إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
ثم أما بعد:
فهذا الشهر الكريم شهر رمضان ليس شهر الصيام والقيام وقراءة القرآن فحسب، ولكنه كذلك شهر الدعاء؛ لأنه شهر تفتّح فيه أبواب السماء، وتفتّح فيه أبواب الرحمة، وتفتّح فيه أبواب الجنة، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه بعد آيات الصيام قوله عز وجل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] فلا ينسى العبد نفسه من الدعاء في هذا الشهر الكريم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة، ثم تلا قوله عز وجل: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60])، فسبحان الله العظيم ذو الكرم الفياض والجود المتتابع، جعل سؤال عبده لحوائجه وما يصلحه في الدنيا والآخرة عبادة، وأمر العبد به، واعتبر الذين لا يدعونه عز وجل ولا ينزلون حوائجهم به عز وجل مستكبرين، فقد أمر الله عز وجل بالدعاء ووعد بالإجابة، قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي كريم يستحي من الرجل إذا رفع يديه أن يردهما صفراً خائبتين)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تعجزوا في الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم أو قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجّل له دعوته، وإما أن يدّخر له الأجر في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها)، فالله عز وجل يقبل الدعاء، ولكن الصورة التي يقبل فيها الدعاء تختلف، فقد يجيب العبد إلى سؤاله، وقد يدّخر له أجراً في الآخرة، وقد يصرف عنه من البلاء والمصائب ما هو أعظم مما دعا به العبد.
رأى أحد العلماء رجلاً يتردد على أحد الملوك، فقال له: يا هذا! تذهب إلى من يسد دونك بابه، ويظهر لك فقره، ويخفي عنك غناه، وتدعُ من يفتح لك بابَه ويظهر لك غناه، ويقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه).
قال الشاعر:
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تُحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يُسأل يغضبُ
فالله عز وجل يغضب حين لا يسأله العبد، أما ابن آدم يغضب حين يُسأل؛ لأن الله عز وجل ليس كمثله شيء وهو غني كريم يحب أن يتفضّل على عباده، يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم ينقص ما في يمينه.
فالدعاء سبب مقتض للإجابة إذا توفّرت الشرائط وانتفت الموانع، وشرائط الدعاء هي آداب الدعاء.
ومن آداب الدعاء:
1- أن يدعو العبد ربه وهو موقن بالإجابة؛ لأن الله عز وجل وعد بالإجابة، فقال: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
2- أن يعظّم العبد الرغبة في الله عز وجل؛ لأن الله عز وجل غني كريم، لو أعطى كل الخلق جميع ما يؤملونه لما نقص ذلك مما عند الله عز وجل إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر، فالعبد يطمع في الله عز وجل، وفي رحمته وكرمه.
3- ألا يعجل العبد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، قالوا: كيف يعجل يا رسول الله؟ قال: يقول: دعوت فلم يستجب لي)، فالعبد يطلب المسألة من الله عز وجل مرة أو مرتين أو ثلاث أو أكثر من ذلك، ثم يترك الطلب ويترك الدعاء؛ لأنه لم يجد الإجابة على الصورة التي طلبها، فهذا يكون كالمبخِّل للرب الكريم الذي لا ينقصه العطاء، بل ينبغي على العبد أن يلازم الدعاء، ومن داوم طرق الباب يوشك أن يُفتح له، ويمثلون من يدعو بشيء معين ثم يترك الدعاء به بمن حرث الأرض وبذر البذر، وتعهّد الزرع بالخدمة، ثم استبطأ خروج الثمر فترك الزرع فأضاع مجهوده السابق، فينبغي للعبد أن يلازم المسألة.
4- أن يحسن الظن بالله عز وجل، فيقول: لعله يستجيب لي، أو يدّخر لي أجراً، أو لعله يصرف عني سوء، ويسيء الظن بنفسه فيقول: لعلي قاطع رحم، أو لعل مطعمي حرام أو مشربي حرام، فيراجع نفسه ويراجع عبادته مع الله عز وجل.
5- أن يلح العبد في الدعاء، (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا سلّم سلّم ثلاثاً).
6- أن يتخير العبد الأوقات والأحوال والدعوات.
يتخير الأوقات كيوم عرفة من أيام السنة، وليلة القدر من بين الليالي، والثلث الأخير من الليل، وأن يتحرى ساعة الجمعة، والراجح أنها آخر ساعة من بعد عصر يوم الجمعة أي: قبل المغرب، وقيل: هي ساعة صعود الخطيب المنبر إلى حين ينزل.
أيضاً الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد.
ويتخير الأحوال كحال نزول المطر؛ لأن الله عز وجل قرن نزول المطر بالرحمة فقال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى:28]، وحال السجود، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) أي: جدير أن يستجاب لكم.
كذلك عند زحف الصفوف لرفع راية الله عز وجل وإعلاء كلمته عز وجل، يقولون: شرف الحال لشرف الوقت، فيوم عرفة يوم تكثر فيه الأسئلة على الله عز وجل ويكثر فيه الدعاء، والله عز وجل ليس كمثله شيء، فترجى الإجابة عند كثرة المسائل، كذلك عند ساعة الجمعة ترتفع الأيدي وتُظهر شعيرة الجمعة فعند ذلك يُرجى قبول الدعاء.
ينبغي أن يتخير العبد كذلك الدعوات القرآنية أو ما ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتكلّف السجع في الدعاء.
7- أن يطيّب العبد مطعمه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه يقول: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وغُذي بالحرام، فإنى يُستجاب لذلك؟) فالله عز وجل ما فرّق بين الرسل الكرام وبين عامة المسلمين في الأمر بالأكل من الحلال الطيب فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، ودعوة المسافر مستجابة للمشقة التي يجدها ولكسرة قلبه، والله عز وجل يقبل دعاء المنكسرة قلوبهم إذا مدوا أيديهم، ورفع اليدين متواتر في الدعاء يقول: يا رب يا رب، وفي هذا إلحاح على الله عز وجل باسم الربوبية، وهذا أيضاً من آداب الدعاء.
8- أن يبدأ دعاءه بحمد الله عز وجل والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو ويختم كذلك بالحمد والثناء والصلاة على رسول الله. (رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو لم يحمد الله عز وجل ولم يصل على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: عجّل هذا، ثم دعاه وقال له ولغيره: إذا دعا أحدكم فليبدأ بتحميد الرب جل وعلا، ويثني بالصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم).
9- أدب الباطن وهو التوبة والاستجابة لله عز وجل، فمن أراد أن يستجيب الله عز وجل له فينبغي أن يستجيب لله عز وجل، كما قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، فإذا استجاب العبد لله عز وجل يكون على رجاء الإجابة.
نسأل الله تعالى أن يتقبل منا دعاءنا وصلاتنا وصيامنا وقيامنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر