ومن عوامل المحبة قيام الليل، والخوف من الله، ومن سعى وأخلص ليكون محبوباً عند الله بلغه الله ذلك وجعله من أحبابه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]
اللهم صلِّ وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل المذكور في التوراة والإنجيل.
اللهم صلِّ وسلم على معلم البشرية، وهادي الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الأبرار، أيها الأخيار: سلام الله عليكم ورحمته الله وبركاته.
وبعـد:
ففي مجلسٍ من مجالس الإيمان، وفي روضة من رياض اليقين، نتعلم فيها كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، نعيش لحظة من لحظات العمر، بل من أغلى ساعات العمر، لأن العبد إذا لم يعش مثل هذه الساعات مات قلبه، والقلب إنما غذاؤه آيات الله وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وموضوعنا هذه الليلة: موضوع (عوامل محبة الله عز وجل).
كيف تحصل على محبة الله؟
كيف تنال رضوان الله تعالى؟
كيف تكون عبداً لله عز وجل؟
إن أعظم المطالب في الإسلام أن تكون حبيباً لله، وأن تكون قريباً منه، وأن تكون من أحبابه وأوليائه.
ولذلك جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الولاية قسمين: المقتصد والسابق بالخيرات، ففي الحديث المتفق عليه عند الشيخين البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تبارك وتعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بأحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) وهذا الحديث هو حديث الولاية، شرحه الأئمة في كتبهم وهو من أعظم الأحاديث في الإسلام، وللإمام الشوكاني شرحٌ عجيب عليه في كتاب قطر الولي في شرح حديث الولي، وشيخ الإسلام ابن تيمية يتعرض لهذا الحديث ويقول كلاماً ما معناه: قسم الحديث المؤمنين إلى قسمين: مقتصدٌ وسابق بالخيرات، فالمقتصد: هو الذي يؤدي الفرائض، وهي أعظم ما يؤدى من حقوق الله عز وجل على العبد، والسابق بالخيرات: هو الذي يتقرب بالنوافل إلى الله تبارك وتعالى.
ولذلك يرى -رحمه الله رحمة واسعة- أن الآية التي تقول: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32] يرى أن كل هذه الأصناف يدخلون الجنة، وعند الترمذي بسندٍ فيه نظر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32] قال: كل هؤلاء الأصناف في الجنة) وهذا الحديث من حديث عائشة رضي الله عنها في الترمذي كما أسلفت، والخلاف بين أهل العلم هل الأصناف الثلاثة الظالم والمقتصد والسابق يدخلون الجنة؟ والذي عليه التحقيق -إن شاء الله- من كلام الأئمة أنهم في الجنة، وهذه بشرى لنا لأننا نعد أنفسنا من الظالمين لأنفسهم.
قال مسروق لـعائشة رضي الله عنها وأرضاها كما في طريق الهجرتين [[يا أماه! لأنها أمٌ للمؤمنين، من هم السابقون بالخيرات؟ قالت: السابقون بالخيرات من مضى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقتصدون من لحقوهم أو من تبعوهم بإحسان -أو كما قالت- والظالم لنفسه أنا وأنت]] وهذا تواضعٌ منها رضي الله عنها وأرضاها.
فتعيش الأمة سخيفة التقاويم والمبادئ والتعاليم يوم تعرض عن القرآن والسنة، تكون مجالسها عقيمة لا فائدة فيها ولا نفع، ولا عائد يعود عليها في دنياها ولا في أخراها، والأمة التي تتلقى ثقافتها من غير القرآن، أمةٌ لا عقل لها ولا تدبير ولا مجد، ولذلك بالاستقراء من حياة السلف الصالح والقرون المفضلة، لما عكفوا على الكتاب وعلى السنة كانوا أجدر العصور وأخلصها وأصدقها وأمجدها عبادةً وزهداً وإقبالاً على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ولما أعرضنا -إلا من رحم الله- عن القرآن ماتت قلوبنا، وفقدنا ذاك النور والإشعاع والإقبال على الله عز وجل.
والرسول صلى الله عليه وسلم أتى ليعلم القرآن: وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل:92] فهو فمهمته أن يتلو القرآن على الناس، ولذلك منع في أول عصره، وحياته عليه الصلاة والسلام -الحياة الدعوية وحياة الرسالة- كتابة الحديث، لئلا يتشاغل الناس بالحديث عن القرآن.
فتعالوا نرى حياة الصحابة مع القرآن، كيف عاشوا مع القرآن؟
وكيف تألقوا مع القرآن؟
وكيف عملوا بالقرآن؟
وكيف حولوا حياتهم مع القرآن؟ في صحيح مسلم عن سعد بن هشام بن عامر رضي الله عنه وعن أبيه وجده، فأبوه وجده من الأنصار الذين شهدوا بدراً وأحداً.
تلك المكارم لاقعبان من لبن شيبا بماء فعاد بعد أبوالا |
إذا افتخر المفتخر فليفتخر ببلائه في الإسلام، وبقدمه في خدمة الدين، وفي رفع لا إله إلا الله، أما الذي يفتخر بنسبه وأسرته وعراقته ومنصبه وجاهه ووظيفته، فهذه افتخارات فرعون وأبنائه وأذنابه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
دخل ثلاثة من الشباب على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، وهو الزاهد العابد وخليفة الإسلام، فقال: [[من أنتم؟ قال: أحدهم أنا ابن الأمير فلان بن فلان على الكوفة، فسكت عمر وأشاح بوجهه، وقال للآخر: من أنت؟ قال: أنا ابن فلان الذي كان في جيش الوليد قائداً، وقال الثالث: أنا ابن قتادة بن النعمان الذي حضر أحداً فقلعت عينه فسالت على خده فردها صلى الله عليه وسلم بيده، ثم قال الفتى:
]] أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فدمعت عينا عمر بن عبد العزيز وقال: حياك الله وبياك.
تلك المكارم لاقعبان من لبن شيبا بماء فعاد بعد أبوالا |
هشام بن سعد بن عامر
سألتعائشة
رضي الله عنها وأرضاها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: {أبي أمامة
رضي الله عنه وأرضاه قال: يقول عليه الصلاة والسلام: {عثمان
رضي الله عنه وأرضاه كما فيالبخاري
يقول عليه الصلاة والسلام: {أنس
: {جابر
رضي الله عنه وأرضاه: {جابر بن عبد الله
عبد الله بن عمرو الأنصاري
كان ممن يحفظ كثيراً من القرآن، فنفعه القرآن أيما نفع، فهو لم يتوسد القرآن، وما جعل القرآن تأكلاً أو طلباً للمعاش وللمنصب وللجاه في الناس؛ لأن من الناس -نعوذ بالله أن نكون منهم- من يقرأ ليقال: قارئ، وفي صحيح مسلم: {عبد الله بن عمرو الأنصاري
ما قرأ القرآن ليقال قارئ، لكن قرأ ليرفعه القرآن، وليقوده ويصلح حاله. حضرت معركةجابر
بالنساء وكن سبعاً، وحضر المعركة وقتل في أول الناس، لأنه صادق: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)) [العنكبوت:69] ((فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ)) [محمد:21] فعلم الله أنه كان صادقاً، وفي صحيح مسلم من حديثأبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {البخاري
(باب البكاء على الميت) ثم أورد طرفاً من القصة، فلما قتل أتى ابنهجابر
يبكي عنده، قال: {جابر
! أتدري ما فعل الله بأبيك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: والذي نفسي بيده! لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان فقال: تمن يا عبدي! قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمن، قال: أتمنى أن ترضى عني، فإني قد رضيت عنك، قال: إني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً، فجعل الله روحه وأرواح إخوانه من الشهداء في حواصل طير ترد الجنة، فتشرب من مائها وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش حتى يرث الله الأرض وما عليهاولذلك معاوية رضي الله عنه وأرضاه، عندما كتب إلى عائشة: [[أن اكتبي لي موعظة وأوجزي، فكتبت له أمَّا بَعْد: فإني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس}]].
وهذا معروف، فإن الحب لا ينزله في القلوب إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا ينشر القبول إلا الله.
ولذلك يقول البخاري في كتاب الرقاق: (باب المقة من الله) والمقة معناها: الحب، ثم أورد الحديث الصحيح الذي اتفق عليه الشيخان، واللفظ للبخاري: {إن الله عز وجل إذا أحب العبد نادى يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض} وبمفهوم المخالفة من يبغضه الله عز وجل يخبر جبريل أنه يبغضه فيبغضه جبريل ثم تبغضه الملائكة، ثم يوضع له البغض في الأرض.
وابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه من أحباب الله، يقول كما في الصحيحين: {قال لي عليه الصلاة والسلام: اقرأ عليَّ القرآن، قلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري} فـابن مسعود يستحي من معلم الخير، فهو تلميذٌ من تلاميذه وطالبٌ من طلابه، والقرآن إذا وفق بعبدٍ صالح بصوت محزن وبخشية كان له التأثير العجيب في النفوس، يؤثر ما لا تؤثره المحاضرات ولا الخطب ولا الأمسيات ولا كثرة الكلام، لأننا أصبنا بترف في الكلام، وبتخمة في المقال، فكم يتحدث وكم يتكلم، لكن التربية ليست التربية كما كانت في عهده صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يسمعهم القرآن غضاً طرياً كما أنزل.
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: {من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً فليقرأه على قراءة
ولذلك يقول البخاري في كتاب الإيمان، (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أعلمكم بالله) وهذا حديث له صلى الله عليه وسلم، يدل على أن معرفة القلب عمل، فهو يرد على المرجئة الذين يقولون: يكفي اعتقاد القلب عن العمل، فيرد عليهم بأن الاعتقاد يدخل في العمل، وأن الدين كله عملٌ، اعتقاد وقول وعملٌ.
فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم لما سمع هذه الآية وقال: {حسبك الآن، قال:
هل يتمدح بماله؟ لا مال.
هل يتمدح بجسمه؟ لا.
جسمه كالطائر، يوازي الإنسان وهو جالس.
إن المسألة مسألة إيمان ويقين وإقبال على الله، ولو كانت المسألة مسألة أجسام، فإن المنافقين أعظم الناس أجساماً، لكن العجيب أن الله ذمهم بكبر الأجسام وبضخامة الأعضاء؛ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون:4].
لا بأس بالقوم من طولٍ ومن قصرٍ جسم البغال وأحلام العصافير |
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4] ولكن ليست ثابتة وإنما مسندة، فهي لا تعتمد على نفسها، فبعض الخشب يعتمد على نفسه، لكن هؤلاء من فشلهم وانهزامهم وتأخرهم وغبائهم وبلادتهم وخبثهم كالخشب التي لا تعتمد على نفسها مسندة: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون:4] ابن مسعود لم يملك من هذه الأمور والمعطيات شيئاً، بل ملك إيماناً وفي ذلك يقول : [[أخذت سبعين سورة من فيِّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينازعني فيها أحد، والله الذي لا إله إلا هو، لو أعلم أن رجلاً تبلغه الإبل يعلم أكثر مني في القرآن لركبت إليه]].
فهذا ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه الذي قرأ سورة الرحمن في منتدى مكة، المنتدى الجاهل الكافر المشرك يوم أتى ليسمعهم القرآن فضربوه حتى أدموه، وأخذ أبو جهل يعصر أذن ذلك الداعية ابن مسعود، ويلطمه على وجهه وهو لا يسكت، بل يرفع صوته بسورة الرحمن، ولكن أنصفه الله من الفاجر أبي جهل، فهو الذي احتز رأسه في معركة بدر وأتى يسحبه بأذنه، فيقول صلى الله عليه وسلم: {هذه بتلك}.
الرسول عليه الصلاة والسلام كان أحلى لياليه أن يعيش مع القرآن، وهكذا الصحابة أيضاً،لم تشغلهم المؤلفات ولا الردود والمقولات، ولا الجرائد والمجلات، بل كان الكتاب الوحيد الذي يتشاغلون به هو القرآن، فإذا دخلت بيت المهاجري والأنصاري وجدت القرآن معلقاً في البيت ووجدت السيف بجانبه، سيف يفتح البلاد وقرآناً يفتح القلوب.
ولذلك في حديث أبي موسى أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج يستمع قراءة أبي موسى وكان قد أوتي مزماراً من مزامير آل داود، أعجوبة في الصوت، يسري صوته إلى القلوب فيخاطب الأرواح مباشرة، فخرج صلى الله عليه وسلم ووضع جسمه على مشرفة على المسجد، ومسجده قريبٌ من بيته صلى الله عليه وسلم، فأخذ أبو موسى يقرأ، وفي الصباح قال عليه الصلاة والسلام: {لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود} ولقي أبو موسى فأخبره، فقال: {لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود، قال: يا رسول الله! أئنك كنت تستمع لي؟ قال: إيه والذي نفسي بيده، قال: -وهذه رواية صحيحة-: والذي نفسي بيده، لو علمت أنك كنت تستمع لي لحبرته لك تحبيراً} يعني: جودته وحسنته حتى يكون أكثر تأثيراً وإيصالاً وأكثر ذلك عجباً.
والقرآن كله عجب: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً [الجن:1] يقول سيد قطب رحمه الله: عجباً حتى الجن يتذوقون القرآن وهو ليس بلغتهم! ولذلك قالوا كما في سورة الأحقاف، كما حكى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاق:29-31] فهؤلاء مؤمنو الجن، قد تفوقوا على كثيرٍ من الناس الذين لا يفقهون ولا يعلمون ولا يفهمون: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:31-32].
وكان هذا في وادي نخلة يوم عاش صلى الله عليه وسلم ليلة القرآن، والحديث ولو أن بعض أهل العلم، قالوا: معضل في سنده، لما عاد صلى الله عليه وسلم ودعا أهل الطائف فكذبوه وآذوه وشتموه، وليتهم يوم ردوه تركوه، لكن رموه بالحجارة، فلما عاد نزل في وادي نخلة بين الطائف ومكة، وشكى صلى الله عليه وسلم حاله إلى الحي القيوم الذي ترتفع إليه الشكوى، ثم قام عليه الصلاة والسلام يصلي، فأتى الجن -جن نصيبين كما عند ابن كثير وغيره- فلما استمعوا القرآن أسلموا وآمنوا: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن:19] ثم رجعوا منذرين إلى قومهم رافعين لا إله إلا الله محمد رسول الله.
يقول له صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث في صحيح مسلم: { يا
وفي صحيح مسلم أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يسأل أبياً ليمتحن قربه من القرآن، وكثرة محفوظاته ومعرفته وفطنته، فالذي علمه هو صلى الله عليه وسلم، قال: { يا
صلى الرسول صلى الله عليه وسلم -وهذا دليلٌ لأهل الفقه من الحنابلة وغيرهم بالفتح على الإمام في الصلاة إذا أخطأ أو تجاوز آية- صلى وتجاوز آية، وهو صلى الله عليه وسلم ما ضن بشيءٍ من القرآن، وما فاته شيءٌ منه، بل نشهد الله عز وجل، ثم نشهد ملائكته والناس أنه قد أدى الرسالة كاملةً، ما نقص حرفاً واحداً وما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً ولا سوء إلا حذرنا منه، فتجاوز عليه الصلاة والسلام آية، فلما سلم، قال الناس: {يا رسول الله! هل نسخت تلك الآية؟ قال: لا. قالوا: ما قرأتها يا رسول الله، قال: أين
فالرسول صلى الله عليه وسلم بلَّغ القرآن كاملاً.
لكن الشاهد: كيف عاش الصحابة مع القرآن؟ وكيف تأثروا بالقرآن؟ فعند ابن أبي حاتم في تفسيره، في سورة الغاشية، أن الرسول عليه الصلاة والسلام مر بامرأة تقرأ في جنح الليل: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] فوضع صلى الله عليه وسلم رأسه على صائر الباب وهي تردد ولا تدري أنه يستمع لقراءتها، وتقول: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] وتبكي، فأخذ صلى الله عليه وسلم يبكي ويقول: {نعم أتاني نعم أتاني} حديث الغاشية وحديث يوم القيامة وهو حديث عجيب، ورهيب، ومرعب، يقول الله: هل أتاك حديث الغاشية [الغاشية:1] فيجيب ويقول: {نعم أتاني}.
وفي الصحيح أن أسيد بن حضير رضي الله وأرضاه، وهو محضر الكتائب وأحد الأعلام من بني عبد الأشهل، قام يقرأ سورة الكهف، فأخذت فرسه تجول في رباطها وفي آخيتها، فقطع صلاته وأخذ ابنه يحيى؛ لأن الفرس كادت أن تطأه بحوافرها ثم نظر فإذا ظلة على رأسه، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {وقد رأيتها؟ قال: نعم. قال: والذي نفسي بيده، إنها الملائكة نزلت لسماع قراءتك، ولو قرأت لأصبحت الملائكة يراها الناس لا تتوارى عنهم}.
وهذا حديث في الصحيح بنحو هذا اللفظ. ليل الصحابة كان مع القرآن ولما ذهبت ليالينا بغير القرآن في السمر الذي لا ينفع، والقيل والقال، وفي الجدل المقيت الذي لا يقربنا من الله، والذي لا ينفعنا في الدنيا ولا في الآخرة إلا من رحم الله، وهذا عند الأخيار، أما عند الأشرار فنعوذ بالله من ذلك، فهي ليالٍ حمراء فلا تسأل عنها وليالي معصية، يشهدون الله على فجورهم وخبثهم وغلتهم وقلتهم، ثم يمضي عليهم الليل الذي كان من أسعد الأوقات عند السلف.
وقليلٌ من يعيش منا مع القرآن، وقليل منا من يتأثر بالقرآن ويحيي ليله بتلاوته.
فكان عليه الصلاة والسلام لا يفوته ورده من الليل مع القرآن، وقد سئلت عائشة عن قراءته صلى الله عليه وسلم قالت: {ربما أسر وربما جهر} كل ذلك يفعله عليه الصلاة والسلام.
وفي تلك الليلة التي رواها ابن عباس وهي في صحيح البخاري قال: {بت عند خالتي
وأتى صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة فقال: {اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض وما فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض وما فيهن، ولك الحمد أنت ملك الأرض والسموات، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت} ثم قام يصلي عليه الصلاة والسلام فأتى ابن عباس يصلي معه صلى الله عليه وسلم في ليلة طويلة، وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالقرآن طويلاً.
يقول ابن مسعود: قام صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي فقمت معه فقرأ حتى هممت بأمر سوء، قالوا: ما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأن أدعه.
وقال حذيفة: {صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فافتتح سورة البقرة، قلت: يركع عند المائة، فقرأ، قلت: يختمها ثم يركع، فقرأ وافتتح النساء فقرأها فقلت: يختمها فافتتح سورة آل عمران، فقرأها، إذا مر بآية تسبيح سبح، أو آية رحمة سأل أو آية عذاب تعوذ} فهذه صلاته صلى الله عليه وسلم.
والعبودية معناها: الخضوع والذل والاستسلام والحب له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن الحب وحده لا يكفي، فمن عبد الله بالحب وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف فهو حروري، إلى ذاك التقسيم.
لكن لابد أن تجتمع كل هذه الأصناف، لتكون عبداً لله، ولذلك شرف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذكر العبودية، لأنه أحب الناس إلى الله وأذل الناس لله، وأخشاهم لله، ولذلك قال الله له في موقف التشريف بالإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء:1] وقال له في الإنذار: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن:19] وقال له في الإنزال تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1] وميزة السلف الصالح علينا في هذا الجانب أنهم تجردوا من الدنيا، وأن الدنيا كانت في أيديهم ولم تكن في قلوبهم، ولذلك أحبهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وكان عليه الصلاة والسلام يحذرهم، بل يحذرنا نحن كذلك من محبة الدنيا ومن مغبة جمعها وعبادتها، لأن من الناس من يعبد الدرهم والدينار، ومنهم من يعبد الخميصة والخميلة، ومنهم من يعبد الوظيفة والمنصب، قال عليه الصلاة والسلام: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش} وذلك لأنه عبد: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:23] فكل من أحب شيئاً غير الله واستسلم واستخدم في حبه فقد عبده من دون الله، فإن العبادة هي الحب، فكيف يعبد الله أحد لا يحب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟!
فاسترد قتيبة هذا المال بشيءٍ من الدراهم من المسكين وقال لوزرائه وقواده: أما أريتكم أن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يرون الذهب والفضة كالتراب!
فأين ذلك الجيل؟! أين تربية المساجد التي تركت في الأمة تربيةً بينةً ظاهرةً شاهرة؟
أين هذا الجيل الفريد الذي تربى على مائدة القرآن، إننا نشكو حالنا إلى الله عز وجل يوم سكنت محبة الدنيا في قلوبنا، فأصبحت شغلنا الشاغل، فقد أخذت أوقاتنا ومجالسنا وسمرنا وأنديتنا ومسائلنا وبحوثنا حتى كأننا خلقنا للدنيا، والله عز وجل خلقنا لهدفٍ شريف، فخلقنا وبعثنا أمة لتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
كرر العلم يا جميل المحيا وتدبره فالمكرر أحلى |
فهي كلما كررت كانت هي وأمثالها دروساً لا تنسى للأمة.
فهذا رستم قائد كسرى أنوشروان يرسل في القادسية إلى سعد بن أبي وقاص، خال رسول صلى الله عليه وسلم، وسعد هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو الذي دمر إمبراطورية كسرى، وداس جماجم الطغاة بقدميه رضي الله عنه وأرضاه، وسعد هو الذي قال له صلى الله عليه وسلم: {اللهم أجب دعوته وسدد رميته} وهو الذي يقول عنه: علي رضي الله عنه وأرضاه كما في البخاري [[ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي أحداً بأبيه وأمه إلا
ولما حضرته الوفاة بكت ابنته عائشة فقال: [[ابكي أو لا تبكي؛ فوالله الذي لا إله إلا هو! إني من أهل الجنة]] قال الذهبي معلقاً: صدقت وهنيئاً لك، ونشهد بالله أنه من أهل الجنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة، وكان يقول: { يا رسول الله! ادع الله أن أكون مجاب الدعوة، قال: يا
ولذلك لا بأس أن نسترسل مع سعد وأمثاله الأخيار، في كتاب الصلاة من صحيح البخاري يقول: باب هل يسمى مسجد بني فلان.
أي: هل لك أن تسمي المسجد بآل فلان؟ ثم أتى بالحديث الذي يقول: سابق الرسول صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي ضمرت والتي لم تضمر، وكانت الخيل التي لم تضمر إلى مسجد بني زريق، ثم أتى بحديث سعد، أنه رضي الله عنه وأرضاه كان أميراً على أهل الكوفة من قبل عمر، وأهل الكوفة قومٌ مشاغبون، وقومٌ إرهابيون، وثوار دائماً، ينقمون على كل أميرٍ لهم ولو كان من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
اختار عمر رضي الله عنه وأرضاه سعد بن أبي وقاص الأمير المؤتمن، فشكوه في كل شيء حتى في الصلاة، وفي مسند أحمد أنهم شكوه وقالوا: إنه لا يجيد أن يصلي، فيقول سعد: يا عجباً لبني أسد فوالله الذي لا إله إلا هو إني أدخلتهم الإسلام بسيفي هذا وأصبحوا يعيرونني أني لا أحسن الصلاة؟!! فأرسل عمر، محمد بن مسلمة ومعه أحد الصحابة، وقال: [[سل أهل الكوفة ماذا ينقمون على سعد]] فذهبوا من مسجدٍ إلى مسجد ليسألون عن عدل سعد، وعن صدقه ووفائه، وعبادته، فكلهم يثني خيراً.
حتى وصلوا إلى مسجد بني عبس، وهذا الشاهد من القصة للبخاري فدخلوا المسجد فسألوا عنه فأثنوا خيراً إلا شيخاً أضله الله على علم، قام وقال: أما إن سألتم عن سعد بن أبي وقاص فوالله إنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، ولا يخرج مع السرية، فقال سعد وهو جالس: [[اللهم إن كان قام رياءً وسمعة فأطل عمره وأطل فقره وعرضه للفتن]] فطال عمره وطال فقره، قال عبد الملك أحد رجال البخاري في السند: فوالله الذي لا إله إلا هو، لقد رأيته في السكك وهو شيخٌ كبير سقط حاجباه على عينه يتعرض للبنات يغمزهن ويقول: شيخٌ مفتون أصابتني دعوة سعد.
الشاهد أن سعداً أرسل ربعي بن عامر إلى رستم ليفاوضه فأتى ربعي إلى رستم في القصة المعروفة التي اشتهرت وتكررت كثيراً، فقال رستم: ماذا خرج بكم؟ هل انتهت عليكم النفقة؟ لأن كسرى كان ينفق على العرب البدو، وكان يعطيهم نفقة، فيكفون أذاهم في الجزيرة، قال: انتهت عليكم النفقة وتأخرت عليكم فتريدون قتالنا؟ سوف نعطيكم النفقة وعودوا من حيث جئتم، فقال ربعي: [[لا. إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].
وبعد ثلاثة أيام أو أربعة دخل سعد المدائن باثنين وثلاثين ألفاً من الجيش ودكدك الذين كفروا: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45] لما رأى سعد رضي الله عنه وأرضاه حصون وقصور كسرى قال: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان:25-29].
دخل سالم بن عبد الله الحرم وحذاؤه في يده، وهو عالم المسلمين، وعالم الدنيا، وأحد الفقهاء السبعة في المدينة، دخل يطوف بالبيت معتمراً، فدخل هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي معه حرسه وجنوده، فلما رأى سالماً عرف أنه عالم المسلمين فأخذ بيده وقال: يا سالم! هل لك إليَّ حاجة؟ فاحمر وجه سالم وقال: أما تستحي؟! قال: ولم؟ قال: تقول لي هذا في بيت الله، فسكت، فلما انتهى تصدى له خارج الحرم هشام بن عبد الملك وأعاد عليه الكلام، فقال سالم: أمن حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: من حوائج الدنيا فإني لا أملك الآخرة، قال: أما الدنيا فوالله الذي لا إله إلا هو، ما سألتها ممن يملكها فكيف أسألها منك؟!
هذا هو سالم بن عبد الله الذي ما سأل الدنيا من الله عز وجل فكيف يسألها من الناس، والتجرد معناه أن تأخذ ما ينفعك من الدنيا وألا تشغلك بل تكون عوناً لك على طاعة الله.
ابن تيمية يعرِّف الزهد كما في المجلد العاشر من فتاويه، وهو أحسن تعريف عند أهل السنة والجماعة للزهد، لأن بعض الناس يعرف الزهد أن تتخلى عن الدنيا، وهذا ليس بصحيح، وبعضهم يقول: أن تزهد في الحرام وهو تعريف نسب حتى للإمام أحمد، إذا كان الزهد هو الزهد في الحرام لكان أكثر الناس زهاداً.
فيقول ابن تيمية في تعريف الزهد: "الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة" وأما ما ينفع فإن الزهد فيه ليس بصحيح، أما ما لا ينفعك ولا يقربك من الله فليس بحق وليس بمطلوب.
وقيام الليل يحصل ولو بركعتين قبل الفجر، ولو بما يقارب النصف أو الثلث ساعة لتكون من الذاكرين الله في تلك الساعة، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال: {ينزل ربنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل، فيقول: هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من داعٍ فأجيبه؟} نزولاً يليق بجلاله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لا نكيفه أو نمثله، ولا نشبهه أو نعطله.
وهذه الساعة تفوت كثيراً من الناس، ومن فاتت عنه فهو محروم أو مخذول إلا من مرض أو سهر لخيرٍ لابد منه أو سفر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {يا عبدالله -يقصد
ومن الأسباب كذلك: ألا يسهر العبد؛ لأن سهر كثير من الناس الآن في غير مرضاة الله، وكيف يقوم الليل من يسهر إلى الثانية عشرة والواحدة، وهذا الوقت هو وقت قيام السلف الصالح، ونحن نبدأ فيه النوم.
ومن الأسباب التي تعين على قيام الليل: القيلولة في النهار لتستعين بها على القيام ومرضاة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فقيام الليل سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وشعيرةٌ إسلامية لما فاتتنا فاتتنا حرارة الإيمان ومحاسبة النفس والإقبال على الله عز وجل.
وفي كل شيءٍ له آية تدل على أنه واحدٌ |
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد |
ففي كل لمحة ونظرة وشجرة وفي كل زهرةٍ وجبلٍ، وفي كل تل آية من آيات الله، لكننا لا نتفكر، فكم من آية نمر عليها ولا نعتبر، إلا من وفقه الله في التفكر: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20] فالتفكر من أعظم ما يقودك إلى عبادة الله عز وجل، وهذه عبادة الصالحين الذين يتفكرون في الآيات البينات، ويتفكرون في المخلوقات، وفي عجيب صنع رب الأرض والسماوات، فيعودون بإيمانٍ ويقين، وحبذا لو جعلنا رحلاتنا ونزهاتنا الكثيرة في التفكر في آيات الله، لا يمر الإنسان بالشجرة إلا وكأنها تكلمه وتدله على الله الذي لا إله إلا هو في كل شيء، فهذا عاملٌ كبير ينبغي ألا يفوت المؤمن، ولابد من استصحابه دائماً وأبداً، ومن أحسن ما يتفكر فيه العبد ويتدبر آيات الله الكونية والشرعية.
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا |
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا |
والنحل قل للنحل يا طير البوادي من الذي بالشهد قد حلاكا |
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حشاكا |
واسأله: كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا |
فالحمد لله العظيم لذاته حمداً وليس لواحدٍ إلاكا |
فكل آية تدل على الله عز وجل، فلينتبه لها المسلم.
الجواب: من يفعل هذا ففي قلبه شك وشبهة، وفي قلبه نفاق.
والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أخبرنا عن المنافقين الذين استهزءوا بالكتاب والسنة وبالرسول صلى الله عليه وسلم، أو جعلوا الكتاب والسنة عرضة للاستهتار أو أنهما قابلان للقبول وللرفض، قال: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66] وإذا فعل هذا واعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله فهذا تكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فهو كافر كافر كافر، ولابد له من العودة إلى الدين فقد ارتد عن منهج الله عز وجل، وعن دين الله عز وجل.
وعلى سبيل المثال كما تفضل الأخ: بعض الناس الذين في قلوبهم شبهة كـأبي رية وغيره من الكتاب الذين أصبحت قلوبهم ظلمات بعضها فوق بعض، ممن ردوا حديث الذباب، وبعض الأحاديث وقالوا: لا توافق العلم، فخابوا وخسروا.
وهل يحتاج حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي هو وحيٌ يوحى لا ينطق عن الهوى إلى أن نحاكمه إلى الأطباء وآراء الخواجات ومع ما صدر من البشر، أهل النقص والاضمحلال؟! إن فعل ذلك معناه انسلاخ وقلة إيمان ونفاق، والذي خار في عقله وقلبه، ونعوذ بالله من هذا الفعل.
فلا يفعل هذا إلا من هو منافق، وعليه أن يتوب إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولذلك ذكر الإمام الذهبي في ترجمة ابن الراوندي الملحد الكلب المعفر الذي ألف كتاب الدامغ على القرآن ليدفع به القرآن، وقد كان يقرأ الحديث، وهو فيلسوف من فلاسفة الإسلام، ولكن أضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وبصره، وذكره ابن تيمية وقال: إن كان صح عنه ما يقول فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، كان يجعل الأحاديث النبوية على ما يريد، فإذا وافقت رأي سقراط قبلها، وإذا خالفت ردها، وألف كتاب الدامغ على القرآن ليدفع به القرآن ليرد على بعض الآيات، يقول: هذه بعض الآيات لا توافق الآيات الأخرى، وهذا لا ينفع معه إلا درة وسيف عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وعند الدارمي أن صبيغ بن عسل أو ابن عُسل أتى فجلس في طريق الجيش الذي يجهز في العراق، فقال: أيها الناس! كيف يقول الله: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً [الذاريات:1-2] ويقول: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً [النازعات:1-2] كيف نؤلف بين هذه وهذه؟ وأخذ يضرب القرآن بعضه ببعض -وهذا الحديث في أول سنن الدارمي في كتاب السنة- قال بعض الصحابة: نخبر عمر حتى يجيب عمر عليك، فإجابات عمر من نوعٍ آخر، وأخبروا عمر رضي الله عنه فقال: عليَّ به، فاستدعى الرجل وقبل أن يأتي هيأ له عمر رضي الله عنه ضيافةً تليق به وبأمثاله من الشباب، عراجين النخل بلها في الماء، فهذا عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وقال: أين السائل؟ فقال: هأنا يا أمير المؤمنين! قال: تعال، ثم أمر رجلين بمسكه فضربه حتى أغمي عليه، ولما استفاق ضربه حتى أغمي عليه، فلما استفاق ضربه حتى أغمي عليه، ثم استفاق الرجل فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد دوائي فوالله قد برئت. فأخرج عمر وساوس الشيطان من رأسه.
فالذي يفعل هذا حكمه السيف، فمن يعرض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وميراثه على الآراء ويقول: إذا وافقنا قبلناه، فهو جالس على أريكة يثني رِجْلاً على رِجْل ويقول: إذا وافقنا قبلنا وإذا خالف العلم والطب رددناه.
كيف يرد حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهذا معناه أنه يرد الإسلام؟! ومعناه أنه يكفر بالله رب العالمين! وقد أخبر صلى الله عليه وسلم هذا في حديث المقداد بن عمرو وفي أحاديث أخرى: {أنه يوشك أن يجلس رجل شبعان ريان على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: حسبنا القرآن، ما وجدنا في القرآن أحللناه حلالاً وما وجدنا في القرآن حراماً حرمنا، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه} وفي بعض الألفاظ: {ومثليه} لكن (مثله) أستحضر أنها صحيحة، أما (مثليه) فتحتاج إلى بحث، فإذا علم فهذا فحكمه -ونسأل الله العافية- ولن يفعل هذا إلا من في قلبه نفاق وكفرٌ ورجس.
الجواب: هذا يحتاج إلى كتب وجلسات طويلة وأحسن من ألف لطلبة العلم كتاب صيد الخاطر لـابن الجوزي، فقد أتى بمنهج وبرنامج لطالب العلم كيف يطلب العلم، وكتاب أدب الطلب ومنتهى الأرب للشوكاني، وكتاب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي، لكن الظاهرة عند كثير من الشباب أنهم يبدءون بالمتون قبل القرآن، سبحان الله! كيف يقدمون مالم يقدمه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، تجد أحدهم يتشاغل بمتن زاد المستقنع أو الرحبية وهو لم يحفظ شيئاً من القرآن وهذا خطأ، فهو استفراغ للجهد والعقل والطاقة والوقت وهو لم يحفظ كتاب الله عز وجل.
فأنا أوصي نفسي وإخواني بحفظ كتاب الله، وإذا حفظ كتاب الله فقل على المتون السلام، إذا جاء بعد القرآن شيء فليكن بعده الحديث، وإذا شاء غيره فزيادة في الخير، لكن إذا كان ولابد فلا يبدأ ولا يقدم على القرآن شيئاً، بل لابد أن يكون القرآن هو المقدم، وحفظ القرآن له أسباب، ومن أعظم أسباب حفظ القرآن والعون على حفظ القرآن: تقوى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] والمسألة الثانية: كثرة الاستغفار، وكثرة التوبة.
ذُكر عن ابن تيمية أنه كان يقول: إنها لتعجم عليَّ المسألة -يعني: تشتد وتصعب- فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل فيفتحها الله عليَّ.
والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول للرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكره بالحكم: لتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105] ثم قال له في آخر الآيات: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء:106] قال بعض أهل العلم يؤخذ منه أن من أراد أن يستنبط أو يفقه أو يفهم فعليه بكثرة الاستغفار.
ومن أسباب حفظ القرآن: التقليل من الحفظ، فالتقليل والمداومة أصلٌ عظيمٌ من أصول الحفظ، فإن أكثر ما يصاب به الشباب مسألة الإحباط، أن يأتي أحدهم إلى عشرين آية أو ثلاثين أو سورة كاملة فيجهد نفسه حتى يقصها يوماً من الأيام ثم لا يكون له روح في حفظ آيات أخر، فعلينا أن نقلل.
وقد كان الصحابة كما في حديث أبي العالية يأخذون القرآن خمساً خمساً، ثلاث آيات في اليوم أو أربع أو خمس وتكرر كثيراً. ومما يعين على حفظ القرآن: أن يقام بهذا المقروء في النوافل، وفي الصلوات المفروضات وفي قيام الليل. ومما يعين على حفظه: أن يكون هناك وقت للمراجعة والمدارسة مع الإخوان أو مع نفسه.
ومما يعين على حفظه: معرفة التفسير، لأن تفسير المعاني وأسباب النزول ودلالة الألفاظ وغريب القرآن تعينك بإذن الله على حفظه، فإن من يحفظ التذييل في الآيات يعرف أن الآية لابد أن يكون آخرها هكذا (لعلكم تعقلون) (لعلكم تذكرون) (لعلكم تفقهون) لا تأتي إلا بمناسبة معرفة المعنى، وهذه يقع فيها كثير ممن لا يعرفون معاني الآيات، فيذيل من عنده في بعض المناسبات، ولو عرف المعنى لأعانه على حفظ القرآن بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
الجواب: أنصحك ونفسي بتقوى الله عز وجل، وقبل الكلام عن مسألة التلاوة والحفظ أتكلم عن مسألة السفر إلى الخارج فهي من أعظم ما مني به المسلمون في هذا الزمن، والسفر كما سمعتم في رسالة الشيخ عبد العزيز بن باز أن من أعظم أضراره أنه يهون المعاصي، وأضرار عظيمة أيضاً منها: أن مسألة الولاء والبراء يصبح فيها غبش عند المسافر إلى الخارج، فبعد أن كان يرى أن الكافر عدو لله في بلاد الإسلام، يراه بعد فترة كأنه أخٌ له حميم، من القلب والروح.
والمسألة الثانية: أنه يرى الكبائر أصبحت صغائر، يوم كان يتحدث في المجتمع المسلم عن الصغائر أصبح هناك لا يتكلم إلا عن الكبائر وخفت المعاصي عنده.
المسألة الثالثة: أنه أصبح لا يحجبه عن المعاصي شيء، فهو ينظر إلى النساء ببرود، وتجد من يسافر إلى هناك يصبح النظر عنده شيئاً عادياً إلا عند من رحم الله عز وجل، فيصبح من المسائل التي لا يتحدث فيها، فهو يقول: أصبح الناس في كفر ونحن نتحدث في النظر، إلى غير ذلك من المفاسد، إلا سفر لضرورة من دراسة تنفع المسلمين، أو الاستشفاء، أو لعلمٍ لابد منه، أما غير ذلك فإن المرض العضال والسم الزعاف في السفر إلى الخارج.
أما ما ذكرت من شكواك وبعدك عن القرآن فكلنا ذاك الرجل، لكن أدلك على كثرة الاستغفار والتوبة وكثرة الدعاء في أدبار الصلوات والسجود، وكذلك لا تشدد على نفسك في كثرة التلاوة؛ لأن بعض العبادة تكره إلى النفس، والرسول صلى الله عليه وسلم دل ابن عمرو إلى أن يقرأ القرآن في شهر فنازله حتى أوصله إلى سبع ليالٍ، ونحن -والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه- لا نشكو من كثرة العبادة إنما من قلتها، فلا ما ندعو الناس إلى أن يخففوا على أنفسهم، فأحاديث الرخص موجودة عند الناس، فلا يحفظ الناس إلا أحاديث الرخص، إذا أتى أحدهم يقوم الليل، قال له الشيطان: إن لعينك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، لكن لو نام عشرين ساعة ما قال له الشيطان: إن لربك عليك حقاً.
فنحن نحفظ أحاديث ا لرخص بأسانيدها، أما أحاديث العزيمة وأحاديث الإقبال والهمم ما تحفظ إلى عند بعض الناس.
فأنا أقول: ليكن لك وردٌ من القرآن ميسر يناسب سفرك ومرضك وانتقالك، كجزء من القرآن أو جزئين في اليوم تتدبره وتتلوه، فالقصد والمداومة أصلٌ عظيم في العبادة، فالقصد القصد تبلغ ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وهو منهج أهل السنة في عبادتهم وتفقههم وتدبرهم لكتاب الله عز وجل.
ثم أوصيك كذلك بأن تبتهل إلى الله -وهو ما أسلفته في الكلام- لأنه الذي يفتح سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه قد تأتي بعض القلوب تقرأ القرآن فلا تفقهه بسبب كثرة معاصيها، فإذا دعا الإنسان وابتهل وخاصة في السجود وأدبار الصلوات ويوم الجمعة، وفي المناسبات والنفحات التي يتعرض فيها لرحمة الله فتح الله على العبد، فأنت ادع ولا تمل، وسوف يفتح الله عليك.
الجواب: مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تتوقف عليَّ ولا على هيئة، وإنما الأمة مطالبة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواءً توظف العبد أو لم يتوظف، فهي وظيفة من رب العالمين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] وقال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].. يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17].
فمسألة الأمر بالمعروف لا تتوقف على هيئة وإنما الهيئة أكثر مسئولية؛ لأنها أوكلت كثيراً من الناس عن هذا الشيء، فإذا لم تقم بواجبها وأداء حقها أصبحت أكثر ذنباً ومأثمة ومسألة عند الله عز وجل وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان}.
فأدعو إخواني في الله إلى الدعوة في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا منكر، وليكن عندهم حصيلة من العلم الذي ينفعون به الناس، ويستصحبون الإخلاص ليدفع بهم الله ويجعل لهم قبولاً، فإن العمل إذا لم يكن فيه إخلاص لم يجعل الله فيه قبولاً، وليكن غرضهم للدعوة للناس باللين، يقول الله لموسى وقد أرسله إلى شيخ الطغاة المتمرد على الله فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] فباللين وبالحكمة ينفع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
أما التعليق بالهيئة فهذا ليس بصحيح، بل كل إنسان مسئول أن يأمر بقدر جهده وطاقته، والشيطان دخل علينا بأمور، يقول: كيف تتصدر للناس؟ وكيف تدعو ولم تتمكن في العلم؟ حتى أصبح كثير من طلبة العلم، يحملون علماً جماً وكثيراً ولكن ما أنفقوا منه، والعلم إذا لم ينفق منه ذهبت بركته، فكثير من القرى فيها كثير من الدعاة وطلبة العلم العدد الضخم ولكن يشكون من الجهل، وأخذتنا هذه المحاضرات الطنانة الرنانة التي نعرضها على الناس، والناس لا يريدون كثرة علم ولا علم تخصص ولا علم سند، بل يريدون أن يعرض الإسلام سهلاً ميسراً كما عرضه الصحابة.
وفي سنن أبي داود عن عبد خير وهو من أول الأحاديث في الطهارة: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه يوم أن وصل إلى الكوفة جمع الناس، فلما اجتمعوا قام فتوضأ أمامهم، ولما انتهى قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فهذا هو العلم، تعليم الناس الوضوء، والغسل من الجنابة، والصلاة والحج، فليس هناك ألغاز ولا أحاجي ولا شؤم مدسوس، فهذه هي الدعوة التي يدعى إليها، وهذا هو العلم الذي يريده الناس، وهو علم ميسرٌ ومسهل، وهذا هو علم السلف، لأن امتياز علم السلف باليسر والأصالة والعمق، وأما هذا العلم، أي: الذي يظهر بكلمات لا أثر لها وإنما تبدي الثقافة وتبدي مدى التعمق في الطلب فهذا ليس بصحيح، وهذا ليس له أثر، يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [[عليكم بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم أخلص الأمة قلوباً وأبرها، وأصدقها لهجة، وأقلها تكلفاً، وأعمقها علماً]] فالعلم هو علم السلف، علم ميسر مسهل، فهل عزيز علينا أن يقوم أحد من الناس فيتوضأ ثم يقول: هكذا وضوء الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يصلي للناس كما في حديث سهل، فيقول هكذا صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
إن العلم سهل ميسر، وإننا نحتاج إلى تبليغه للناس، وإن الشباب بحاجة إلى أن يدعوا ليبارك الله في الجهد، خاصة لأن على منطقتنا لائمة، ومسئولية بسبب كثرة الاصطياف، وكثرة الوافدين، وهؤلاء يأتي فيهم مزيجٌ من أهل الخير، ومن غيرهم ممن يحتاجون إلى توعية، وإنا ندعو إخواننا وشبابنا إلى التعاون ورفع كلمة لا إله إلا الله عز وجل، وإلى التأثير في الناس بالحكمة والموعظة الحسنة عل الله أن يبارك في الجهد وأن يصلح الحال، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر