والصلاة والسلام على أذن الخير، خير أذن وعت وحي الله وبلغته للناس، نشهد أنه بلغ الأمانة، وأدى الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فلقد رأيت كما رأى بعض الإخوة أن يكون هذا الدرس عاماً لا يتقيد بـ صحيح البخاري؛ لأن هناك قطوفاً في السنة وأحاديث جمة غالية، أي غالية في التوحيد والإيمان والسلوك والأحكام والأخلاق، لا توجد في صحيح البخاري، فليكن هذا الدرس مطلقاً في السنة، مرة نعيش مع البخاري في صحيحه العالي، ومرة مع مسلم، ومرة مع الترمذي في تصحيحاته وتضعيفاته، ومرة مع أبي داود في جمعه المحكم لأحاديث الأحكام، ومرة في الموطأ إلى غير ذلك من الرياض الجامعة التي تركها محمد صلى الله عليه وسلم وهي ميراثه، فمن أراد سهمه ونصيبه فليأخذه، فإن الميراث الذي تركه محمد صلى الله عليه وسلم هو هذا الحديث النبوي.
من زار بابك لم تبرح جوانبه تروي أحاديث ما أوليت من منن |
فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر والسمع عن حسن |
إنه علم ونجم من نجوم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أخلص لهذا الدين، وسعى لمشروع باهر وهو جمع الأحاديث الصحيحة كما فعل البخاري، فلما اطلع الله عز وجل على نيته وإخلاصه رفعه وحفظ كتابه: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17] إن من يتكلم لله يحفظ الله كلامه، ومن يكتب لله يحفظ الله كتابته، ومن يعمل لله يحفظ الله عمله، وأما المراءون والمفترون والدجالون فلا حظ لهم في سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
جاء أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري فعمل هذا الكتاب العظيم الذي أُرشدكم لمطالعته لتزدادوا إيماناً ويقيناً وعلماً وفهماً وفقهاً في الدين، فلقد أخذت منا الكتب البيضاء -ولا أهاجم كل الكتب البيضاء، لكن الكتب الرخيصة التي لا تساوى حبرها الذي كتبت به- أخذت منا الساعات الثمينة وصدتنا عن كتب السلف فأصبح علمنا محجوزاً وفهمنا للدين ضعيفاً هزيلاً.
فهل من عودة إلى كتب السنة؟ وهل من جلسة مع صحيح البخاري أو مع صحيح مسلم في الرياض اليانعة، في تلك البساتين الوارفة التي تقودك إلى جنات النعيم.
وهذا الكلام نفاذ أخاذ حار، تعرف كلام الرسول صلى الله عليه وسلم من كلام غيره، تجد الأعرابي في الصحراء يسمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من الراوي فيميز بين حديثه وحديث الناس؛ لأن حديثه صلى الله عليه وسلم أغلى من الدر، أو كأنه جواهر تتصبب على الآذان، أو كأنه قطر الغمام صافياً مصفى من السماء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أوتيت جوامع الكلم) قال النووي: هي أن يجمع له الله الكلمات الطويلة في جمل صغيرة، وعند الدار قطني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوتيت جوامع الكلم وخواتمه وفواتحه) وعند أبي يعلى الموصلي عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أوتيت جوامع الكلم وفواتحه وخواتمه، واختصر لي الكلام اختصاراً) عليه الصلاة والسلام.
فهو أفصح من نطق بالضاد، وأنتم تعرفون أنه ما تعلم في شبابه عليه الصلاة والسلام، فقد عاش حتى بلغ الأربعين من عمره ثم قال له الله تعالى: اخرج إلى البشرية فتكلم إليهم، اخرج إلى المعمورة فحدثهم بلا إله إلا الله، فخرج يحدثهم فإذا هو أفصح خطيب وأكبر قاض وأفتى مفتٍ وأبلغ بليغ، ما تلعثم في حياته كلها في كلمة واحدة، وما أراد أن يقول حرفاً فقال الحرف الذي بعده، يبقى في بيته حتى يجتمع الناس، فيقوم فيلقي خطبة تكاد الجدران أن تتباكى، وكذلك الصحابة إذا ألقاها صلى الله عليه وسلم عليهم، ويأتي عليه الصلاة والسلام فيسأله السائلون فيفتيهم في اللحظة؛ لأن كلامه وحي: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5].
إن يوم القيامة له كرب كما في الصحيح، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يخرج الناس من قبورهم فيصيبهم العرق، فمنهم من يصيبه العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ حقويه، ومنهم من يبلغ حلقه أو حنجرته ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً) نسأل الله السلامة، فإن هذا من الكرب، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا جمع الله الأولين والآخرين دنت الشمس من الرءوس واشتد الكرب بالنفوس وبلغ بهم الكرب أيما مبلغ، فذهبوا إلى آدم عليه السلام فقالوا: أما ترى ما نحن فيه؟ اذهب إلى ربك فاستشفع لنا فأنت من أنبياء الله ورسله، أنت أبونا، فيقول: نفسي نفسي، فتأخذ النوبة النبي بعد النبي حتى تصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقوم ويقول: أنا لها..... الحديث).
واستشفع الناس بأهل العزم في إراحة العباد من ذا الموقف |
وليس فيهم من رسول نالها حتى يقول المصطفى أنا لها |
فهذا السبب الأول: إن الله قد يبتليك من الهموم والغموم والهم والتعب ما لا يعلمه إلا الله، وفي هذا يحت خطاياك كما تحت الشجرة بالشتاء، فاحمد ربك على هذا؛ لأنه لو تركك بلا هم ولا غم لكان النصف هناك، إما في القبر أو يوم العرض أو في جهنم.
يسكن في القصر ويركب السيارة الفاخرة، ويأكل في أحسن المطاعم، ولكن همه معقود على جبينه، لا يعرف ما هو السر، يعرض نفسه على الكتب فيقرأ ويطالع ويبحث ويستذكر، ولكن حقاً ولزاماً من الحي القيوم أنه من أعرض عنه فإنه يرميه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالهم والقلق والضنك فلا يهدأ حتى يعود إلى لا إله إلا الله وإلى بيوت الله وإلى كتابه، ولذلك الهم لازم جد لازم للمعرضين عن الله عز وجل ولا دواء لهم إلا بالعودة.
فاعلم أن كل ما وصلك أنه بقضاء الله وقدره.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {دعاء الكرب أن تقول: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض رب العرش الكريم} إن من يقول هذا الدعاء يكاد ينخلع قلب السامع له؛ لأنه اتصال بالوحدانية.. بالله عز وجل، فعلَّم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديثابن عباس وللأمة جمعاء.
فجدير بنا أن نأخذ علاجاتنا من الكتاب والسنة، لا أن يأتي رجل أصابه قلق وهجس نفس فيذهب إلى أناس لا يصلون ويعرض أمراضه عليهم، كيف تطلب الصحة من مريض؟! وكيف تطلب الشفاء من سقيم؟! إن الدواء والبلسم في سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
فمن فوائده كما في الكتاب بالاستقراء ثلاث فوائد:-
أولها: أن الكوارث والحوادث المؤذية لا تصيب المستغفر بإذن الله، قال جعفر الصادق: لو نزلت صاعقة من السماء لأصابت كل الناس إلا المستغفر. فالكوارث الشنيعة والمحن والفتن لا تصيب المستغفر، مصداق ذلك في سورة الأنفال في قول الله تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33] فالاستغفار كشف للبلايا والحوادث والأزمات.
ثانيها: من أراد سعة الرزق والعافية والمتاع الحسن فعليه بالاستغفار، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن المتاع الحسن والرزق والسعة في الاستغفار، وذلك أنه من داوم على الاستغفار فتح الله له فتحاً لا يخطر بالبال ولا في الخيال، ومصداق ذلك قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على لسان نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً [نوح:10-13].
الأمر الثالث: جاء على لسان هود، يقول لقومه وهو يعظهم: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3].
فإن مما يكشف الكرب ويحطها بإذن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الاستغفار، واعلموا أنه قد وقع أناس كثيرون في الكرب والله عز وجل يكشفها عنهم.
فمن الكرب: القحط وما ينـزل في الديار والبلاد ولا يكشفه إلا الاستغفار.
قالوا لأعرابي: ما للقطر لا ينـزل في بلادكم؟ قال: هدأنا من الاستغفار فجف القطار، أي المطر.
[[و
وفي ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وجعلها في الجنة إنه يقول: إنها لتعجم علي المسألة الواحدة فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر فيفتحها الله علي. فبالله ما للذين يهتمون في قاعات الامتحان -وهم يجلسون كأنهم في ساحات الإعدام- لا يلتجئون إلى علام الغيوب؟ ما لهم لا يلتجئون إلى من عنده الفرج ومن بيده تسهيل القضايا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ويستغفرون كثيراً ليفتح الله عليهم من فتوحاته؟
ابن تيمية -بالمناسبة- يقول عنه تقي الدين بن شقير: رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية ما تفتر لسانه عن ذكر الله، فقلنا له: يا أبا العباس! نراك لا تهدأ لسانك أبداً؟ قال: قلبي مثل السمكة، إذا خرجت من الماء ماتت، وأنا قلبي إذا سكت عن الذكر مات، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] قال تقي الدين بن شقير تلميذه: فخرجت وراء شيخ الإسلام مرة من المرات في حديقة من الحدائق بحيث أراه ولا يراني في غوطة دمشق، وقد كان شيخ الإسلام في الشام في سوريا في تلك الفترة؛ لأن دمشق هي العاصمة، فكان يرسل قذائف الحق من دمشق وقد أيده الله ورفع رايته، وقد أوذي في الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أيما إيذاء، ولكن بقي اسمه وذهب أعداؤه وخصومه فيقول: ذهبت خلفه فلما أصبح خالياً رفع طرفه ودمعت عيناه وقال: لا إله إلا الله.
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا |
وهذا البيت لـمجنون ليلى، وهو يقوله لمحبوبته، ولكن فرق بين الودادين وما بين المحبوبين والمقصودين، فمقصود ابن تيمية: الواحد الأحد.. الفرد الصمد.. الحي القيوم.. ذو الغنى والقوة والعظمة، ومقصود ذلك عبد هزيل فقير لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
يقول ابن القيم في روضة المحبين سئل ابن تيمية رحمه الله: لماذا يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45] لماذا أوصاهم الله بالذكر وقت المعركة، لماذا لم يوصهم قبل المعركة أو بعدها، فهو يقول: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال:45] أي: وقت ما يصل المؤمنون تجاه الكفار.
فقال ابن تيمية: إن العرب على عادتهم يفتخرون بذكر المحبوب وقت الأزمات، أما سمعت عنترة يقول:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي |
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم |
قال: فعوَّض الله المؤمنين بذكره وقت الأزمات، قال: يقول عنترة إنه يذكر محبوبته يوم يضارب ويوم تشجي السيوف وتتقطع على رءوس الأبطال، فيقول الله عز وجل: عوضاً عما يفعل أهل الضلالة والجهالة وأهل البغي والعدوان: عودوا أنتم إلى محبوبكم، ولذلك فعل الصحابة رضوان الله عليهم، حضروا في اليرموك فقال معاذ -وقد قرأ سورة الأنفال على رءوس الأشهاد فما بقى أحد إلا بكى -قال: [[قولوا: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقالوا: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله]] ثم هزموا جيشاً قوامه ثلاثمائة ألف، لكن من كان الله في ميزانه وفي حزبه فأنى يغلب، فهو القوة العظمى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟!
المطلوب منك أن تجلس معه فإذا انقطعت حذاؤه وأنت تجلس بجانبه فعليك أن تواسيه: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157].
وتقول له: أسأل الله أن يحسن عزاءك وأن يكفر خطاياك، وأن يجبر ما أصابك فهو يتسلى ويرتاح ويفرح.
أرسل الحسن البصري إلى ثابت البناني العابد الكبير، حيث جاءه رجل يريد أن يشفع له ثابت إلى رجل -لأن هذا الرجل يريد مالاً- فذهب إلى الحسن البصري، فقال: أريد من فلان أن يقرضني مالاً، وأريد أن ترسل معي ثابتاً البناني؛ لأن عنده وجهاً -صاحب وجه وجاه- قال الحسن البصري: اذهبوا إلى ثابت في المسجد ليذهب مع هذا الرجل، فذهبوا إلى ثابت فوجدوه يصلي في المسجد فأخبروه الخبر، فقال: لا. أنا أصلي في بيت الله فلا تخرجوني منه، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه، قال: اذهبوا إليه وقولوا له: [[يا أعيمش! -أعيمش تصغير أعمش- يا أعيمش! أظننت أن صلاتك هي العبادة كلها؟ والله لذهابك مع أخيك المسلم لقضاء حاجته خير من ألف ركعة]] فلما أخبروه ترك وذهب معهم ليشفع.
ولذلك من كان عنده جاه فليفرج به الكرب عن المسلمين، وليتوسط ويتوسل في غير حرام، وليشفع بتقديم كلمة أو يذهب بنفسه إلى المسئول ليعرض حاجة من لا يستطيع رفع حاجته، أتظنون أن الناس يستطيعون رفع حوائجهم إلى المسئولين؟ لا. إنهم يبكون على الأرصفة لا يجدون من يرفع حوائجهم واستفساراتهم ومطالبهم، فيموتون وهي في صدورهم.
يقول صلى الله عليه وسلم: {أولئك جدد القلوب، خلقان الثياب إذا شفعوا لم يشفعوا، وإذا نكحوا لم ينكحوا، وإذا سألوا لم يعطوا، يموت أحدهم وحاجته في صدره} هؤلاء بحاجة إلى أن يمد الإنسان يد العون إليهم.
فهذا العمل صالح، علمه الله من العبد حيث كان يقدم هذا العمل العظيم، ولكن لا يغفل الله عن أي عمل، ولذلك ورد في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة قال: {مرَّ رجل من بني إسرائيل بشجرة كان غصنها في الطريق، فقال: أرفعه لا يؤذي المسلمين -كم من المشقة وجدها وكم من التعب؟! فكسر الغصن وحوله عن الطريق- فشكر الله له وأدخله الجنة}.
وعمر هو المستساغ عند أبي بكر وهو الرجل الذي يستمع له أبو بكر دائماً، حتى لما كان في سكرات الموت قال لـعثمان: اكتب: والخليفة من بعدي، فسكت، فكتب عثمان -خاف أن تختلف الأمة- عمر بن الخطاب. فأفاق أبو بكر وقال: من كتبت؟ قال: عمر، قال: صدقت، ولو كتبت غيره لأنبتك، حتى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفون منزلته. فهذا علي أبو الحسن -أمير المؤمنين الذي تقول الرافضة: أن الخلافة كانت له ولكن هضمها وحرمها- يقول على منبر الكوفة: لا يأتي رجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري.
ويقول علي رضي الله عنه وأرضاه: لطالما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر عمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر. فالمسألة مكشوفة للعيان عند أهل السنة والجماعة، أن الرجلين هما أهل الخلافة ثم يأتي عثمان وعلي. قال الإمام أحمد: من لم يثلث بـعثمان ويربع بـعلي فهو أجهل من حمار أهله -بليد- وهذه تنطبق على الذين فضلوا علياً على الثلاثة، رضي الله عنهم جميعاً ونسأل الله أن يحشرنا معهم جميعاً.
الشاهد: فـعمر كان يسأل نفسه: مالـأبي بكر يخرج من المسجد كل صباح؟! فقال: لأمشين وراءه هذا اليوم، فمشى وراء أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه -أتظنون أن أبا بكر يذهب للسياحة أو للنـزهة أو يلعب كرة رضي الله عنه وأرضاه- قال عمر: فدخل في خيمة لأعرابية في ناحية من نواحي المدينة -وعمر في الجبل لا يعلم به أبو بكر - فلما خرج من الخيمة دخلت وراءه فوجدت عجوزاً عمياء حسيرة كسيرة عندها جوارٍ صغار -بنات- وعندها نوق وشياه وشيء من الغنم، فدخل عمر وقال: يا أمة الله! من أنت؟
قالت: أنا عجوز عمياء حسيرة.
قال: ومن هذا الرجل الذي يأتيكم؟
قالت: لا أعرفه -ما أعلمها أنه أبو بكر أو قال لها: أعلمي الناس أن أبا بكر يأتيك كل صباح مثلما يفعل بعض الناس حيث يدفع للفقير ريالاً ثم يتنحنح ليراه جماعة المسجد- فقال: من هذا الرجل؟ قالت: لا أعرفه.
قال: فماذا يفعل إذا أتى؟
قالت: يأتي فيقمّ البيت -أي: يكنس البيت- ويصنع لنا إفطارنا ويغسل لنا أشياءنا وينظف لنا ملابسنا، فبكى عمر وقال: أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر. إي والله، أتعب الخلفاء بعده، وهذا هو الإسلام وهذا هو الإيمان وهذا هو القرآن الذي يمشي على الأرض، يوم جعلهم الله خير أمة أخرجت على وجه الأرض، أولها الصحابة.
ويأتي من بعدهم إنسان ينام عن صلاة الفجر يقال له: لماذا لا تصلي؟ قال: الحمد لله نحن بخير، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].
إن خير أمة أخرجت للناس الذين قطعت لحومهم في سبيل الله، وسكبت دماؤهم في رفع لا إله إلا الله وفي حفظها، خير أمة أخرجت للناس من بلغوا دين الله في أخلاقهم، كان التاجر يذهب إلى جاكرتا في إندونيسيا فلا يدعو ولا يجمع الناس يوم السبت ليلقي عليهم من صحيح البخاري ولا يلقي محاضرة، إنما يتعامل بالصدق والأمانة، يمر من الشارع في جاكرتا وهو تاجر لا يحفظ إلا الفاتحة وقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق، فيرون وجهه فإذا عليه النور ويرون معاملته فإذا هي الصدق والوفاء، ويرون معاملته فإذا هو قرآن يمشي فوق الأرض، فيدخلون في دين الله أفواجاً، فلم يدخل جيش جرار ماليزيا ولا إندونيسيا بل دخلها تجار يبيعون ويشترون، فلما علم الله الصدق منهم بلغ دينه ودعوته بهذا.
فيقول عليه الصلاة والسلام: {من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة} يوم يجتمع الناس في يوم العرض الأكبر فتشتد الكرب عليهم فيكشف الله عن كل من كشف عن المسلمين كربة، كربة بكربة حتى يزيل الله الهم والغم عمن قدم، وهذا واقع، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في صحيح مسلم: {كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس} وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم الطائي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يدني الله عبده فيكلمه ليس بينه وبينه ترجمان يوم القيامة، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار، فاتقو النار ولو بشق تمرة}.
ولكن بماذا يكون تنفيس الكرب؟
قال أهل العلم: تنفيس الكرب بأنواع وأصناف منها: إطعام الجائع، فهو تنفيس كربة؛ لأنه ليس كل الناس يستطيعون الطعام أو يجدونه. وبعض الناس إذا شبع وأصيب بالتخمة من الكبسات وشرب الشاهي بالنعناع، قال: الحمد لله نحن في نعمة من الله جزيلة، والناس في جنوب أفريقيا وفي موزنبيق يموتون جوعاً، ومن معه ومن في عمارته ويسكن بجانبه يموت جوعاً أو لا يجد هذا النعيم، فلذلك ورد عن أبي هريرة أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {يقول الله عز وجل: يا بن آدم! جعت فلم تطعمني قال: وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: إن عبدي فلاناً جاع فما أطعمته، أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي. يا بن آدم! ضمئت فلم تسقني. قال: كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: ألم تعلم أن عبدي فلاناً ضمئ ولم تسقه، أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي. يا بن آدم! مرضت فلم تعدني. قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، أما إنك لو زرته لوجدت ذلك عندي، فيتمنى الناس بعد ذلك أنهم يعودون إلى الدنيا
فإبراهيم عليه السلام كانت شجاعته وكرمه لله، حتى يقول عز من قائل: فَرَاغَ [الذاريات:26] يعني: من كرمه ومن سماحته ومن جوده راغ، يعني: اختفى أو ذهب بروغان ليس صمداً عمداً، لم يذهب أمام الضيف، إنما اندس وذهب فذبح عجلاً كبيراً حينئذٍ، ثم حنذه كما في سورة الذاريات أنه سمين، فهو سمين حنيذ، ثم قدمه للضيف؛ لأن البخيل لا يروغ ولا يندس، بل يأخذ شفرته أمام الضيف ثم يسنها ويحدها ويصلي ركعتي الاستخارة ويدعو الله عز وجل إن كان الخير في أن يذبح هذا الكبش إن الله يسهل له أن يذبحه، وإن كان الشر في أن يذبح هذا الكبش فإنه يدعو الله أن يصرف عنه هذا الشر، ثم يقوم ويشاور ويعوذ بالله من الكرب فما يأتي هذا الكبش إلا وعليه من الندامة والأسف كأنك لا تأكل لحماً، بل كأنك تأكل علقماً، لأنهم يقولون: وليمة اللئيم إنما هي سقم يعني: لا يجد الإنسان فيها إلا سقماً، يعني: لا يجد الإنسان فيه شفاءً إنما هي سقم، ولذلك العرب تفتخر بأنها تبش وتهش للضيف قبل أن يصل، ولذلك ليس الكرم في كثرة الضيافة، فبعض الناس يقدم من الأطعمة شيئاً كثيراً لكنه غضبان؛ لأنهم ملئوا المجلس عليه وافترسوا أكله، لكن الكريم من العرب من يهش ويبش، يقول الأزدي:
أحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب |
فما عندي في البيت شيء، ولكن قبل أن ينـزل من راحلته أحادثه وأمازحه:
وما الجود للأضياف أن يكثر القرى و لكنما وجه الكريم خصيب |
فإبراهيم عليه السلام كان له قصر في فلسطين، وكان هذا القصر له بابان فقال لغلمانه وخدمه: من أتى منكم بضيف فهو حر لوجه الله، فكان هؤلاء العبيد يقفزون الجبال ويذهبون إلى أماكن الفقراء والمساكين ليأتوا بالضيوف، ووصفه الله أنه كريم في القرآن فأوتي بضيف مرة فدخل عليه وإذا بهذا الضيف كافر، يظن إبراهيم أنه موحد، فضيوف إبراهيم خصصهم أنهم موحدون، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام -كما في الترمذي - قال: {لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي} فإبراهيم عليه السلام يرسل ويقول: تعالوا لي بموحدين، فدخلوا برجل فما سأله إبراهيم عليه السلام فلما قرب العشاء له قال إبراهيم: قل باسم الله، قال له: لا. لا أقول بسم الله ولا أعرف الله، قال: والله لا تتعشى، فالولاء والبراء حتى في الطعام.
كيف لا تقول بسم الله؟ هل علمت إلهاً غير الله، هل لك إله أكبر من الله؟ قال: والله لا تتعشى، فقام هذا الضيف بجوعه فأوحى الله إلى إبراهيم: كم عمر هذا الرجل؟ قال: لا أدري يا رب، قال: عمره خمسون -وقيل: ستون- أطعمه منذ ولدته أمه، وأنت استطعمك ليلة فما أطعمته! ولذلك كم من كافر يهد الجدار اليوم أو فاجر أو معرض عن الله عز وجل لا يعرف المسجد ولا يركع لله ركعة، والله يرزقه ويلبسه ويعطيه سيارة أمريكية فاخرة ويسكنه في القصور؛ لأن الله عز وجل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يرجع إليه الناس حتى يقول أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يؤتى بأنعم أهل الأرض -يعني: من أهل الضلال- فيغمس في النار غمسة واحدة -في ثوان- ثم يخرج من النار، فيقول الله: هل رأيت نعيماً قط؟ قال: ما رأيت نعيماً قط -نسي كل نعيم- ويؤتى بأهل الخير وأهل الإيمان، من أهل البؤس فيغمسون في الجنة غمسة، فيقول الله: هل رأيت بؤساً قط؟ قال: ما رأيت بؤساً قط} فهذا من كشف الكرب التي جعلها الله عز وجل.
يقولون: اليهود يدينونك ثلاثة أشهر ويأتون ليأخذوا منك بعد شهرين، ولذلك قال ابن جرير في التفسير: " لما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم -حول قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89] قال ابن سعية: رأيت علامات الرسول صلى الله عليه وسلم -هذا ابن سعية يهودي وقد رأى العلامات في التوراة، رأى العلامات كلها أمام العين في الرسول صلى الله عليه وسلم- إلا في مسألة واحدة، أنه إذا غضِب يزداد حلماً، فما عرف هذه الخصلة فيه صلى الله عليه وسلم، فأراد هذا اليهودي أن يكتشف خصلة أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا غضب يزداد حلماً فماذا فعل؟ ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا أبا القاسم! - لماذا يقولون: يا أبا القاسم؟ لأنهم لا يعترفون برسالته، إن قال: يا محمد! ليس هذا من الأدب وإن قال: يا رسول الله! شهدوا على أنفسهم، فيقولون: يا أبا القاسم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: علمت أنك وفدت المدينة وأنا تاجر من تجار اليهود عندي مال فخذ هذا المال حتى يفتح الله عليك، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم المال، وظن أن هذا صادق وأنه سوف يؤجله حتى يفتح الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليه، وبعد أربعة أيام أو خمسة إذا باليهودي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر فقام اليهودي وقال: يا بني عبد المطلب! أعطوني مالي إنكم قوم مطل -يعني: أنكم تماطلون وتلعبون بصاحب الدين، انظر إلى الدهاء- فقال صلى الله عليه وسلم: إنك أجلتني حتى يفتح الله علي، قال: لا تماطلني ديني، أعطني حقي يا محمد! إنكم يا بني عبد المطلب قوم مطل، قال في الرواية: فقام عمر بن الخطاب -يقول ابن سعية: فرأيت عيناه تتدحرج في رأسه- وقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: اجلس يا عمر! أنت أولى بأن تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن الطلب، ولذلك كان خلق رسول الله جليل: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] فجلس عمر فقام عليه الصلاة والسلام إلى هذا اليهودي، وأخذ اليهودي يرفع صوته في المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم، كلما رفع اليهودي صوته كلما تبسم عليه السلام وكلما زاد حلمه، ثم أعطاه فلما أعطاه قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، والله! ما قرأت صفة لك في التوراة إلا وجدتها إلا هذه الخصلة، فوجدت أنها ستثبت هذا اليوم فقد ثبتت. فأتى إلى اليهود ليخبرهم، قالوا: لا. أصبح داعية إليهم، فقالوا: ليس بهذا، فقال الله: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89].
والرسول عليه الصلاة والسلام عندما قدم المدينة، قال عبد الله بن سلام -أحد اليهود الذين أسلموا، وهو من فقرائهم وعلمائهم وأهل الصدارة فيهم- قال: {فلما رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في السوق انجفل الناس إليه، فانجفلت مع من انجفل من الناس -أي: أسرع الناس إليه، وأخذ يدخل بين الناس حتى رأى وجه الرسول عليه الصلاة والسلام- قال: فلما استثبت منه وإذا بوجهه ليس بوجه كذاب، قال: فدنوت منه، وإذا به يقول للناس -اسمع حتى الكلام كلام رسول، لا يوجد كلام ساقط بل كله كأنه الدر- قال: يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا في الليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام، قال: فوقع الإسلام في قلبي، فذهبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ووضعت يدي في يده وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله} ما أسلم من اليهود إلا ثلاثة هذا وكعب، وابن سعية قال صلى الله عليه وسلم: {لو أسلم عشرة من أحبار اليهود لأسلم اليهود عن بكرة أبيهم} لكن ما أسلم إلا ثلاثة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأحقاف:10].
فالشاهد من بني إسرائيل عبد الله بن سلام {فأسلم
الستر على نوعين:
أولها: ستر أهل الخير والصلاح وأهل الطاعة الذين تكبو بهم أقدامهم أو تنزل بهم ألسنتهم أو تجد منهم هفوة أو يأتي منهم أمر، فسترهم: أن تقيل عثراتهم ولا تبديها للناس، يقول عليه الصلاة والسلام -كما عند أحمد وغيره-: (أقيلوا لذوي الهيئات عثراتهم) وذوي الهيئات: أهل الصلاح والاستقامة وأهل الخير وأهل المعروف الذين تبدر منهم بادرات أو هفوات أو زلات:
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط |
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه |
تريد مهذباً لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان |
أتريد من الإنسان أن يكون معصوماً؟ فإذا كان الإنسان ظاهره الصلاح ويريد الخير، وحسناته أكثر من سيئاته قال: ابن المبارك رحمه الله -كما في كتاب الكفاية عند الخطيب البغدادي -: العدل عندنا -أي: عند أهل السنة والجماعة -: هو الذي زادت حسناته على سيئاته.
وقال سعيد بن المسيب -كما في ذلك-: ليس مسلم يخلو من ذنب، لكن من زاد صلاحه على فساده فهو المقبول الثقة. فهذا هو الذي يزيد خيره على شره، فإذا كان هذا الخيِّر بدرت منه بادرة فاسكت ولا تخبر واكتم واستر واطلب من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يسترك بهذا، كأن يفعل ذنباً لكن هو صالح، لكنه كتب الله عليه بعض الأفعال من المعاصي والجرائم كتأخير الصلاة يوماً من الأيام بتشاغله بشيء، بدرت منه كلمة ليست بلائقة، أو غضب غضبة فأخرجت منه بعض البذاء أو بعض الفحش، فهذا تستره وتكتم عنه ولا تخبر به، أما أن تجلس إلى الناس وتخبر وتقول: الله المستعان! ظاهرك كأنك تريد أن ترقق له وأنت تريد أن توخزه وتطعنه، ولذلك بعض الناس -كما يقول الغزالي - أذكياء في الغيبة لا يأتون ليجرحوا الناس أمام العين، ولكن يأتون أمام المجلس ويقولون: غفر الله لفلان، ليته ما وقع فيما وقع فيه، نسأل الله أن يغفر له ولنا، وهم يريدون أن يجرحوه ويقطعوا لحمه ويشربوا دمه لا يريدون إلا ذلك ويقول أحدهم: عافانا الله مما ابتلى به فلاناً ويأتي الثالث ويقول: بت البارحة مهموماً ومغموماً، قالوا: ما هو الشيء الذي همك وغمك؟ قال: مما وقع فيه فلان، وهو لا غم ولا هم ولا سهر لكن أراد أن يقطع لحمه في المجلس، فهؤلاء هم الذين يفضحهم الله على رءوس الأشهاد.
فهذا الجزاء من جنس العمل، كمن يستر على المسلمين فيستره الله، يقول ابن مسعود كما في الزهد للإمام أحمد وقد تبعه الناس يمشون وراءه: [[والله لو علمتم ما عندي من الذنوب لحثوتم التراب على رأسي]] هذا هو صحابي وهو صاحب أيادٍ وصدق في الإسلام، فكيف بنا أهل المعاصي والذنوب؟! فالواجب على المسلم أن يستر أهل الخير وأهل الصلاح.
وأما القسم الثاني: فهم المجاهرون بالمعاصي المنتهكون لحرمات الله، المعتدون لحدوده، فهؤلاء لا يستر عليهم وإنما يخبر بهم السلطان والمسئول والقاضي ليكون ردعاً لهم، وحداً للجريمة، وتبكيتاً للمعصية، فإنهم لو تركوا لحملوا الناس على المعاصي.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {واغد يا
والواجب على المسلم نحو الذنوب والخطايا التي لا يسلم منها أحد: أن يتوب ويستغفر وأن يفعل من الحسنات الماحية: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] وقال عز وجل: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] وقال: وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [الرعد:22] وقال: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
فالواجب على المسلم أن يستتر بستتر الله ولا يبدي نفسه وإنما يستتر حتى يتوب الله عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، إلا من جاهر فهذا يخبر به.
فهذا المجلس أو الجلسة الواحدة يكفر الله بها الذنوب أو الخطايا ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) قال ابن رجب: (ومن سلك طريقاً يلتمس به علماً) قال: إما يلتمس بالمعنى أو يلتمس بنفسه كأن يذهب إلى حلقات الذكر، إلى محاضرات الخير والدروس العلمية، لأنه ليس العجيب أن نسمع إلى الدروس العلمية أو أن نحفظها، أو أن نسمع حديثاً أو نحفظه، لأنه كان بالإمكان أن يقرأ كثير من الناس رياض الصالحين وهو في البيت أو يقرأ صحيح البخاري وصحيح مسلم وهو جالس على أريكته في البيت، ليس هذا هو سر الإسلام ولا سر العلم عند السلف الصالح، بل السر أن يجتمع السلف في بيت من بيوت الله، فيسمعون حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ويسمعون (قال الله، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم) (فيباهي الله بهم الملائكة، وتتنزل عليهم الرحمة، وتغشاهم السكينة، وتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله فيمن عنده) وإلا فإن الإنسان قد يقرأ أكثر من هذه الأحاديث، لكن وحده قد لا يحصل على مثل هذه الأجور، واجتماع القلوب سبب في إجابة الدعوة، وأغيظ ما يكون لأهل الباطل وأهل البدع مثل هذه المجالس، فهم يموتون منها.
فمن سلك طريقاً يلتمس به علماً يريد به وجه الله جعل الله هذا الطريق سبيله إلى الجنة، وجعله في حفظه ورعايته.
قال أهل العلم: الجلوس في مجلس العلم أفضل من الصلاة النافلة، ومن قراءة القرآن. فمن جلس في المسجد أو وقف يصلى ويركع ويقوم فمن جلس هنا أفضل منه بلا شك ففي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنه عليه الصلاة والسلام دخل وإذا بحلقتين في المسجد قوم يسبحون ويستغفرون وقوم يتدارسون حديثه والعلم، فقال:أما هؤلاء فيدعون الله فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون فإنما بعثت معلماً ثم جلس معهم).
وورد عند الطبراني: [[لئن أتعلم حديثاً واحداً أو باباً من أبواب العلم خير من أن أصلي مائة ركعة]] قال الإمام أحمد: سماع الحديث وقراءة الحديث خير عندنا من الصلاة النافلة، وقال الشافعي: الجلوس في مجالس العلم خير من الصلاة النافلة.
أسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى كما جمعنا في هذا المجلس أن يجمعنا في مستقر رحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالى في جنة النعيم عنده على سندس خضر، وأن يجعلنا من الذين يرون وجهه يوم الزيادة إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
وأسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، وأن يجعل هذه المحاضرات والدروس والكلمات في ميزان الحسنات، وأن يجعلها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى مذكورة عنده.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر