إسلام ويب

رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليهللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم بين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، وما ذاك إلا لأنهم تربوا على يد المعلم الجليل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتخرجوا من مدرسة النبوة. ومن هؤلاء الخلفاء الراشدين، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي الذين قادوا الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومنهم سعد بن أبي وقاص ، خال رسول الله وقائد معركة القادسية، ومنهم حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، ومنهم أيضاً إمام العلماء معاذ بن جبل.
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أيها المؤمنون: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    هذا درس رمضاني بعنوان: "رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه"

    وهؤلاء الرجال هم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، وأئمة أهل الإسلام.

    أولاً: الصحابي الجليل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وأبو بكر أول الخلفاء الراشدين وأول العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم وأرضاهم.

    أبو بكر لم يملك شيئاً من ميزات الدنيا إلا أنه عبدٌ لله، وكان أول من أسلم من الرجال، وقدَّم ماله للرسول صلى الله عليه وسلم حتى كان صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرحمن) عليه الصلاة والسلام.

    هو تيمي من قريش، لم تكن أسرته بتلك القوية العريقة، ولكن رفعه إسلامه وإيمانه، يقول عمر: قلت في نفسي لأسبقن أبا بكر هذا اليوم، فأخذ نصف ماله فذهب به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال-: يا رسول الله! خذ هذا النصف من المال، قال: ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم نصف المال، فجاء أبو بكر فتصدق بماله كله، فقال صلى الله عليه وسلم: ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قال عمر: والله لا أسابق أبا بكر بعدها أبداً.

    وكما هو معلوم أن النار لها سبعة أبواب أعاذنا الله من النار رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:192].

    وللجنة أبواب ثمانية؛ نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الداخلين من تلك الأبواب.

    بشرى لنا معشر الإسلام أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (ما بين المصراع والمصراع في الباب الواحد كما بين أيلة إلى صنعاءأيلة هي بيت المقدس الذي يرضخ اليوم تحت الاحتلال، هذا مقدار الباب الواحد- وإنه يأتي يوم القيامة وهو كظيظ من الزحام) فنسأل الله أن يجعلنا ممن يزاحم في ذاك الباب، فقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: (إن للجنة أبواباً ثمانية فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة) يعني من أكثر من الصلاة حتى اشتهر بها، ولا يقصد مجرد الصلوات الخمس؛ لأن كل إنسان يصلي الصلوات الخمس، لكن يقصد عليه الصلاة والسلام الذي يتنفل حتى يعرف بالصلاة، قال: (فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! أيدعى أحد من تلك الأبواب الثمانية؟ قال: نعم. وأرجو أن تكون منهم) هو يدعى يوم القيامة من الأبواب الثمانية، هو أول المصلين، ومع الصائمين في أولهم، ومع الذاكرين في مقدمتهم، ومع المجاهدين رضي الله عنه وأرضاه.

    وفي الأثر المشهور: والله ما فاقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بإيمان وقر في قلبه، فميزة أبي بكر على غيره من المسلمين أنه يعبد الله كأنه يراه، وفي كتاب الزهد للإمام أحمد أنه قال وهو على المنبر: [[يا أيها الناس! استحيوا من الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إني لأذهب إلى الخلاء فأضع ثوبي على وجهي حياءً من الله]] بلغت منزلة مراقبته لله أنه يستحي منه في وقت قضاء الحاجة، لأنه يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهذه درجة الإحسان.

    وقد امتاز أبو بكر رضي الله عنه كذلك بالخشية، وهذا الذي ينبغي أن نستحضره في هذا الشهر الكريم، خشية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، لأن المقصد من الصيام والصلاة هو خشية الله تبارك وتعالى، فامتاز أبو بكر من بين الناس بشدة خشيته لله، يذكر عنه الإمام أحمد في كتاب الزهد يقول: دخل أبو بكر مزرعة رجل من الأنصار بعد موت الرسول، وفي أثناء دخوله إذا بطائر يطير من شجرة إلى شجرة، فجلس أبو بكر يبكي، قال له الصحابة: مالك يا خليفة رسول الله؟ قال: ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت طائراً أرد الماء وأرعى الشجر ثم أموت لا حساب ولا عقاب..

    فلو أنا إذا متنا تركنا     لكان الموت غاية كل حيٍ

    ولكنا إذا متنا بعثنا     ويسأل ربنا عن كل شيّ

    ومن ميز الصالحين هضم النفس، تجد المصلي الصائم المتصدق العابد يهضم نفسه، وتجد المعجب المغرور المنافق يمدح نفسه، قال البخاري في كتاب الصحيح: وقال الحسن البصري: "ما خافه -أي النفاق- إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق".

    من مواقف أبي بكر الصديق المشرفة

    وأبو بكر رضي الله عنه وقف مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي أخطر مواقف تاريخه الرسول صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر معه، وأنا أذكر ثلاثة مواقف:

    الموقف الأول في الغار:

    وصاحب الغار إني سوف أذكره     وطلحة بن عبيد الله ذي الجود

    دخل صلى الله عليه وسلم الغار هارباً من قريش، فأعلن الكفار حالة الاستنفار في مكة، وسدوا الطرق الداخلة إلى مكة والخارجة، فدخل عليه الصلاة والسلام مع صاحبه أبي بكر في الغار، وجلس عليه الصلاة والسلام هو وأبو بكر حتى طوق المشركون الغار.

    ولكن حينما أراد الله أن يحفظ رسوله سخر عنكبوتاً فنسجت بيتاً على فم الغار، ومن العادة أن الإنسان إذا دخل الغار شق بيوت العنكبوت، وأتت الحمامة وبنت عشها في فم الغار وباضت في هذا العش، فأتى كفار قريش معهم السيوف تقطر حقداً وضغينةً على المصطفى عليه الصلاة والسلام، أرادوا الدخول وإذا ببيت العنكبوت، وإذا بعش الحمامة، فوجموا وقد نظم هذا المعنى بعضهم فقال:

    ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على     خير البرية لم تنسج ولم تحم

    عناية الله أغنت عن مضاعفة     من الدروع وعن عالٍ من الأطم

    ثم صعدوا على ظهر الغار فأخذ أبو بكر ينظر فيرى أقدامهم فيقول: يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى موطن قدميه لرآنا، فيتبسم عليه الصلاة والسلام تبسم الواثق الذي امتلأ قلبه إيماناً وثقة بالله، الذي يتبسم للمستقبل، يحفر الخندق في المدينة وتقع مسحاته عليه الصلاة والسلام على الصخر ويبرق من الصخر بارق فيقول: {تفتح لي قصور كسرى وقيصر إن شاء الله} فيضحك المنافقون ويقولون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، ولكن والله فتحها الله عليه وفتح ما هو أكبر وأكثر، فوصلت جيوشه إلى أسبانيا وإلى السند وإلى الهند فيقول: {يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما} وخرج من الغار بسلامة الله وحفظه ورعايته: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] ولذلك يقول أحد العلماء من المفكرين: الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لـأبي بكر في النكبات: إن الله معنا، أتاه الفقر من كل جانب فقال: لا تحزن إن الله معنا، أتته بعض الغلبة أو ما تسمى بالهزائم فقال: لا تحزن إن الله معنا، اجتمع عليه اليهود والمشركون والمنافقون فقال: لا تحزن إن الله معنا.

    والموقف الثاني في بدر: قام عليه الصلاة والسلام قبل معركة بدر بليلة واحدة، ومعركة بدر تصفية بين الحق والباطل، فوقف الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو في الليل حتى سقط برده من على كتفيه وهو يقول: {اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض بعد اليوم} ثم أخذ يدعو عليه الصلاة والسلام ويبتهل إلى الله، فأتى أبو بكر فرد عليه البردة وقال: كفاك مناشدة لربك يا رسول الله! فو الله لينجزن الله لك ما وعدك.

    قال أهل العلم: كان الرسول صلى الله عليه وسلم أعرف بالله، فإن الله عز وجل يحب الملحين بالدعاء، ويحب المتضرعين والباكين، ويحب الذين يخلصون ويكثرون في الدعاء، بخلاف المخلوقين فإن أحدهم إذا ألححت عليه في الطلب غضب، أما الله فإنه كلما دعوته رضي عنك، وإذا رأيت العبد يكثر من الدعاء والابتهال فاعرف أنه مؤمن، واعرف قيم الناس وميزان الناس بكثرة دعائهم.

    الموقف الثالث: يوم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة وتبعه سراقة بن مالك فكان صلى الله عليه وسلم يمشي في الطريق ويقرأ القرآن ويلتفت، فيقول أبو بكر: يا رسول الله! الطلب وراءنا، قال: يا أبا بكر! لا تحزن إن الله معنا، ثم دعا على فرس ذلك في قصة طويلة، قال أهل العلم: فكان أبو بكر يأتي مرة عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم ومرة عن يساره ومرة أمامه ومرة خلفه، فيقول صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! مالك مرة عن يميني ومرة عن شمالي ومرة أمامي ومرة خلفي؟ قال: يا رسول الله! أذكر الرصد -الكمين- فأتقدم ليأتيني ولا يأتيك، وأذكر الطلب فأكون خلفك وأخاف أن تؤتى عن يمينك فأتيامن، وأخاف أن تؤتى عن يسارك فأتياسر أو أتشامل أو كما قال.

    وتولى الخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هزيل الجسم حتى أنه كان يوتر قبل أن ينام، لكن في قلبه همة عالية تنسف الجبال، صنع الله الذي أتقن كل شيء، ولما توفي عليه الصلاة والسلام كان أبو بكر غائباً عن المدينة فقد كان له مزرعة، فكان في مزرعته في عالية من عوالي المدينة معه فرس وإذا بـالمدينة ترتج بالبكاء، واختلط بكاء النساء بالأطفال والرجال، فأعظم مصيبة في تاريخ الإنسان، موت الرسول عليه الصلاة والسلام.

    وإذا أتتك من الأمور مصيبة     فاذكر مصابك بالنبي محمدِ

    وأتاه الخبر وهو في المزرعة، فركب فرسه ومعه عصا، وأتى إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وإذا الناس يموجون مثل البحر لا تسمع ماذا تقول لسانك من كثرة البكاء، قال: مالكم؟ قالوا: توفي الرسول عليه الصلاة والسلام، فسكت وما كلم أحداً وقال: الله المستعان.. إنا لله وإنا إليه راجعون! فثبته الله، وشق الصفوف حتى وصل إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة التي هو مدفون فيها صلى الله عليه وسلم.

    نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه     فيه العفاف وفيه الجود والكرم

    يا خير من دفنت في القاع أعظمه     فطاب من طيبهن القاع والأكم

    فدخل وكشف الغطاء عن وجه الرسول عليه الصلاة والسلام فإذا هو قد مات، فقبل وجهه، ودمعت عينا أبي بكر على وجه المصطفى عليه الصلاة والسلام ثم قال له: [[بأبي أنت وأمي؛ طبت حياً وطبت ميتاً، أما الميتة التي كتبت عليك فقد ذقتها، ولكن والله لا تموت بعدها أبداً]] ثم خرج على الناس فسكتهم وأتى إلى عمر رضي الله عنه عند المنبر في المسجد، وقد سل عمر سيفه وقال: [[من زعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مات ضربت عنقه بهذا السيف، إنما يغيب صلى الله عليه وسلم بعض الأيام كما غاب موسى يكلم ربه]] كما يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف:142].

    فأتى أبو بكر وعمر يخطب وقال: اسكت يا ابن الخطاب! ثم ارتقى أبو بكر المنبر وقال:

    بسم الله الرحمن الرحيم

    أما بعــد:

    فمن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ثم قرأ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]

    فخر عمر مغشياً عليه من البكاء، يقول عمر بعد أن رشوه بالماء واستفاق: والله الذي لا إله إلا هو كأني ما سمعت هذه الآية إلا ذاك اليوم، ثم قام أبو بكر رضي الله عنه فخطب الناس خطبة في اليوم الثاني، فما استطاع من البكاء أن يتكلم، يتصور ذكريات الشباب والفتوة والحياة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، يتذكر من كان إماماً بهم وخطيباً، ويتذكر المسجد ومن بناه، ويتذكر هذا الدين ومن أتى به، فإذا هو قد مات، فما استطاع أن يتكلم لأنه يتدفق بالبكاء فقام عمر فتكلم كلمة أبي بكر وأثنى على أبي بكر.

    منجزات أبي بكر الصديق في عهد الخلافة

    واستمر أبو بكر رضي الله عنه في الخلافة سنتين وستة أشهر وقيل أكثر أو أقل، لكنه ما بقي إلا فترة وجيزة، ومع ذلك فقد أنجز فيها منجزات نذكر بعضها ثم نخلص بدروس بعد ذلك إن شاء الله.

    منها حروب الردة فقد ارتدت العرب أو أكثرها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقوم من العرب يقولون: الرسالة قد انتهت بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله قد ماتت، وقوم يقولون: الكتاب هذا قد انتهى بموت هذا الرسول ولو كان رسولاً حقاً ما مات، فارتدوا على أعقابهم كافرين، وطائفة من العرب ما ارتدوا وإنما أنكروا الزكاة، قالوا: كانت تدفع للرسول عليه الصلاة والسلام وقد مات، إذاً فلا ندفعها، حتى يقول شاعرهم:

    رضينا رسول الله إذ كان بيننا      فما بالنا نرضى بحكم أبي بكر

    أيملكها بكر إذا قام بعده     فتلك لعمر الله قاصمة الظهر

    فقام أبو بكر في يوم الجمعة وقال: [[ما رأيكم في من منع الزكاة؟ فقام عمر وقال: لا نقاتلهم ونأخذهم بالتي هي أحسن، وقال للصحابة: ما رأيكم؟ فقالوا: لا نقاتلهم، وقال للمسلمين من المهاجرين والأنصار: ما رأيكم؟ قالوا: لا نقاتلهم، وقال للعرب من المسلمين: ما رأيكم؟ فقالوا: لا نقاتلهم، فقام رضي الله عنه وسل سيفه وصعد المنبر وقال: والذي نفسي بيده لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، فقال عمر: فلما رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر لقتالهم علمت أنه الحق]] فقاتلهم وانتصر عليهم رضي الله عنه.

    ومضى في زهدٍ وعبادةٍ، وفي تقوى لله، وكان رضي الله عنه يتميز بالخشية كما تقدم، فإنه يقوم يصلي بالناس فلا يدرون ما يقول من البكاء.

    وفي صحيح البخاري لما مرض صلى الله عليه وسلم مرض الموت قال: {مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس} فتقول بنت أبي بكر عائشة: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام لم يسمعه الناس من البكاء، قال: {مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس}.

    وحضرت أبا بكر الوفاة فمرض حتى مات يوم الإثنين، وفيه قال: متى توفي الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قالوا: يوم الإثنين، قال: ما هو هذا اليوم؟ قالوا: يوم الإثنين، فقبض في ذاك اليوم، ولما أتته سكرات الموت أتته ابنته عائشة فاقتربت منه وقالت: يا أبتاه! صدق الأول يوم يقول:

    لعمرك ما يغني الثواء عن الفتى     إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

    فالتفت إليها مغضباً وقال: يا بنية! لا تقولي ذلك ولكن قولي: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [قّ:19-22].

    وقال: إذا أنا مت فاذهبوا ببغلتي هذه، واذهبوا بثوبي إلى عمر وقولوا لـعمر: يا عمر! اتق الله لا يصرعنك الله مصرعاً كمصرعي، فذهبوا إلى عمر بالبغلة والثوب -هذا ميراث أبي بكر من الدولة الإسلامية، هذا الذي خلفه من تراثه وتجارته وكان أتجر الناس، لأنه قدم كل شيء في سبيل الله- فبكى عمر حتى جلس وقال: أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر.

    دروس من حياة أبي بكر رضي الله عنه

    ونأخذ من هذا الدرس دروساً:

    أولها: أن التفاضل بخشية الواحد الأحد، وليس بكثرة الصيام ولا الصلاة، ولا الزكاة ولو أنها من أسباب الخير؛ لكن إذا لم تؤد إلى الخشية فيبقى التفاضل بها نسبياً فأفضل الناس أخشاهم لله.

    الأمر الثاني: أننا مهما فعلنا فلن نوازن ولو قلامة ظفر من فضل الصحابة رضوان الله عليهم، ولو أنفق أحدنا مثل أحد ذهباً أو فضة ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه.

    الأمر الثالث: أن نوافل الأعمال هي المقربة من الواحد الأحد وهي التي تقرب العبد إلى الله، لا أسرته ولا وظيفته، ولا جاهه، ولا منصبه، لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {قال الله تبارك وتعالى -في الحديث القدسي- ما تقرب إلي عبد بأحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه}.

    الأمر الرابع: أن التوكل على الله عز وجل لا ينافي الأخذ بالأسباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر تحصن بالدروع وأخذ السيوف والرماح صلى الله عليه وسلم، وكذلك أبو بكر، ومع ذلك يقول: {يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟} يقول بعض العلماء: ترك الأسباب قدح في العقل، والاعتماد عليها قدح في الشرع، والسلامة أن تجمع بين التوكل والسبب، وحتى نفهم هذا أضرب مثلاً بطالب يريد أن ينجح في الامتحان، قلنا له: ذاكر، فإذا ترك المذاكرة وقال: أنا أنجح متوكلاً على الله بدون مذاكرة ففي عقله شيء، وإذا اعتمد على المذاكرة ونسي الله فهذا قدح في الشرع.

    وإذا قال: أنا أنجح بلا مذاكرة، ولا توكل على الله فقد قدح في العقل والشرع، ويمكن أن يصل إلى درجة النفاق، وإذا أخذ بالتوكل والسبب فذاكر وتوكل على الله، فهو المؤمن الكامل، وكذلك كان أبو بكر قال بعض أهل العلم: ومن شدة توكل أبي بكر على الله عز وجل أنه أنفق أمواله في سبيل الله وما خاف العنت، وقال بعض أهل العلم: إذا خفت لأنك ما بلغت هذا المستوى فلك أن تبقي بعض مالك، لأنه لا يصل إلى درجة أبي بكر إلا القليل من الناس، رضي الله عنه وأرضاه.

    فهو أفضل الناس بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعتقد أهل السنة والجماعة أنه الصديق الأكبر وأنه أول الصحابة فضلاً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي خلافاً لأهل البدعة.

    وقد روى ما يقارب مائة وثلاثة وثلاثين حديثاً أو قريباً من ذلك كما في مسند الإمام أحمد ، وفيه كذلك فائدة أن العلم ليس بكثرة الرواية، وأن الخوف من الله ليس بكثرة الكلام وإنما هو بخشية الله الواحد الأحد.

    أسأل الله أن يجمعنا وإياكم بـأبي بكر الصديق، وأن يرينا وجه أبي بكر الصديق، وأن يجعلنا ممن يجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088942728

    عدد مرات الحفظ

    780032512