وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
فارقت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون |
القبر أول ليلةٍ بالله قل لي ما يكون |
ليلتان اثنتان يجعلهما كل مسلمٍ في مخيلته: ليلة وهو في بيته مع أطفاله وأهله، منعماً سعيداً.. في عيشٍ رغيد، وعافية وصحة، يضاحك أطفاله ويضاحكونه، مع زوجته وأقاربه، والليلة التي تليها مباشرة ليلة أتاه الموت فوضع في القبر لأول مرة يقول الشاعر العربي:
فارقت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون |
يقول: انتقلت من مكان إلى مكان، وذهبت من موضع نومي في بيتي إلى بيتٍ آخر؛ فما أتاني النوم، فبالله كيف تكون الليلة الأولى في القبر حين يوضع الإنسان فريداً وحيداً إلا من العمل؟ لا زوجة ولا أطفال ولا أنيس: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62].
أول ليلة في القبر؛ بكى منها العلماء، وشكا منها الحكماء، ورثى فيها الشعراء، وصنفت فيها المصنفات.
أُتي بأحد الصالحين وهو في سكرات الموت، قد لدغته حية، وكان في سفرٍ فنسي أن يودِّع أمه وأباه، وأطفاله وإخوانه، فقال قصيدةً يلفظها مع أنفاسه، وتعتبر أم المراثي العربية في الشعر العربي، يقول وهو يزحف إلى القبر:
فلله دري يوم أترك طائعاً بني بأعلى الرقمتين وماليا |
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا |
يقول: كيف أفارق أطفالي في لحظة؟ لماذا لم أستأذن أبوي؟ أهكذا تختلف الحياة؟ أهكذا أذهب؟ أهكذا أفقد كل ممتلكاتي ومقدراتي في لحظة؟
ويقول عن نفسه: يقول لي أصحابي والذين يتولون دفني: لا تبعد، أي: لا أبعدك الله، وأين مكان البعد إلا هذا المكان؟ وأين الوحشة إلا هذا المنقلب؟ وأين المكان المظلم إلا هذا المكان؟ فهل تصور متصورٌ هذا؟
قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100] كلا! آلآن تراجع حسابك؟ آلآن تتوب؟! آلآن تنتهي عن المعاصي؟!
يا مدبراً عن المساجد ما عرف الصلاة! يا معرضاً عن القرآن! يا منتهكاً لحدود الله! يا ناشئاً في معاصي الله! يا مقتحماً لأسوارٍ حرمها الله! آلآن تتوب؟ أين أنت قبل ذلك؟
مات الحسن بن الحسن مات فجأة، ونقلوه إلى المقبرة، فحزنت عليه امرأته حزناً لا يعلمه إلا الله، وأخذت أطفالها وضربت خيمةً حول القبر -وهذا ليس من عمل الإسلام، ولولا أنَّ مؤرخي الإسلام ذكروه ما ذكرته- وأقسمت بالله لتبكين هي وأطفالها على زوجها سنةً كاملة.. هلعٌ عظيم، وحزنٌ بائس، وبقيت تبكي، فلما انتهت السنة أخذت أطناب الخيمة وحملتها، وأخذت أطفالها في الليل، فسمعت هاتفاً يقول لصاحبه في الليل: هل وجدوا ما فقدوا؟ فردَّ عليه هاتفٌ آخر يقول: لا. بل يئسوا فانقلبوا، ما وجدوا ما فقدوا، ما وجدوا ضيعتهم ولا وديعتهم.
كنز بحلوان عند الله نطلبه خير الودائع من خير المؤدينا |
قال: لا. بل يئسوا فانقلبوا، ما كلمهم من في القبر، وما خرج إليهم ولا ليلةٍ واحدة، وما قبَّل أطفاله، وما رأى فتاته، لا. ولذلك هذه هي أول ليلة، ولكن لها ليالٍ أخرى إذا أُحسن العمل، قال الله جلَّ وعلا: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21].
نحن في أبها فقدنا قبل شهرٍ أو ما يقاربه شابين اثنين، من أسرتين من أسر أبها، وقع عليهم حادث انقلاب وهم سائرون في طاعة الله، فكانت اللوعة، وعزاؤنا في الله أنهما كانا شابين صالحين، مستقيمين على أمر الله، أمَّا أحدهما فكان صاحباً للقرآن والقرآن صاحبه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} هذا الشاب كان يختم القرآن كل سبعة أيام، وقال والده: كان يقوم الليل، وما أحسن قيام الليل! فلذلك خفَّت المصيبة؛ لأنه قدم على روضة من رياض الجنة إن شاء الله، وزميله الآخر كان مستقيماً على أمر الله، لا يعرف إلا المسجد، والمصحف، والرفقة الصالحة، ولكن: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62].
هذا السلطان بنى قصوراً في بغداد، فدخل عليه الشاعر يهنئه بالقصور، ويقول له:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور |
يجري عليك بما أردت مع الغدو مع البكور |
عش ما بدا لك سالماً، عش ألف سنة، أو مليون سنة سالماً معافى مشافى، وما تريد من طعام وشراب فهو عندك، لكن اسمع ما يقول:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور |
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور |
فبكى السلطان حتى أُغمي عليه.
أول ليلة في القبر، وأنا أطالب نفسي وإياكم -يا معاشر المسلمين- أن نهيئ لنا نوراً في القبر أول ليلة، فوالله لا ينور لنا القبر إلا الإيمان والعمل الصالح، فلنقدم لنا ما يؤنسنا في القبر؛ يوم ننقطع عن الأهل والمال والولد والأصحاب.
وإنما هي مسائلة لمن نسي الله وأوامره وانتهك حدوده، نقول له: هل تذكرت يا أخي أول ليلة في القبر؟!
يقول له أحد العلماء: يا أمير المؤمنين! رأيناك قبل أن تتولى الملك وأنت في مكة في نعمةٍ وصحة وعافية، فما لك تغيرت؟ فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، ثم قال للعالم وهو ابن زياد: كيف يا ابن زياد لو رأيتني في القبر بعد ثلاثة أيام؛ يوم أجرد عن الثياب، وأوسد التراب، وأفارق الأحباب، وأترك الأصحاب، كيف لو رأيتني بعد ثلاث، والله لرأيت منظراً يسوءك. فنسأل الله حسن العمل.
والله لو عاش الفتى في عمره ألفاً من الأعوامِ مالك أمره |
متلذذاً فيها بكل لذيذةٍ متنعماً فيها بسكنى قصرهِ |
لا يعتريه الهم طول حياته كلا ولا ترد الهموم بصدرهِ |
ما كان ذلك كله في أن يفي فيها بأول ليلةٍ في قبرهِ |
والله لو عاش ألف سنة وما طرقه همٌ ولا غمٌ ولا حزن، والله لا يفي بأول ليلةٍ في القبر، ووالله لننزلنَّها جميعاً.
كان الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه إذا شيع جنازة بكى حتى يُغمى عليه؛ فيحملونه كالجنازة إلى بيته، قالوا: ما لك؟ قال: سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {القبر أول منازل الآخرة، فإذا نجا العبد فيه أفلح وسعد، وإذا خسر -والعياذ بالله- خسر آخرته كلها}.
والقبر روضةٌ من الجنان أو حفرة من حفر النيرانِ |
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده |
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ |
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر |
أتيت قبور الرؤساء والمرءوسين.. الملوك والمملوكين.. الأغنياء والفقراء، فناديتها: أين المعظم والمحتقر؟
تفانوا جميعاً فما مخبرٌ وماتوا جميعاً ومات الخبر |
فيا سائلي عن أناسٍ مضوا أما لك في ما مضى معتبر |
تروح وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور |
أرأيت أن قبراً مُيِّز عن قبر؟! أأنزل الملك في قبرٍ من ذهبٍ أو من فضة؟! والله لقد ترك ملكه، وقصوره، وجيشه، وكل ما يملك، ولُبِّس قطعة من القماش كما نلبس، وأنزل التراب.
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا |
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا |
خرج رجلٌ من الصالحين، وشيخٌ من المشايخ -أعرفه- من مدينة الرياض يريد العمرة بزوجته وأطفاله، وكانت زوجته صائمة قائمة ولية من أولياء الله، وفي تلك السفرة حدث شيء غريب وهو أنها ودعت أطفالها، وكتبت وصيتها، وقبَّلت أطفالها وهي تبكي؛ كأنه ألقي في خلدها أنها سوف تموت ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62] ذهب واعتمر بزوجته وكان هو وإياها في بيتٍ أُسس على التقوى، إيمانٌ وقرآنٌ، وذكرٌ وصيامٌ، وقيامٌ وعبادة، لا يعرفون الغيبة ولا الفاحشة ولا المعاصي، ولما رجع قطع طريق الطائف إلى الرياض فأتى الأجل المحتوم إلى زوجته وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:6-7] ذهب إطار السيارة فانقلبت، فوقعت المرأة على رأسها، لكنها إن شاء الله شهيدة أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16] وخرج زوجها من الباب الآخر ووقف عليها، وهي في سكرات الموت، تقول: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله، الله الله الله وتقول لزوجها: عفا الله عنك، اللقاء في الجنة، بلغ أهلي السلام وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21].
إي والله: أسأل الله أن يجمع تلك الأسرة في الجنة، وأن يجمعنا وأحبابنا وأقاربنا في الجنة.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا |
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا |
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا |
عاد الرجل وحده إلى الرياض، ودخل بيته، واستقبله الأطفال، وكان قد دفن زوجته وأتى بلا زوجة.. حياةٌ سهلةٌ وبسيطة، ولكن الموقف المرعب أن إحدى أطفاله، قامت تقول: أين أمي؟! قال: سوف تأتي، قالت: لا والله لا بد أن أرى أمي، وانهار الرجل، وقال لتلك الطفلة: سوف ترينها -بإذن الله- في جنةٍ عرضها السماوات والأرض، يعمل لها العاملون، ليست كدنيانا الحقيرة السخيفة التي يعمل لها الذين لا يريدون الله والدار الآخرة وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها |
قصورها ذهبٌ والمسك طينتها والزعفران حشيشٌ نابت فيها |
يا إخوتي في الله! يا شيخاً كبيراً احدودب ظهره ودنا أجله! هل أعددت لأول ليلة؟
يا شاباً متنعماً غرَّه الشباب، والمال والفراغ، هل أعددت لأول ليلة؟
إنها أول الليالي، وإنها إما أول ليلةٍ من ليالي الجنة، أو أول ليلةٍ من ليالي النار.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، وصلوا على أصحابه وترضوا، وعلى أحبابه.
أسأل الله لي ولكم الرضوان والسعادة في الدنيا والآخرة، وأسأل الله أن يصلح ولاة الأمر، وأن يهديهم سواء السبيل، وأسأل الله أن يصلح شباب الإسلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويكفر عنهم سيئاتهم، ويهيئهم بعملٍ صالحٍ لأول ليلة من ليالي القبر.
أسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت، ولا يُظْلِمَ أبصارنا وبصائرنا، ولا يجعلنا قوماً انحرفوا عن منهج الله، وابتغوا معاصي الله، وغفلوا عن آيات الله؛ فعموا وصموا، وظلوا وابتعدوا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر