إسلام ويب

فضل العلم وشرفهللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد رفع الله شأن العلم وأهله، فأهل العلم هم أحب الخلق إليه سبحانه، وفي مقدمتهم الأنبياء والرسل، فهم أخشى الناس لله وأتقاهم له، وبالعلم والإيمان يشرف المرء عند ربه ويرتفع قدره، فكم من وضيع رفعه الله بالعلم، وكم من نسيب وضع بالجهل.

    الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى له طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته.

    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه، كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه، وسلم تسليماً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.

    عباد الله! تضافرت الأدلة كلها على شرف العلم وأهله.

    قال الإمام أحمد رحمه الله: حاجة الناس إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب.

    لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس؛ لأن العبد في كل وقت وفي كل لحظة له حال، وقد يكون له قول أو عمل يحتاج أن ينظر إلى ذلك بالعلم.

    ومما يدل على شرف العلم قول الله عز وجل: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].

    دلت هذه الآية عباد الله على شرف العلم من وجوه:

    الوجه الأول: أن الله عز وجل استشهد العلماء دون سائر الناس، فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18].

    الوجه الثاني: أن في ذلك تعديلاً لأهل العلم؛ لأن العدل هو الذي تقبل شهادته، كما ورد في الأثر (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلي)، ففي ذلك تعديل من الله عز وجل لأهل العلم؛ لأن الله عز وجل قبل شهادتهم، ولأن الله عز وجل ذكر شهادتهم.

    الوجه الثالث: عباد الله! أن الله عز وجل قرن شهادة العلماء بشهادته عز وجل وبشهادة ملائكته، فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ [آل عمران:18]، أي: الملائكة وأولو العلم شهدوا، فقرن الله عز وجل شهادة أهل العلم بشهادته عز وجل وبشهادة ملائكته.

    الوجه الرابع: أن الله عز وجل استشهدهم على أجل مشهود عليه، وهو شهادة أنه لا إله إلا الله.

    وقال عز وجل: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، فالله عز وجل يرفع أهل الإيمان وأهل العلم درجات، وهذه الدرجات لا يقصد بها درجات الآخرة وحدها، بل أهل العلم لهم من المنزلة ومن الشرف في الدنيا ما ليس للملوك ولا لأبناء الملوك.

    أرسل وهب إلى مكحول يقول له: لقد بلغت بظاهر علمك عند الناس منزلة وزلفى، فابتغ بباطن علمك عند الله منزلة وشرفاً.

    أي: أن العبد بظاهر العلم من الخطب والفتاوى والتصنيف وغير ذلك يصل إلى منزلة رفيعة في قلوب الناس، ولكن المنزلة عند الله عز وجل لا تكون إلا بباطن العلم، أي: بخشية الله عز وجل وبمحبة الله عز وجل، وبالإخلاص لله عز وجل.

    فالعبد يرتفع في الدنيا قبل الآخرة بالعلم النافع، كما قال سفيان الثوري : إن هذا الحديث عز، فمن أراد به الدنيا وجدها، ومن أراد به الآخرة وجدها. أي: أن العبد الذي يتعلم علم الحديث لابد أن يشرف؛ فإن أراد الآخرة شرف في الدنيا والآخرة، وإن أراد الدنيا فقد يرتفع في الدنيا وقد لا يرتفع.

    وقال سفيان بن عيينة : أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء.

    يعني: الأنبياء الذين يبلغون الناس دين الله عز وجل، والعلماء والدعاة الذين يعرفون الناس بربهم عز وجل، فهؤلاء هم أشرف الناس.

    ومما يدل على شرف العلم وفضله كذلك: قول الله عز وجل: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، فأمر الله عز وجل نبيه بالزهد في الدنيا والتقلل منها، وأمره بطلب المزيد من العلم: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].

    ووصف الله عز وجل كل متاع الدنيا بأنه قليل: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [النساء:77] (قليل) نكرة للتحقير.

    وقال الله عز وجل: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269]،

    وحصر الله عز وجل الخشية في العلماء، فقال عز وجل: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وكأنه ما يخشى الله عز وجل إلا العلماء؛ لأن (إنما) أداة حصر وقصر، فحصر الله عز وجل الخشية في العلماء.

    وقال عبد الله بن مسعود : كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله عز وجل جهلاً

    وقيل للشعبي : يا عالم! قال: إنما العالم من يخشى الله.

    فكلما ازداد العبد علماً ازداد خشية من الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية).

    قال تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [المائدة:17]، أي: لا أحد يملك من الله عز وجل شيئاً، فالكل ملك لله عز وجل، والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء.

    ومما يدل على شرف العلم كذلك عباد الله: أن الله عز وجل جعل صيد الكلب المعلم المدرب حلالاً وجعل صيد الكلب الجاهل حراماً، فهذا يدل على شرف العلم وأهله.

    كذلك دلت السنة المطهرة على ما دلت عليه هذه الآيات الكريمات من شرف العلم وأهله، من ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل أتاه الله مالاً وعلماً، فهو ينفق ماله يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأحسن المنازل عند الله، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو آتاني الله مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته، وهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأسوأ المنازل عند الله عز وجل، ورجل - أكثر الناس هذا الرجل- ليس عنده علم ولا مال، وينوي لو أن عنده مالاً لعمل فيه بمعصية الله عز وجل فهو بنيته، وهما في الوزر سواء) يعني: هو ينوي لو أتاه الله عز وجل مالاً لعصى فيه ربه عز وجل، ولمنع الزكاة الواجبة، ولما وصل بهذا المال رحمه، فهذا يلحق الثالث بالنية وهما في الوزر سواء.

    فعاد الشرف بجملته على العلم وأهله؛ لأن من عنده علماً ومالاً فهو بأحسن المنازل، ويلحقه بالنية من عنده علم وليس عنده مال، فهو بنيته، وهما في الأجر سواء.

    وأسوأ الناس منزلة من عنده مال وليس عنده علم، فهذا أسوأ الناس منزلة، ويلحقه بالنية من ليس عنده علم وليس عنده مال، فهذا بأسوأ المنازل عند الله عز وجل.

    ومن ذلك: ما ورد في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فمنطوق الحديث من أراد الله عز وجل به خيراً فقهه في دينه، ومفهوم الحديث بالعكس: من لم يرد الله به خيراً لا يفقهه في الدين، فمهما ملك العبد من المناصب، ومهما ملك من زينة الدنيا، ومهما نال من مناصبها، فإننا نجزم بأنه لم يرد الله عز وجل به خيراً؛ لأن الله عز وجل لو أراد به خيراً لعلمه دين الله عز وجل.

    فالدنيا كلها لا تساوي عند الله عز وجل جناح بعوضة، قال تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا [الإسراء:20]، فالله عز وجل جعل الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، لحقارتها عنده عز وجل، أما العلم النافع والفقه في دين الله عز وجل فهو علامة على محبة الله عز وجل للعبد، وهو علامة على أن الله عز وجل أراد بالعبد خيراً، فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، والمقصود بالعكس من لم يرد الله به خيراً لا يفقهه في الدين.

    ومن أدلة السنة أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها).

    فإذا أردت أن تحسد أحداً لا تحسد أهل المال، ولا تحسد أهل العبادة الصوام القوام، ولكن عليك أن تغبط الذين نفعهم يتعدى إلى غيرهم؛ لأن أجورهم متكاثرة: (رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) فهو ينفقه في أوجه الخير والبر، (ورجل آتاه الله الحكمة) وهي العلم والفهم والعمل بالعلم النافع، (فهو يقضي بها)، أي: يحكم بها ويعمل بها ويعلمها، فلا تحسد إلا أحد هذين الرجلين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088990850

    عدد مرات الحفظ

    780419643