أمر يهم أهل فارس وأذربيجان، وأنه ليس يهم جميع المسلمين، فلم يشعر المسلمون في الأقطار التي لم تصب بعد بويلات التتار أن عليهم واجباً تجاه هذه البلاد المنكوبة، ولم يشعروا أبداً أن الدائرة حتماً ستدور عليهم في يوم من الأيام.
أضف إلى ذلك أن المسلمين في العراق والشام ومصر والحجاز كان غالبيتهم من العرب، بينما غالب المسلمين في إقليم فارس وأذربيجان وشرق الدولة الخوارزمية كانوا من غير العرب، ومع غياب الفهم الإسلامي الصحيح، والاستيعاب الكامل للأسس الحقيقية التي يبنى عليها الدين، لم يعد العربي يشعر بأخيه غير العربي ولا العكس، بل كانوا يشعرون أنهم غرباء عن بعضهم البعض، وهم في الحقيقة إخوة، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
أمر شنيع حقاً ألا يشعر المسلم العربي بأخيه المسلم التركي أو الأفغاني أو الشيشاني أو الهندي أو الفارسي، فهذا أمر قاصم لظهر الأمة الإسلامية، فالإسلام دين لا يرتبط بعرق ولا عنصر ولا لون ولا جنس، ولا يرتبط إلا بالإيمان بالله وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فالإسلام لا يرتبط إلا برباط العقيدة، ولا شيء غيرها.
وقد روى الإمام أحمد بسند مرسل عن أبي نضرة رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأيها الناس! ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى). فالقاعدة واضحة، فلا مكان لعرق أو لون في الإسلام، وإنما المكان للتقوى فقط، فالمسلم الصادق حقاً هو الذي يتحمس لمن اشترك معه في العقيدة ولو اختلف أصله أو لونه أو نسبه.
أولاً: تمكن الدنيا من قلوب المسلمين، وإذا أُشرب القلب حب الدنيا خرج منه حب الآخرة والشرع والمثل والأخلاق، وحب كل فضيلة.
ثانياً: التشاحن والتصارع والبغضاء التي تفشت بين المسلمين، ووصلت إلى الصراع بين ذوي الأرحام والأشقاء.
ثالثاً: ترك الجهاد، وعدم الاستعداد له، وعدم تربية الناس على الروح القتالية، وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا.
رابعاً: عدم الاستعداد المادي للقتال، وعدم الرؤية الواضحة، والخطة السياسية، والرأي الحكيم، وعدم التدرب على القتال وإعداد السلاح له، فلم يكن يوجد أي نوع من الإعداد في الأمة الإسلامية في ذلك الوقت.
خامساً: القبلية، والاعتداد بالعنصر والعرق، وعدم اعتراف المسلمين بإخوانهم المسلمين المنتمين إلى أعراق مختلفة.
والمرض الواحد من هذه الأمراض الخمسة يهلك أمة، فكيف لو اجتمعت هذه الأمراض وغيرها في الأمة الإسلامية في ذلك الوقت؟ هذا كله يفسر ما حدث من اجتياح تتري رهيب للأمة الإسلامية.
ثبّت شورماجان قدمه في المنطقة خمس سنوات، إلى سنة (634هـ)، ثم في هذه السنة عاد الجيش التتري إلى اجتياح العالم من جديد، ولقد اختلف هذا الاجتياح اختلافات كثيرة عما سبق، ليس في طريقة القتال أو أسلوب الحرب، فدموية التتار لم تتغير أبداً، ولكن في المناطق المفتوحة، فقد دخل جيش التتار مناطق جديدة لم يدخلوها قبل ذلك، ولقد اختلف الأمر حتى في طرق الإعداد، وفي السياسة التترية بصفة عامة، ولقد عانى أهل الأرض جميعاً معاناة شديدة من هذا الغزو التتري الجديد.
ترى ما هي تفاصيل هذا الغزو؟
وما هو رد العالم الإسلامي؟
وهل سيفكر التتار في غزو العراق أم لا؟
وما هو موقف الصليبيين في أوربا من هذه الحملات التترية البشعة؟
هذا ما سنعرفه وغيره إن شاء الله في المحاضرة القادمة.
أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يجعل لنا في التاريخ عبرة، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر