الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، كانت أعيننا عمياً ففتحها بإذن الله، وكانت رءوسنا مخفوضة فرفعها بعون الله:
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فإنها سعادة لي أن ألتقي بهذه الوجوه الباسمة الغانمة في هذا النادي، الذي أتى القائمون عليه ليثبتوا للناس أننا أمة العلم، يوم كانت الجاهلية تُخيِّم على الأذهان، وأننا أمة الفكر يوم سيطرت الهلوسة والهوج على عقول الناس.
وأننا أمة العلم والجمال والفن العفيف المسير بطاعة الله على نور من لا إله إلا الله، يوم عرف الناس أن الفن والجمال بالمعصية والصد عن سبيل الله، فنحن أمة علم، وأمة أدب نثراً وشعراً، ندل به على الله، ونسير به إلى الله، نحتسب بالبيت الشعري ما نحتسبه بالكلمة، ونحتسب في البيت الشعري ما نحتسبه بالتسبيحة التي يسبحها العابد في المسجد؛ لأن الله أرسل رسل هداية، كما يقول ربعي بن عامر يوم أن دخل على رستم فهز إيوانه، فقال له رستم: ماذا جاء بكم؟ قال ربعي: [[جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].
فالرسول صلى الله عليه وسلم يوم أتى لنا -نحن أمة العرب- قبل الأمم الأخرى: ماذا كان مجدنا؟ وماذا كان تاريخنا؟ وما هي ثقافتنا؟ وما هي معرفتـنا؟ لا شـيء قال الله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2] فأخرج أعراباً كان أحدهم يطارد الضبع، ولا يدري ما تاريخه، ولا ما مصيره! ولا لماذا خلقه الله! فوضأهم بماء التوبة، وأسمعهم أذان بلال، وأسجدهم لله على الصحراء، ونفض كل ذرة من ذرات الشرك من قلوبهم؛ فانطلقوا يهللون ويكبرون، أخذوا سيف الله تحت لا إله إلا الله، وساروا على أمواج بحر الله يُعلون لا إلا الله في المعمورة، فمات بعض الصحابة في طاشقند، ومات بعضهم في نهاوند، على أبواب القسطنطينية، وماتوا على مشارف أسبانيا، وفي رُبَى نهر الجانج، حتى قيل لـعمر حين قال: مَن الذي قُتل في نهاوند؟ قال الأحنف: قتل فلان وفلان وفلان، وأناس لا نعرفهم، فدمعت عينا عمر وقال: [[ لكن الله يعرفهم]] الله يعرف الذين قتلوا من أجله وبسببه لينشروا راية لا إله إلا الله، يعرفهم يوم يجمع الأولين والآخرين.
شهيد القسطنطينية
محمد إقبال يصف حال المسلمين
فهذا شاعر الباكستان - محمد إقبال - أعجمي في لغته، لكنه متيقظ متنور، عربي في قلبه وفي فطرته، أتى يحج في مكة قبل خمسين سنة، وظن أنه سوف يلقى أبناء الصحابة، وأحفاد التابعين، حملة الرسالة الذين رفعوا لا إله إلا الله، ودوخوا كسرى وقيصر، وبنوا المساجد في المعمورة، حتى أصبحت مآذنها سبابات، كما يقول الأستاذ علي الطنطاوي في قصص من التاريخ، يقول: دخلت أسبانيا، فرأيت المآذن كأنها سبابات فبكيت والله؛ لأن المساجد حولت إلى خمارات.
حين تحولنا نحن من لا إله إلا الله إلى غيرها، حولت مساجدنا التي بناها أجدادنا إلى خمارات، وإلى أرض للدعارات، وإلى حانات للفسق والخيانة والعهر، مات أصحاب الرسالة، ومات حملة لا إله إلا الله، فحج محمد إقبال شاعر الباكستان، فأخذ يتلمح في وجوه الناس، فإذا أناس لا يعيشون لله - إلا من رحم الله - الوجوه كأنها أتت من باريس، أين السنة التي تظهر على الوجوه؟ القلوب كأنها مستوردة، فهمُّ أحدهم قصر وسيارة، ووظيفة ومنصب، فأين حملة الرسالة؟ فبكى، وسجل قصيدته شكوى وجواب، يقول وهو يبتهل إلى الله ويطوف:
أما سار خالد بن الوليد على موج النهر؟!
أما ركب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقال للخيل -وكانت ثلاثين ألفاً-: [[يا خيل الله اركبي]] فسمعت الصوت فاقتحمت النهر، فجمد الله لهم النهر فساروا عليه، كما جمد الله البحر لموسى عليه السلام؟!
أما وصل عقبة بن نافع إلى أطراف المحيط وقال: [[والله لو كنت أعلم أن وراءك أرضاً لخضت بفرسي هذا المحيط، حتى أبلغ دعوة الله في تلك الأرض؟!]]
.
أما وقف عقبة بن نافع وهو في أرض أفريقيا، يتكلم في الغابات ويقول: [[يا أيتها الغابات! أخرجي وحوشك، وثعابينك، وذئابك، وسباعك، فإن معي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم]]؟! فوالله لقد خرجت الأسود من الغابة، وخرجت الثعابين، وزحفت الحيات، ثم سار بجيشه.
ولذلك يقول محمد إقبال:
دخلنا قبرص لا بجيش ولا بكتائب، أذن مؤذن المسلمين، فانقشعت كل قلاع قبرص، وأعلنوا الإستسلام ورفعوا أيديهم؛ لأنهم سمعوا الأذان.
كم سجدنا في أفريقيا! وكم سجد أجدادنا في سيبيريا وفي آسيا! ولكن حين تغير الحال وأتى أناس لا يسجدون لله، ولا يعرفون الله؛ فسلط الله عليهم أعداءهم، فساموهم سوء العذاب، واستذلوهم، وأهانوهم ومقتوهم أمام العال؛ لأن من لم يعرف الله يسلط الله عليه إنساناً لا يعرف الله سبحانه وتعالى، والذي لا يخاف الله يسلط الله عليه مجرماً لا يخاف الله عز وجل، فالله عز وجل يبتلي من لا يعرفه ولا يتقرب إليه بمن لا يعرفه ولا يتقرب إليه.
وهذا النادي نادي أدب، والأدب عندنا نحن المسلمين، ليس أدب غناء، وليس بأن يأتي المسلم القوي العاقل فيتماجن كما تتماجن المغنية، ويذهب بعقله كما تذهب الممثلة السافرة!
نحن أمة رجولة ودعوة، وأمة رسالة، نجيد الشعر، لكن في مواضعه، فرسولنا ومعلمنا صلى الله عليه وسلم أجاز الشعر، واستمعه؛ ومع أنه لم يقله عليه الصلاة والسلام، لكنه هش وبش وحيَّا شعراءه في مسجده، ألم بقرِّب المنبر لـحسان وقال: (اهجهم وروح القدس يؤيدك)؟
أما جمع الشعراء في مسجده صلى الله عليه وسلم، وقال: (اهجوهم وانتصروا؛ فإن الله عز وجل يحب من المؤمن أن ينصره بكنانِه، وينصره بلسانِه) فجهاد الكلمة، وجهاد اليد، وجهاد القلب، وجهاد المال مطلوب.
ويقول إقبال كذلك في المقطوعة نفسها - ولا أظن أنه نُظَم مثلها -:
أتى محمود بن سبكتكين أحد سلاطين الإسلام، الذي كان يملك المشرق، وسجادته ومصحفه بشماله -كما يقول الذهبي - ومسواكه دائماً بيمينه، والذي يراه يقول: عابد من العُباد، ثوبه بسبعة دراهم، وعنده من الجيوش التي يقول فيها أحد الشعراء:
مضى بالجيش، فلما عبر نهر السند، أتى إلى بعض ملوك الهند، وإذا صنم هناك، فقال له الملك: " خذ هذا الصـنم -رشوة - واتركنا في بلادنا، قال: هذا الصنم من ذهب، والله لا آخذه مالاً ولا أحوزه كنزاً؛ لأنه عُبد من دون الله " فأتى بالملك فقتله، ثم جعله فوق الصنم، ثم أشعل النار في الصنم وفي الملك، ولذلك يقول محمد إقبال:
أدبنا وأدب الأعداء
فنحن إنما نجتمع في مثل هذه الجلسة، لنتطلع على أخبارنا وعلى سيرنا وعلى قصصنا، لأن أعداءنا يقولون: إنه ليس عندنا أدب، والأدب كل الأدب في مجدنا وتاريخنا، فهم ماذا قدموا للبشرية من أدبهم، ومن سخفهم، ومن قبحهم، ومن حقارتهم؟ قدموا المرأة الخليعة، قدموا كأس الخمر، قدموا المجلة الممسوخة من مراقبة الله، قدموا الأغنية الماجنة، قدموا الملهى والمرقص، قدموا الضلال، قدموا الصد عن الله عز وجل وهدم دين الله في أرضه، ونحن قدمنا لا إله إلا الله، ورفعنا لا إله إلا الله، وعلمنا الناس أن يقولوا: لا إله إلا الله، بنينا مساجد يُسبح فيها بحمد الله صباح مساء، وتخرج من مسجده صلى الله عليه وسلم ألف شهيد وشهيد، وألف عالِم وعالِم، وألف عابد وعابد، وألف مفكر ومفكر، كان ينطلق الصحابي الواحد، وليس عنده من الخبز إلا ما يسد جوعته، وجبة واحدة، كسرة من الخبز وسيف في غماد، ثم ينطلق مهللاً ومكبراً، يريد أن يرفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فيا إخوتي في الله! تعالوا لنرى كيف عاش صلى الله عليه وسلم بالأدب، وكيف كان يعيش مع النوادي الأدبية، التي يجب أن تتحول -وهي الآن في طريقها- إلى أن تؤدي للأمة رسالتها الحقيقية، وتؤدي كلمة الحق، وتنفع شباب الإسلام، وتردهم إلى الله عز وجل، مسجده صلى الله عليه وسلم في المدينة بُني من طين، ليس من (بُلُك) ولا من حديد، ولا فيه زخرفة، وليس فيه كهرباء، وليس فيه (زل شيرازي) وليس فيه (كنبات) ولا زينات ولا زخارف، بل لُبينات من طين، لكنه منارة من منارات الأرض تتلقى نور السماء، كان إمامه محمد صلى الله عليه وسلم تلتقي به القلوب كل يوم خمس مرات، وفكر في ذهنك أنت: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يصلي بك العشاء الليلة، وسوف تسمعه يقرأ، ثم يسلم، ثم تصافحه وتسلم عليه , وتجلس معه، أي شعور وأي كرامة! وأي نعمة فوق هذه النعمة! عاش الصحابة هذا الشعور، فكان صلى الله عليه وسلم، يصلي بهم وهو رسول الله، وأكرم مَن خَلَقَ الله، وأرفع من أوجد الله عز وجل، فيلتفت إليهم، ووجهُهُ كالقمر ليلة البدر:
فيتحدث معهم، فإذا هو مفتي الأمة، وليس في فن خاص؛ في الفرائض دون الفقه، أو في الفقه دون الفرائض، أو في التفسير بلا حديث، لكنَّ الله أفاض عليه من نعمته، فهو بحر لا ساحل له، يأتي إليه ملوك العرب فيعلمهم ويعطيهم، وتأتي المرأة بطفلها تستفتيه، فيأخذ طفلها -شفقة ورحمة ورقة- فيُقَبِّل طفلها ويضمه بين يديه، حتى يقول الله له: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] أي: عظيم هذا الخلق الذي تتعامل مع الناس به، عظيم هذا التحمل الذي تسري في الأمة به، ويقول له: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159] أي: أنت لَيِّن، وأنت سهل، وأنت حبيب للقلوب، تحبك الأرواح، ولذلك يقول أحد المفكرين: " نحن العرب قبل أن يبعث الله فينا محمداً صلى الله عليه وسلم، لا يجمعنا أحد، لا سيف عنترة، ولا صحفة حاتم ولا جود هرم بن سنان أبداً؛ لأننا -كما يقولون- كقرون الثوم، كلما كَسَرتَ قرناً، وجدتَ داخله قروناً، فلمَّا أتى عليه الصلاة والسلام، تسامح كل التسامح، نسي الحقد والغضب، كظم غيظه، بش للناس، كان قريباً إلى الأرواح والقلوب، فكيف لا يحبونه؟! وكيف لا يتمنون الجلوس معه؟!
يقوم في الصلاة -وانظروا إلى هذا المشهد- فيريد أن يطمئن ويقر عينه بالصلاة مع الله؛ لأنها قرة عينه، يريد أن يطيل الصلاة وأن يتدبر الآيات في الصلاة، وهو يصلي بالناس، فيسمع بكاء الطفل، فيعلم أن أمه تجد مشقةً وهي تصلي، فيتجوز في الصلاة ويسلِّم، ثم يلتفت إلى الناس فيقول: {أيها الناس! إني أريد أن أطيل الصلاة، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه} صلى الله عليك وسلم يا صاحـب الخـلق العظيم! فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
ويأتي في صلاة العصر بطفلة -وهي بنت ابنته صلى الله عليه وسلم-: {فيحملها على كتفه، ويصلي إماماً بالناس، فإذا سجد وضعها في الأرض، وإذا قام رفعها} من يفعل ذلك؟! إنه صلى الله عليه وسلم، يريد أن يكون قدوة للناس أجمعين.
الأدب في مسجد الرسول
الأعشى يمدح الرسول
ابتسام الرسول صلى الله عليه وسلم عند إلقاء بعض القصائد عنده
توجيه طاقات الأمة إلى الله
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام، يريد أن يوجه طاقات الأمة إلى الله، فنحن في الإسلام لا نطرد الشاعر لأنه شاعر، ولا نقول له: لا مجال لك عندنا في الإسلام، بل نرحب به ونقول: ديننا يحيي هذا الفن، ولك مكان بيننا، فانصر الله بكلمة الشعر، بدلاً من أن تصف به حسناء، أو تتغزل بامرأة معصومة موقرة عفيفة، أو تتطلع بالشعر على عورات المحصنات الغافلات المؤمنات، فتوجه بالشعر إلى الله واخدم هذه الرسالة الطاهرة، وارفع من قيمة الدين، وتحدَّث عن كل شيء في الحياة، لكن بشرط أن تتقي الله.
يقول ابن كثير في البداية والنهاية: " لما توفي أبو نواس، وكان أبو نواس من شعراء الدولة العباسية - وكان من الفساق في شعره وفي حياته، وعلمه عند الله -فلما توفي رئي في المنام، قيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة، قالوا: بماذا؟ قال: نظمت قصيدة وصفت فيها الوردة، ثم رددتها إلى قدرة الله عز وجل ".
فانظر كيف دخل الجنة من هذا الباب، فقد أتى إلى وردة باسقة في بستان، فوصفها، فأدخله الله الجنة، وقد أورد هذه الأبيات ابن كثير في تفسير سورة البقرة، ومنها:
فأدخله الله بهذه المقطوعة الجنة. ثم يقول ابن كثير في ترجمة جرير الشاعر قال: " رئي في المنام، قالـوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قالوا: بماذا؟ قال: أذَّنتُ وحدي في البادية حيث لا يراني إلا الله؛ فغفر الله لي بذلك الأذان ".
هل أعظم من المسلم حين يكون في سفر ويصبح وحده في الصحراء لا يراه إلا الله، ولا يطلع عليه إلا الله، فينزل من سيارته، أو من مركوبه، ويقف ويتوضأ ثم يؤذن في الصحراء، يرفع كلمة التوحيد في الصحراء، حيث لا يسمعه إلا الشجر أو الحجر أو المدر، لأن هذه تشهد له يوم القيامة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل الإنسان إلى هذا الدين وإلى أبواب الجنة، إن كنت متكلماً خطيباً فاتقِ الله في خطابتك، واخدم بها هذا الدين، وإن كنت شاعراً مطبقاً مصقعاً فادخل أبواب الجنة بشعرك، وارفع به راية الإسلام، وإن كنت راسماً فناناً فاتقِ الله في رسمك واخدم به دينك، ارسم ما يقرب قدره إلى الأذهان، ممَّا لا روح فيه، ولا تضاه خلق الله، ولكن قرب الطبيعة إلى الناس، علمهم قدرة الله، بين لهم كيف خلق الله الزهرة، وكيف أبدع لونها، وكيف أرسل شذاها، وكيف جمل مرآها، وكيف سوَّى معناها؛ لتنال المحبة من الله عز وجل والرضا.
إن من أراد دخول الجنة ما عليه إلا أن يصدق مع الله، ثم ليفتح باباً له، فإن الأبواب بعدد الأنفاس.
قول الصحابة للأدب والشعر
ضكان عليه الصلاة والسلام يعلم الصحابة أن يقولوا الشعر والأدب -لأننا في ناد للأدب والشعر والثقافة- فكانوا يرتجزون، ليسوا كمثلنا على الكراسي الآن، نقول القصائد العصماء، ونقول القصائد التي نكسر بها رءوس اليهود لكن في الواقع ما كسرنا رأس أحد، أما هم فإن
عبد الله بن رواحة يقول - وهو يحمل الراية في مؤتة، وهو يحمل سيفه وقد كسر غمد سيفه على ركبته - يقول: والله لا أعود إلى الدنيا، ثم يقول:
فهو يحلف على نفسه أن تنزل إلى المعركة. فنزل مع الغروب، وأدركته الراية، لأنه هو القائد الثالث من القواد الذين عيَّنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا ثلاثة آلاف في مقابل مائتي ألف، فلما أتى الغروب قال للناس: إني صائم ولا أستطيع المقاتلة، فناولوني شيئاً آكله، فناولوه عرق لحم، فأخذ منه قطعة - لقمة - فأراد أن يستسيغها وأن يبتلعها فما استطاع - فهو يسمع مع الغروب تحطيم السيوف، ويسمع الرماح وهي تتكسر على رءوس الأبطال، ومعه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - قال: والله لا آكل من هذا ولا آكل إلا في الجنة - إن شاء الله - ثم رمى بالعرق من يده، ثم أقبل وهو يقول:
يقول: أما تسمعين حَطَمَة السيوف؟ من يكره الجنة؟!
الذي يبقى في الحياة، ويحب أن يحيا بلا طاعة ولا عبادة، ولا اتصال بالله يكره الجنة. وقبله أتى الشاب جعفر رضي الله عنه وأرضاه، فأتى يقول:
إي والله، أمَّا الدنيا فليست بطيبة، لأنك إذا شبعتَ في الدنيا تنغصتَ بذلك، وإذا سررت وفرحت بأبنائك نغص عليك الموت هذه الفرحة، وإذا اجتمع أهلك فرقهم هاذم اللذات، وإذا صحَّ جسمك أتاه الهرم والأمراض والتعاسة، وإذا رأيت ببصرك، وأمعنت النظر، أتاك العمى والعمش، وإذا سمعت الصوت الجميل بأذنَيك، فهي مرحلة ويصيبك بعدها الصمم أو تموت، فهي دنيا منغصة، يقول الحسن البصري: [[ابتغوا لأنفسكم داراً غير هذه الدار، فإن الموت قد فضح هذه الدار]]. حتى يقول عبد الملك بن مروان لما حضرته الوفاة -كما ذكر عنه الذهبي في المجلد الرابع من سير أعلام النبلاء - يقول: [[أنزلوني من على عرش الملك وسريره، فأنزلوه، فأخذ يمرغ وجهه في التراب ويبكي، ويقول: يا من لا يزول ملكه! ارحم من زال ملكه، وسمع وهو في سكرات الموت غسالاً ينشد، فقال: يا ليت أمي لم تلدني! يا ليتني كنت غسالاً! يا ليتني ما توليت أمر الأمة!]] قال سعيد بن المسيب: [[الحمد الذي جعلهم يفرون عند الموت إلينا، ولا نفر إليهم]] ولذلك يقول علي فيما حُفِظ عنه رضي الله عنه وأرضاه وهو يبكي على منبر الكوفة يوم الجمعة:
فلذلك كان من المهم عند المسلم أن يعمل لتلك الدار.
والشاهد من هذه القصة، أن العمل والاتجاه إنما يكون لدار البقاء لا لدار الفناء. التي لا بقاء فيها، فهي دار ذاهبة مرتحلة.
مساجلة شعرية بين يدي الرسول
وحين أتى وفد بني تميم يريدون أن يسلموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم اختاروا سبعة من رؤسائهم، اختاروا أحلمهم، وخطيبهم، وشاعرهم، وسيدهم، وشجاعهم، وكريمهم، ثم وفدوا، وأتوا بُحلة من الديباج اشتروها بستين ناقة، ولما وفدوا قالوا: يا رسول الله! قال: نعم، قالوا: قبل أن نسلم بين يديك لا بد أن نفاخرك، قال: بماذا تفاخروني؟ قالوا: عندنا شاعر العرب
الزبرقان بن بدر، وعندنا الخطيب
حاجب بن زرارة، فقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس، فجمع صلى الله عليه وسلم الناس في المسجد، ليريهم سهولة الدين، ويريهم سماحة الدين فاجتمعوا جميعاً، فقام خطيبهم يتكلم ويمدح بني تميم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهوا قال: انتهى خطيبكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: أين
ثابت بن قيس بن شماس؟ -خطيب الصحابة- فقال: هأنذا يا رسول الله! فقال رسول الله: قم، اللهم أيده، وثبِّت جنانه، وسدِّد لسانه، وهذه دعوات الرسول صلى الله عليه وسلم تكفي له أبداً، فقام على المنبر وافتتح خطبةً ما سمع الناس بمثلها، كأنها صواعق، حتى أنزل العرق من جبين كل أحد منهم، وأعلنوا الاستسلام بين يدي خطيب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قام
الزبرقان بن بدر شاعر بني تميم، فقام يمدح بني تميم:
فألقى حوالي خمسين بيتاً في مدح بني تميم، وسكت عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أنت يا حسان؟ قال: عندك يا رسول الله! -وحسان بن ثابت شاعر الإسلام، شاعر الدعوة - قال: أتستطيع أن ترد على هذا؟- لأن هذا بهت الناس، جاء بقصيدة جزلة قوية، ارتجلها وأعد لها، ومحص كلماتها، والموقف عجل، لا يتحمل أن يعد حسان، بل يَرُد في الحال، فقال حسان عندي رد لهم يا رسول الله! عندي لسان لو وضعتُه على شعر لحلقه، ولو وضعتُه على حجر لفلقه، ثم أخرج لسانه وضرب أرنبة أنفه، ثم ألقى قصيدة عصماء، فكانت أعظم من قصيدتهم، وقالوا: غلب خطيبك خطيبنا، وشاعرك شاعرنا، مدَّ يدك نبايعك على لا إله إلا الله، فدخلوا في دين الله.
تنوع تخصصات الصحابة
اعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام أوقف حياته وحياة أصحابه لخدمة هذا الـدين، يقـول
ابن القيم: " ما كانت تمر به لحظة صلى الله عليه وسلم، إلا ويصرفها في طاعة الله " ونحن في هذا النادي نجتمع لنتدارس أمر أمتنا، كيف كنا بالأمس! وكيف أصبحنا اليوم! يا سبحان الله!
يقول الأول لما رأى مجدنا، ورأى مساجد طويلة عريضة ولا يصلي فيها إلا صف، والحارات والأحياء مكتظة بالسكان! فأين الأمة الحية؟! أين أمة الرسالة؟! أين أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وطارق؟! أين هم؟! أماتوا؟!
اتقوا الله، زخرفنا المنائر، جملنا المساجد، تباهينا بالعمران، لكن القلوب ميتة.
أما الأذان والمؤذنون فإنهم على الأوقات، لأن هناك أجراً، ولكن لا مصلين، لا علم يُدرس في المساجد، لا فقه في الدين، لا تحمس لرسالة الله عز وجل، فموقفنا هذا ينبغي أن يكون أحسن وأحسن، أقرب إلى الله وأقرب وأجد، لأن الأمة التي تحمل الرسالة، لا تشتغل من الدنيا إلا بما تقوم به حياتها، ولا تأخذ من الدنيا إلا حاجتها، فليُعْلم ذلك، فإنه من العلم الذي لا بد أن يعلمه الناس، وهو معلوم عند الكثير.
معايشة الرسول والجلوس معه
.
من قصائد الشيخ عائض
السؤال: فضيلة الشيخ هل يمكن أن تسمعنا قصيدة من قصائدك؟
الجواب: لا بأس بذلك، سبق في الكلمة أنني ذكرت أنه نسب إلى علي رضي الله عنه قوله:
ولي قصيدة على تلك القصيدة اسميتها: دمعة الخنساء:
وهنا أبيات من قصيدة نظمتها في موسم الحج، في الدعاة:
أثر المدارس الأوروبية الأدبية على فكر الشباب المعاصر
السؤال: فضيلة الشيخ لقد اتجه الأدباء في هذا العصور الحديثة إلى المدارس الأدبية الأوروبية الكافرة، وأصبحوا ينهجون منهجهم، ويتبعون بعض أفكارهم، مما أثر على فكر الشباب المعاصر، فما رأيكم في هذا؟
الجواب: هذا الكلام واقع، والشيوعية الماركسية جربت نشر الإلحاد بالمادة وبالاقتصاد قبل ما يقارب أربعين سنة، فنجحت بعض النجاح، فلما أتى الأدب واشتغل الناس بالثقافة، وردت إلى السوق بالأدب، وهذا الأدب الإلحادي يصد الإنسان ويجعله أديباً منسلخاً عن قيمه ورسالته ومبادئه، ولذلك وجد في العالم العربي شعراء ألحدوا بالله عز وجل، وكفروا به؛ لأنهم اتجهوا إلى الفن، وظنوا أن معنى الأدب أن ينسلخ الإنسان عن إيمانه، وأتوا بقصائد الكفر والإلحاد، مثل قصيدة بشارة الخوري، المسيحي، الذي يقول عن القومية العربية مهاجماً بها الدين:
يقول: سيروا بجثماني على دين برهمٍ، ولا تذكروا لي الإسلام، إذا كان يفرق بين العروبة، فكفر بهذه الكلمة، وأتى السياب في العراق بقصائد يستحي الإنسان أن يقولها، وأتى أدونيس وهو شاعر فلسطيني، سمى نفسه باسم صنم من أصنام اليونان التي كانت تعبد من دون الله، ثم ألحد بشعره، فأتت هذه الموجة تدعو الناس أن يتجهوا إلى هذا المذهب الفكري المنسلخ من لا إله إلا الله، ولكن بقي الحق في الساحة، لأن سنة الله تعالى في الخلق أن تبقى عصابة تدافع عن الدين بالأدب وبالشعر وبالنثر وبالخطابة وبالقصة وبالموعظة وبالعلم وبالعبادة، فأبقى الله عز وجل من يذب عن دينه من الأدباء الصالحين، ومن التمس أدبهم وجده، لكن هذا السؤال يحتاج إلى محاضرة واستقراءٍ لما قالوا في الساحة، ولما تكلموا به ولما كفروا في شعرهم به -نعوذ بالله من ذلك- فإن بعض الكلام يُسْتَحيا أن يُذْكَر في مثل هذا المجلس، ونكرم مجلسنا أن نذكر كلامهم فيه.
التشكيك في قدرة كعب بن زهير الشعرية
السؤال: بعض أدباء الشعر يشكك في قدرة
كعب بن زهير الشاعرية، ويخبر أحدهم أنه في قصيدته البردة بنى منها خمسة عشر بيتاً على وزن أبياتٍ لـ
كعب بن مالك.
الجواب: أولاً هذا الكلام الوارد عارٍ من الدليل، وما أعرف أحداً من أهل العلم ولا أهل السير، ولا أهل التاريخ، ذكر هذه القضية.
أولاً: كان كعب بن زهير مزنياً من مُزَينة، وكعب بن مالك أنصاري، رضي الله عنه أورضاه.
ثانياً: كيف يُنكَر أن القصيدة لذاك الرجل، وهو فحل في الشعر لا يقارَن، وهو ابن زهير بن أبي سلمى، الذي كان من شعراء العرب، فما هو دليله على إيراد هذه الكلمة؟ على أن حديث بانت سعاد، ضعيف عند المحدثين، بأنه ألقاه عند الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لكنه يستند أولاً إلى أن القصيدة في جودتها وفي أصالتها، لا بد أن لها أصلاً، ولا يقولها إلاً مثل كعب، أما هذا الكلام فليس بصحيح، من ثلاثة واجهات:
أولاً: بُعْدُ ما بين الرجلين.
ثانياً: شاعرية كعب بن زهير، فهو أقوى من شاعرية كعب بن مالك فكيف يحتاج إليه؟!
ثالثاً: أنه ذكر التوبة والإنابة فيها، والرجوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما كعب بن مالك فلم يقع منه ذلك في تلك الفترة حتى يذكر هذا.
حكم الإسلام في الهجاء بالشعر
السؤال: من المعروف أنه حدث في عصر من عصور الإسلام معركة كانت بين
جرير و
الفرزدق، بالشعر يهجو بعضهم بعضاً، فما هو رأي الإسلام في مثل هذا الهجاء بين الأخ وأخيه المسلم؟
الجواب: نعم، هذا الكلام ورد، ولذلك ألفت النقائض، والعجيب أن مطابع النصارى، مثل مطابع لبنان، لا تخرج إلا النقائض، أمسكت عن الشعر الإسلامي الذي يستفاد منه، وديوان حسان وأمثاله، ثم أخذت النقائض ونشرتها بين الناس وبين الأمة العربية الإسلامية، لتثير الدخيلة بينهم والضغائن والحقد والغش، كما وقع بين جرير والفرزدق، وكلاهما من بني تميم.
النقائض: هذا يهجو هذا، وهذا يرد عليه، وربما تطرق للقبيلة بأسرها فهجاها، وصح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {إن من أفرى الفرى أن يهجو الشاعر القبيلة بأسرها} وهذه فرية على الله عز وجل، فرأي الإسلام أن هذا الأمر حرام، وسب المسلم أو شتمه أو لعنه كقتله، نعوذ بالله من ذلك، فليُعْلم - بارك الله فيكم - أن هذا فرى، وأنه دجل وضياع للعمر، وأنه صد عن طاعة الله عز وجل، ولا يفعل ذلك إلا من سفه نفسه، وليس له رسالة في الحياة، وهؤلاء نأخذ شعرهم مثل جرير والفرزدق في جانب الأدب والاستشهاد، أما في جانب القضايا الاجتماعية والأخلاق، فلا نأخذ ديننا إلا من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.